ملخص
قد يتعرقل هذا الاتفاق إلا أنه لا يؤخر استحقاقات المعارضة وامتحاناتها لا سيما فيما يتعلق بمواجهة التنظيمات المتطرفة عسكرياً واجتماعياً وإنهاء كافة أشكال الاقتتال البيني عبر استصدار مدونة السلوك العسكري واخلاقياته، وقع ممثلو الدول الراعية لمحادثات آستانة (روسيا وتركيا وإيران) في 4/أيار/ 2017 على مذكرة تفاهم لإقامة مناطق لتخفيف التوتر في سورية "سيتم تطبيقها خلال ستة شهور قابلة للتمديد"، وتنص على تشكيل مناطق أمنية على طول حدود مناطق تخفيف التوتر "لمنع وقوع حوادث وإطلاق نار" على أن تشمل وضع "نقاط تفتيش" و"مراكز مراقبة لضمان تنفيذ أحكام نظام وقف إطلاق النار" سينتشر فيها عناصر من قوات النظام والفصائل المعارضة، وتسهل عملية تدفق المساعدات الإنسانية بشكل عاجل وبلا انقطاع، وتشمل هذه المناطق محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة، وحلب)، ومناطق معينة من شمال محافظة حمص، والغوطة الشرقية، ومناطق معينة من جنوب سورية (محافظتي درعا والقنيطرة).
وانطلاقاً من الأهمية السياسية لهذا الاتفاق، سيحاول تقدير الموقف -بعد استعراضه للسياقات السياسية والعسكرية التي سبقت هذا الاتفاق-الوقوف على طبيعته ومدلولاته وأهم السيناريوهات المستقبلية المتوقعة له، مع التركيز في هذا السياق على طبيعة الأدوار الوطنية المطلوبة.
إن تنصل موسكو "الموضوعي" من كافة التزاماتها السابقة "كضامن" لصالح تطويع المسرح السوري لتحسين الشروط الجيوسياسية الروسية، يجعل اتخاذ الموقف العام من هذا الاتفاق عابراً لشكله وادعاءاته في تخفيف التوتر وتحسين الشرط الأمني في تلك المناطق، خاصة إذ ما فككنا المناخ السياسي والعسكري قبيل صدور هذا الاتفاق لنقف على طبيعة الأهداف السياسية الكامنة في هذا الاتفاق، إذ أنه لا يمكن الحديث عن تفاصيل هذا الاتفاق دون إدراك أنه أتى كرد فعل روسي على جملة من التغييرات المتسارعة، والمبينة وفق أدناه:
عموماً يمكن القول إن التطورات السياسية والعسكرية قبيل هذا الاتفاق استهدفت عنصرين رئيسين من الاستراتيجية الروسية، وخلقت إرهاصات ضعفٍ فيهما وهما (مبدأ التسيّد والتحكم، الاستراتيجية الصفرية)، وبالتالي فإن عودة الفاعلية لدائرة العسكرة والسعي وراء تغيير عناصر المعادلة العسكرية التي حاول موسكو تثبيتها منذ تدخلها في سورية، إنما هو أمر يعظم (استراتيجياً) تكلفة الانخراط الروسي ويؤجل استراتيجية الخروج التي بدأت تفرض نفسها على سياسات موسكو.
رغم ما تفيدنا به إيجابية المؤشرات العامة للمواقف الدبلوماسية الدولية لهذا الاتفاق وطبيعة التحفظات حياله والمتعلقة بهشاشة الضمانات الدولية والتشكيك بالدور الضامن لإيران ([3])، إلا أن تلك المواقف انطلقت في معظمها من حقيقة التواجد الروسي وضرورة الابتعاد عن "العوامل الدافعة لحرب باردة" في سورية من جهة، ومن ضرورة دعم أي دفوعات تسهم في عدم انتشار الفوضى الأمنية في هذه المنطقة المعقدة جيوسياسياً من جهة ثانية.
أما على المستوى الوطني، فإن تفكيك عناصر الاتفاق وتحليل أبعاده من شأنه أن يكمل الصورة العامة لهذا الاتفاق وطبيعة توجهاته، وعليه يضعنا هذا الاتفاق أمام عدة نتائج يتضارب فيها الإيجابي والسلبي، ليكرس في النهاية تعاريف موسكو والنظام لطبيعة الصراع التي أضافت "تزيينات شكلية" لأطر الاتفاق وحيثياته، وهذا ما هو مبيناً بالنقط أدناه:
لا يمكن قراءة المشهد بعد الاتفاق رغم تلك العوائق التي يتضمنها كالاختلالات البنيوية التي تعتري بنوده، أو التشكيك بالدور الإيراني المستحوذ "أفقياً" على القدر الأكبر من مناطق سيطرة النظام، أو عدم التحمس الدولي له وامتلاك القدرة على تعطيله، إلا أنه وفقاً لاستمرار تكريس الثوابت الجديدة التي تجهد موسكو تضمينها في المشهد السياسي والعسكري في سورية، فإنه لا يصح موضوعياً ( وفقاً للمؤشرات الدالة على آثار التدخل الروسي التي أعادت تعريف الجغرافيا العسكرية وحصرها بثنائية (الإرهاب والنظام)، وحرف اتجاه العملية السياسية) التعاطي مع هذا المخرج من زاويا النقد غير المقترن بخطط عمل تفضي في كسر طوق العزلة التي تعاني منها المعارضة منذ معركة حلب الشرقية وعمليات التهجير التي شهدتها بنى مناطق سيطرتها في ريف دمشق وحمص. إذ يتوقع أن ينحو الاتفاق باتجاه إحدى السيناريوهين التاليين:
السيناريو الأولى: المضي نحو التحكم (وهو الخيار الأكثر رجوحاً): أي اعتماد هذا الاتفاق كمستند داعم لوقف إطلاق النار في سورية مع العمل المستمر على ثلاثة أمور: الأول خرقه تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، والثاني احتواء تجربة المجالس المحلية وتطويعها في دعم الدور الاشرافي للنظام، والثالث استثناء كافة المناطق الاستراتيجية التي تهدد أمنياً وعسكرياَ النظام في محيط تلك المناطق وذلك لتقليل فرص الانتعاش للفصائل المسيطرة في تلك المناطق، وهذا ما تبرز مؤشراته في استثناء برزة والقابون واعتبارها خطوة رئيسة لاستمرار حصار الغوطة الشرقية.
ينسجم هذا السيناريو مع حركية النظام والروس العسكرية التي تطمح لإعادة السيطرة والتحكم في كافة مناطق المعارضة، إذ سيستمر في سياسة ترحيل المقاتلين إلى إدلب المثقلة بالتحديات والمرشحة لمستويات أكثر حدية في الاقتتال البيني تسهل عمليات إعادة السيطرة عليها، كما سيستغل النظام تواجد تنظيم الدولة في ريف حمص وحوض اليرموك بالجبهة الجنوبية للاستعداد لعمل عسكري بالتعاون مع الروس ليكون مدخلاً لإعادة تشكيل المشهد وفق أولوياته.
لا تمتلك المعارضة المسلحة في هذا السيناريو إلا العمل على زيادة الوكالة السياسية للمعارضة السياسية التي بدورها ينبغي أن تعمل على الضغط عبر حلفائها الاقليمين لحظر طيران النظام تحت أي مسمى في تلك المناطق وتثبيت آليات محاسبة ومراقبة واضحة، والدفع باتجاه تحديد معايير واضحة "غير سائلة" للتشكيلات الإرهابية وعدم تركها خاضعة لمعايير كل ضامن، كما ينبغي الضغط باتجاه ضمان أن يكون هذا الاتفاق نقطة رئيسية للانتقال السياسي، ناهيك عن ضرورة زيادة الدعم السياسي والاقتصادي الموجه للهيئات التنفيذية والمجالس المحلية التي ينتظرها العديد من الاستحقاقات والتحديات ودعم كافة المبادرات التي تستوجب زيادة في التنسيق بين أعمالها.
السيناريو الثاني: التعطيل الدولي لهذا الاتفاق عبر استمرار "بتوريط الروس" وزيادة التكلفة السياسية المتأتية من انخراطهم في المشهد السوري وذلك لدفعها لإنجاز صفقات تدفع الروس على تقديم التنازلات في قضية الانتقال السياسي ومحاصرة طهران، فرغم الدلالات الصورية لهذا السيناريو إلا أنه لا يزال ينتظر بروز مؤشرات جدية لتغيير قواعد التعاطي الأمريكي مع الملف السوري وشمول تلك القواعد العناصر السياسية المفضية لدفع العملية السياسية باتجاه الانتقال السياسي.
وقد يوفر هذا السيناريو بعض الهوامش التي تؤخر استحقاقات المعارضة وامتحاناتها، إلا أنه لا يلغي ضرورة العمل على:
خاتمة القول
شكلت كافة مخرجات الآستانة سواء تلك التي بحثت في آليات تثبيت ومراقبة وقف إطلاق النار في عموم سورية عاملاً مساهماً في "أستنة" جنيف وتوزيع الأدوار التفاوضية بين منصة الآستانة للأدوار العسكرية ومنصة جنيف للأدوار السياسية، وهو أمرُ عزز من قدرة الروس وحلفائها على إعادة تشكيل المشهد العام مستثمرة كافة القراءات الأمنية الدولية للملف السوري، إلا أنه وبعد مجزرة الكيماوي في خان شيخون وظهور إرهاصات تغيير ما في السلوك الدولي دفعت موسكو بمذكرة تفاهم بشأن إقامة مناطق أمنية في سورية كمحاولة للعودة إلى دوائر السياسة وتقليص الزخم المتزايد للضربة الأمريكية على مطار الشعيرات، ورغم معوقات تطبيق هذا الاتفاق إلا أن الروس سيجهدون في تحويله لمستند رئيسي وداعم لوقف إطلاق النار بما ينسجم مع رؤيتها السياسية، كما سيعمل محور (النظام – إيران – روسيا) تفريغ مضامين اللامركزية عبر ضمان ربط الخيارات التنموية والإدارية لتلك المناطق الأمنية بعجلة النظام وأهدافه الاستراتيجية.
([1]) إذ يدلل السلوك الأمريكي أن هذه الأولويات هي قتال التنظيم واحتواء إيران في الجغرافية السورية وحماية أمن إسرائيل، كما اكدت عدة تصريحات للإدارة الأمريكية عن تبني أمريكا لفكرة المناطق الآمنة في سورية تلك الفكرة التي روج لها كثيراً ترامب أثناء حملته الانتخابية.
([2]) أطلقت الجهود الأمريكية-الروسية لإنشاء منطقة حكم ذاتي في الشمال السوري العنان لإعداد خطة موازية تهدف إلى إنشاء إقليم فيدرالي يشمل المحافظات الجنوبية الثلاثة: القنيطرة وحوران وجبل العرب، للاطلاع على تلك الخطة أنظر: مشروع فيدرالية الجنوب، المرصد الاستراتيجي، https://goo.gl/K26sGf
([3]) ملف: "اتفاق المناطق الآمنة وردود فعل عليه"، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، تاريخ 5/6/2017 https://goo.gl/4gBuxz
([4]) تم التباحث في هذه النقطة خلال اجتماع بين مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ومركز الشرق للبحوث، 5/6/2017، غازي عينتاب/ تركيا.
([5]) وتقول هذه المادة: تتولى جمعية الشعب وجمعية المناطق السلطة التشريعية في الدولة أصالة عن الشعب السوري على الوجه المبين في الدستور والقوانين، للمزيد حول مقترح الروسي المتعلق بالمجالس المحلية، انظر المصدر التالي: كامل صقر:" موسكو ستقترح إنشاء مجالس محلية مدعومة من الحكومة المركزية السورية في مناطق تخفيف التوتر"، موقع القدس العربي، تاريخ 6/5/2017، الرابط: https://goo.gl/AzJqoQ