تمثّل سيطرة قوات غرفتي "ردع العدوان" و"فجر الحرية" على محافظات حلب وإدلب وحماة واقترابهما من مدينة حمص ضمن عملية "ردع العدوان"، نقطة تحول استراتيجية في المشهد السوري بعد أن اتسم بثبات قلق منذ عام 2018، لتهدد ديناميات التعاطي المتصالحة مع واقع السيطرة والنفوذ المتحكم آنذاك.
تشكل العملية العسكرية الأخيرة ضربة كبيرة للنظام على الصعيد الاقتصادي، ليس فقط بفقدانه للموارد والإيرادات، بل بتقويض نفوذه السياسي وسرديته حول الاستقرار والتعافي وعقود الإعمار التي كان يروّج لها. في المقابل، يشكل هذا التحول تحدياً استراتيجياً لقوى التغيير التي ينبغي أن تبدأ بتطوير مقاربة اقتصادية وطنية تستند إلى محددات الإدارة الفعّالة للموارد والمساهمة في تحسين ظروف السكان المحليين ودعم الاستقرار.
لذلك، يشكل السؤال الاقتصادي حلقة رئيسية ضمن منظومة الأسئلة المركزية المطروحة حيال عدة ملفات خاصة في ظل تعنت النظام. وفيما يلي بعض الإشارات الأولية الدالة على طبيعة المشهد الاقتصادي لا سيّما وأن رحى المعارك لاتزال دائرة.
- انخفاض متسارع في قيمة الليرة السورية
بلغ سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق السوداء حوالي 17000 ألف ليرة سورية في أسواق دمشق يوم 6 كانون الأول 2024، بينما بلغ السعر الرسمي في مصرف سورية المركزي 13,668 ألف ليرة، ما يُظهر فجوة تصل إلى 24% بعد حوالي سنة من محاولات المركزي ترميم الفجوة والاقتراب من سعر السوق السوداء بحدود قريبة جداً. في المقابل، بلغت الفجوة بين أسواق حلب وسعر المصرف المركزي نسبة 68%، حيث بلغ سعر شراء الدولار في حلب حوالي 23000 ليرة، وتُعزى هذه الفجوة لعدة أسباب من بينها: انفصال أسواق حلب عن أسواق دمشق، وانقطاع توريد الليرة السورية إلى حلب، وإغلاق البنوك والمصارف والمؤسسات الحكومية العاملة في المدينة، إضافة إلى توقف الصناعات والتجارة في حلب والتي كانت تغذي الاقتصاد المحلي بالليرة السورية، إضافة إلى ارتفاع الطلب من قبل الأهالي لاستبدال ما لديهم من ليرات سورية بأية عملة أجنبية، فقدان الثقة بالليرة السورية، وحالة الغموض التي تكتنف المدينة من ناحية إدارتها والشكل الحوكمي الذي ستؤول إليه لاحقاً. وقد ساهمت كل تلك الأسباب بتقليل دوران العملة السورية في الأسواق وأدت إلى تهاويها، ومن المتوقع أن تخرج من التداول في الأسواق المحلية لحلب خلال الأسابيع المقبلة.
ومن الإشارات الدالة على تأثر اقتصاد النظام بمجريات الأحداث الأخيرة؛ انخفاض الطلب على الليرة السورية إثر تقلص التداول فيها مما يزيد من الضغط على قيمتها في السوق، وفقدان التدفقات النقدية بالعملات الأجنبية التي كانت تستخدم في تمويل الواردات والدفاع عن سعر صرف الليرة، وتقلص السيادة الاقتصادية للنظام على الأرض.
- خسارة الإيرادات وتراجع الصادرات
سيشكل خروج مدينة حلب -أكبر مدينة صناعية في سورية- والتي تضم 9 مدن ومناطق صناعية، إضافة إلى كامل محافظة إدلب عن سيطرة النظام؛ خسارة لعائدات الضرائب والرسوم الجمركية المفروضة على نحو آلاف المنشآت الصناعية العاملة. كما تعد حلب بوابة رئيسية للتجارة الخارجية، خاصة مع دول الجوار، مما يعني أن خسارتها تعني للنظام تراجعاً في الصادرات وزيادة في العجز التجاري، وضعفاً متزايداً بموقفه في الأسواق الإقليمية.
- تعطل سلاسل التوريد وفقدان الطرق الدولية
سيؤدي خروج تلك المناطق عن سيطرة النظام، إضافة إلى الطرق الدولية M4 وM5، إلى تعطيل سلاسل التوريد للعديد من المواد الخام والمنتجات المصنّعة التي كانت تصل إلى المحافظات السورية الأخرى، وهو ما سيترك أثراً سلبياً على الحركة الصناعية والتجارية، ويؤدي إلى ارتفاع عام بأسعار السلع في الأسواق المحلية، نتيجة النقص في واردات السلع، والاعتماد على طرقات أخرى.
- خسارة في الموارد والأمن الغذائي
تُعد المحطات الحرارية في حلب من أهم مصادر الكهرباء في المنطقة، وقد سعى النظام سابقاً بالتعاون مع إيران، لإصلاح محطتين حراريتين بطاقة إجمالية تبلغ 480 ميغاواط، وفقدان السيطرة على هذه المحطات يُضعف قدرة النظام على توليد الكهرباء محلياً. ومع انخفاض القدرة الإنتاجية، ستزداد ساعات انقطاع الكهرباء في مناطق سيطرة النظام، مما يؤثر سلباً على الحياة اليومية للمواطنين. تضاف إلى ذلك تبعات خسارة الأراضي الزراعية في ريف حلب الجنوبي وإدلب وما ستشكله من ضغط كبير على إنتاج الغذاء بشكل يؤدي إلى زيادة ملحوظة في الأسعار.
- الأزمة التمويلية
سيواجه النظام صعوبات كبيرة في تعويض ما خسره كماً ونوعاً منذ انطلاق العملية العسكرية "ردع العدوان" من أسلحة وعتاد وذخيرة ناهيك عن البنية التحتية العسكرية من مطارات ومعامل وثكنات، نظراً لعجزه المالي والعقوبات المفروضة عليه، وعدم قدرة حلفائه روسيا وإيران على ترميم قدراته العسكرية في خضم هذه العملية بسبب القيود والظروف الجيوسياسية التي تحول دون ذلك. ومن جهة أخرى، سيخسر النظام إحدى أهم قنوات الدعم المالي بالقطع الأجنبي المتمثلة بدعم المنظمات التابعة للأمانة السورية للتنمية والصليب الأحمر العاملة في المناطق التي خسرها، وانخفاض حصة التمويل الدولي الذي كان يتلقاه عن حصص تلك المناطق والسكان القاطنين فيها. إضافة إلى تأثير انخفاض حصص الميليشيات من الأموال الناتجة عن الأنشطة غير المشروعة، مثل التهريب والإتاوات وتجارة المخدرات، ممّا يُفاقم أزمة تمويل شبكات النظام المحلية.