حضر المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ندوة نظمها مركز أورسام (ORSAM) بتاريخ 26 نيسان / إبريل 2016، لمناقشة التقرير الذي يحمل عنوان "آثار الأزمة السورية على الدول المجاورة"، الذي تم إعداده استناداً على عدد من البحوث الميدانية التي يدعمها مكتب مؤسسة كونراد أديناور في تركيا.
بكلمة ترحيبية افتتح الأستاذ شعبان كاردش الرئيس التنفيذي لمركز أورسام ورشة العمل، تلاه الأستاذ كولن دوركوب رئيس مكتب KAS في تركيا.استعرضت الندوة بعد ذلك التقرير المُعد، كما تضمن العرض تحليلاً لآثار الأزمة السورية على الدول المجاورة حيث كان لمركز أورسام نصيب كبير فيه.
يذكر أن الندوة تميزت بالعديد من المداخلات والمناقشات التي زادت من إثرائها العلمي والمعرفي.
ملخص: على الرغم من أن السياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو وأنه سيفضي إلى حل حقيقي وجدي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة، تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع ضمن أي مسار محتمل للعملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة ربما تكون الأخيرة ويخضعها لامتحان هو الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
حُكمت مسارات العمل السياسي والعسكري للمعارضة السورية بمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، والتي أفضت إلى إجهاض أيمحاولة لتوحيد الرؤى وتنسيق الجهد، وبالتالي عدم إنتاج أي فعل سياسي جمعي جاد، ما أدّى لإيكال الفضاء السياسي والعسكري لمجموع القوى الإقليمية والدولية، مقابل انطواء أجسام المعارضة السورية على ذاتها واقتصارها على التحرك بردود الأفعال وفق هوامش سياسية ضيقة وسياقات عسكرية تخضع بغالبيتها لمبدأ "إدارة الأزمة". ففشل مجموع القوى الوطنية على مر الأعوام الخمسة الفائتة عن مراكمة أي مخزون سياسي عسكري منظم من الممكن أن يعول عليه كضامن في الاستجابة السريعة لمتغيرات الظرف السياسي الإقليمي والدولي، والذي تواجه المعارضة السورية اليوم إحدى تقلباته عبر اجتماعات فيينا الأخيرة وما رشح عنها من مخرجات ورسائل يراد لها أن تعلن المرحلة الحالية بمثابة الأخيرة قبل بدأ العملية السياسية، والتي حددت أطرها العامة وفق مدخل روسي أمريكي. وتشير القراءات الأولية للحراك الدولي أن مآلات فيينا لن تصب في صالح الجانب المعارض، والذي بات أمام اختبار ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات إضافية على كاهل المحور الثلاثي الداعم (قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
وفقاً لأعلاه تقوم هذه الورقة بتحديد طبيعة الاختبار والاستحقاق القادم انطلاقاً من المناخات العامة الناشئة بعد اجتماعات فيينا، وما أفرزته من مسؤولية مشتركة لكل من المحور الثلاثي وقوى المعارضة السورية، والتي سيتم اختبارها وظيفياً في مؤتمر الرياض، بالإضافة إلى رسم السيناريوهات المتوقعة لمخرجات هذا المؤتمر وديناميات التعامل معها.
المزاج السياسي الدولي بعد فيينا
أدى دخول الفاعل الروسي بشكل مباشر على المشهد السياسي والعسكري المحلي إلى تسارع الرغبة الدولية في تأطير العملية السياسية في فيينا بما يراعي شروط هذا الفاعل، ويعزز مناخات سياسية لايزال يعتريها الكثير من الغموض في الآليات والالتفافات الواضحة على القضايا الجوهرية في الملف السوري ومحاولات تأطير العملية السياسية بصيغة الفرض وفق مزاج سياسي دولي وإن لم يكتمل بعد، إلا أن مخرجات فيينا الأولية (كبيان ووقائع) وما رشح عنها من مؤشرات ترسم ملامح الظرف السياسي القائم بما يدعم نمو هذا المزاج وفق مجموعة من المعطيات ولعل أبرزها:
أ. تأمين الضامن للمرحلة الانتقالية بعد الدخول العسكري على الأرض وإخضاع النظام والإيرانيين للإرادة الروسية.
ب. احتمالية تحول الروس إلى معادل قوى حقيقي ضابط للنفوذ الإيراني في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
ت. توفير الجهد الأمريكي عبر تصدر موسكو المشهد، ما يمنح واشنطن فرصة التهرب من مسؤولياتها واستكمال سياستها في إدارةالملف السوري من الخلف.
ث. التصعيد من أهمية مكافحة الإرهاب لابتزاز مجموع القوى الدولية والإقليمية للتنسيق معها وعلى رأسهم أوروبا المشوشة في حسم موقفها. وذلك عبر زيادة الفاعلية العسكرية على الأرض وتكثيف الجهد الدبلوماسي.
إن مجموع تلك النقاط والمؤشرات وفقاً للظرف السياسي الأمني الدولي والإقليمي؛ إنما ينذر بسير الحل السياسي ما بعد فيينا بصيغة ("إما" و "أو")، فإما أن تلج القوى المحلية بالعملية السياسية من المدخل الدولي الأولي المتوافق عليه لإنهاء الصراع، أو فلتستعد إلى التصنيف ضمن الضفة الأخرى وما يقابلها من اصطفاف دولي إقليمي. ما يضع المعارضة السورية بشقيها العسكري والسياسي أمام تحد صعب لتحسين تموضعها في مسار العملية السياسية المرتقبة، كفاعل في رسم ملامحها وأساس في ضبطها وليس معطى من معطياتها. لتأتي في هذا السياق الدعوة الأخيرة لمؤتمر الرياض كجهد دولي إقليمي واستجابة سريعة لضرورات المرحلة في توحيد جهود المعارضة السورية ودفعها باتجاه التوافق حول وثائق جامعة تتقاطع من خلالها الرؤى المختلفة بشكل يساهم في تسهيل استكمالها متطلبات العملية السياسية، ما قد يمنح قوى المعارضة فرصة جديدة ويخضعها لامتحان وتحد، ربما يكون الأصعب في تاريخ الثورة السورية، مقابل ما يلقيه من مسؤوليات حقيقية على كاهل المحور الثلاثي الداعم(قطر، السعودية، تركيا) ليعيد اختبار أدواتهم في التعاطي مع الملف السوري.
مؤتمر الرياض (الاختبار الوظيفي)
تتجه المؤشرات السابقة واحتمالية تطورها نحو حسم التصور الدولي والإقليمي المشوش لطبيعة وشكل المرحلة الانتقالية، والذي قد ينتج عنه عدة تصورات، ربما يمثل إحداها احتمالية نجاح السعي الروسي بإقناع المجموعة الدولية بضرورة بقاء الأسد (كبقايا مؤسسة) خلال المرحلة الانتقالية وقيادته لها، مستغلة بذلك النقاط المذكورة سابقاً مقابل تراخي المعارضة السورية في تقديم بديل وإثبات فاعلية سياسية وعسكرية، ما قد يسنح لموسكو فرصة تقديم الأسد وقواته كبديل وشريك لمكافحة الإرهاب، بعد إحداث عدة تغييرات في المؤسسة العسكرية التابعة للنظام لتتناسب وتلك الشراكة الدولية.
وإذ يمثل التصور السابق إحدى الإفرازات المحتملة للسياق السياسي الدولي؛ فإن عرقلته أو خلق بدائل يبقى مرهوناً بأداء المعارضة السورية والداعمين من مجموعة أصدقاء سورية، وحسن استثمارهم لفرصة مؤتمر الرياض وفق الظرف الإقليمي والدولي القائم وتحويل تلك الفرصة إلى فعل جمعي جاد على الأرض. فعلى الرغم مما قدمه سياق اجتماعات فيينا من محاولات لتحديد أولويات المرحلة الانتقالية بمكافحة الإرهاب؛ إلا أن تخبط القوى الإقليمية والدولية في البحث عن شريك حقيقي على الأرض في التصدي لتلك المهمة مازال واضحاً، الأمر الذي تلوح معه فرصة سانحة للمعارضة السورية في تجميع صفوفها السياسية والعسكرية على الأرض وتقديم بديل موحد ومتماسك وشريك حقيقي، يساهم في تقوية بعض المواقف الدولية والإقليمية الداعمة للثورة، والتي بدأت تتراجع نتيجة غياب البديل،
بالمقابل فإن استثمار هذه الفرصة ضمن هذا المناخ الدولي المعقد والمصالح الإقليمية المتضاربة، لا يتوقف على المعارضة السورية في توحيد جهودها فحسب، وإنما يتطلب جهداً رديفاً يبذله المحور الثلاثي الداعم. حيث أن أسباب فشل توحيد رؤى المعارضة السورية بشقيها كان محكوماً بمجموعة أسباب ذاتية وموضوعية، فإذ تتحمل المعارضة الجزء الأكبر من حالة التشظي هذه؛ إلا أن ذلك لا يعفي مجموع القوى الدولية والإقليمية من تغذية هذا الشرخ أو محاولات رأبه بطريقة فاشلة، ما يحمل الطرفين مسؤولية مشتركة وذلك لما تجاوزته الأزمة السورية من حدود الجغرافية إلى إنتاج نظام أمني إقليمي جديد في المنطقة. الأمر الذي يلقي على الطرفين مجموعة من المسؤوليات، يتفرع عنها عدة مهام لابد من ترجمتها خلال مؤتمر الرياض على مستويين:
المستوى الأول: المعارضة السورية (اختبار الأداء)
بعد حالة الاستعصاء والأفق المسدود التي وصل إليها مجموع القوى الدولية والإقليمية حيال الأزمة السورية بالأدوات الحالية؛ تبدو الخيارات الدولية مفتوحة على العديد من الاحتمالات و المناخ الدولي والإقليمي الداعم متعطشاً لأي مبادرة سورية تقدم طرحاً بديلاً عن خيار نظام الأسد، والذي لازال يسبق المعارضة بامتلاك هيكل دولة، مبتزاً عبره المجتمع الدولي وتحديداً في إطار مكافحة الإرهاب، لذلك فإن أي توافق حول رؤية سورية موحدة صادرة عن المعارضة في مؤتمر الرياض تغلب عليها صيغة العمل الدولتي، يمكن أن تكون نواة لتبلور موقف موحد للداعمين الإقليمين والدوليين حول حل للأزمة؛ لذا فإن صياغة المعارضة في مؤتمر الرياض لتصور وطني جامع متقاطع مع متطلبات المجتمع الدولي، لابد وأن يركز على الجوانب التالية:
الجانب العسكري: خلق صيغة مشتركة للعمل العسكري الموحد، يغلب عليها الطابع المؤسساتي، من جهة وضوح سلسلة الأوامر والمسؤوليات، بحيث تقدم بديل مقنع وشريك فاعل على الأرض في ضبط الأمن، ويترتب عليها ما يلي:
أ. متابعة شؤون الجبهات العسكرية ضد النظام والاحتلالين الروسي والإيراني وتنظيم الدولة وفق آليات تنسيق مشتركة.
ب. استمرار التنسيق والجهد للوصول إلى مؤسسة عسكرية موحدة إن لم تشكل نواة لجيش سوري بديل، فإنها تمثل ضامن رئيس لأي عملية دمج وإعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية والأمنية السورية خلال المرحلة الانتقالية.
ت. تفويض مجموع القوى الوطنية في إدارة التزاماتها السياسية في أي تفاوض مستقبلي.
الجانب السياسي: خلق صيغة عمل سياسي وطني، تجمع الفصائل السياسية السورية المعارضة وتوحد رؤاها حول طبيعة الحل في سورية وفقاً لميثاق عمل وطني، يتضمن المبادئ الأساسية لعملية التفاوض، والتي تنسجم مع تطلعات الشعب السوري. وتضطلع بالمهام التالية:
أ. صياغة ثوابت العملية التفاوضية وعلى رأسها رحيل بشار الأسد.
ب. تقديم رؤية سياسية واضحة للعملية الانتقالية وفق أي سيناريو محتمل.
ت. تقديم مشروع واضح ومتكامل لمكافحة الإرهاب وحفظ الأمن الحدودي.
ث. تشكل فريق تفاوضي من السياسيين والعسكريين يتولى تمثيلها خلال العملية التفاوضية.
ج. تعيين ممثلي المعارضة في هيئة الحكم الانتقالي.
ح. متابعة شؤون الجبهات والإشراف على العمل العسكري.
المستوى الثاني: المحور الثلاثي واختبار المسؤول
وإذ يتطلب إنجاح مؤتمر الرياض جهداً مكثفاً وسريعاً من المعارضة السورية؛ فإنه يتوقف بدرجة لا تقل أهمية على اتساق رؤى المحور الثلاثي (السعودي، التركي، القطري) قبل توحيد رؤى المعارضة، حيث أن إدارة الملف السوري بالتنافس بين دول هذا المحور وما نتج عنها من دعم مشاريع خاصة زادت حدة الاستقطاب في صفوف المعارضة السياسية والعسكرية، أدى إلى استعصاء الملف السوري داخلياً وخارجياً. ما يلقي عليها مهام ومسؤوليات مضاعفة على رأسها إخراج صيغ وأشكال الدعم من معادلات الضغط السياسي، وإعادة تنسيقه وتوحيده، إضافة إلى الدفع خلال المؤتمر باتجاه:
أ. دعم أي رؤية سورية وطنية ناتجة عن هذا المؤتمر.
ب. تفعيل أدوات الضغط التي تمتلكها في توحيد هذه الرؤية وضمان استمرارها.
ت. تنشيط الجهد الدبلوماسي على المستوى الدولي في الحشد وعرقلة الجهود المضادة.
ث. تكثيف جهود المملكة العربية السعودية في بلورة رؤية خليجية وعربية تدعم ما يرشح عن مؤتمر الرياض من قرارات.
ج. الاستمرار في الدعم العسكري على الأرض والذي سيغير الكثير في المعادلة السياسية ما قبل بدأ العملية التفاوضية.
خلاصة
على الرغم من أن الصيغة الحالية والسياق العام لمخرجات فيينا لا يبدو وأنها ستفضي إلى حل حقيقي للأزمة السورية؛ إلا أن مؤتمر الرياض وهدفه في توحيد المعارضة يمثل حاجة ضرورية وملحة للخروج برؤية واضحة وموحدة للمعارضة تمكنها من التحرك بفعالية سياسية حقيقية، تعطل صيغ الحل الإلزامي وتقدم البديل المقنع، سواء من خلال فيينا أو غيرها من المسارات المحتملة للعملية السياسية، والتي لن تمثل في هذا الوقت بالذات إنهاء للصراع على الأرض بقدر ماهي استكمال له ولكن بأدوات سياسية، الأمر الذي يحمّل اليوم الأطراف المختلفة مسؤولية إدارة اللحظة سواء المعارضة عبر تقديمها نموذجاً قادراً على المحافظة على الحد الأدنى من مطالب الثورة السورية، أو الدول الإقليمية الداعمة و المدركة تماماً أن نجاح الثورة السورية من عدمه لم يعد متعلقاً بالسوريين بقدر ما يمثله من إنتاج نظام أمن إقليمي جديد يحدد درجة استقرار المنطقة ويلجم المشاريع الدخيلة على حساب الجغرافية العربية.
إن الواقع السياسي الحالي الموسوم بانحسار الخيارات لم يكن وليد العدم، بقدر ما هو نتيجة لعدة ثوابت ومتغيرات تراكمية، أبرزها ثابت لعنة الجغرافية المرافق لسوريا والتي تشابكت عبره المصالح الدولية والإقليمية وتعددت من خلاله المقاربات والمداخل المصلحية (سياسة، أمن، جيوبولتيك)، وما انعكست به على الملف السوري منذ تاريخ 15/3/2011. من سوء إدارة خارجية نتيجة التجاذبات وضعف إدارة داخلية من قبل المعارضة السورية، ليصل مسار الثورة السورية إلى لحظة حرجة تهدد مستقبل سورية والمنطقة العربية.
ملخص: يستعرض تقدير الموقف هذا سياق العمل السياسي الدولي في الملف السوري منذ بيان جنيف وصولاً إلى بيان فيينا الأخير الذي يطرح نفسه كإطار تطبيقي للحل ويسعى لأن يكون ذو صيغة إلزامية لجميع الدول، كما يحدد تقدير الموقف هذا قواعد اللعبة الجديدة، وهوامش التحرك المتاحة للمحور الثلاثي، ويقترح بعض أطر التحرك الوطنية لقوى الثورة التي وضعت أمام خيارين إمّا الرفض وتحمل الأعباء الدولية لإجهاض الثورة، أو القبول والعمل بالتوازي على استراتيجية متكاملة لا تستثني العمل العسكري النوعي.
اجتماعات فيينا: السياق والمخرجات المثبتة
لطالما وقفت تفسيرات بيان جنيف المتضاربة عائقاً موضوعياً أمام تحقيق تغيير سياسي حقيقي في سورية، وعلى الرغم من خلو هذا البيان من أي بند يُحتم بشكل صريح خروج رأس النظام من السلطة، إلّا أنه تضمن بنوداً أخرى مردُّ تطبيقاتها سيؤدي بالإطاحة بنظام الاستبداد الذي ثار ضده الجمع السوري على الأقل، إلا أن سير العملية السياسية التي تفترض إيجاد مناخات تلجُ في عمليات التفكير لبناء الأطر التنفيذية لهذا البيان، اعترضه الكثير من العقبات والتحديات، منها ما يتعلق بمنطق إدارة الأزمة التي مارست ضغطاً واضحاً على قوى المعارضة عبر الالتفاف على جوهر الأزمة في سورية، سواء على صعيد تكريس نموذج الهدن المحلية، أو من خلال تعويم برامج ومسارات موازية تركز جميعها على المشترك مع النظام عوض إيجاد حلول حقيقة ومديدة للمشكلة السياسية التي سببها استمراره في الحكم طيلة العقود الخمسة الماضية، كما أن جزءً أساسياً من هذه العقبات فرضته مفرزات الصراع والعنف الممنهج للنظام الذي أضاف على معادلة الأزمة إرهاب الجماعات العابرة للحدود، الأمر الذي ساهم في ظهور التململ الدولي مع تعزز حالة المراوحة في المكان دون تحقيق أي تقدم يذكر على المشهد السياسي.
ومع محاولات دي مستورا المتعددة لإيجاد تفسير روسي أمريكي مشترك حول النقاط الخلافية لبيان جنيف، نجح في نهاية المطاف بأن يُساهم في استصدار بيان رئاسي لمجلس الأمن في 17 آب/أغسطس 2015 يؤيد فيه خطته في مفاوضات متعددة المسارات والمجموعات الأربعة التي دعا إليها، رسّخت يقيناً الرغبة من خروج عقدة جنيف رويداً، رويداً، حتى الوصول إلى صيغة تُرضي النظام أولاً، وتلزمُ داعمي الثورة إقليمياً لاحقاً. كما وتضمنت هذه الخطة أيضاً الدعوة لتشكيل مجموعة دعم دولية مكونة من الولايات المتحدة وروسيا بالإضافة إلى مجموع الدول الإقليمية ذات التأثير المباشر على المشهد العسكري والسياسي في سورية، وهو ما تم تحقيقه مؤخراً في فيينا.
لقد جاء التصعيد الروسي الأخير في سورية واشتراك سلاحه الجوي في ضرب المعارضة السورية كمتغير جديد في المعادلة السورية لينسف مجموعة من الثوابت في التفاعلات الدولية والإقليمية التي ترسخت أثناء سنوات الأزمة، ونجح في إرساء قواعد جديدة للعبة وثَبّتَ عدة معطيات نذكر أهمها:
وبناءً على ما تقدم، وبعد أقل من شهر على تدخلها العسكري عزمت موسكو على دعوة مجموعة الدعم الدولية (ISSG) للتباحث في سُبل إطلاق العملية السياسية والتي صدر عن هذه المجموعة خلال مناقشاتها حول كيفية وضع حد يسّرع بإنهاء "النزاع السوري" بياناً ثبَّت المعطيات التالية:
المحور الثلاثي وأطر تحركه
يطرح بيان فيينا نفسه كإطار دولي لحل الأزمة السورية وفق مبادئ جنيف 1 ويسعى لأن يكون ذو صيغة إلزامية لجميع الدول المدعوة عبر الدفع لتبني مجلس الأمن لقرار يُؤكد على مخرجات هذا البيان، ويضيق الهوامش المتاحة لتلك الدول (التي لم تكن موقعة على بيان جنيف)، والجديد في اجتماعات "مجموعة الدعم الدولية"، ظهور ملامح الوفاق بين الولايات المتحدة روسيا في الخطوط العريضة خصوصاً حول قضايا الإرهاب وما يترتب عليها من تصنيفات جديدة قد تطال بعض فصائل المعارضة في لوائح الإرهاب الدولية، كما أنه يمكن تسجيل الاتفاق الأولي في مواقف الدول المشاركة في الاجتماعات مع ما تصبو إليه روسيا، ليبقى في آخر المطاف المحور الثلاثي (السعودية وقطر وتركيا) دون غيره فقط في مناوأة التوجه الروسي وبدعم أمريكي مبطن لا يعول على استمراريته، الأمر الذي يحتم عليهم تغير قواعد تعاطيهم مع إدارة الملف السوري بحكم الانعكاسات المتوقعة لنتائج عدم المعالجة الحقيقية لجذور الصراع ومسببات الإرهاب في سورية على بُناهم وأمنهم الداخلي.
وفي هذا السياق وبأدوات سياسية باتت قليلة، يضطلع الثلاثي السابق ذكره (السعودية وقطر وتركيا) للعب "دور محامي الدفاع" في محفل دولي حدد أطر عمله بثلاثة أهداف عريضة: إعلان وقف إطلاق نار وطني شامل، وتصنيف كتائب المعارضة بين معتدل وإرهابي وإلزام الدول الحاضرة فيه، وإطلاق عملية التغيير الدستورية لتأسيس مرحلة حكم جديدة في البلاد، فيما يؤجل البت في عدة قضايا جوهرية لاتزال تُشكل مُهددات موضوعية لعملية التغيير وديمومتها (كمصير نظام الأسد والوضع القانوني لكافة المقاتلين الأجانب خاصة تلك التي تدور في فلك النظام كحزب الله وأبي الفضل العباس وغيرهما، والعدالة الانتقالية وصلاحيات الحكم الانتقالي وأهدافه ومهامه...إلخ) لحين يتم الاتفاق على تفاصيل تحقيق الأهداف السابقة والتي غالباً ما تؤدي إلى تغييرات طفيفة (بما فيها رحيل رأس النظام مع بقاء نظامه) كترضية رمزية لشعب مكلوم شرد ثلثه، وفقد قرابة نصف المليون من أبنائه بين شهيد ومفقود.
كما أن أطر التحرك السياسي لهذه الدول وحلفائها المحليين نظرياً ستبقى رهينة هذا المخرج الذي اتفق الفاعلان الروسي والأمريكي على أنه "إطار تطبيقي لجنيف"، أما عملياً فتؤكد مؤشرات اللاثقة التي يتسم بها السلوك السياسي للدول الحاضرة على أن سبل التعطيل لاتزال واردة خاصة في ظل عدم وجود ضمانات حقيقة للإلزام، وفي ظل استمرار ترشح مسببات عدم نضوج المناخ السياسي الملائم سيكون على جل الفواعل التباحث في سبل تعزيز التموضع لتحسين موقعها وأدواتها التفاوضية. وفي ضوء ذلك وريثما تستقيم وتتضح أبعاد وغايات العملية أكثر، ينبغي أن يدفع المحور الثلاثي باتجاه ثلاثة أمور:
أطر التحرك الوطني الأمثل
آن لشعارات امتلاك زمام المبادرة وطنياً أن ترى طريقها التنفيذي، فالواقعية السياسية والقراءة الموضوعية لجل الغايات الإقليمية والدولية تستوجب ارتقاء العمل الوطني ليندمج الأثر العسكري مع السياسي، ويتكامل معه ضمن استراتيجية وطنية خالصة، وإدراك حقيقة أن نجاح المساعي الدولية في إجراء تسوية سياسية شاملة مناط بدرجة الشرخ الذي تعاني منه البُنية السياسية والعسكرية لقوى المعارضة. وفي هذا الصدد نُقدم كمقترح مجموع الإجراءات التالية:
أولاً: إدراك حقيقة تكاد تكون مطلقة وهي أن معظم القوى الإسلامية ستجدُ نفسها في موقع المتهم، وأن عزوفها عن مواجهة تحدي التصنيف لا يضعها في مواجهة العالم بأجمعه فحسب بل تدفع المشهد العسكري إلى المزيد من التشظي والاقتتال الداخلي أولاً، وإلى تقويض العمل الوطني برُمته لاحقاً. حيث أن إدراجها على لوائح الإرهاب يعني إدراج جميع من يتعامل معهم لاحقاً، بالإضافة لمن تعامل معهم سابقاً مع أثر القرار الرجعي على نفس اللوائح، مُشرعنة بالتالي أداة ابتزاز دولية لن يُوفروا جهداً في استخدامها كلما استدعت الحاجة.
ثانياً: تشكيل قيادة سياسية موحدة تضم الطيف الكامل لقوى المقاومة الوطنية لقوى الاحتلال الإيراني والروسي والاستبداد، من كتائب إسلامية وجيش حر، وجبهة جنوبية وأحزاب وكافة الفعاليات السياسية والمدنية والمحلية. وتلبية أي دعوة من المحور الثلاثي في هذا السياق.
ثالثاً: ربط وتوظيف مصير برامج المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب وعلى رأسها برنامج تدريب وتسليح المعارضة ربطاً عضوياً بالمشروع الوطني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال عقد شراكة مباشرة مع الكتائب المنضوية في هذه البرامج وإلزامها باستراتيجية العمل العسكري الوطني دون المساس بأوليتها في محاربة تنظيم الدولة. فمجموع القوى الوطنية تحتاج لمن يتصدر مهمة حماية أظهرهم من هجمات التنظيم أثناء مواجهة النظام وهذه القوى رغم الشكوك الدائرة حول درجة وعيها للمخطط الدولي تحتاج لمن يؤمن سلامتها أثناء تواجدها على الأرض. كما أن العزوف عن التعامل معها يدفعها لشراكة مع الفصائل غير المنضبطة بمبادئ الثورة.
رابعاً: استغلال الهوامش المتاحة (سواء على صعيد الزمن أو دعم موقف المحور الثلاثي الداعم) في تطبيق الرؤية الوطنية للحل السياسي وفق بيان جنيف مع التمسك بمطلب رحيل بشار الأسد. وعليه يجب أن تجيب هذه الرؤية بشكل واضح على إشكالية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وما يترتب على ذلك من تحديد شخصيات الدولة الممكن التعامل معهم في المرحلة المقبلة، وهذا الأمر عبر الدعوة المستعجلة للفواعل المحلية الوطنية لفعاليّة يتم التباحث في هذه الرؤية وتصديرها كمخرج وطني مشترك.
عموماً يمكن القول بأن القوى الوطنية تجد نفسها أمام خيارين حيال ما تقدم، إمّا الرفض وتحمُل الأعباء الدولية لإجهاض الثورة، أو القبول والعمل بالتوازي على استراتيجية متكاملة يتحسن بموجبها تموضع قوى الثورة عبر انتهاج أفعال عسكرية نوعية تعزز مواقع التفاوض، وتتكامل مع أداء القيادة السياسية الموحدة التي ينبغي تشكيلها خلال المرحلة القادمة.
تعتمد الاستراتيجية الروسية بشكل رئيس على إرضاخ كتلة حرجة من قوى الثورة لمشروعها، ولإتمام هذا المخطط وجدت في الولايات المتحدة الشريك المناسب في تبني فكرة تصنيف الكتائب إلى معتدل وإرهابي، وهو تصنيف ستنجح بموجبه عاجلاً أم آجلاً إلى خلق شرخ يمكّنها من القضاء على الفضاء الثوري. إن الخطوة الأولى للحول دون تحقق هذا السيناريو هي تشكيل قيادة سياسية موحدة تحمي بشموليتها الكتائب الإسلامية الفاعلة وتلزمهم في ذات الوقت لتبني مشروع سياسي وطني موحد. إن سياسة الإمساك بالعصاة من الوسط أضحت اليوم المدخل الدولي لتفكيك قوى الثورة ولتعطيلها أولاً وشلّها بشكل كامل لاحقاً، ولذا على مجموع القوى الوطنية التحلي بالكثير من الشجاعة والجراءة والتحول هذه المرة بشكل كامل لأداء الدولة.