يستعرض هذا التقرير أهم الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في سورية خلال شهر حزيران 2024. على الصعيد السياسي، تتزايد مؤشرات تقدم الخطوات المتبادلة بين تركيا والنظام ضمن مسار التطبيع بين الجانبين، في حين أعلنت الإدارة الذاتية تأجيل الانتخابات المحلية والتي أثارت غضب تركيا فزادت من حدة تهديداتها واضعة هدف القضاء على مشروع الإدارة على رأس أجندة تطبيعها مع النظام. أمنياً، تصاعد العنف في عموم الجغرافية السورية، حيث بلغ عدد الضحايا خلال النصف الأول من هذا العام 429 قتيلاً من المدنيين و700 من العسكريين. أما اقتصادياً، فلا يزال ارتفاع الأسعار بشكل كبير العنوان الاقتصادي الأبرز في عموم سورية، إضافة إلى زيادة التمدد الإيراني في القطاع المالي السوري.
احتلت آخر التطورات المتعلقة بالتقارب التركي مع نظام الأسد المساحة الأوسع من النقاشات المتعلقة بالملف السوري، فبعد تصريح رئيس الوزراء العراقي حول إنشاء أرضية للتوافق والحوار بين النظام وتركيا وتأكيده أن المحادثات جارية بالفعل بين الطرفين؛ توالت التصريحات التركية حول الخطوات التطبيعية القادمة، خاصة مع تنازل النظام عن شرط الانسحاب الفعلي للقوات التركية من سورية إلى "إعلان استعدادها للانسحاب" وتقديم تعهدات بذلك، وفقاً لوزير خارجية النظام فيصل المقداد. فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن وقف القتال بين النظام والمعارضة لفترة طويلة أمر بالغ الأهمية يقتضي من النظام تقييم مرحلة الهدوء هذه بعقلانية لحل مشكلاته الدستورية وتحقيق السلام مع معارضيه، وإعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وتوحيد الجهود مع المعارضة لمكافحة الإرهاب وخاصة حزب العمال الكردستاني.
تكثف روسيا مساعيها الحثيثة لتسريع خطوات التطبيع بين الجانبين ورعاية لقاء ثنائي على المستوى الرئاسي يجمع أردوغان مع بشار الأسد، استثماراً للمخاوف التركية من الانتخابات المحلية وترسيخ مشروع "الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا"، في حين تتبع تركيا سياسة "المسارات المتوازية" وتسعى لتحسين علاقتها مع موسكو كما تستعد لمرحلة ما قبل الانتخابات الأمريكية واحتمالية وصول ترامب للسلطة وتداعيات ذلك على المنطقة.
رغم تصاعد مؤشرات التقارب التركي مع نظام الأسد خلال هذا الشهر، إلا أن مسار التطبيع بين الجانبين بدأ منذ أواخر عام 2022 خلال المحادثات الرباعية على المستوى الأمني والاستخباراتي برعاية روسية ومشاركة إيرانية، والتي تعدت كونها محادثات استثنائية لتكون مؤشراً على بدء مسار جديد للتطبيع، وإن بدا متعثراً في البداية نتيجة الشروط المسبقة والتدخلات الخارجية، إذ يشير إصرار تركيا على عقد اللقاءات الثنائية مع النظام دون مشاركة أطراف أخرى إلى الدور الإيراني الذي ربما كانت تعتبره معرقلاً. أما عن التوقعات حول مستقبل مسار التطبيع فيبدو أنه لا يزال بحاجة الكثير من الوقت، فالأجندة المقترحة من الطرفين تبدو معقدة وتفوق قدرات الجانبين على تحقيقها، حيث ترغب تركيا بمحاربة "الإرهاب" والقضاء على مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، في حين أن النظام غير قادر على تحقيق ذلك.
من جهتها، أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في "الإدارة الذاتية" تأجيل انتخابات البلدية التي كان مقرراً إجراؤها في حزيران إلى شهر آب/ أغسطس، استجابة لمطالب الأحزاب والتحالفات السياسية. وكان إعلان إجراء الانتخابات قد لقي رفضاً تركياً وتهديدات باللجوء إلى القوة لمنع إجرائها على اعتبار أنها تكرس التقسيم وفق التصريحات التركية. كما أعلنت الولايات المتحدة أن الظروف غير مهيأة لإجراء انتخابات شفافة وشاملة. مما يشير إلى أن قرار تأجيل الانتخابات كان نتيجة غياب الدعم الأمريكي وجدية التهديدات التركية التي دفعت العديد من الأطراف المحلية المؤيدة للإدارة الذاتية للضغط باتجاه إلغاء الانتخابات لتجنيب المنطقة عمليات عسكرية جديدة. إلا أن تحديد موعد الانتخابات ثم تأجيلها وضع الإدارة في مأزق، إذ بدا المشهد وكأنه رهين للإرادة التركية وموافقتها كشرط لازم لأية استحقاقات قادمة في شمال شرق سورية. لذلك تصر الإدارة على عدم إلغاء الانتخابات بل تأجيلها إلى موعد جديد، في حين أن التحركات التركية الأخيرة باتجاه التطبيع مع النظام تستهدف بالدرجة الأولى مشروع الإدارة الذاتية وتفتح الباب أمام سيناريوهات عديدة لمستقبل المنطقة ككل.
على صعيد آخر، عقدت هيئة التفاوض اجتماعها الدوري في جنيف بحضور عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني من داخل سورية وخارجها وممثلي الدول العربية والأوروبية، تخلله لقاء المبعوث الدولي لسورية غير بيدرسون لاستعراض مستجدات العملية السياسية. وأكد البيان الختامي على أن قرار مجلس الأمن رقم 2245 هو الصيغة الشرعية للوصول إلى حل سياسي مستدام، وأن سورية حالياً ليست آمنة لعودة اللاجئين، ورفض "الانتخابات الشكلية" في مناطق سيطرة النظام وتلك التي تعتزم "الإدارة الذاتية" إجراءها لاحقاً.
رغم التفاهمات الأردنية مع النظام والضغوط العربية عليه فيما يتعلق بملف تهريب المخدرات؛ لا تزال الأردن تعاني من خطر انتشار شبكات التهريب، حيث أحبطت السلطات الأردنية أكبر محاولة تهريب منذ عدة شهور، ضبطت فيها9.5 مليون حبة من أقراص الكبتاجون المخدر، و143 كيلوغراماً من مادة الحشيش، كانت معدةً للتهريب عبر الأردن إلى دولة ثالثة.
وفيما يتعلق بمسار التغيرات في المؤسسة العسكرية للنظام، بعد وقف العمليات العسكرية الواسعة وانخراط النظام بمسارات التواصل الإقليمية؛ يسعى النظام للقيام بتغييرات داخل بنية مؤسسته العسكرية تهدف -بحسب التصريحات الرسمية- إلى تسريح عناصر الخدمة الاحتياطية على ثلاث مراحل حتى الربع الأخير من عام 2025، وصولاً للاعتماد على المتطوعين لبناء "جيش محترف". ويأتي ذلك تزامناً مع إصدار وزارة الدفاع التابعة للنظام أمراً إدارياً يقضي بوقف استدعاء الضباط الاحتياطيين ممن بلغوا 40 عاماً وأتموا سنتين من الخدمة، وتسريح صف الضباط والأفراد الاحتياطيين ممن أتموا 6 سنوات من الخدمة.
على الصعيد الميداني، استمرت محافظة السويداء بالتظاهر ضد النظام، إضافة إلى تنفيذ حملة ملصقات ضد الانتخابات مجلس الشعب التي ستعقد في منتصف تموز الحالي. كما شهدت المحافظة اشتباكات بين مجموعات محلية مسلحة وقوات النظام، اندلعت عقب تثبيت النظام حاجزاً أمنياً جديداً إثر قيام مجموعات محلية بخطف 15 عنصراً من قوات النظام رداً على اعتقال الأخير ناشطة مدنية.
وفي شمال حلب، أعلن المجلس المحلي لمدينة الباب عن افتتاح معبر أبو الزندين بين مناطق المعارضة والنظام، واعتماده كمعبر تجاري رسمي بغية تحسين الظروف المعيشية لأهالي المنطقة وتعزيز النشاط الاقتصادي المحلي. إلا أن القرار تزامن مع تزايد مؤشرات التطبيع التركي مع النظام، ويأتي في ضوء التفاهمات الروسية كمحاولة لفتح الخطوط التجارية بين مناطق النفوذ. وفي ظل غياب مظلة سياسية وحوكمية قادرة على البت في مثل هكذا قضايا؛ تباينت ردود الأفعال حول القرار، إذ اعتبره تجار ومستثمرون شرياناً حيوياً للتبادل التجاري والتنقل وفرصة لتقليل عمليات التهريب الحاصلة بين المنطقتين وخفض أسعار السلع نتيجة توفرها، في حين هاجم بعض الأهالي وعناصر من الجيش الوطني معبر أبو الزندين وحطموا بعض المعدات داخله رفضاً لقرار فتحه، بينما أصدرت عدة جهات بياناً طالبت فيه بإدارة مدنية للمعبر خارج سيطرة الفصائل العسكرية، وبإشراف المؤسسات المحلية المسؤولة عن إدارة المدينة وإيجاد آلية لضبط المعبر أمنياً واقتصادياً.
من جهة أخرى، شهد هذا الشهر تصاعداً كبيراً في أعمال العنف المستمرة شمال شرق سورية، حيث وثَّق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 62 شخصاً بينهم 40 مدنياً بطرق وأساليب مختلفة، وذلك نتيجة 37 عمل عنف بين اقتتال عشائري وجرائم قتل، ونحو 20 عملية لخلايا تنظيم داعش، إضافة إلى استهدافات جوية من قبل المسيّرات التركية.
وكذلك تزايدت مؤشرات العنف في مختلف مناطق النفوذ، حيث وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 429 مدنياً في سورية خلال النصف الأول من عام 2024، بينهم 65 طفلاً و38 سيدة، و53 شخصاً تحت التعذيب. وتوزعت النسب الأعلى للضحايا كما يلي: 27% في محافظة درعا، و18% في دير الزور، و14% في كل من محافظتي الرقة وحلب. في حين بلغت حصيلة القتلى العسكريين نحو 700 مقاتلاً في مختلف مناطق السيطرة.
ضمن سياق قرارات النظام الاقتصادية المؤثرة على المستوى المعيشي للسكان، جاء قرار مطالبة حاملي البطاقات الذكية بفتح حسابات مصرفية لتحويل مبالغ الدعم إليها، وأوضح مجلس الوزراء في بيان أنه اتخذ هذه الخطوة "تماشياً مع توجيهات إعادة هيكلة الدعم باتجاه الدعم النقدي المدروس والتدريجي"، بينما يُتوقع أن يُقدِم النظام على إلغاء الدعم المعمول به حالياً عن الخبز والمحروقات والكهرباء والمياه والهاتف، تخلياً عن الأعباء الاجتماعية نحو القطاع الخاص من جهة، وبسبب عجزه عن توفير الاستحقاقات المعيشية من جهة أخرى، وستؤدي هذه الخطوة لارتفاع الأسعار بشكل كبير وبيع المواد بالسعر الحر.
وبناء على المرسوم الرئاسي رقم 17 لعام 2024، صرف بشار الأسد "منحة مالية" لمرة واحدة للمتقاعدين والعاملين في دوائر حكومة النظام، قُدّرت بمبلغ مقطوعٍ قدره 300 ألف ليرة سورية (ما يعادل نحو 20 دولاراً) شملت العاملين المدنيين والعسكريين في الدوائر الحكومية والقطاع العام، وفي ظل انخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، يعتبر مبلغ المنحة مبلغاً رمزياً لا يكفي سوى لبضعة وجبات غذائية، ولا يلبي أدنى احتياجات المواطنين بأي شكل.
أما عن الأسعار، فقد ارتفعت أسعار الألبسة القطنية بنسبة وصلت إلى 200% مقارنة بالعام الماضي، نتيجة غلاء أسعار القطن والخيوط من جهة، وعدم تدخل الحكومة للسيطرة على الأسعار أو لدعم قطاع الألبسة من جهة أخرى. كما قفزت أسعار الحلويات في أسواق دمشق بنسبة 100% مقارنةً مع أسعارها في عيد الأضحى العام الفائت. كما رفعت حكومة النظام أسعار المحروقات على الرغم من وصول 8 ناقالات نفط إيرانية محملة بالنفط الخام والغاز من إيران إلى ميناء بانياس بريف طرطوس، في دلالة على استمرار الدعم الإيراني للنظام وخرق العقوبات الدولية، تزامناً مع استمرار أزمة النظام المحلية في المحروقات. ونتيجة لارتفاع أسعار المحروقات ونقصه في الأسواق وارتفاع درجات الحرارة وبدء موسم الحصاد رفعت شركات الأمبير في دمشق وريفها، أسعار الكيلو واط الساعي للأمبيرات في منطقة الكسوة 12 ألف ليرة بعد أن كان 9500 ليرة، وفي مدينة المليحة بريف دمشق ارتفع السعر من 9 آلاف ليرة إلى 11 ألف ليرة سورية.
ويعود سبب ارتفاع الأسعار إلى توجه النظام نحو سياسات التصدير بعيداً عن الاكتفاء الذاتي وضبط بوصلة السوق المحلية، حيث ارتفعت صادرات النظام خلال النصف الأول من العام الجاري بنسبة 30% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023. في المقابل، انخفض عدد برادات الفواكه والخضار السورية المصدّرة إلى الأردن بنسبة 80%، حيث انخفض الرقم من 150 براداً إلى 25 براداً خلال الفترة الفائتة، بسبب عرقلة الجانب الأردني دخول السيارات المحملة بالخضار والفواكه، ضمن إطار حملة مكافحة تهريب المخدرات إلى الأراضي الأردنية عبر الشاحنات بعد القبض على عدد من المهربين وشحنات حبوب مخدرة.
وفي إطار الاستفادة الاقتصادية المتبادلة بين النظام وحلفائه؛ تستمر محاولات إيران بالتمدد في القطاع المالي السوري عبر افتتاح مؤسسات وبنوك، حيث تم افتتاح "مصرف المدينة الإسلامي" بشراكة إيرانية سورية وبرأسمال قدره 50 مليار ليرة سورية، تعود ملكته بنسبة 58% إلى شركة إيرانية، ليزداد بذلك عدد المصارف الإسلامية في سورية إلى 5 مصارف. أما عن المستثمرين الروس في قطاع السياحة في سورية، فقد أشرفت شركات روسية على إنشاء منشأتين سياحيتين في محافظة اللاذقية بنسبة 50%، وقدّر عدد القادمين الروس إلى سورية بـ 780 ألفاً حتى نهاية أيار الماضي، بزيادة نحو 10 % عن ذات الفترة من العام الماضي.
في شمال شرق سورية، نشرت "الإدارة الذاتية" تفاصيل الموازنة العامة في المنطقة للسنة المالية 2024، حيث بلغت الإيرادات العامة 670 مليون دولار، بينما بلغت النفقات ملياراً و59 مليون دولار، مع عجز مالي متوقع في الموازنة العامة استناداً إلى النفقات المخططة والإيرادات المتوقعة يبلغ نحو 389 مليون دولار. وتعد الضربات التي شنتها الطائرات التركية على مدار أسابيع على مراكز الثقل الاقتصادي لـ "قسد" من بنى تحتية للطاقة أحد أبرز الأسباب التي ساهمت في شل العجلة الاقتصادية، حيث تشير التقديرات إلى أن حجم الخسائر التي تسببت بها الغارات التركية بلغ أكثر من 500 مليون دولار لإصلاح ما دمرته أو عطلته الغارات. وبالنظر إلى حجم النفقات المقدرة بمليار دولار، ستبقى المنطقة تعاني من أزمات معيشية على كافة المستويات من ارتفاع الأسعار وفقدان المواد في الأسواق أو رداءة جودتها إلى نقص كبير في الخدمات العامة والبنى التحتية.
بينما بدأت "قوات سوريا الديمقراطية" بتوريد الدفعة الأولى من القمح الذي تسلمته من مزارعي مناطق شمال شرق سورية إلى مراكز استلام الحبوب التابعة للنظام في جنوب مدينة القامشلي، حيث أدخلت نحو 100 قاطرة خلال 24 ساعة تحمل أكثر من 2500 طن من القمح.
وفي شمال حلب، رفعت "الشركة السورية التركية للطاقة الكهربائية" أسعار الكهرباء المنزلية والصناعية، ليبلغ سعر الكيلو واط المنزلي 3.6 ليرة تركية والكيلو واط الصناعي 4.1 ليرة تركية، بارتفاع يبلغ 2.8 للمنزلي و3.2 ليرة تركية للصناعي مقارنة بأسعار الكهرباء خلال شهر حزيران الماضي، مبررة ذلك بالتغييرات التي تطرأ على أسعار الطاقة الكهربائية المستجرة من تركيا.
فيما حددت الحكومة السورية المؤقتة أسعار القمح في مناطق سيطرتها بـ 220 دولاراً للطن، بما يقل 110 دولارات عن الأسعار التي كانت معتمدة للموسم الماضي، كما أنه السعر الأقل لطن القمح مقارنة مع مناطق النفوذ الأخرى، إذ يبلغ السعر المحدد في إدلب وشمال شرق سورية 310 دولارات للطن، و360 دولاراً في مناطق النظام. ويعتبر سعراً غير متناسب مع حجم التكاليف التي دفعها المزارعون في هذا المحصول.
وفي إطار سياسات الضبط التي تتبعها "حكومة الإنقاذ" في إدلب، جددت "المؤسسة العامة لإدارة النقد" التذكير بضوابط تسليم الحوالات المالية بالعملة المرسلة بها، في خطوة من شأنها تنظيم السوق المالي وزيادة الثقة فيه ورفع قدرة "حكومة الإنقاذ" على التحكم في السياسات المالية وضبط الأسعار عبر التقليل من الحاجة إلى تحويل العملات في السوق السوداء.
لا تزال الأسئلة المتعلقة بقطاعي الأمن والدفاع في سورية من أكثر الأسئلة أهمية، وازدادت أهميتها بعد الحراك الثوري، لأن غايات الإصلاح كانت مطلباً رئيسياً في هذا الحراك، كما أنها شهدت وما تزال تحولات عميقة أثرت على بنيتها ووظيفتها، فمن جهة أولى ما تزال معظم هذه الأسئلة دون إجابات معرفية كافية، بحكم أن عملية البحث في هذا المضمار هي عملية "مناهضة للأمن والدفاع" وفق أعراف الأجهزة الأمنية، ومن جهة ثانية فإن مكامن الخلل التي تستوجب تسليط الضوء عليها كثيرة وقديمة، وقد تراكم فوقها العديد من السياسات والممارسات التي حولت الخلل إلى معضلة صعبة الحل، ومن جهة ثالثة فإن واقع المؤسسة العسكرية الراهن يفرض أسئلة تتعلق بطبيعة وجود هذه المؤسسة ومآلها، خاصة في ظل ما تشهده من تحولات وتبدلات عميقة في تكوينها الاجتماعي ومراكز القوة والفاعلين الرئيسيين فيها. تبرز الضرورة البحثية لإعادة تعريف هذه المؤسسة في ضوء ما أحدثته تلك التحولات، وبيان أثرها على عملية إعادة التشكل الآخذة بالتبلور، تلك العملية التي تخضع لعدة بوصلات متضاربة ويغيب عنها البعد الوطني.
سيبقى تساؤل حول دور الجيش وأثره في التفاعلات والتحولات المحلية وعلى حركية التحول الديمقراطي سؤالاً مركزياً يواجه عملية إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية، فالخلل البنائي والوظيفي والتشوه الهوياتي الذي اعترى هذه المؤسسة دفعها باستمرار للتدخل في الحياة الاجتماعية والسياسية وفق منطوقٍ يخدُم ويُغذّي فلسفة الفئة الحاكمة. فالعبث العقائدي والتنظيمي والوظيفي بمؤسسات الأمن والدفاع حوَّلها لمؤسسة شديدة الاغتراب عن المجتمع السوري، وفاقدة لمفهوم الحياد السياسي، وقوة مصطفة سياسياً لصالح النظام. والتحدي الأبرز أمام هذه العملية ليس فقط ما هو مرتبط تقنياً ببرامج SSR, DDR وإنما ما هو أيضاً متسق مع الظرف السوري كحزبوية الجيش وعقيدته، وانعدام الأطر المقوننة للعلاقات المدنية العسكرية.
واستكمالاً لمخرجات المشروع البحثي الذي أطلقه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عام 2018 حول تحولات المؤسسة العسكرية السورية وتحدي التغيير وإعادة التشكل، يواصل المركز اهتماماته البحثية في هذا المجال في عام 2019، مركِّزاً على أسئلة الواقع الراهن وما تستوجبه من تفكيك عدة إشكاليات بحثية، تتعلق بالبُنية التنظمية وطبيعة التشكل الشبكي الذي تشهده هذه البنية، وقد أطلق المركز مشروعه البحثي الثاني في هذا المضمار حول "المؤسسة العسكرية السورية في عام 2019: طائفية وميليشاوية واستثمارات أجنبية"، وأنجز جملة من المخرجات البحثية والتي نجمعها في هذا الكتيب كما هو مبين أدناه:
واعتمدت هذه المخرجات البحثية على خمسة جلسات تركيز عُقدت مع مجموعة من الضباط المنشقِّين من مختلف الاختصاصات في عدة مدن جنوب تركيا لمناقشة محورين رئيسين، الأول: ماذا بقي من الجيش؟ والثاني: التطييف وآلياته في الجيش. كما تم إجراء عشرات المقابلات الشخصية مع عدة ضباط منشقِّين.
للمزيد عن الكتاب:
النسخة العربية: http://bit.ly/2LvSWum
النسخة الإنكليزية: http://bit.ly/2XiPeGZ
يفكك تقدير الموقف هذا المشهد العراقي الأخير، مشيراً إلى أن سياسات بغداد الطائفية كانت دافعاً أساساً في الحراك الثوري الأخير مما لا يمكن اختزاله في مسألة إرهابٍ وتطرف، فهو في حقيقته استمرارٌ لفعلٍ ثوريٍّ ضد مسلك حكومة المالكي التمييزي الرافض لمطالب شعبية منذ عامين. كما يتناول هذا التقدير بعض المواقف الإقليمية والدولية، التي تتراوح بين مواقف متأنية ومتخوفة ومتدخلة، ويسرد عدة نتائج تتعلق بالمشهد الداخلي العراقي والتدخلات الإيرانية وانعكاساتها على منطقة المشرق العربي.
بعد عدة أشهر على حصار نظام الأسد للعديد من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وفشله في القدرة على الحسم العسكري على الرغم من استخدامه لكافة أنواع السلاح، ووصول مسارات الحل السياسي والتفاوضي إلى طريق مسدود، يكثر الحديث اليوم عن الهدنة واتفاقيات وقف إطلاق النار خاصةً مع بدء تنفيذ ذلك في بعض المناطق في ريف دمشق. وبعد أن أوضحت الدراسة مفهوم الهدنة كتأصيل معرفي للدراسة، قدمت مشهداً عاماً لواقع الهدن، متخذةً من ريف دمشق نموذجاً لكونها تشكل الإطار الاستراتيجي الذي يحيط بالعاصمة دمشق بدءاً من المعضمية وبرزة والقابون وانتهاءاً بالهدنة الأخيرة الموقعة في ببيلا. واستقراءاً لخارطة وواقع الهدن وخطط النظام، قدمت الدراسة سيناريوهات للتعامل مع الهدن مبينةً الإطار الحقوقي والسياسي الاجتماعي العام للهدن من حيث كلاً من الشكل والمضمون، ومبينة كيفية التعامل في حال سيناريو القبول (المقبول لمناطق غير استراتيجية) وسيناريو الرفض (لمناطق تشكل عمقاً استراتيجياً للحراك الثوري).