مدخل

شكلت مواقف دول الخليج حالات داعمة للقوى المجتمعية الثورية السورية، حيث تولت منذ البداية طرح العديد من المخارج للأزمة السورية، وشكلت مبادراتها الدينامية الأساسية والمحركة لمبادرة الجامعة العربية الأولى إلا أن استمرار رفض النظام أدى إلى تطور الموقف الخليجي والمطالبة بتنحي رئيس النظام السوري لصالحه نائبه (المبادرة العربية الثانية)، ومن ثم رفض الحوار معه ليفضي إلى تعزيز تقديم الدعم السياسي والمعنوي للمعارضة السورية في المجتمع الإقليمي والدولي، وبلغ هذا الموقف ذروته في تلك المرحلة عندما سحبت دول الخليج سفرائها من دمشق وطردت نظرائهم السوريين من أراضيها. أما في المرحلة المسلحة فقد اتبعت كل من قطر والسعودية والإمارات سياسات تمكين المعارضة ومدها بالدعم اللوجستي بدايةً ثم دعوة المجتمع الدولي ومطالبته بتسليح الجيش السوري الحر والاعتراف بمؤسسات المعارضة الرسمية وهيئاتها، إلا أن التطورات السياسية والأمنية ساهمت في عرقلة الحركة والتأثير الخليجي، سواء تلك التطورات  الناجمة عن التدخل الروسي وما فرضه من معادلات سياسية وعسكرية جديدة، أو تلك المتعلقة بالأزمة الخليجية والتحولات المحلياتية أو تلك المرتبطة "بالتخبط" الامريكي في المنطقة وما تفرزه من تمكين للمشروع الإيراني.

تناقش هذه الورقة -متكئة على أدوات التحليل الاستراتيجي-مسببات تلك العرقلة وأثرها على العلاقة الخليجية السورية وانحسار خيارات ومساحات التأثير، موضحة طبيعة المشهد السوري بعد هذه التطورات وموجبات عودة التلازم الوظيفية مع المسارات السورية الوطنية لتحقيق الاتساق العضوي لتفريغ المشروع الإيراني المتمدد، وتستكشف هذه الورقة ميادين هذا التلازم وحزم الإجراءات الضامنة لعودة الفاعلية في الحقل السياسي والأمني والتنموي.

عوائق التفاعل الخليجي مع تطورات القضية السورية

دفعت التطورات الإقليمية والتعقيدات المحلية التي تعتري الجغرافية السورية منذ التدخل الروسي إلى ظهور عوائق مختلفة الحجم أمام القوى الإقليمية الفاعلة في الشأن السوري، مما أفرز تحولاً في مسار الحركية الإقليمية وفقاً لتغلب "المنطق الجيوأمني" على مداخل الحل والانفراج السوري وبحكم أولوية "عدم التعارض مع موسكو" التي باتت فاعلاً رئيسياً في هذه الجغرافية، ودول الخليج العربي من بين تلك القوى الإقليمية، فبالنظر لأهم تلك التطورات، فإنه يمكن حصرها بعدة دوائر "متعارضة"، فرضت على دول الخليج تغييرات  واضحة أفرزت إعادة تقييم للسلوك والأداء الخليجي، وأهم هذه الدوائر وهي:

  • الدائرة الأمريكية: إذ عزز بدايةً سلوك وأداء الفاعل الأمريكي في المشرق العربي عموماً وفي سورية خاصة، تغييباً واضحاً للمداخل السياسية وتغليباً للمقاربات الأمنية، وهو ما جعل قضايا المنطقة أزمات مزمنة "يعول" فيها على عنصر التسكين والتهدئة لخلق حالة تعافي واستقرار نسبي، الأمر الذي أعاد هندسة العناصر المشكلة للعملية السياسية في سورية، فقد ساهمت سياسة واشنطن السابقة والتي اتكأت على "ترشيد استخدام القوة" ومبدأ "القيادة من الخلف" إلى تثبيت عدة عناصر حدت بشكل موضوعي عمل الإدارة القائمة، أهمها تمكين طهران في سورية التي استفادت كثيراً من واقع ما بعد الاتفاق النووي الإيراني، وترك مساحات الفاعلية السياسية الروسية والتي اتسعت في ظل الإدارة الأمريكية الحالية.
  • الدائرة الروسية: شكل تحليل النتائج المتوقعة من تدخل موسكو كالضغط على الأسد والحد من التمدد الإيراني وضرب القوى الإرهابية، عاملاً مطمئناً للفاعل الخليجي عامة، إلا أن نمو محور (إيران، موسكو، العبادي، الأسد) وزيادة فاعلية إيران وفرض الأسد ونظامه على كل المسارات الناشئة، ساهم في تبني دول الخليج سياسة الحذر والترقب، والبحث عن هوامش حركة دافعة باتجاه الحلول السياسية، والانخراط الإيجابي في كافة الفعاليات الإقليمية والدولية المعززة لتلك الحلول.
  • الدائرة الخليجية: حيث إن عوامل كالأزمة الخليجية، والحرب ضد ميليشيا الحوثي في اليمن، وتغيير أنماط السياسات المحلية، ساهمت في تأخر الملف السوري في أولويات السياسة الإقليمية لدول الخليج، الأمر الذي ساهم في تقليص مساحات التأثير في المعادلات العسكرية في الجغرافية السورية، واضطرابٌ في أدوات التعاطي، وبالتالي اتسام الحركية الخليجية اتجاه الملف السوري بالتكتيكية والقائمة على مبادئ "الصد" و"تقليل" الخسائر.
  • الدائرة السورية: ساهم الانتقال غير المتسق في خطوات الهندسة السياسية لملامح "الانفراج" السوري (من انتقال سياسي إلى سياسات التسكين والتعافي وصولاً إلى تحويل الاستحقاقات السياسية إلى اختبارات حكومية) إلى تعقيد مآل العملية السياسية، وبالتالي تعزيز احتمالات بقاء نظام الأسد وحلفائه و"انتفاء" حصول انتقال سياسي من سلطة الأسد إلى سلطة مدنية وفق آليات العدالة الانتقالية.

بعد تلك التطورات الدافعة لتغير السلوك الإقليمي لدول الخليج في سورية، فإنه يمكن تشكيل معادلة الدور الخليجي الراهنة وفق للآتي: )الفاعلية الخليجية = أدوار إنسانية ودبلوماسية+ دعم شديد المحددات والشروط+ انخراط إيجابي في عمليات التشكل السياسي(، وتؤكد هذه المعادلة -التي فرضت نفسها بحكم تنامي معوقات الفاعلية المثلى- تضيق مساحات التأثير وتقلص الفرص الكفيلة بعدم تحول سورية سواء كجغرافية لمسرح متشظي، "تُحسن" طهران المنتشرة أفقياً في هذا المسرح استغلاله ومل فراغاته بمشروعها السياسي والإيديولوجي، أو لتحول سورية كدولة إلى كيان دولتي فاشل غير قادر على ضبط المشهد الأمني والعسكري والسياسي وترتهن دوائر صنع القرار فيه لحلفائه وشروطهم الجيوسياسية في المنطقة.

"التلازم": ضرورة وحتمية  

من جهة أولى، فإن تسارع طهران لتحسين وتعزيز تموضعها في المنطقة وإن بدى غير مستقر فإنه باتجاهات امتلاك شروط التمكين، إذ يساهم تفتيت أهم المسارح الجيوسياسية في المنطقة في إضعاف دول الأطراف وتصدر طهران لدفة القيادة التي ستحاول من خلالها التحكم في ملفات المنطقة بغية ضمان عودته لممارسة دوره الشرطي قبل أحداث الربيع العربي من جهة ولاستكمال مشروعه الاستحواذي على مراكز القوة في المجال الحيوي والجيبولتيكي لهذه المنطقة.

ومن جهة ثانية، فإن عدم تحول الفعل الخليجي لاستراتيجية متكاملة قادرة على الدفع باتجاه تضمين الاتفاق السياسي المتوقع للشروط الأمنية والسياسية المحلية المتقاطعة مع محيطها العربي، واكتفائها في سياسة الصد، يسهم على المدى الاستراتيجي بإعادة فرز السلطة الحاكمة بكل ما تعنيه العودة من تعاظم شروط اللاستقرار والفوضى والتحكم في بؤر الإرهاب واتجاهاته.

 ومن جهة ثالثة، فإن التدخل الروسي الذي يحاول استثمار "نصره" العسكري في ميدان السياسة و"رعاية" عملية سياسية لا تفضي لمعالجة أسباب الرفض والقطيعة المجتمعية، فإنه ينمي مناخات الانحدار باتجاه الأفغنة القابلة للتدحرج لتغدو سمة المنطقة ككل، وبالتالي فإن كافة المؤشرات تدل على أنها خطوات ديكورية في "مسلسل ادعاءات" الحل السياسي، وهو أمرٌ ينبغي أن تبقى دول الخليج مدركةً أبعاده السلبية على المنطقة ككل،

تحتم الاتجاهات أعلاه على دول الخليج تجاوز معطلات التأثير في الملف السوري سواء المرتبطة ببنيتها الداخلية أو المتعلقة بضرورات اتساق الرؤية والأدوات الخارجية، وإعلاء أولويات التلازم الأمني والسياسي  السوري الخليجي، والاستمرار بالضغط على الفواعل الدولية لتبقى القضية المجتمعية هي المحرك الأساس في أي عملية سياسية، مستغلة عوامل في تمكين القوى الاجتماعية سياسياً واقتصادياً  وتعزيز أدوار المجالس المحلية التي هي نتاج شرعية شعبية، وهو أمر سيكون صاداً للمشروع الإيراني غير المنسجم مع هوية المنطقة وتفاعلاتها من جهة، وسيعزز من مناخات صد وتجفيف قوة الجماعات العابرة للحدود واسقاط ورقة لطالما احسنت قوى الاستبداد توظيفها في تمزيق البنية المحلية واستغلال ذلك لإعادة شرعنة بقائها.

اتساقٌ سياسيٌّ

انطلاقاً من ضرورة وأهمية هذا التلازم، فإن ملامح أي انخراط استراتيجي خليجي ينبغي له الانطلاق من اعتبارات سياسية واقعية؛ وضرورات إعادة تقييم لأدوار التأثير محلياً والبحث عن أنماط تغييرها باتجاهات تعزيز التلازم؛ بالإضافة إلى أولوية تعزيز المشروع الصاد لطموحات طهران، وعليه يمكن– كمحاولة لرسم هذه الملامح –تحديد ثلاثة أطر للفاعلية، الأول متعلق باستنباط عناصر التأثير الكامنة في العملية السياسية وسبل تعزيز مقاربة التلازم، والثاني مرتبط بتحديد الأدوار المحلياتية، والإطار الثالث يحدده واقع المشروع الإيراني وآفاقه وسبل مواجهته وتحجيمه. فإذا ما انطلقنا من في هذا القسم من الإطار الأول، فإن المشهد السياسي الراهن بات يؤكد على ثوابت جديدة، لا سيما تلك التي تعد نتائجاً للتدخل الروسي، ومنها نذكر:

  1. الاستثمار السياسي الروسي لمخرجات الأستانة، والدفع السياسي باتجاه بلورة مسارات سياسية "تجد طريقاً للحظها في حركية العملية السياسية" وتخفف من تكلفة تدخلها وتسهل من استراتيجية الخروج.
  2. انسجام نتائج التدخل مع فكرة تثبيت نظام الحكم واجراء تغييرات واصلاحات شكلية ومن داخله، واتساقه مع الهواجس الإيرانية بحكم العلاقة الوظيفية التي تضبط علاقات موسكو بطهران في سورية لا سيما فيما يرتبط بالشق الميداني، وبذات الوقت يعمل على اصدار نتائج ينبغي لها أن تحتوي عنصر جذب لأنقرة تجاه موسكو التي لا تزال تتطلع لعلاقات أمثل مع الولايات المتحدة.

إلا أن إدراك موسكو لثابتين يتعلقان بالنظام (الأول: عدم قابلية تحمل بنيته لأي تغيير حقيقي؛ والثاني عدم نجاعة تزمين خفض التوتر من زاوية عدم قدرة النظام على الحفاظ على المكتسبات العسكرية، وبالتالي العمل على أولوية الاستعجال في الخطوات السياسية اللازمة وانجازها شكلاً على الأقل) يجعل عملية الهندسة الروسية للحل السياسي عملية يعتريها العديد من العراقيل وعناصر اللاستقرار، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن العملية السياسية وفق المخيال الروسي لا تزال مرتبطة حالياً بمرحلة تفاوضات مع الأطراف الإقليمية المعنية، ومتعلقة بمدى مقاومة المجتمع الدولي لهذه الخطوة الروسية التي ستسحب تدريجياً مرجعية جنيف، هذا المجتمع الذي وإن تماهى بحكم التدخل العسكري مع المخرجات الروسية، إلا أنه يدرك أن الأمر بنهايته رهين التقارب الروسي الأمريكي، وهذا ما لم تتعزز مؤشراته المرتبطة بالشروط الأمنية السورية المحلياتية([1]).

ووفقاً لأعلاه وبالتقاطع مع الشروط الوطنية كانتفاء مسببات الإرهاب والربط العضوي بين الانتقال السياسي والاستحقاقات الأخرى، فإنه يمكن تحديد عناصر الفاعلية السياسية الخليجية بأربعة مداخل:

  1. الدفع باتجاه تبني سياسة خليجية وعربية موحدة حيال نظام الأسد، وتبيان الأضرار الاستراتيجية والتكاليف السياسية البالغة من عملية إعادة شرعنته، والعمل على إصدار بيان عربي موحد، فوجوده في النظام العربي يهيأ الظرف المكتمل لطهران لتحويل سورية لمنصة قلق وفوضى إقليمية.
  2. استراتيجية تفاوض خليجية موحدة مع موسكو لتضمين العملية السياسية الشروط السياسية المناسبة لخلق بيئة محلية مستقرة، كجلاء كافة الميليشيات الإرهابية التي تساند نظام الأسد، وبرامج زمنية للانتقال السياسي وفق القرارات الدولية ذات الصلة.
  3. دعم الفعاليات السياسية والإدارية الوطنية في مناطق خفض التصعيد، وفقاً لعناصر استراتيجية التمكين المحلي التي تستوجب العمل على تعزيز أربعة عناصر، تطوير عمليات الحوكمة في مناطق سيطرة المعارضة، وتدريب البنى الإدارية وتقوية أدائها السياساتي، برامج مكافحة التطرف الوطنية، دعم مجالس الحكم المحلي كديناميات حكومية صادة لمشاريع جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً).
  4. تدعيم القدرات الدفاعية لمنظومة الجيش الحر، وما تستوجبه من عمليات تحصين وحماية مناطق خفض التصعيد من أي اختراق محتمل من قبل النظام وحلفائه أو من قبل تنظيم الدولة الذي بات يعلي مقاربة المجموعات السائلة كمبدأ للاختراق وإعادة السيطرة وتحسين التموضع.

تفريغ المشروع الإيراني

تدلل الخريطة أدناه على واقع إيران العسكري والأمني في سورية في عام 2017، فبالإضافة إلى قواعدها العديدة في سورية (فعلى سبيل المثال يمتلك الحرس الثوري لوحده -عدا الميليشيات الأخرى-ثلاثة قواعد كبيرة في الكسوة بريف دمشق ومنطقة صلنفة في الساحل السوري ومنطقة السبع بيار في البادية السورية، عدا عن نقاط الاتصال والتسليح في مطار دمشق الدولي والزبداني وجمرايا في ريف دمشق ومدينة البعث في القنيطرة، والحاضر في ريف حلب) تنشط إيران حالياً على أربعة أبعاد:

  • سياسياً: إذ مكنتها منصة الأستانة الدفع باتجاه المشاركة في بلورة معالم الطريق للحل السياسي
  • عسكرياً: تقاتل طهران وميليشياتها على عدة جبهات في دير الزور والقنيطرة ودرعا وريف حمص الشرقي.
  • اقتصادياً: البدء في استحواذ مشاريع استراتيجية كالطاقة والمواصلات والعقارات.
  • إدارياً: فبالإضافة إلى سيطرتها وتحكمها في خيارات وسياسات المجالس البلدية والمحلية في مناطق سيطرتها، باتت إيران متحكمة في معظم المعابر الشرقية ناهيك عن المعابر مع الحدود الإيرانية.

بالمقابل ورغم تنامي العناصر المكملة للمشروع الإيراني وبلوغها مستويات متقدمة، إلا أن عوامل تفريغ هذه المشروع وتحجيمه لا تزال تمتلك فرصاً عديدة يمكن لدول الخليج استغلالها، خاصة أن أي حالة سياسية محتملة ستعترضها بنية أمنية هشة ومناخ فوضوي لا يمكن أن يفضي للتعافي والاستقرار المجتمعي، ومن هذه الفرص نذكر حزم الإجراءات التالية:

  1. البدء بحملة سياسية ودبلوماسية في كافة الفعاليات الإقليمية والدولية لتوصيف كافة الميليشيات الإيرانية كقوى إرهابية، واعتبارها قوى معطلة لمسيرة "السلام" ومغذية لخطاب التطرف والإرهاب.
  2. البحث عن علاقة وظيفية مع تركيا، تشكل عامل معادل لعلاقتها مع أنقرة التي فرضتها ضرورة الجغرافية والمعادلات العسكرية والأمنية في سورية.
  3. دعم كافة الاتفاقيات الأمنية المثبتة لمناطق خفض التصعيد مقابل جدول زمني لانسحاب الميليشيات الإيرانية من المجال الحيوي لهذه المناطق تمهيداً لخروجها من سورية.
  4. دعم مجموعة من الفعاليات المدنية والإعلامية والبحثية والقانونية الهادفة لخلق حالات محلية صادة للمشروع الإيراني.

إعادة الإعمار والبوصلة السياسية

تشكّل إعادة الإعمار في سورية مهمة بالغة التعقيد والتشبيك مع المسار السياسي؛ فبحسب ما هو متعارَف عليه حول المعافاة وإعادة الإعمار بعد النزاعات، يجب أن تتم إعادة البناء المادّية والمعافاة الاقتصادية والإصلاحات السياسية والمصالحة المجتمعية بصورة متزامنة من أجل نقل البلاد من حالة الحرب والفوضى إلى "السلم والاستقرار". لكن في سورية، ثمة خطر بأن يتواصل الجزء الأكبر من إعادة الإعمار والمعافاة الاقتصادية بمعزل عن المفاوضات والإطار السياسي الملائم لشروط التعافي، إذ يمكن أن تتحوّل إعادة الإعمار بسهولة إلى أداة لتثبيت مكاسب الحرب وديناميكيات النفوذ القائمة، ما يحول دون عملية الانتقال من الحرب إلى السلم أو يطرح تعقيدات أمامها، بدلاً من دعمها،  كما أن اهم ما يعزز هذا الخطر أنه مع تقدّم عملية إعادة الإعمار، ستواجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، معضلةً بين الاستثمار في إعادة الإعمار "التقنية" – التخلّي عن فرض شروط على المساعدات، والاتجاه بحكم الأمر الواقع إلى مكافأة النظام والمساهمة في ترسيخه لنفوذه على الأرض – وبين رفض المشاركة في عملية إعادة الإعمار برمتها، ما يُعرِّضهم لخطر خسارة مزيد من التأثير[2].

 ورغم ذلك تتيح إعادة الإعمار فرصة لدول الخليج بتعزيز الاتساق السياسي مع الحاضنة المجتمعية السورية وزيادة أوراق التأثير والمساهمة في عملية التشكل السياسي لسورية ورسم معالمها المستقبلية، فإعادة تصوّر المشهد بكافة أبعاده لا يمكن له أن يتم دون إعادة صياغة الديناميكيات السياسية وديناميكيات النفوذ أو ترسيخها.[3] وتدرك دول الخليج طبيعة العلاقة بين إعادة الإعمار والحكم والنفوذ. فحتى فيما يتفاوضون على الترتيبات المتعلقة بنزع التصعيد ووقف إطلاق النار، فأنهم سيسعون أيضاً إلى ترسيخ دوائر نفوذهم في سورية عن طريق إعادة الإعمار. على سبيل المثال، تستثمر تركيا في إعادة إعمار البنى التحتية المتضررة من الحرب في الباب، آملةً بأن يساهم ذلك في طرد المجموعات المتطرفة وتشجيع عدد كبير من اللاجئين الذين تستضيفهم داخل الأراضي التركية، على العودة إلى سورية، وليس الهدف من هذه الجهود بسط الاستقرار في الوقت الراهن وحسب، إنما أيضاً تمكن ورائه أسباب سياسية.

وعليه يمكن تحديد ملامح سبل فعالية دول الخليج في سياسات إعادة الإعمار في عدة اتجاهات، أهمها ما هو مرتبط بمتطلبات تعزيز التواصل ما بين منظومة مجلس التعاون الخليجي مع الاتحاد الأوروبي (الداعم المادي الأكبر لإعادة الإعمار في سورية) والتوصل لمذكرات تفاهم وتنسيق وتعاون لإنجاز هذا التحدي، والعمل على الدفع باتجاه تحديد الشروط السياسية لبدء هذه العملية، والحذر من تحول هذا الملف من استحقاق سياسي داعم للاستقرار إلى تحدي حكومي يتوه في دهاليز البيروقراطية وشبكات الفساد الأسدية والإيرانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه من أدوات الفاعلية يكمن في إنشاء منظومة التعاون الخليجي لصندوق مالي داعم لسياسات إعادة الإعمار وما تتطلبه من دراسة احتياجات وسياسات تنفيذية وبرامج تطوير الأداء والعودة الكريمة للاجئين والنازحين، والتركيز المباشر على مناطق سيطرة المعارضة وما تتطلبه من احتياجات تؤهلها لإدارة هذه العملية.

ختام القول

تتعاظم شروط التشكل السياسي غير المتسق مع طبيعة وتعريف القضية السورية التي تشهد تغييراً لمفاهيم سياسية كالانتقال والتغيير السياسي لصالح تسوية تفرغ الاستحقاقات السياسية الضامة لبناء سورية بما يتسق مع هويتها الحضارية وتحولها لمهمات حكومية غير مستعجلة وغير مرتبطة ببوصلة سياسية، وهو ما من شأنه تحول سورية لدولة فاشلة مزمنة تتحكم طهران في معظم دوائر صنع قرارها، وهو ما سيرتد فوضى أمنية متنامية على البنية السورية والخليجية والعربية، الأمر الذي يحفز دول الخليج لإعادة تقييم سياساتها تجاه الملف السوري ودراسة أسباب إعاقة فاعليتها عبر تعزيز مقاربة التلازم السياسي والأمني مع الملف السوري، والبحث عن امتلاك دوائر تأثير تضمن من خلالها دول الخليج إيقاف السيولة المتأتية من المشهد السوري وتضمين خطوات هندسة الحل أبعاده السياسية والاجتماعية الكفيلة بتحقيق الاستقرار والتعافي في سورية من جهة وتقوض وتفرغ المشروع الإيراني من جهة أخرى.

 

المصدر مجلة آراء حول الخليج


 ([1]) التثمير الروسي للمسار السياسي لما بعد الأستانة، تقدير موقف صادر عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ 13/11/2017، الرابط: https://goo.gl/6sN4h8

([2])  Benedetta Berti, “Is Reconstruction Syria’s Next Battleground?”, Carnegie endowment for international peace, 5/9/2017, https://goo.gl/xFWLxX

 ([3]) لقد تكبّدت سورية، خلال الأعوام الستة الماضية، خسائر تراكمية في إجمالي الناتج المحلي تخطّت 226 مليار دولار، وأصبح نصف سكّانها في عداد النازحين بسبب النزاع، ولحقت أضرار كبيرة بالبنى التحتية المدنية. بحسب التقديرات الواردة في تقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2017، دُمِّر 27 في المئة من المنازل في المراكز المدينية التي خضعت للتقويم، أو لحقت به أضرار، ويُقدَّر مجموع تكاليف إعادة الإعمار بـ200 إلى 350 مليار دولار

التصنيف أوراق بحثية
تمكنت إيران والمجموعة الدولية في الرابع عشر من يوليو / تموز 2015 من التوصل إلى اتفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني، تباينت الآراء والمواقف في قراءة تداعيات هذا الاتفاق وآثاره على سلوك إيران وسياساتها الخارجية وعلى موازين القوى الإقليمية في المنطقة.
وقــد قــام مركــز عمــران بدعــوة باحثين متخصّصين في الشــأن الإيرانــي وقضايا المنطقــة والعلاقات الدوليــة، للمشــاركة فــي نــدوة بحثيــة لتقديــم قــراءة جامعــة شــاملة لهــذا الاتفــاق وارتداداتــه المباشــرة وغيــر المباشــرة علــى ملــف المنطقــة، بالإضافــة إلــى أهــم الســيناريوهات المرتبطــة بتطــورات هــذا الملــف مــن جهــة وبالتغييــرات المتوقــّع حدوثهــا علــى مســتوى السياســة الإيرانيــة الداخليــة والخارجيــة مــن جهــة ثانيــة.
التصنيف الكتب
الثلاثاء, 15 تموز/يوليو 2014 00:34

التحولات الكبرى في المشرق العربي

تركّز هذه الدراسة على الفاعليات الكبرى التي تحفّ بالثورة السورية وتسعى لتأطيرها في السياقين الإقليمي والتغيرات الحاصلة في موازين القوى. وتوضح الدراسة طبيعة التطورات الثقافية السياسية في المنطقة التي ترافقت مع تآكل المحاور القديمة المعروفة باسم محور الاعتدال ومحور الممانعة، وبداية تشكّل محور جديد يعتمد على جملة جديدة من التوازنات الدولية. وتفصّل الدراسة في مكامن قوة كل من إيران وتركيا، وحدود إمكانياتهما والفضاء المتاح لهما في التأثيرات الإقليمية. كما تعطي أهمية خاصة إلى الهزات الدِمغرافية التي سببها التشريد والنزوح، مما سوف يترك آثاراً دائمة في البلاد المحيطة المضيفة. وأخيراً، فإنه لا يغيب عن الدراسة الأبعاد الأقلوية التي ترصف مسيرة التغيير.

التصنيف الدراسات