كثيرة هي الأسئلة والنقاشات حول الهوية السورية؛ ماهيتها مقوماتها ووجودها، حاضرة في كل الطروحات الأكاديمية منها والشعبية، تخبو تارة وتعود إلى الواجهة تارة أخرى. البعض ينكر وجودها بصيغتها الجامعة لانتفاء مقوماتها، والبعض الآخر يناقش عمقها الضارب في التاريخ، وآخرون يثبتون قصورها عما تعنيه الهوية الوطنية بمفاهيمها المعاصرة طالما أن إشكالياتها أكثر من دعائمها، فجذورها لم تتطابق مع حدود الجغرافيا السورية المفروضة، إضافة إلى عدم إتاحة الفرصة لممارستها بشكل يساهم بترسيخها في ظل احتلالات متتالية وانقلابات عديدة ثم وجود نظام استبدادي تمييزي لا يعترف بحقوق أو واجبات أو مواطنة، ولا يطبق دستوراً ولا قانوناً إلا في حيز ما يتيح له -وله فقط-البقاء أياً كان ثمن ذلك.
قد يبدو الحديث عن الهوية والعقد الاجتماعي رفاهية في ظل كارثة طبيعية ضخمة لم تنته ارتداداتها بعد، إلا أن زلزال السادس من شباط 2023 لم يكتف بتفجير موجة من التساؤلات التقنية حول هول الكارثة الطبيعية الحاصلة وأبعادها الإنسانية وتحليل أسباب فداحة مستوى أضرارها المادية والمعنوية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى أسئلة سياسية وإنسانية وثقافية وفلسفية وجودية كما يحدث خلال الأزمات الكبرى دوماً، لكن على نطاق أوسع هذه المرة.
لم يكن لدى السوريين وقت فائض للبحث عن إجابات شافية عن تلك الأسئلة المُعقّدة، فكانت استجابتهم لمنكوبي الكارثة في سورية وتركيا سريعة ولافتة، بل كانت أسرع من الاستجابة الدولية بكثير، فلم ينتظروا الاستجابة الأممية ولا حتى تبرير تأخيرها المتعلق ببيروقراطية مؤسسات الأمم المتحدة وزوال "العوائق اللوجستية والسياسية". ربما ليقينهم أنهم كالعادة سيُتركون وحدهم في مواجهة مصيرهم، وأن لا دولة خلفهم تعوضهم أو تتحمل مسؤولياتها تجاههم، بل وعلى العكس ستكون أول من يتاجر بمأساتهم ويسرق مساعداتهم ويسيس معاناتهم وحتى يقصفهم أثناء فاجعتهم! ولن يغير من بؤس واقعهم تصريح ولا اعتذار متأخر ولا موقف لن يأتي، لتترك أرواحهم تزهق بأسباب وأشكال متعددة؛ سواء جراء كارثة طبيعية أو قصفاً أو برداً أو جوعاً أو قهراً أو كل ذلك معاً، دونما اكتراث ولا محاسبة ولا إجراء يحد من الاستهتار بحيواتهم.
لم تمض ساعات على الكارثة حتى أخذ السوريون ينظمون أنفسهم، أينما كانوا وكل حسب استطاعته، في مبادرات تطوعية فردية وجماعية باتجاهات ومجالات شتى، تبدأ بجمع الأموال والحرص على إيصالها لمستحقيها ولا تنتهي بالإنقاذ دون معدات ولا حتى تدريب. فولدت فرق ومجموعات تطوعية للمرة الأولى ودُعِمَت أخرى قائمة مسبقاً وعاملة في الشأن الإنساني. ولأول مرة منذ عقد من الزمن، كان الفعل سورياً خالصاً، سورياً لأجل السوريين أياً كانت أماكن وجودهم وانتماءاتهم، وسورياً من حيث اكتمال دائرة الفعل من التخطيط إلى التمويل فالتنفيذ، بعيداً عن الأجندات والبيروقراطيات وأولويات "الداعمين"، بل وصل حتى إلى تحدي بعض سلطات الأمر الواقع لإرغامها على فصل مواقفها السياسية عن إيصال المساعدات.
ورغم أن الاستجابات المحلية مهما بلغت لا يمكنها أن تعوض المساعدات الدولية؛ إلا أنها ساهمت بالتخفيف إلى حد ما من وطأة تأخر الاستجابة الدولية، وفي الوقت نفسه؛ أعادت طرح أسئلة الهوية السورية مجدداً. فقد اعتبر البعض تلك الاستجابات، خاصة العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع، دليلاً على فعل جمعي تضامني نابع عن هوية سورية مشتركة. في حين اعتبر آخرون أن طبيعة تلك الاستجابات وعدم قدرتها على تجاوز مناطق نفوذ أخرى، ترسيخ للانقسام القائم. بينما قرأها البعض كاستجابة بشرية طبيعية متعلقة بمركزية الإنسان في حالات ما بعد الكوارث الطبيعية، ومن اعتبرها مؤشراً على كمون الرغبة السورية بتجاوز واقعها المقسّم في انتظار لحظة وطنية تعيد تشكيل وبناء ملامح هذه الهوية وتؤسس لعقد اجتماعي سوري جديد.
ولعلَّ من الصعوبة بمكان خلق معايير علمية وعملية لقياس مدى الارتباط بالهوية عموماً والهوية الوطنية خصوصاً، نظراً لعدم وجود تعريف موحد لها ولتداخل مفاهيم مُركّبة فيها، ناهيك عن اختلاطها بالأبعاد العرقية أو الدينية أو المناطقية في كثير من الأحيان، واختلاف تصوراتها السابقة المبنية على مفهوم "الأمة" عن تصوراتها الحديثة المرتبطة بالمواطنة إلى تطورات ما بعد الحداثة وانعكاسها على الهوية، إضافة إلى صعوبة وضع الحد الفاصل بين الجزء الشعوري والانعكاس السلوكي (الفردي والجماعي) والسياق التعاقدي السياسي والإطار القانوني الضامن له. فالانتماء عاطفة إنسانية فردية من الصعب قياسه وإحصاؤه وإخضاعه لمعايير جامدة، إذ لا يُكتفى بالارتباط المفروض نسباً أو بالقوة، في حين توجد هوامش اختيار يمكن للفرد الانتماء إليها أكثر من هويات مفروضة عليه. فضلاً عن كونه متغيراً يتأثر بعوامل عديدة (كالفترة الزمنية المدروسة، الحروب والنزاعات، وجود الأعداء، التجييش، مستويات العنف، الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية والظروف العامة، مدى الاستقرار، المظلوميات، اليأس/الأمل...إلخ) فيزداد حيناً وينقص حيناً آخر.
من ناحية أخرى، يتعلق الشق العملي للهوية بالممارسة، وقد يلتبس على المراقب الخارجي التفريق بين الممارسة الحرة وتلك المفروضة سواء من السلطات السياسية أو الاجتماعية، كما يشوب الأمر الكثير من التعقيد عند الحديث عن الهوية الوطنية وممارستها، إذ تكمن الصعوبة في الفصل بين المنظور الوطني الحقيقي و"الشعاراتية" التي جعلت استخدام المصطلح ممجوجاً لكثرة استعماله في غير محله، وتعريفه من وجهة نظر النظام الحاكم وقصره على رموزه وعلى شخصية الحاكم، إضافة لاقتصار استخدامه على من يتبنى رؤى النظام، وكذلك في سياق التجييش على ما يخالف مصلحة حكم الأسد وإن كان الشعب نفسه.
وبتطبيق ذلك على الاستجابة السورية لكارثة الزلزال (رغم صعوبة التفريق بين الاستجابة الإنسانية العامة وبين الدافع الوطني كمحرك لهذه الاستجابة)، نلاحظ أن الأيام الأولى لما بعد الزلزال أعادت لشريحة واسعة من السوريين نوعاً ما شعور بدايات ثورة 2011، إذ ظهرت رغبة عارمة بألا تطغى الحدود وتقسيمات مناطق السيطرة على المساعدات الإنسانية، وهو ما اتضح من تضامن تجاوز مناطق النفوذ ومحاولات إرسال مساعدات عابرة لها، بعضها اصطدم بعوائق من السلطات المسيطرة خاصة بين مناطق النظام وتلك الخارجة عن سيطرته، وبعضها الآخر أظهر إمكانية تحدي الإرادة الشعبية لهيمنة الجهات المسيطرة كما في قافلة فزعة عشائر دير الزور.
بالمقابل، لا يمكن اعتبار ذلك التضامن أو النشاط الإغاثي كافياً للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية، بما يتجاوز الأزمات المُركَّبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لا بد من أخذها بعين الاعتبار:
أولاً: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلاً)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.
وقد يعزى السبب فيما سبق، إلى كون الكارثة الطبيعية وتبعاتها أعلى تهديداً ويمكن أن تطال الجميع دون تمييز، الأمر الذي يُشعر الناس بأنهم تحت ذات التهديد في أي وقت، ويشتركون بذات العجز والضعف في مواجهة كوارث الطبيعة. أما الأفعال الإنسانية، بما فيها الجرائم واسعة النطاق والمستنكرة إنسانياً، فقد توحي بأن الأمر محصور بفئة ما؛ المجرم والضحايا وذويهم، وكلما ابتعد مكان الجريمة عن متلقيّ الخبر -جغرافياً أو انتماءً (سياسياً/دينياً/عرقياً/طبقياً)- قل تأثرهم بها وبالتالي استجابتهم تجاهها، فهم أو أهلهم أقل عرضة لاحتمال التعرض لهكذا أمر، مع استثناء التعاطف الإنساني غير المؤدي إلى فعل بالضرورة.
ثانياً: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث، ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جلياً على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال كفرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.
ومن جهة أخرى، تترسخ تلك الأفكار لدى الشعوب ذاتها فتصبح "انتقائية التعاطف" فتتعاطف أو تستجيب لأولئك الذين يشبهونها -في الموقف الظاهر على الأقل- دون الذين يتبنون مواقف مغايرة، ويتضح ذلك من خلال السلوك المعلن أثناء جمع التبرعات الجماعية المحكوم بمناطق النفوذ، حيث كانت الحملات والمبادرات آليات تضامن ذات اتجاه سياسي واحد.
فليس النظام وحده من تجاهل الكارثة الواقعة في شمال غرب سورية لدرجة عدم إحصاء ضحاياها ضمن عدد السوريين المتضررين إلا بما يخدم تسويق نفسه سياسياً، بل كان ذلك سلوكاً واضحاً لدى المنظمات والمبادرات والمؤثرين الداعمين له الذين لم يأتوا على ذكر المناطق الخارجة عن سيطرته أو إيصال مساعدات إليها رغم شدة تضررها، ويعود ذلك إلى العوائق الأمنية الحاكمة وصعوبة كسر هيمنة النظام في مناطقه والتي تتجاوز الرغبة في الاستجابة للمتضررين من الأطراف الأخرى.
ضمن ذات الإطار، يمكن تصنيف بعض المساعدات المحلية والدولية والتي كانت مبنية على أسس ظاهرها إنساني وحقيقتها دعم الاتجاهات السياسية أو الإيديولوجية، كما في مساعدات العراق ولبنان، التي عكست مساعدتها لمناطق النفوذ المختلفة، حسب الجهة المرسِلة، الاتجاه السياسي الذي تدعمه والقائم على أسس طائفية أو عرقية أو سياسية.
على الجهة المقابلة، ظهرت استجابة مبنية على "وحدة القضية"، والتي دفعت السوريين المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وكثير من الجاليات السورية في الخارج -بمن فيهم كثيرون ممن أخرجوا أنفسهم عن المشهد السوري خلال السنوات الأخيرة الماضية- إلى التعاضد مع السوريين الذين يحملون ذات قضيتهم في التغيير، أكثر مما استجابوا لأماكن سيطرة النظام، مدفوعين إلى ذلك بسبب عدم وجود هامش حركة لدى مناطق الأخير -باستثناء التحويلات الفردية- وعدم ثقتهم بتوزيعه للمساعدات، والسبب الأهم أن الدعم الدولي استثنى مناطق شمال غرب سورية رغم كونها الأكثر تضرراً واتجه نحو الأسد، مما عمّق مظلومية جديدة لدى السوريين لن يكون تجاوزها سهلاً.
ثالثاً: تختلف الأيام الأولى دوماً عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني، ناهيك عن تأثير الوقت على عاملي الاستجابة والتعاطف رغم استمرار الكارثة أو وجود الحاجة. ويتضح ذلك من تجليات أزمة الثقة والتشكيك والتي تقود إلى الاعتماد على الجهود الفردية وعدم التنسيق، مما يعني حكماً تكرار الأنشطة وحتى الأخطاء وضياع الجهود وعدم القدرة على تنظيم المساعدات المقدمة، وبالتالي العودة للدوران في ذات الحلقة المفرغة. الأمر الذي يتعارض مع ما يتطلبه ترسيخ الهوية من عمل تراكمي طويل المدى لا تحققه الاستجابات الآنية ما لم يتم تحويلها إلى عمل مستمر ذي منظور وطني استراتيجي.
ختاماً؛ لا شك بأن الاستجابة السورية كانت ملفتة، وقد أثبت السوريون خلالها قدرتهم على الوقوف إلى جانب بعضهم وقدرتهم على التجاوب السريع واستثمار الخبرات في تنظيم الحملات ومواجهة الكوارث الصعبة بما يفوق سرعة الاستجابة الدولية، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، إذ لطالما كانت المعاناة السورية العابرة للهويات الضيقة العامل المشترك الأبرز بين السوريين.
كما أن الاستجابة الإنسانية لكارثة طبيعية لا تعبر عن هوية وطنية، بقدر ما تعبر عن إنسانية لم تمت. وفي الحالة السورية تعبر عن معنى الفقد على المستوى الشخصي وغياب الدولة على المستوى العام، وإدراك لمعنى التخلي الذي طالما اختبره السوريون، والذي رسخته أكثر طريقة التعاطي الدولية في تأخير إيصال المساعدات وتسييسها بطريقة قد تعزز الانقسام أكثر، كما سبق أن عززه الدم واستعصاء الحل السياسي العادل الذي حول التضامن إلى نوع من تكريس الانقسام السياسي.
تحتاج الهوية الوطنية اليوم فضلاً عن أبعادها الثقافية واللغوية والتاريخية والجغرافية؛ إلى مجموعة عوامل تبدأ بوجود إرادة شعبية قادرة على فرض نفسها، وهو ما يقتضي زوال النظام المعتاش على تعزيز التفرقة، وكذلك سلطات الأمر الواقع الهشة التي ترى أي مؤشر على اتفاق وطني عابر لمناطق النفوذ تهديداً لوجودها حتى ضمن نطاق الاستجابة لكارثة طبيعية، إضافة لاستقرار نسبي يسمح بممارسة هذه الهوية لترسيخها في بيئة آمنة تضمن حقوق الأفراد وتعكس رؤاهم في عقد اجتماعي يمثل تطلعاتهم ودستور وطني نافذ يرغم السلطات على تحقيق مصالح المواطنين، لا يصنفهم بناء على مدى خضوعهم لإرادته. الأمر الذي يتطلب استعادة الدولة ومؤسساتها المستلبة وإعادة هيكلتها وإصلاحها بشكل يساهم في عملية بناء تلك الهوية وحمايتها.
تتطلب الكوارث الطبيعة استجابة سريعة وواسعة لمواجهتها، غالباً ما يطغى عليها الشعور التضامني العاطفي، إلا أن الهوية تحتاج لظروف موضوعية وذاتية لبنائها ولفعل واعٍ وتراكمي لرسم ملامحها، ينطلق من التعاقد على مبادئ واضحة والبناء على قواسم مشتركة، وسيكتشف السوريون على اختلافاتهم وتنوعهم، عاجلاً أم آجلاً، بأن أول وأدق تلك القواسم أنهم جميعاً ضحايا لهذا النظام الذي لا يزال كارثتهم السياسية التي فاقت آثارها كوارثهم الأخرى.
بمشاركة ما يقارب 70 شخصية سورية من الفاعلين والناشطين في المجتمع المدني، عُقد بتاريخ 3 نيسان 2021 وبالتعاون بين منظمة التنمية المحلية، مركز الحوار السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، مركز عين الشرق لدراسة السياسات، وحدة المجالس المحلية، ندوة حوارية تحت عنوان:
دور المجتمع المدني في الاستحقاقات الوطنية (العقد الاجتماعي نموذجاً)
قدم في بداية الندوة الدكتور لؤي صافي أستاذ العلوم السياسية في جامعة حمد بن خليفة، مقدمة تمهيدية عن العقد الاجتماعي ودور المجتمع المدني في بنائه، ثم تحدث الدكتور أحمد قربي مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري عن القيم الوطنية السورية للعقد الاجتماعي الجديد (مضامين العقد الاجتماعي)، فيما تحدث الأستاذ معن طلاع مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عن سياق بناء العقد الاجتماعي بين التحديات والفرص.
بعد توزعهم إلى 5 "مجموعات نقاش مركزة"، ناقش المشاركون ثلاثة محاور رئيسة:
وقد قدمت المجموعات الخمس التي شاركت فيها خبرات متميزة ومتنوعة إجابات مفتاحية مهمة على هذه التساؤلات.
توافق المشاركون على ضرورة البناء على هذه المخرجات ضمن مسار متراكم بغية المساهمة في تفعيل المشاركة الإيجابية للمجتمع المدني السوري في بناء عقد اجتماعي لسوريا المستقبل.
أدى تأزم الصراع السوري بفعل التدخل الخارجي إلى تشظي الجغرافية السورية لمناطق نفوذ تديرها عدة قوى خارجية بامتداداتها المحلية، علاوةً عن تفتت النسيج المجتمعي السوري وتآكل الهوية السورية لصالح انبعاث هويات فرعية على أسس مذهبية أو عرقية. وفي حين يبدو الواقع السوري كارثياً بلغة الأرقام من حيث حجم الخسائر في البنية المادية والرأسمال البشري، فإن بناء المستقبل يتطلب معالجة الملفات الكبرى سواءً تلك المؤجلة منذ تشكيل الدولة السورية فيما يتصل باستحقاقات الحكم والتنمية والهوية الوطنية، أو تلك الناجمة عن الصراع وفي مقدمتها التغير الديمغرافي. وفي هذا الصدد، تتجلى أهمية مشروع المجالس المحلية كحامل وطني قادر على التعامل مع الاستحقاقات الكبرى المطروحة، ومنها ملف التغير الديمغرافي لما تمتلكه من كمون يرتكز على شرعيتها وإمكانياتها.
انخرطت عدة قوى في ممارسات التغير الديمغرافي، ولكن ما يضفي على الممارسات الإيرانية سمة خاصة أنها تعد جزء أساسي من استراتيجية متكاملة للتحكم بسورية من خلال التمكين، حيث تسعى إيران جاهدة ما أمكنها لاستغلال ظروف الصراع لإحداث تغير ديمغرافي في عدد من العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن محيط العاصمة دمشق وداخلها وعلى امتداد الخط الذي يصلها بالساحل، إضافة للمناطق الحدودية المحاذية للبنان، والعمل على رعاية تلك المناطق سياسياً وأمنياً، وتضمين المستوطنين الجدد "الوافدين" ضمن مؤسسات الدولة وبالأخص الأمنية والعسكرية منها، بما يعزز قدرتها على التحكم بالجغرافية السورية راهناً من جهة، والتأثير على معادلات السياسية السورية مستقبلاً من جهة أخرى.
يمكن التأريخ لبدء عمليات التغير الديمغرافي مع حملة القصير "أيار 2013"، ليشهد هذا المسار نمواً مضطرداً مع مطلع 2014، حيث يقدر عدد المناطق المستهدفة بالتغير الديمغرافي بما يزيد عن 127 منطقة، كان لمحافظات حمص ودمشق وريفها النصيب الأكبر منها. أما عدد السكان المهجرين قسرياً فيتجاوز 2 مليون نسمة، ومن أكبر عمليات التهجير التي تمت تلك التي شهدها حي الوعر وأحياء حلب الشرقية إضافة للمناطق المشمولة باتفاقية المدن الأربعة. أما الأدوات المستخدمة لإنفاذ عمليات التغير الديمغرافي فمتنوعة وتشتمل على المجازر والحصار والضغط العسكري كآليات عسكرية، إضافة لاتفاقيات الإخلاء والتسوية كآليات سياسية، علاوةً عن الآليات القانونية كشراء العقارات وإحداث مناطق جديدة للتنظيم العقاري، كما هو قائم في المزة وكفرسوسة في محافظة دمشق (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012)، إضافة لمناطق باب عمرو والسلطانية وجوبر في محافظة حمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص!؟
أما عن مراحل التهجير، فتبدأ بإنزال العقاب الجماعي بحق المناطق المستهدفة، ثم تطهيرها مكانياً من سكانها المحليين لتصبح البيئة جاهزة للمرحلة الأخيرة والأخطر من عملية التغير الديمغرافي وهي الإحلال السكاني، الذي تم جزئياً في مناطق عدة أهمها، القصير والسيدة زينب وداخل أحياء دمشق. ولتمكين المستوطنين الجدد "الوافدين"، يتم العمل على تسخير مؤسسات الدولة لخدمتهم ونقل الملكيات العقارية لهم، واختلاق الأعذار والحجج للحيلولة دون عودة السكان الأصليين من خلال فرض ما يعرف بالموافقة الأمنية.
تتمثل خطورة عمليات التغير الديمغرافي بالآثار الكارثية التي أحدثتها في بنية المجتمع السوري، من حيث ترسيخها لخطوط الانقسام بين السوريين على أسس مذهبية وعرقية، إضافة لعرقلتها إنجاز ملفي عودة النازحين والمهجرين وإعادة الإعمار مستقبلاً.
وفي ظل التعاطي السلبي من قبل المجتمع الدولي، بل وتواطؤه المفضوح في عمليات التغير الديمغرافي، وضعف فعالية المعارضة السياسية في إثارة الملف تفاوضياً، وأمام مثابرة إيران وأذرعها المحلية لنسف ما تبقى من عرى تماسك المجتمع السوري، تبدو المسؤولية كبيرة على عاتق القوى المحلية وفي مقدمتها المجالس المحلية للاعتماد على نفسها، والتعاطي مع ملف التغير الديموغرافي بمسؤولية نابعة من تمثيلها لمجتمعاتها المحلية التي هُجرت والدفاع عن حقوقها. وفي حين تواصل عدة مجالس محلية مهام التوثيق العقاري والمدني من خلال مديريات تُعنى بهذا الأمر، سواءً على مستوى مجالس المحافظات أو المجالس الفرعية كما في دوما، الأتارب، إعزاز، درعا، سراقب والرستن..إلخ، فإن المسؤولية أكبر على عاتق المجالس المهجرة، إذ أنها معنية أكثر من غيرها في حفظ الذاكرة المحلية لمجتمعاتها والاستمرارية بالمطالبة بحقوق سكانها المهجرين، وهو ما يمكن العمل عليه من خلال إعادة تفعيل نفسها من جديد في البيئات التي وفدت إليها، وممارسة دورها في رعاية شؤون سكانها، إضافة لإثارتها لموضوع التهجير القسري في المحافل الدولية الحقوقية والقانونية، علاوةً عن متابعتها لملف الملكيات العقارية في مناطقها.
إضافة لما سبق، يمكن استغلال الاتفاقيات السياسية المؤقتة راهناً "الهدن، مناطق وقف التصعيد" وإدراج بند خاص بالعودة الطوعية للاجئين والنازحين لأماكن إقامتهم الأصلية دون قيد أو شرط وبرعاية أممية تستند لدور محوري للمجالس في عملية التنفيذ، إضافة لمنح المجالس المهجرة الحق بالعمل من جديد ضمن مناطقها الأصلية، كذلك الحد من تسرب السكان المحليين لخارج سورية من خلال العمل على إيجاد مناطق توطين مؤقتة لهم كما في مناطق درع الفرات، علاوةً عن الاستمرار في توثيق جرائم التهجير وجمع القرائن والأدلة اللازمة لتشكيل ملف قانوني متكامل، يتيح إمكانية متابعته دولياً لملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه العمليات باعتبارها جرائم حرب.
المصدر شبكة شام: https://goo.gl/ZdgtMP