ينتقل الحراك (الدبلوماسي – السياسي) الروسي للاستثمار السياسي لمسار الأستانة الذي فرض مجموعة من العناصر الجديدة على المعادلة السورية والتي تشكل مناطق خفض التصعيد -وفق مقاربات ما دون سياسية -العنصر الأكثر بروزاً. إذ يعول الروس على تغيير ملامح المرجعية الناظمة للعملية السياسية، وذلك عبر تصدير "رعايتها السياسية" لعدة خطوات سياسية خارج إطار مسار جنيف "كالدستور والحوار الوطني والإصلاحات الحكومية"، وقد شكل مؤتمر "سوتشي" الذي دعت له وزارة الخارجية "جميع الأطراف السورية" نقطة انطلاق لعملية الاستثمار تلك. وعلى الرغم من ظهور مؤشرات تدلل على احتمالية تأجيله أو عدم عقده بالأساس، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية تفكيك الإطار العام لهذه المقاربات، وهذا ما سيعمل تقدير الموقف هذا على تحليله ومناقشة تعاطي الفعاليات الروسي حياله وتبين مآلاته في ظل خارطة السياسات الإقليمية والدولية، ثم العمل على تصدير ملامح المقاربة الوطنية الأكثر ملائمة للتعاطي مع تلك الهندسة الروسية.
تباينت أراء الفعاليات الإعلامية والبحثية الروسية حول جهودات موسكو الأخيرة في الملف السوري (كمناقشة الدستور ومؤتمر الحوار السوري في سوتشي). فقد رددت وسوقت الصحف الروسية الرسمية تصريحات المسؤولون الروس المعنيون بالملف السوري والتي عكست بمجموعها عناصر الخطاب الروسي والذي يستند على الادعاءات التالية([1]):
إلا أنه وفي الأونة الأخيرة ظهرت ملامح التشكيك بجدوى المؤتمر في بعض الفعاليات البحثية الروسية، مركزة على عدة عناصر من شأنها عدم إنضاج المناخ السياسي العام بما يتفق مع الرؤية الروسية، وهي([2]):
وفي ذات الإطار المتخوف من ادعاء سلاسة التشكيل الروسي لأطر الحل السياسي في سورية، توقعت صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا بتاريخ 4\11 \2017 ظهور مفاجئات وعراقيل أمريكية تحد من عمليات التشكل تلك وذلك بعد استناد تلك الصحيفة على الأنباء التي تتحدث عن فوج من القبعات الخضر الأمريكية([3])، والذي يستطيع (وفقاً للصحيفة) قلب الأحداث رأساً على عقب ويمكن أن يحدث "مفاجئات غير سارة" للغاية([4]).
كما عبر ممثلي وزارة الدفاع عن وجهة نظرهم في هذا الخصوص حيث حصروا مهمة القوات الروسية في سورية في "محاربة الإرهاب" وأن الحكومة الروسية غير معنية بمصير بشار الأسد الذي يحدده الشعب السوري لذلك كان سعي الوزارة لإقامة هذا الحوار داخل المجتمع السوري([5]).
الجدير بالذكر في هذا السياق، بدء ظهور مؤشرات أولية نوعية ضمن الرأي العام الروسي، فقد نشرت صحيفة "سفابودنيا بريسا" بتاريخ 1/11/2017 استطلاعاً للرأي العام حول موقف المواطنين الروس من "الحرب في سورية"، نفذه مركز "نيفادا" للدراسات، وتوصل إلى أن 49% يطالبون بوقف هذه الحرب و30% يرون بضرورة استمرارها والباقي لم يبد رأيه، وهذا –وفقاً للصحيفة- "فإن الشعب الروسي في بداية الحرب اندفع وراء صواريخ الكاليبر وهي تضرب معاقل الإرهابيين أما الآن وبعد إطالة أمد الحرب فقد انخفضت المصلحة العامة بها، عدا أن أهداف الحرب لم تعد واضحة"([6]).
تعكس تلك المواقف الروسية المحلية ملامح "انزياح أولي" في القراءة الروسية غير الرسمية لطبيعة الملف السوري وتعقيداته وفواعله، خاصة بعدما تكشف تأخر استراتيجية الخروج والانزلاق في معادلات المنطقة والإقليم الذي تعصفه مجموعة من المتغيرات والتطورات الحدية والتي تجعل كل منتجات هذا التدخل منتجات قلقة تفتقد عناصر الاستدامة للبناء عليها سياسياً، كما تعكس تباينات الرؤى التكتيكية بين مؤسستي الدفاع والخارجية الروسية اختلاف تقدير الجدوى السياسية، إذ ترى الأولى ضرورة أن تكون "حميميم" كإدارة وجغرافية هي المحرك الأساس للخطوات السياسية، بينما يحكم وزارة الخارجية محددات عدة من بينها هواجس "الضامنين" السياسية وإنجاز تلك الخطوات يغض النظر عن الجغرافية، ولعل هذا ما يفسر انتقال مقر مؤتمر الحوار السوري من "حميميم" في سورية إلى "سوتشي" الروسية.
الثابت في سياق التدخل الروسي أن موسكو لا تنفك عن الدفع السياسي باتجاه بلورة مسارات سياسية "تجد طريقاً لتضمينها في حركية العملية السياسية" وتخفف من تكلفة تدخلها وتسهل من استراتيجية الخروج، إلا أن مخرج هذا الدفع لا يزال منسجماً مع فكرة تثبيت نظام الحكم واجراء تغييرات واصلاحات شكلية ومن داخله، وبالتالي العمل وفق مبدأ خطوة بخطوة ومراعاة العوامل التالية:
وعلى الرغم من رفض المعارضة في الأستانة لمشروع الدستور الذي طرحته موسكو بالجولة الأولى من الأستانة، ورفضها أيضاً للذهاب إلى مؤتمر سوتشي للحوار السوري، إلا أن هذا الرفض يتطلب أيضاً انسجاماً مع مواقف الدول الداعمة، وهو ما لا يتعارض رسمياً مع الجهودات الروسية وبالتالي فإن توافر عنصر "الضمانات" سيكون سيد الموقف في توقع سيناريو ومآلات هذا المؤتمر؛ فأنقرة الضامن الرئيس للمعارضة في المناطق الشمالية التي تحكمها محددات خاصة بأمنها القومي وبات مدخلها الرئيسي لرسم سياساتها، لا ترى ضيراً من مشاركة المعارضة باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تعده تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف وفق اللوائح التركية كحزب إرهابي، وهذا ما تنتظر أنقرة من موسكو كضمان لعدم حضور هذا الحزب، أنقرة التي لا تزال تدفع باتجاه تحسين علاقتها مع موسكو كمعادل موضوعي لأي تدهور محتمل في العلاقة مع واشنطن، ولعل أحد أهم أسباب إزالة خبر المؤتمر هي لأسباب تتعلق بإعادة دراسة قائمة التكتلات والأحزاب السياسية الكردية المدعوة، إلا أنها تنتظر ضمانات أكثر وضوحاً وحسماً لهذه النقطة.
من جهتها المملكة العربية السعودية الداعم الرئيسي للهيئة العليا للمفاوضات فقد تفاعلت بإيجابية مع نتائج مؤتمر فينيا (30/11/ 2015) والذي حاول الروس والأمريكان الاتفاق على ملامح تحسين الحركة السياسية عبر عدة نقط لعل أبرزها دفع الرياض لتيسير وتسهيل تشكيل وفد معارض موحد للمفاوضات، إلا أن سياق الحركية الروسية اللاحقة وتعميق تناغهما مع القوى التابعة لإيران في سورية وسعيها لتضمين الوفد الموحد عدة منصات "معارضة" إشكالية، ساهم في زيادة هواجس المملكة في عدم لحظ جهوداتها وهواجسها السياسية، وهذا ما يتعزز في هذه الأثناء عبر الحديث عن تحضيرات لمؤتمر الرياض 2، ويضاف إلى ذلك طبيعة المدعون لمؤتمر سوتشي لا سيما أولئك الذين تم دعوتهم من مناطق سيطرة النظام والتي تدين بمعظمها بالولاء السياسي لطهران، وهو ما لا ينسجم مع توجهات الحركة السعودية المتصاعدة باتجاه إلى تكثيف أدوات فاعليتها في صد وتحجيم نفوذ ايران.
يشكل أعلاه ملامح التعثر لمؤتمر سوتشي وانتقاله ليكون عنواناً لخطوة روسية ستبقى متوقعة، إلا أنها باتت مرتبطة حالياً بمرحلة تفاوضات مع الأطراف الإقليمية المعنية، ومتعلقة بمدى مقاومة المجتمع الدولي لهذه الخطوة الروسية التي ستسحب تدريجياً مرجعية جنيف، هذا المجتمع الذي وإن تماهى بحكم التدخل العسكري مع المخرجات الروسية، إلا أنه يدرك أن الأمر بنهايته رهين التقارب الروسي الأمريكي، وهذا ما لم تتعزز مؤشراته العابرة للشروط الأمنية السورية المحلياتية بعد.
مع تنامي واقعي "التغيير العسكري وتخفيض التصعيد" و" سيولة العملية التفاوضية"، فقدت المؤسسات الرسمية المعارضة السورية للعديد من أدوات تحسين التموضع كاحتكار التمثيل السياسي والفاعلية العسكرية، وباتت معظم خياراتها ذات اتجاه وحيد ويتمثل في الانخراط في أي فعالية سياسية و"التماهي" مع كافة المبادرات وفق منطق ملء الشواغر والمناورة على الهوامش، إلا أن تباعد سياسات وفدي المعارضة في (الأستانة وجنيف) جعل أي إمكانية لتثمير سياسي ما يعتريه العديد من العوامل الموضوعية المعيقة لتحويل هذا التثمير إلى معطى سياسي ذو أثر.
ومع اعلان الدعوة الروسية لمؤتمر سوتشي الذي وضع المعارضة السورية أمام تحدٍ بالغ الصعوبة، تنامى وبشكل واضح الزخم الشعبي والثوري الرافض لهكذا مسارات، وهو ما دفع المجال العام للدفع باتجاه محورين، الأول استثمار هذا الزخم لمناهضة مؤتمر "سوتشي"، والثاني: تدارس المحاولة الوطنية لتحويل ردات الفعل لفرص العودة والبناء الاستراتيجي.
وانطلاقاً من ذلك وفي ظل "الانزياح" الاقليمي والدولي باتجاه عدم معارضة الروس، والعمل على التوافق مع سياساتهم وفق مبدأ الحلول الجزئية وما دون السياسية، وفي ظل ما كرسته الجغرافية العسكرية من لجم مؤقت للصراع العسكري، فإن المطلوب وطنياً أمران، الأول: تكتيكي؛ ويتعلق بكافة الأدوات التي تظهر "اللاوزن السياسي والاجتماعي" لكافة المدعوون الذين قبلوا وأكدوا الحضور، أما الثاني فهو استراتيجي؛ ويعتمد على تحويل هذا الكمون الشعبي الثوري لفرصة يتبلور من خلالها تفاعل سياسي واجتماعي جديد، تفاعل لا يلغي الأجسام الراهنة بقدر ما يأطر سلوكها ويكسبها كافة عناصر الديمومة السياسية والفاعلية الوطنية، وذلك عبر العمل على أربعة مسارات:
وكخاتمة، يمكن القول أنه وعلى الرغم من تزايد مؤشرات عرقلة عملية التشكل الروسي للخطوات السياسية المستثمرة لمسار الأستانة كمسار للتفاهمات الأمنية وضبط الجغرافية العسكرية، سواء تلك المؤشرات المرتبطة بعنصر "الاستعجال" أو المتعلقة بتغليف أولوية تثبيت الأستانة بخطوات ما دون سياسية، أو حتى تلك التي تنتظر مؤشرات طمأنة للفواعل الإقليمية والدولية، ناهيك عن عدم وضوح الموقف الأمريكي وجملة المتغيرات متوقعة الظهور في المنطقة، فإن فرصة ضبط ثنائية "البنية والوظيفة" لمؤسسات المعارضة الرسمية لن تنتظر كثيراً وهو ما ينذر – في حال عدم استغلالها – بالعديدات من التداعيات والانتكاسات.
([1]) كرئيس الوفد الروسي في أستانا "ألكسندر لافرتييف" المتعلقة حول مشاركة المعارضة حيث قال:" إن وافقت المعارضة فمرحب بها وان لم توافق فلن ينتظرها أحد في المؤتمر" في دلالة على رسالة روسية مفادها المضي أماماً بخصوص عقد هذا "الحوار"، وتصريحات لافروف في مؤتمره الصحفي في 3/11/2017 بأن هذا المؤتمر "المحاولة الأولى لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 والمتضمن مساعدة الشعب السوري في إقامة حوار متعدد الأطراف".
([2]) كتصريحات الخبير والمحلل الروسي رئيس قسم الصراعات في الشرق الأوسط ومدير المجلس الروسي للشؤون الدولية ومدير معهد التنمية المبتكرة أنطون مادراسوف، للمزيد انظر أماليا زاتاي: " حوار بالإكراه يجمع السوريين في سوتشي "، صحيفة غازيتا الروسية تاريخ 4/11/2017، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/TBUzWu
([3]) في مؤتمر صحفي لرئيس العمليات الخاصة ضد الإرهاب في سوريا والعراق الجنرال جيمس جيرارد أن عديد القوات الأميركية في سورية 4000 مقاتل وقد انتشرت هذه الأنباء بسرعة وسط المحللين والإعلاميين، إذ أن المعروف رسميا" أن عدد القوات الأميركية هو 503 مقاتل. وفي توضيح لذلك تحدث الناطق باسم البنتاغون لصحيفة ميليتاري تايمز أن الجنرال قد أخطأ قليلا والعدد هو حوالي ال 4000 مقاتل وهم من القوات الخاصة الأميركية،
وبالمقارنة، فإن تعداد الفوج 75 وحدات خاصة يقارب 3.6 ألف مقاتل وللذكرى فإن لهذا الفوج أدوارا" متميزة في تاريخه فهو الذي تواجد في غرينادا عام 1983، وهو الذي غير الحكومة البنمية وأخذ 2000 أسيرا عدا عن 18000 قطعة سلاح مختلف وفي سجله عملية فاشلة في مقديشو، ويؤكد الروس أن فوجا" كاملاً من الوحدات الخاصة يعمل في سورية، وهذا يؤكد وجود القبعات الخضراء وليس مجرد عناصر حراسة وهي قوات من المارينز وأخصائيين من مختلف صنوف القوات الأميركية الجوية والبحرية منوهين إلى هذا الفوج هو من قام بقتل أسامة بن لادن.
([4]) فلاديمير شيرباكوف: " الولايات المتحدة تلقي في سوريا فوج وحدات خاصة وسوريا وموسكو تتوقع مفاجئات"، نيزافسيمايا غازيتا 4/11/2017 ، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمرا للدراسات الاستراتيجية https://goo.gl/GgzBuq
([5]) أماليا زاتاي: " حوار بالإكراه يجمع السوريين في سوتشي "، مرجع سابق.
([6]) انتون تشابلين:" أميركا ستغادر سوريا خاسرة وروسيا تعد خطتها لتغيير النظام" صحيفة سفابودنايا بريسا، تاريخ 1/11/2017، ترجمة وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/qbkymq