بذاكرة مُثقلة بالمجازر والمآسي والصور الخانقة؛ نسترجع نحن السوريين تواريخ أيامنا المرتبطة بجرائم حرب تنافس كل منها الأخرى أيها أشد إيلاماً، وتمر علينا اليوم الذكرى الحادية عشرة لاستخدام نظام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في غوطة دمشق عام 2013، كما مرت الأعوام عاماً تلو الآخر على ذوي الضحايا دون تحرك يذكر، باستثناء ما نبرع به من بيانات واجتماعات وفعاليات ومواد إعلامية ومبادرات مدنية وجهود توثيقية نحاول عبرها حفظ سرديتنا وتوثيق مأساتنا -التي لا يزال شهودها أحياء- من مزيد من التحريف.

نذكر أنفسنا في كل ذكرى بما مورس بحقنا من انتهاكات حتى لا تموت القضية فينا، كما ماتت بين سطور التهديدات الأمريكية وخطوطها الحمراء الوهمية، وفي أروقة مجلس الأمن وبين الفيتوهات الروسية، حتى لا تموت القضية فينا كما حاولت دول عدة قتلها بالمجان لمجرد أنها قررت طي صفحتها والتطبيع مع الجاني محاوِلةً إقناعنا أن لا سبيل لنا إلا تناسي جرائمه والعودة إلى حكمه، نستذكرها كي نعرّف الأجيال الأصغر بالقضية التي دُفع لأجلها كل هذا الثمن.

كان رهاننا على تحرك العالم بمجرد توثيق الجرائم وإثبات مسؤولية فاعليها -على الرغم من فداحة تلك الجرائم وعدد ضحاياها الكبير، ومخالفتها الجلية لأبرز مبادئ القانون الدولي، وتأثيرها الذي لا يقتصر على الضحايا فحسب، بل على كل من تعرض لها تأثيراً جسدياً ونفسياً يستمر لأجيال، ناهيك عن تأثيرها على البيئة وعلى الدول المحيطة- رهاناً خاسراً بالأساس، بل واهماً، يتجاهل خلل النظام الدولي القائم على حل الأزمات وفقاً لمصالح الدول الخمس الكبرى أو اللاحل في حال تعارضها، بغض النظر عن نوع الجريمة المرتكبة ودقة توثيقها وعدالة قضيتها، فالأهم هنا هو مرتكبها وقوة حلفائه وقدرتهم على الدفاع عنه باستخدام أو التلويح باستخدام أحد أكثر الأسلحة السياسية فتكاً لما لها من تأثير على الأرض: سلاح "الفيتو".

الفيتو الروسي.. حصن النظام لتجنب المحاسبة

فيما يتعلق بالملف السوري ضمن أروقة مجلس الأمن، استخدمت روسيا "حق النقض" 18 مرة، 6 منها ضد مشاريع قرارات تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي في سوريا خلال عامي 2017 و2018، اثنان منها يدينان النظام لاستخدامه الكيماوي ويدعوان لفرض عقوبات عليه، بينما تتعلق الأربعة الأخرى بالتحقيق بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية سواء من حيث تمديد مهام الخبراء الدوليين، أو تمديد تفويض آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة[1]، أو التحقيق في المسؤولية عن هجمات دوما عام 2018 وهجمات خان شيخون 2017.

وبذلك أنهت روسيا آلية التحقيق المشتركة التي تم إنشاؤها بموافقتها، بعد أن عملت على تقليص صلاحياتها عبر استخدام الفيتو ضد مشاريع القرارات التي توسع هامش عملها. كما شككت بمنهجية عملها بعد أن خلُصت إلى مسؤولية النظام عن هجوم دوما بعد تدقيق 19 ألف ملف وعدد من الشهادات وتحليل العينات في تقريرها الصادر عام 2023. ومن حينها والمحاولات الروسية مستمرة لتقليص مساحة ملف السلاح الكيماوي في سوريا عن نقاشات مجلس الأمن الشهرية التي تستعرض تقارير ما تبقى من بعثات تحقيق قليلة، لتتحول إلى ربعية، سعياً لتنحية الملف بالكامل عن إطار المجلس لاحقاً، على الرغم من محدودية أثر هذه النقاشات.

لطالما شكلت تركيبة النظام الدولي بهذه الطريقة العرجاء؛ منفذاً للدول للتهرب من استحقاقاتها السياسية تجاه شعوبها أو تجاه الدول الأخرى، إذ سادت قناعة عامة حول قصور أداء الأمم المتحدة ووكالاتها في حل الأزمات الدولية ما دامت حالة اللااتفاق السياسي بين الدول الخمس الكبرى مسيطرة.

آليات دولية مكبّلة بالقيود السياسية

أثار استخدام السلاح الكيمائي على نطاق واسع عام 2013 ردود فعل دولية حادة اللهجة، أدت إلى إجبار النظام على الانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيمائية وقبوله "تسليم ترسانته الكيميائية" بمبادرة روسية وضغط أميركي تحت التهديد بعمل عسكري ضده، دون أن يُتبع ذلك بأي إجراء من شأنه تهديد وجود النظام باستثناء بضعة تصريحات بين الحين والآخر تستخدم لأهداف سياسية أكثر من تحقيق أهداف ملموسة.

تجرأ النظام على تكرار استخدام أسلحة كيميائية عديدة في هجماته على مناطق سورية مختلفة، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في بيان لها 222 هجوماً كيمائياً استهدف الأراضي السورية بين 2012 و2024، 217 هجوماً منها قام بها النظام مقابل 5 هجمات نفذها "تنظيم الدولة"، الأمر الذي يدلل على إعادة إنتاج ترسانته من الأسلحة الكيمائية عام 2013 وبالتالي عدم استجابته لأدنى متطلبات الاتفاق الدولي معه على الرغم من انخفاض سقفه.

كما أن العقوبات الغربية التي فرضت على النظام بعد استخدامه السلاح الكيماوي، تحولت من كونها أداة للردع كما افتُرض لها، إلى جزء من لعبة التوازنات السياسية بين القوى الكبرى، حيث كانت في مواضع كثيرة محل تفاوض روسي-غربي. كما تمكن النظام من الالتفاف على معظمها بأساليب عديدة أو بدعم حلفائه، نظراً لخبرة النظام في التعامل مع العقوبات الدولية سابقاً وإن توسع نطاقها كثيرا بعد انتهاكات النظام بعد 2011.

من جهة أخرى، تواجه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سوريا تحدياً يتمثل بالفجوة بين صلاحياتها المحدودة المتعلقة بالإجراءات التنفيذية والتحقيق ورفع التقارير، والقدرة التنفيذية المحصورة بمجلس الأمن الذي يعيق أي تحرك جدي، ناهيك عن اقتصار مهمتها في معظم بعثات التحقيق السابقة على إثبات وقوع الهجمات بسلاح كيماوي دون البحث عن الجهة المسؤولة عن الهجوم، إلى أن سمح لها بموجب موافقة معظم الدول الأعضاء بذلك عام 2018، وبالتالي لم تتمكن المنظمة من اتخاذ إجراءات مؤثرة بما في ذلك تعليق عضوية سوريا في المنظمة ومنعها من التصويت أو الترشح لعضوية المجلس التنفيذي، عقب الهجمات على دوما 2018، الأمر الذي لا يشكل أي ضغط على النظام ناهيك عن ردعه.

وتثير هذه الأمور مجتمعة تساؤلات حول جدوى الآليات والأدوات الدولية المستخدمة حالياً في الردع عن ارتكاب وتكرار الجرائم، وضرورة التفكير في آليات أكثر نجاعة، تعيد الثقة المفقودة بالمنظومة الدولية.

ثم ماذا بعد؟

نتساءل كسوريين اليوم، ماذا بعد أن أثبتت آلية التحقيق المشتركة مسؤولية النظام عن هجوم دوما 2018؟ ماذا بعد أن وُثّقت كل تلك الجرائم بجهود حثيثة من منظمات محلية أو دولية أو حتى بجهود فردية لإبقاء مسار المحاسبة حياً؟ هل يمكن ضمان ألا تُعاد الكرّة ونُستهدف مجدداً بسلاح كيماوي أو بغيره؟ (فالتركيز على عدم استخدام السلاح الكيماوي المحرم دولياً لا يجعل بقية الانتهاكات وجرائم الحرب أقل شناعة)، وهل باستطاعة الدول الحليفة للنظام أو الساعية للتطبيع معه أن تضغط عليه لتضمن ذلك في إطار سعيها للحفاظ على "الاستقرار الإقليمي"؟

لا تقتصر آثار غياب نظام مساءلة ومحاسبة دولية على الأنظمة المرتكِبة لتلك الانتهاكات وشعوبها فحسب، بل تتعداها لترفع "عتبة الإجرام" دولياً من ناحية كم الإجرام ونوعية الأسلحة المستخدمة فيه، على اعتبار أن حداً تم تجاوزه دون أن يُحجّم فاعلُه يقع ضمن حدود "المقبول" لدى المجتمع الدولي الذي مرّره، إذ لا يمكن فكّ انعكاس أزمة دولية على أخرى، فغض الطرف عن الدور الروسي في سوريا يرتبط بشكل أو بآخر بغزوها لأوكرانيا، وارتفاع مستوى الإجرام الممارس بحق الشعب السوري ارتبط بما يمارس بحق الفلسطنيين اليوم، واستخدام الكيماوي دون رادع سيفتح حروباً أوسع سمتها الأسلحة المحظورة دولياً.

كذلك لا تقتصر تداعيات عدم المحاسبة على الملف الجنائي فحسب، فالتغاضي عن الجرائم المرتكبة وفقدان الأمل بوجود قانون دولي قابل للتنفيذ وقادر على الردع؛ سيولد مزيداً من العنف وحركات التطرف ويستنسخ تجارب تنظيمات راديكالية ويتسبب بمزيد من انتشار السلاح والفوضى غير المحصورة بمكان ممارسة الانتهاكات المتكررة دون رد، فللشعوب خصائص كما الأفراد، إذا ما استمرت في مواجهة تحديات وجودية وتُركت لمصيرها وحيدة؛ لا تُبقي وجودها رهينة لقوائم الأولويات الدولية واعتبارات الدول الضامنة.

 

المصدر: تلفزيون سوريا، اضغط هنا


[1] آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، هي هيئة مستقلة أنشأها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب القرار 2235 بتاريخ 7 آب/ أغسطس 2015.

التصنيف مقالات الرأي