ملخص تنفيذي

• تحاول "قسد" عبر إعلانها العقد الاجتماعي وتعديلاته وقانون الأحزاب السياسية كسب غطاء قانوني لسلطة الأمر الواقع التي تفرضها بالقوة على سكان منطقة شمال وشرق سورية، ولكن هذه النصوص تعاني من مشاكل شرعية وبنيوية وتطبيقية تفقدها قيمتها، في ظل هيمنة فكرية وسياسية وأمنية واضحة من قبل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي".
• تفيد خارطة الفواعل السياسية أن جل حراكها يسير باتجاهين لا ثالث لهما: إما القبول بالانضمام إلى “الإدارة الذاتية" والرضى بقيادة وهيمنة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في استنساخ لتجربة حزب البعث في سورية من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية" مع تحصيل بعض الأدوار الهامشية، أو التصنيف كمعارضة والتعرض للتضييق والمحاصرة.
• تخضع آلية صنع القرار والموقف السياسي داخل الإدارة لتوازنات تفرضها أجندات وإملاءات من قيادة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، المتأثرة عضوياً بمحددات "حزب العمال الكردستاني"، مع الإقرار بوجود بعض المؤثرات الداخلية والخارجية على هذه القرارات.
• تنطلق محددات "الإدارة الذاتية" في تقاربها مع النظام من ضرورة تحصيل مكاسب تشرعن سلطة الأمر الواقع، وللبحث عن خيارات أخرى لمواجهة التهديدات التركية، كما أنها تنفتح على بعض الأطراف المعارضة في محاولة لتأطير مساحات عمل مشتركة تخفف من خسائرها، جراء عدم وجودها في الأطر الرسمية للمعارضة السورية.
• أثّرت عملية "نبع السلام" بشكل واضح على سلوك "قسد" السياسي إذ انفتحت على روسيا والنظام بشكل أكبر، كما كان للعملية أثر في تغليب "التيار اليميني" في حزب الاتحاد الديمقراطي والمرتبط بحزب العمال بشكل ملحوظ، على "التيار الإصلاحي" الذي حاول التقارب أكثر مع الغرب، كما أن دخول روسيا بشكل فاعل في الشرق السوري بعد عام 2019 أعطى الإدارة ورقة سياسية جديدة للتفاوض، لكنه اضطرها كذلك لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، مع احتفاظها بهامش مناورة سياسية في علاقتها مع روسيا والدول الغربية.
• إضافة إلى الفجوات والمعوقات البنيوية داخل "قسد"؛ فإن مشروعها بشكل عام مرتبط باتجاهات الملف السوري المستقبلية، ففي حال تعزيز سيطرة المركز على الأطراف، ستحاول الإدارة تحصيل مكاسب بسيطة من النظام وداعميه. فيما يشكّل خيار تحريك الملف السوري فرصة لها لتقديم نفسها كشريك جديد، لكنه لن يلقى القبول الإقليمي والمحلي. بينما يرجح سيناريو بقاء الجمود كما هو عليه، وبالتالي استمرار سعي الإدارة لتكريس لامركزية الأمر الواقع.

مقدمة

تسيطر "الإدارة الذاتية" لـشمال شرق سورية منذ عام 2013 على مساحة واسعة من الجغرافية السورية، تربط معها مجموعات سكانية كبيرة، تتميز بالتنوع الإثني والديني والاجتماعي، ونظراً لما تمتلكه من تأثير مباشر على ديناميات الحكم المحلي الذي يتخذ شكلاً "فدرالياً"؛ فإن هذه الدراسة تحاول فهم واقع هذه الإدارة، وتلمّس اتجاهاتها المستقبلية، وذلك من مدخل الأداء السياسي لهذه الإدارة متمثلة في "مجلس سوريا الديمقراطية"، وأيضاً "قوات سوريا الديمقراطية"، ومعرفة عوامل استمرارها أو عدم استمرارها، في ظل تبدلات المصالح الدولية في سورية على وجه العموم ومنطقة شمال شرق سورية على وجه الخصوص.
تتمثّل إشكالية هذه الدراسة في تفكيك وتحليل المقولات والأداء السياسي لـ “لإدارة الذاتية"، وبيان مدى اتساقها مع رؤية الإدارة المعلنة، والمتمثلة بأنها "مظلة سياسية انعكاساً لإدارة التنوع فيها"، بينما تحاول فرض مشروعٍ سياسيٍّ ليكون "نموذجاً بديلاً" عن النظام السياسي الراهن، وذلك من خلال قياس مؤشرات الفاعلية الأداء السياسي، عبر رصد البيانات، وتحليل التصريحات الرسمية، وفهم بوصلة الاجتماعات والفعاليات، للتمكن من تكوين مقاربة تفضي إلى فهم واقع هذا المؤشر وسيناريوهاته المستقبلية.
تتبع هذه الدراسة منهج دراسة الحالة، فتفرد في فصلها الأول تفصيلاً حول المحددات القانونية الناظمة للحياة السياسية، وبيان حجم تحكّم الإدارة الذاتية "التي يشكّل حزب الاتحاد الديمقراطي عصبها الرئيس" في رسم هذه المحددات وأطرها العامة، سواء في العقد الاجتماعي المطروح، أو من خلال قانون الأحزاب الذي أعلنته الإدارة. بينما يستعرض الفصل الثاني سمات الحياة الحزبية في "الإدارة الذاتية"، ويقيس نوعياً مؤشر الحريات السياسية فيه، باعتبار ذلك تطبيقاً عملياً للمحددات القانونية أعلاه، وبالتالي تلمّس الفجوات ما بين النظرية والتطبيق.
أما الفصل الثالث فتحاول الدراسة فيه توضيح آليات صنع القرار السياسي ومؤسساته، وأبرز شخوصه، والعوامل المؤثرة فيه، وفهم أدوات "حزب الاتحاد الديمقراطي" للتحكّم في هذا القرار. ويوضّح الفصل الرابع الفلسفة والرؤية السياسية للإدارة، من خلال معايير عدة، كالحوار الكردي-الكردي، والموقف من النظام والتفاوض معه، ناهيك عن موقفها من الفواعل المحلية والخارجية. وقد تمت قراءة مؤشرات الأداء السياسي لـ “لإدارة الذاتية" خلال الفترة التي تلت إعلان وقف إطلاق النار عام 2019، من خلال محددات أساسية عدة هي: البيانات الرسمية، والتصريحات الصحفية لقادة الإدارة الذاتية، والنشاط الدبلوماسي سواء العلاقات مع القوى الدولية، أو مع القوى المحلية، بالانطلاق من عملية "نبع السلام" كنقطة تحول لما أحدثته من تغيرات جديدة في توازنات القوى شرق سورية، مدخلةً قوى جديدة بشكل فاعل إلى مناطق الشرق السوري.
وفي الفصل الأخير تحاول الدراسة بيان الاتجاهات المحتملة لمستقبل هذه الإدارة، في ظل الجمود السياسي والتمترس الجغرافي الذي يعانيه المشهد السوري منذ وقف إطلاق النار غير المعلن في عام 2020.

عقد اجتماعي وإطار قانوني: مستلزمات شكلانية

يعود تأسيس "الإدارة الذاتية" إلى 13 آب /أغسطس عام 2013، حين أعلن "حزب الاتحاد الديمقراطي pyd" خلال مؤتمر صحفي بمدينة القامشلي، حضرته آسيا عبد الله الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، عن انتهاء المرحلة الأولى لمشروع الإدارة الذاتية، وتم إطلاق هيئات تنفيذية في مختلف مناطق سيطرة الحزب. مطلع 2014 تم الإعلان عن أول حكومة محلية في مقاطعة الجزيرة مؤلفة من عدد من الوزراء ينتمون إلى مكونات سياسية واجتماعية عدة(1)، وفي نهاية عام 2023 تم الإعلان عن عقد اجتماعي جديد تم من خلاله تغيير اسم "الإدارة الذاتية" إلى "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا"(2)، ومع انطلاق العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش ودعم التحالف الدولي لـ "وحدات حماية الشعب" الجناح العسكري لـ "حزب الاتحاد الديمقراطي"، تم الإعلان في 11 تشرين الأول/أكتوبر عام 2015 عن إطلاق تحالف عسكري تحت مسمى "قوات سوريا الديمقراطية/قسد" ضم إلى جانب وحدات حماية الشعب قوات عشائرية عربية، مثل "الصناديد" التابعة لقبيلة شمر(3)، وقوات "سوتورو" السريانية(4)، وكتائب أخرى.
في 10 كانون الأول/ديسمبر عام 2015 تم الإعلان عن تشكيل "مجلس سوريا الديمقراطية/مسد" وهو الجناح السياسي لـ “قسد"، وبذلك اكتملت ثلاثة أركان للمشروع الجديد تمثلت بـ: هيئة تنفيذية هي "الإدارة الذاتية"، قوات عسكرية "قسد"، ممثل سياسي "مسد". ويشكل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي" الفاعل الأساسي في الأجسام الثلاثة.

وقد عملت "الإدارة الذاتية" على فرض نفوذها الإداري والأمني والاجتماعي والعسكري والسياسي في منطقة شمال شرق سورية، إذ شكلت قوات الأمن الداخلي "الأسايش" لحفظ الأمن، وقسمت المقاطعات وشكلت هيئات حكم تشريعية، وأطلقت نظام الكانتونات والكومينات لضمان الوصول إلى كل القرى والأحياء، كما تم تفعيل رئاسة تنفيذية مشتركة وهيئات تنفيذية على شكل وزارات، مثل: هيئة العلاقات الخارجية، هيئة الدفاع والحماية الذاتية، هيئة الداخلية، هيئة العدل، هيئة التربية والتعليم، هيئة الزراعة.
يحتاج "الإدارة الذاتية" إلى قواعد ونواظم قانونية كضرورة لضبط علاقة مؤسساتها بالمجتمع الذي تحكمه، وبهذا الإطار أصدرت عقداً اجتماعياً وقانوناً ناظماً للحياة الحزبية.

العقد الاجتماعي

عملت "الإدارة الذاتية" على إضفاء شرعية دستورية لسلطتها التي فرضتها على منطقة شمال شرق سورية وعفرين كأمر واقع، من خلال إعلان وثيقة عقد اجتماعي. فقد أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي أن مجلس مقاطعة الجزيرة صادق بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير 2014 على ميثاق العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية، والذي كان بمثابة إعلان دستوري يتضمن: ديباجة، وتسع أبواب، تلاها إصدار 4 ملاحق إضافية(5).
تناولت مواد العقد الاجتماعي تعريفات للسلطة والمؤسسات التشريعية والنظام التعددي، ثم هيكلية "الإدارة الذاتية الديمقراطية" التي تشمل المجالس التشريعية ووحدات حماية الشعب والهيئات التنفيذية والقضائية والمحكمة الدستورية العليا، كما تناول موضوع الحريات والحقوق والواجبات، وحرية الإعلام وتشكيل الأحزاب السياسية، وقدم شرحاً عن المجلس التنفيذي والمجلس القضائي، والمفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة الدستورية العليا، والمناهج التعليمية.
وصدرت أربعة ملاحق للعقد الاجتماعي، تضمن الأول الصادر عام 2014، تعديلات على هيكلية المجلس القضائي لمقاطعة الجزيرة، وعدّل الثاني الصادر عام 2014 المادة 54 لاشتراط أن يكون "الحاكم مشتركاً بين الجنسين"، وفي الملحق الثالث الصادر عام 2016 عدّلت بعض المواد المتعلقة بالهيكلية التنظيمية للمجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة، وتضمّن الملحق الأخير الصادر عام 2018 تعديل المادتين 55 و58 من العقد الاجتماعي المتعلقتين بالحاكمية المشتركة لإقليم الجزيرة.
وبتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر2023 أصدرت "الإدارة الذاتية" النسخة المعدلة من العقد الاجتماعي الذي تضمن ديباجة وأربعة أبواب، وقد تمثّلت أبرز التعديلات في تغيير اسم "الإدارة الذاتية" إلى "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا"، وتعديل تسمية "المجلس العام" إلى "مجلس شعوب شمال وشرق سوريا"، والتأكيد على اعتماد "النظام الديمقراطي البيئي المجتمعي"، مع استمرار مبدأ الرئاسات المشتركة، والإشارة إلى أن الإدارة جزء من جمهورية سورية "الديمقراطية"، كما تضمن العقد تغييرات طالت هيكلية البلديات في جميع المناطق، وتحويل هيئة البلديات إلى تجمّع واتحاد البلديات، وأقر استحداث مؤسسة رقابة ومجلس جامعات، وإنشاء مكتب مدفوعات مركزي، ومحكمة حماية العقد الاجتماعي التي تعد بمقام محكمة دستورية(6).
وبغض النظر عن المغالطات المفاهيمية حول العقد الاجتماعي المطروح؛ فإنه يعدّ بمثابة القانون الأعلى/الدستور، وعليه ستحاول الدراسة تتبع معايير المصداقية والقابلية للتنفيذ، من خلال أربع ركائز رئيسة وهي: شرعية هذا العقد، وأدوات إنتاجه، وفلسفته، ومستلزمات تنفيذه.
فيما يخص ركيزة الشرعية، وعلى الرغم من محاولة "قسد" إظهار هذا العقد على أنه مصدر شرعيتها الدستوري؛ إلا أن غياب مؤشرات التمثيل السياسي والقبول المجتمعي تجعل العقد بمثابة قواعد حكم سلطة أمر واقع، تهدف من خلاله إلى شرعنة وجودها الطارئ الذي استحوذت عليه بالتغلّب والقوة، دون أية مراعاة لآليات التوافق والتمثيل، سواء التوافق المجتمعي أو الانتخابات التمثيلية(7).
أما الركيزة الثانية المتمثلة بـأدوات إنتاج هذا العقد، فعلى الرغم من توفير إطار شكلاني يدل على مناقشات سبقت إنتاج هذا العقد؛ إلا أنها شهدت غياب التنسيق والحوار مع أهم الفاعلين السياسيين المحليين في منطقة شمال شرق سورية، مما يجعله عقداً من منظور "حزب الاتحاد الديمقراطي"، إذ تشير الوقائع إلى أن اللجنة مكونة من ممثلي أحزاب ومنظمات مدنية محسوبة على "حزب الاتحاد الديمقراطي" أو الأحزاب الموالية له، بينما غاب الممثلون الحقيقيون لمنظمات المجتمع المدني وبقية الأحزاب السياسية في المنطقة.
وفيما يرتبط بركيزة الفلسفة، تؤكد نصوص هذا العقد على مضمون فلسفة "حزب العمال الكردستاني" و"الاتحاد الديمقراطي" التي رسمها عبد الله أوجلان، ما يثبت أنه انعكاسٌ لثقافة سياسية حزبية، وليس إطاراً ثقافياً للمنطقة بكل مكوناتها وتنوعاتها، إذ أكد العقد على مبدأ "الأمة الديمقراطية"، وهو مدخل فكري رئيس لكوادر حزب العمال والاتحاد الديمقراطي للسيطرة على جميع مؤسسات الدولة، وفرض هذه الأفكار بالقوة على المجتمع، وتحويلها إلى إيديولوجيا رسمية، كما تدل المضامين القانونية لمواد هذا العقد على إشارات سياسية غير متفق عليها داخل مناطق سيطرة الإدارة وخارجها، كترسيخ فكرة الفدرالية بشكل عام، ووفق مفهوم "الإدارة الذاتية" للفدرالية بشكل خاص، عبر إطلاق اسم "إقليم شمال وشرق سورية"، إضافة للإشارة إلى اتخاذ علم ونشيد خاص، وقوى عسكرية خاصة، ومجالس تشريعية كذلك، كما تعد نصوص هذا العقد التفافاً واضحاً على العملية السياسية والمستندات القانونية الناظمة لها، كالقرار الدولي 2254 الذي أنتج لجنة دستورية بإشراف أممي، مهمتها كتابة دستور سوري جديد.
وأخيراً ما يتعلق بركيزة قابلية التنفيذ، فبالإضافة إلى غياب آليات تشكيل وتعيين مسؤوليها، والتي تعد مؤشراً دالاً على تحكّم الحزب في هذه الأدوات، وبالتالي مركزة القوة بيد الحزب؛ فإن غياب البنية المؤسسية والرقابة المستقلة والقضاء المستقل هي مؤشرات دالة على عدم القدرة على تحويل نصوص هذا العقد إلى واقع، وكل الإيحاءات والإشارات حول التنوع والتعددية والديمقراطية ستبقى صيغاً شكلانية، طالما استمر غياب أداوت إدارة التنوّع، وأدوات إدارة الاختلاف، وأدوات توزيع القوة بين مكونات هذه المظلة السياسية. إذ تؤكد المقاربات المحلية أن كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني" يفرضون ما يريدون بالقوة على جميع المؤسسات والمجالس التشريعية والسياسية(8)، كما برزت مشاكل تعيين قادة "الإدارة الذاتية"، وحكام الأقاليم والمقاطعات وتشكيلات المجالس المدنية، بسبب تعيينهم دون انتخابات مباشرة ودون اشتراط الكفاءة، إنما وفقاً لمدى قربهم وولائهم لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي"(9).

النواظم القانونية للحياة السياسية

أصدرت المجالس التشريعية بمناطق الإدارة الذاتية في 26 نيسان/ أبريل العام 2014، قانوناً ينظم عمل الأحزاب الكردية في مناطق سيطرتها، قوبل بمعارضة من أحزاب وشخصيات كردية، ويقضي القانون بوجوب حصول أي حزب سياسي كردي في سورية على ترخيص رسمي من المجالس لمباشرة عمله بالمقاطعات (الكانتونات) الثلاث التابعة "للإدارة الذاتية"، وهي: عفرين وعين عرب/كوباني والجزيرة، وفقاً للتقسيم المفروض من "حزب الاتحاد الديمقراطي" أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2013(10).
وتعمل الإدارة على تطوير قانون الأحزاب بين الحين والآخر، إذ بدأت في شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2021 بصياغة قانون لتنظيم الحياة السياسية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وذكرت أن المجلس العام التابع لها عقدَ اجتماعاً هو الأول من نوعه مع لجنة كتابة مسودة قانون الأحزاب السياسية(11)، وكانت إدارة إقليم الجزيرة التابعة "للإدارة الذاتية" قد أصدرت قانوناً خاصاً بترخيص الأحزاب السياسية في الإقليم بتاريخ 12/5/2018، تضمن 41 مادة، توضح شروط تأسيس الأحزاب وترخيصها، إضافة إلى وجود أربع مواد في نهاية القانون حول المخالفات والعقوبات لكل من لا يلتزم بالترخيص أو يخالف أحد شروطه(12).
ولا بد من الوقوف على المثالب القانونية لهذا القانون، المتمثلة في شرعية الجهة التي أصدرت القانون، ومراحل صياغة القانون وإقراره. فمن جهة شرعية الجهة مصدرة القانون، سواء اللجنة التي شكلها المجلس العام لكل المقاطعات، أو القانون الذي أصدره إقليم الجزيرة وحده، لا تعد هذه الجهات شرعية، لأنها لم تأت عبر انتخابات عامة، وإنما بالتعيين من قبل "حزب الاتحاد الديمقراطي"، ووفق العقد الاجتماعي تتكون مجالس الشعب لكل الوحدات الإدارية من أفراد يمثلون هذه الوحدة بما نسبته 60 بالمئة، و40 بالمئة من ممثلي المؤسسات والمنظمات (المحسوبة على الاتحاد الديمقراطي) حتى لو حصلت الانتخابات، الأمر الذي يضمن ل"حزب الاتحاد الديمقراطي" السيطرة على هذه المجالس، من أصغر وحدة إدارية وصولاً إلى المجلس العام. أما عن مراحل إقرار هذا القانون، فقد جاء نتيجة مشاورات من لجنة مكلفة من قِبل المجلس العام دون النظر والتشارك مع بقية الأطراف، كما أن لجنة تنفيذ القانون والموافقة على تشكيل الأحزاب مؤلفة من 6 أشخاص ممثلين عن: هيئات مكاتب العدل، والداخلية، والعمل، ومجالس الشعب، والرئاسة المشتركة، ومفوضية الانتخابات (13)، وهم محسوبون على سلطة الإدارة التي يتحكم فيها "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وتعتبر هذه المؤشرات كافية لاعتبار الحزب متحكماً بمصادر وقنوات سن التشريع.
وبقراءة هذه التشريعات يمكن تلمّس ملاحظات قانونية عدة، أهمها: أن الحديث عن إصدار قانون أحزاب مرتبط بأن تكون هناك دولة وسلطة، ومؤسسات تشريعية على الأراضي السورية كافة، وهي مهمة الدولة بحكم وظيفتها التشريعية، وليست مهمة حزب أو ميليشيا عسكرية، كما أن القانون يجب أن يشمل الأراضي السورية كافة، وليس كانتوناً بحد ذاته. إضافة لثغرات قانونية تتعلق بالتنظير دون أي فاعلية على الأرض، كما أن الأحزاب يجب ألا تقوم على أساس ديني أو مذهبي أو مناطقي أو قبلي، أو على أساس التمييز بالعرق أو الجنس أو اللون أو الدين، وهذا غير متوفر عند مُصدري هذا القانون. إلى ذلك يجب ألا ينطوي نشاط الحزب على إقامة ميليشيات أو تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية، بل أن يبتعد عن استخدام العنف بكل أشكاله، وهذا ما لا ينطبق على "حزب الاتحاد الديمقراطي". إضافة إلى مسألة إعلان أهداف الحزب ومصدر تمويله، وهي مسألة غابت عن القانون، لأن واضعيه ينتمون إلى حزب لديه أجندات ومصادر تمويل غير معلومة، مما يجعلنا أمام تجربة مستنسخة عن إصدار نظام البعث لقانون الأحزاب، وتشكيل الجبهة الوطنية من الأحزاب التي يرضى عنها (14).
يبدو أن "قسد" استغلت هذا القانون ليكون وسيلة للضغط على الأحزاب، حتى المرخصة منها، فهي تعمل على التضيق عليها، وتكثر التعديات على الأحزاب السياسية في المنطقة من قبل الإدارة الذاتية وأذرعها العسكرية، وكمثال على ذلك: فقد أصدرت الإدارة قراراً يقضي بوقف نشاطات "الحزب الجمهوري الكردستاني" العامل ضمن مناطقها، وإغلاق المكاتب التابعة للحزب كافة، بذريعة ارتكابه مخالفات (15).
قبل التعديل الأخير للعقد الاجتماعي لم تكن هناك مؤسسة تمثل المحكمة الدستورية عند "الإدارة الذاتية"، للإشراف على مراقبة تنفيذ بنود العقد الاجتماعي وحمايته، وكان الأمر متروكاً للمؤسسات القضائية الموجودة في كل منطقة، علماً أن القضاء في مناطق الإدارة يمتلك نسبة فاعلية متدنية، إذ تحولت مؤسسات القضاء إلى دوائر تسيير معاملات أكثر منها دوائر عدلية دستورية، لما تعانيه المؤسسة القضائية من مشكلات في البنية والتمثيل، إضافة إلى سيطرة كوادر حزب العمال عليها. كما أن العقد الاجتماعي بات أقرب إلى النظرية دون تطبيق فعلي على الأرض، بسبب المركزية التي يفرضها "حزب الاتحاد الديمقراطي" على مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في مناطق سيطرة الإدارة (16).
تحاول "قسد" عبر إعلانها العقد الاجتماعي وتعديلاته، وقانون الأحزاب السياسية، كسب غطاء قانوني لسلطة الأمر الواقع التي تفرضها بالقوة على سكان منطقة شمال وشرق سورية، ولكن هذه النصوص تعاني من مشاكل شرعية وبنيوية وتطبيقية تفقدها قيمتها، في ظل هيمنة فكرية وسياسية وأمنية واضحة من قبل كوادر "حزب الاتحاد الديمقراطي"، تتجلى في مركزيتهم في عمليات إقرار القانون وتنفيذه وتفسيره، في ظل استمرار غياب أي قنوات قضائية أو رقابية مستقلة.

الحياة السياسية في مناطق "الإدارة الذاتية": استنساخ سلوك البعث

تنشط في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية تحالفات حزبية، كل تحالف مكون من عدد من الأحزاب يغلب عليها الطابع القومي الكردي، وهي أربع تحالفات رئيسة: أحزاب الوحدة الوطنية، حركة المجتمع المدني تف دم، المجلس الوطني الكردي، التحالف الوطني الكردي.

الخارطة الحزبية في مناطق الإدارة الذاتية

أولاً: أحزاب "الوحدة الوطنية" المنخرطة في مشروع "الإدارة الذاتية الديمقراطية"

أعلن يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014 عن تأسيس "الإدارة الذاتية"، المشكلة من تحالف بين حركة المجتمع الديمقراطي وأحزاب سياسية وعشائر وتجمعات مدنية، وتم الإعلان يوم 18 آيار/مايو 2020 عن تحالف أحزاب "الوحدة الوطنية الكردية"، على رأسها "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وتضم أكثر من 25 حزباً، موضحة في الجدول أدناه (17).

 

 

يعد تحالف أحزاب "الوحدة الوطنية" الممثل الرسمي للتحالف السياسي الذي يضم جميع مؤيدي مشروع "الإدارة الذاتية"، ويقوده "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في تجربة قريبة إلى حد كبير من تجربة "الجبهة الوطنية التقدمية" التي يقودها "حزب البعث العربي الاشتراكي" عند النظام السوري، مع أدوار هامشية للأحزاب الأخرى، ومركزية قرار واضحة لحزب الاتحاد وقيادات حزب العمال، إذ تحصل هذه الأحزاب وفق مقاربات محلية على بعض المناصب في المؤسسات الخدمية، ولكن دون فعل حقيقي، وقد تحصل كذلك على بعض الدعم المالي، سواء للحزب أو لشخصيات بعينها بقصد "شراء الولاء" (18).

ثانياً: حركة المجتمع الديمقراطي "تف دم"

تأسست الحركة يوم 3 نيسان/أبريل عام 2011، وكانت تتألف من أربع كيانات رئيسة هي: مجلس شعب غربي كردستان، حزب الاتحاد الديمقراطي، اتحاد ستار، منظمة عوائل الشهداء. وكانت تمثل الواجهة السياسية لنشاط "الإدارة الذاتية" حتى تشكيل "مجلس سوريا الديمقراطي"، ثم توسعت لتضم 9 كيانات موضحة في الجدول أدناه (19).

تعد "حركة المجتمع الديمقراطي" أول واجهة سياسية لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي" بعد تأسيس "الإدارة الذاتية"، وكانت كردية بالكامل، ولكن مع دخول مزيد من التحالفات والأحزاب السياسية تحت مظلة الإدارة أعلنت الحركة عام 2020 أنها تحولت إلى حركة مدنية تبتعد عن العمل السياسي، ويعد ذلك مؤشراً وازناً على محاولة "حزب الاتحاد الديمقراطي" التفاعل والسيطرة على المجال المدني.

ثالثاً: المجلس الوطني الكردي

تأسس يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2011 ويضم أحزاب كردية سورية عدة، كان معظمها نشطاً قبل الثورة السورية، وللمجلس ممثلون في الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية، وينخرط في تحالف سياسي إلى جانب تيار الغد والمنظمة الآثورية الديمقراطية تحت مسمى "جبهة الحرية والسلام"، ولكن تبدلت أسماء كثيرة من الأحزاب المشاركة فيه وتعرض لانشقاقات، ويوضح الجدول أدناه مكونات المجلس الوطني الكردي (20).

يمتلك المجلس الوطني الكردي شرعية دولية، باعتباره مشاركاً في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، فيما تحاول "الإدارة الذاتية" تحصيل الشرعية من فرض سيطرتها على الأرض، وسط استمرار فشل الحوار بين المجلس الوطني والإدارة. مما يجعل الحياة السياسية في منطقة سيطرة الإدارة لوناً واحداً يرفض أي محاولة معارضة، ورغم أن معظم أحزاب المجلس لديها مكاتب في مدن محافظة الحسكة، لكنها تتعرض لمضايقات متكررة من أجهزة "قسد" الأمنية، ويعلن المجلس الوطني الكردي صراحة عدم اعترافه بسلطة "الإدارة الذاتية" وتشريعاتها، وأصدر بيانات عدة تعارضها، كما أنه انخرط في حوار معها برعاية أميركية في إقليم كردستان العراق، ولكنه وصل إلى طريق مسدود.

رابعاً: التحالف الوطني الكردي

تأسس عام 2016 من مجموعة أحزاب تركت المجلس الوطني الكردي، ويضم خمسة أحزاب رئيسة، موضحة في الشكل أدناه (21).

يحاول التحالف من خلال بياناته الرسمية أخذ موقف مختلف قليلاً عن "الإدارة الذاتية" و"المجلس الوطني الكردي"، ولكن لا يمكن قياس وزنه وتأثيره السياسي نتيجة عدم توفر البيانات الكافية، إذ يعلن صراحة رفضه لما حصل في رأس العين وعفرين، ويصف الوجود التركي بـ"الاحتلال"، وفي الوقت نفسه يوجه انتقادات "للإدارة الذاتية" بخصوص بعض الأمور الخدمية، ولكنه لا يناصبها العداء كما يفعل المجلس الوطني الكردي (22).

خامساً: أحزاب أخرى

1. المنظمة الآثورية الديمقراطية: نشطت قبل الثورة كتيار معارض للنظام السوري بين أبناء المكون السرياني والآشوري في سورية، وتشارك المنظمة حالياً في الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية، كما تعد أحد مكونات جبهة الحرية والسلام، ولديها مواقف تنتقد سياسات "الإدارة الذاتية" (23).
2. حزب الاتحاد السرياني: حزب سوري تأسس عام 2005، ينشط بين أبناء المكون السرياني في سورية، وهو مقرب من "حزب الاتحاد الديمقراطي"، أعلن بداية الثورة معارضته لنظام الأسد، يتزعمه بسام سعيد إسحاق، ويعد الحليف الأساسي لـ "لاتحاد الديمقراطي"، ومنخرط في "الإدارة الذاتية"، وله ممثلون في أجسام عدة، كعضوية الهيئة الرئاسية في "مسد" ويشغلها ايشوع كورية، وللحزب جناح عسكري ضمن "قسد" يسمى "السوتورو"(24).
3. الحزب الديمقراطي التقدمي: يعتبر نفسه أقدم حزب كردي في سورية، وكان يحظى بشعبية جيدة في الشارع الكردي، لكنه شهد انقسامات وخلافات بعد وفاة حميد حاج درويش الأمين العام للحزب (25).
4. حزب سوريا المستقبل: تأسس في مدينة الرقة عام 2018، يعتبر جزء من المنظومة السياسية التي تدعم مشروع "الإدارة الذاتية" وقوات قسد، ويتبنى رؤية سياسية تدعو إلى أن تكون سورية دولة "ديمقراطية تعددية لا مركزية"(26).
شهدت السنوات الماضية ولادة عدد من الأحزاب العربية، أبرزها: "حزب المحافظين" المدعوم من قبيلة شمر وقوات الصناديد، وهناك أحزاب وتجمعات سياسية في المنطقة محسوبة على النظام السوري أو روسيا، يتبين موقفها عبر البيانات التي تصدرها في كل مناسبة، ولكن تبقى فاعليتها أقل بكثير من "الإدارة الذاتية"، التي تمتلك علاقات دولية وإقليمية، وخاصة بعد معارك "قسد" مع داعش.
من خلال دراسة وضع الأحزاب والتحالفات السياسية في مناطق سيطرة قسد يبدو أن الحركات الحزبية بين خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالانضمام إلى "الإدارة الذاتية"، والرضى بقيادة وهيمنة "حزب الاتحاد الديمقراطي" في استنساخ لتجربة حزب البعث في سورية من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية"، مع تحصيل بعض المكاسب المتمثلة بمقاعد هامشية في مؤسسات الإدارة وبعض الدعم المادي، أو التصنيف كمعارضة والتعرض للتضييق، وعدم إمكانية العمل بحرية، والتعرض للانتهاكات بشكل مستمر.

الحريات السياسية: ما بين النص والتطبيق

رغم وجود قانون للأحزاب وعقد اجتماعي تؤكد مواده على "الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان"، إلا أن الأحزاب السياسية لاقت صعوبات في عملها السياسي، ووصل الأمر إلى تحذير سلطة الرئاسة المشتركة لهيئة الداخلية في مقاطعة الجزيرة بداية شهر آذار/مارس 2017 الأحزاب غير المرخصة لمراجعة لجنة "شؤون الأحزاب السياسية" الإشكالية، مهددة بإغلاق المكاتب والإحالة إلى القضاء أصولاً(27)، إذ يتجلى هدف الإدارة من هكذا سياسات في أمرين: الأول سياسة الحظر والتضييق والضغط على الأحزاب المناوئة، أما الثاني فيتمثّل في تحصيل الاعتراف بشرعية سلطتها من هذه الأحزاب، وبالتالي الدخول في ديناميات الحياة السياسية وفق قواعد سلطة الأمر الواقع(28).
تقول "قسد" إنها تضمن حرية التعبير، ولديها قوانين تنظم الحياة السياسية والإعلام، لكن تُتهم الإدارة القائمة بالتسلط والتضييق على الحريات السياسية، فقد شهدت المنطقة عشرات الاعتداءات على مقرات الأحزاب المعارضة لسياسة الإدارة الذاتية ومنتسبي هذه الأحزاب، نذكر منها:
1. الاعتداء على مقر تابع لـ "المجلس الوطني الكردي" في بلدة عامودا ليومين على التوالي، في منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر لعام 2020(29).
2. هجوم مجهولين على مكتب "حزب الوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي)"، أحد مكونات المجلس الوطني الكردي، في مدينة عين العرب/كوباني شمال شرقي محافظة حلب، منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر لعام 2020، في اعتداء هو الرابع من نوعه على مكاتب تابعة للأحزاب الكردية شمال شرقي سورية، إضافة إلى اعتداء مماثل شهده مقر الحزب في مدينة الحسكة، ويُتهم عناصر يتبعون لما يسمى "الشبيبة الثورية" التابعة لحزب العمال بتنفيذ هذه الهجمات، فيما تتنصل "قسد" من المسؤولية(30).
3. وثقت مؤسسات حقوقية وصحفية عشرات الاعتقالات والاعتداءات على صحفيين ومؤسسات إعلامية، إضافة إلى قيام "قسد" بقمع التظاهرات الرافضة لسياسية الإدارة، واعتقال المشاركين، وإطلاق النار على المظاهرات في بعض الأحيان كما حصل في مدينة الشدادي في شهر آيار/مايو 2021(31)..
4. شهدت مدن أخرى مظاهرات ضد "الإدارة الذاتية"، منها المظاهرة الطلابية التي نظمتها مجموعة طلاب بمدينة الدرباسية، في 20 كانون الثاني/يناير عام 2021، أمام مركز الأسايش وحزب الاتحاد الديمقراطي تنديداً باعتقال عددٍ من المدرّسين الكُرد، وقوبلت بالضرب والإهانة من قبل عناصر الأسايش، واعتقال عدد من الطلاب (32).
وقد وثقت منظمات حقوقية سورية ودولية انتهاكات الإدارة للحريات وحقوق الإنسان في تقارير عدة، فقد ورد في تقارير اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق في سورية توثيق دوري لانتهاكات قسد بحق المدنيين والحريات السياسية (33)، ومنها ما ورد من توثيق في التقارير الدورية التي تصدرها الشبكة السورية لحقوق الإنسان (34)، وتقارير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي أصدر عدداً من التقارير التي يوثق فيها انتهاكات قسد بحق المدنيين والناشطين (35).
ترسم "الإدارة الذاتية" إطاراً عاماً يوحي بالتعددية وهوامش الحركة والعمل السياسي (36)، إلا أنه هامش ضيق، ولا يضمن تحقيق مؤشر الفاعلية للقوى السياسية المعارضة في هذا المجال، ولا سيما المجلس الوطني الكردي، وتوحي حالة الديكورية والتحكّم في مفاصل الحياة السياسية من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي على أنه يستنسخ تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في حكم الدولة والمجتمع من جهة، وفي تعامله مع باقي القوى السياسية من جهة أخرى.
يضاف إلى ذلك التضييق على النشاط السياسي والإعلامي للجهات السياسية المعارضة تضييقاً ممنهجاً، تثبته تعاملات قسد مع المظاهرات والاعتصامات المعارضة لسياستها، إضافة إلى المنظمات الأخرى غير المنضوية في إطارها العام، مما يدل على أنها تحكم المنطقة بفكر شمولي (37).
يضمن "حزب الاتحاد الديمقراطي" عبر "الإدارة الذاتية" تحكمه بديناميات الحياة كافة، وبالفعل السياسي، سواء عبر المستندات الناظمة للحياة السياسية، أو عبر آليات تنفيذ هذه القوانين، والتضييق على كل الأصوات المناوئة، في سلوك مشابه لما فعله حزب البعث لبسط سيطرته على الحياة السياسية في سورية.

محددات الأداء السياسي لـ “لإدارة الذاتية": ثنائية (المركزية والبراغماتية)

بعد استعراض القوانين الناظمة التي أسست لتحكم وسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي في الحياة السياسية داخل مناطق سيطرته، نحاول فهم المخرجات السياسية والمواقف التي تصدر عن "الإدارة الذاتية"، من خلال فهم كيفية صنع القرار، والعوامل المؤثرة في صنع القرار السياسي.

آلية صنع القرار السياسي: غياب التشاركية

يمكن القول نظرياً إن آلية صنع القرار في "مجلس سوريا الديمقراطية" وبقية مؤسسات الإدارة الذاتية، تتبع للمكاتب السياسية والرئاسات المشتركة، ويطلع عليها المجلس العام المكون من ممثلي المناطق والأحزاب والشخصيات، وذلك بالاستناد إلى مبدأ التشاركية والتوافق، ولكن تدل المعلومات على استفراد قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي بالقرار حتى دون علم بقية الأطراف، في كثير من الأحيان، فمثلاً: تم الإعلان عن وثيقة تفاهم بين "مسد" وهيئة التنسيق، ولكن نشرت أحزاب عدة توضيحاً ذكرت فيه أن التفاهم الذي جرى مع هيئة التنسيق كان بقرار فردي من "حزب الاتحاد الديمقراطي"، دون استشارتهم أو مشاركتهم(38).
الأمر الذي يشير إلى أن القرار يُتخذ أساساً ضمن دائرة ضيقة، وبإشراف مباشر من قيادات الحزب، وهذا التصرف يبعث على الاحتجاج أو التحفظ عند بعض الأطراف المنضوية تحت إطار مسد (39)، ويبرر هذا التفرّد من وجهة نظر الإدارة وفق مقاربات محلية نتيجة تمتع "حزب الاتحاد الديمقراطي" بصلاحيات واسعة داخل "مسد"، فهو من يتخذ القرارات المصيرية ويرسم سياسات المجلس، مع أدوار أخرى لبعض الشخصيات في المجلس.
وهذا يحيلنا إلى البحث عن آلية صنع القرار داخل بنية "حزب الاتحاد الديمقراطي"، إذ يتحكم "حزب العمال الكردستاني" بالقرار بشكل واضح، ورغم ذلك يمكن ملاحظة وجود تيارين؛ الأول: التيار التقليدي اليساري الاشتراكي، الذي يرى أولوية تمتين العلاقة مع النظام وإيران وروسيا على أنها الأكثر واقعية لإمكانية تحصيل مكاسب سياسية مرضية من هذه الأطراف، رغم وجود بعض الفروقات والاختلافات حول ذلك، ويمثل هذا التيار بشكل واضح: محمود رش، فوزة يوسف، آلدار خليل، بدران جيا كرد. والثاني: التيار الغربي، ويرى أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي هم الحليف الأقوى الممكن الاعتماد عليه، وتحصيل دور سياسي مهم في المنطقة عبرهم، ويمثل هذا التيار: إلهام أحمد، مظلوم عبدي (40)..
شهدت المرحلة التي سبقت عملية "نبع السلام" عام 2019 صراعاً بين التيارين، إذ حاول كل طرف جر الثقل السياسي لصالحه، لتميل الكفة لصالح التيار الأول بعد العملية، نتيجة تخلي الإدارة الأميركية عن حماية قسد، وموافقتها على إنشاء تركيا منطقة عازلة داخل مناطق سيطرة قسد، فأصبح التيار الأول صاحب الصوت الأعلى، وراجع كل من مظلوم عبدي وإلهام أحمد مواقفهما وأصبحا يبديان مرونة أكثر تجاه رأي التيار الأول (41). رغم ذلك تعرضت الإدارة لانتقادات من قيادة حزب العمال بخصوص ملفات عدة، أبرزها الحوار الكردي-الكردي، ما يؤشر إلى براغماتية من نوع ما تتمتع بها قيادة مسد (42).
أما نفوذ حزب العمال الكردستاني داخل مؤسسات الإدارة فيمكن تلمّسه عبر النظر إلى بنية المؤسسات، ومن خلال التصريحات الرسمية، ففي بنية هذه المؤسسات يتبوأ مراكز صنع القرار في معظم المؤسسات إما كوادر كانت قد خضعت لدورات في قنديل، أو أنها تتبع لكوادر حزبية موجودة وتتدخل في كل تفصيل، وجميع المكاتب والهيئات تخضع للضغط والتحكم من قبل قيادات أمنية من كوادر حزب العمال، تشكل ما يشبه حكومة الظل في هذه المؤسسات (43).
ومن خلال التصريحات الرسمية، التي تحدث عنها قيادات الإدارة التي تقول إن العلاقة العضوية مع حزب العمال هي نتيجة تلاقي المصالح المشتركة، ولمشاركة كوادر الحزب في الدفاع عن المنطقة خلال هجمات تنظيم داعش، وكان مظلوم عبدي قد اعترف بوجود مئات المقاتلين والكوادر من حزب العمال ضمن تشكيلات الإدارة للتدريب والاستشارة (44)، فيما يتفق عدد من المتابعين والناشطين من أبناء المنطقة أن "حزب الاتحاد الديمقراطي" وهياكله العسكرية والمدنية يشكل الجناح السوري من حزب العمال الكردستاني، وكل تلك الهياكل والأطر التنظيمية والسياسية والمسلحة تعبيرات شكلية، بينما القرار الفعلي بيد قيادة حزب العمال في قنديل(45).

محددات القرار السياسي: عوامل داخلية وخارجية

رغم المركزية التي تبدو واضحة في سياسات "حزب الاتحاد الديمقراطي" المتحكم الفعلي بـ"مجلس سوريا الديمقراطي/ مسد" إلا أننا يمكن أن نتلّمس عوامل مؤثرة واضحة على الأداء السياسي، منها ما هو داخلي يتمثل في موقف مكونات "مسد" نفسها من أحزاب ومكونات اجتماعية، أو خارجي متعلق بتبدلات الموقف الدولي من القضة السورية.
فيما يتعلق بالعوامل الداخلية المؤثرة، يمكن حصرها بالعوامل التالية (46):
1. موقف "حزب العمال الكردستاني" وقياداته من مختلف القضايا، إذ يؤثر الحزب في قرارات "الإدارة الذاتية" ومواقفها السياسية من تركيا أو إقليم كردستان العراق، انطلاقاً من موقف الحزب نفسه.
2. مواقف مكونات "مسد" من بعض القضايا، كالتعاطي مع حكومة النظام مثلاً، والتي تقابلها بعض المكونات خاصة في دير الزور والرقة بالرفض لسيطرة النظام والميلشيات الداعمة له خصوصاً الإيرانية.
3. الأخذ بعين الاعتبار التوازنات العشائرية، إذ يتم مراعاة مصالح بعض وجهاء وشيوخ العشائر.
أما بالنسبة للعوامل الخارجية المؤثرة على صنع القرار داخل الإدارة، فتتشكل في ثلاثة مستويات:
1. التغيرات الإقليمية والدولية تجاه النظام السوري وحلفائه.
2. موقف الشركاء الدوليين الداعمين لـ “قسد" ومؤسسات الإدارة الذاتية.
3. التهديدات التركية والمتغيرات في السياسة التركية فيما يتعلق بالشأن السوري.
يتأثر "حزب الاتحاد الديمقراطي" ببعض العوامل الداخلية والخارجية مع الحفاظ على مركزية القرار، ومدى تناسبه مع أفكار وأيدولوجيات الحزب، دون أن يعير بالاً لتخوفات أو آراء المكونات الشعبية في مناطق سيطرة "قسد"، وما حصل في دير الزور من انتفاضة مطلبية دليل مهم على تجاهل هذه المطالب، واتهام المنتفضين بالتبعية لأجندات للنظام(47). وشهدت مدينة القامشلي ومدن عدة في الجزيرة السورية احتجاجات استمرت أكثر من أسبوعين، رفضاً لقرار رفع أسعار المحروقات، ورغم ذلك لم تستجب "قسد" و"الإدارة الذاتية"، واكتفت ببيانات حول تفهمها للمطالب دون تراجع عن القرار، مما اضطر القائمين على الاحتجاجات لإعلان وقفها (48).
يبدو أن أبرز عوامل التأثير على القرار السياسي الخارجي هي مصالح وتوجيهات القوى المشغّلة مثل الولايات المتحدة، أو من يقدمون الدعم أو الرعاية مثل نظام الأسد وإيران، وبذلك يمكن القول: إن "الإدارة الذاتية" تتمتع بالقدرة على التوفيق بين المتناقضات إلى الآن (49).
يمكن الاستنتاج من خلال هذه المؤشرات أن آلية صنع القرار والموقف السياسي داخل الإدارة تخضع لتوازنات، تفرضها أجندات وإملاءات من قيادة "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الخاضعة بدورها لحسابات "حزب العمال الكردستاني"، مع الإقرار بوجود بعض المؤثرات الداخلية والعوامل الخارجية على هذه القرارات، وعدم قدرة الإدارة على احتواء تلك المؤثرات يدل على فشلها في أن تكون مظلة سياسية ممثلة لجميع مكونات وأحزاب المنطقة.

محددات الأداء السياسي لـ "لإدارة الذاتية" منذ 2019: مؤشرات التحكّم والتفرّد

من خلال رصد أهم البيانات والتصريحات السياسية، والاجتماعات مع الأطراف المحلية والدولية التي حصلت عقب إعلان وقف إطلاق النار نهاية 2019 حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2023، تم رصد أكثر من 120 مخرجاً، توزعت بين: بيان رسمي، وتصريح صحفي، واجتماعات محلية أو دولية.
ويمكن تحليل هذه المخرجات وفق ثلاثة معايير: العدد والمضمون والمستهدفين. من حيث نوع المخرجات: يظهر من خلال توزع القيم في الشكل أن الإدارة بمختلف مؤسساتها ومسؤوليتها اعتمدت بشكل كبير على التصريحات الإعلامية، ما يدل على تفاعلها وتواصلها المتزايد مع مختلف وسائل الإعلام، مستفيدة من الاهتمام الإعلامي بها خلال معاركها مع تنظيم "داعش"، فيما جاءت الاجتماعات الدولية (50) ثانياً، ما يدلل على قوة ونشاط مكتب العلاقات الخارجية لديهم، وكذلك الاجتماعات مع المكونات السورية.
ومن حيث المضمون: تدل النتائج على نهج سياسي واضح للإدارة، من خلال التصريحات والاجتماعات، فقد كثفت الإدارة من الحديث عن علاقتها مع الجانب الروسي بشكل ملحوظ في بيانتها وتصريحاتها، وذلك نتيجة دخول موسكو كفاعل جديد في الشرق السوري بعد عملية "نبع السلام"، لا سيما في رعايتها المفاوضات بين "قسد" والنظام، كما أظهرت النتائج تكثيفاً ملحوظاً في البيانات والتصريحات حول العلاقة مع نظام الأسد والمطالبة بالتوصل لشراكة في إدارة وحماية المنطقة، كما لم تخلُ من انتقادات لاستراتيجية النظام في التعامل مع القضية الكردية، وكذلك محاولة التطبيع مع تركيا، فيما صدرت بيانات وتصريحات عدة من "الإدارة الذاتية" تدين الهجمات التركية، وتطالب المجتمع الدولي بالتدخل لحماية مناطق سيطرتها من الهجمات التركية، ولوحظ من خلال البيانات ميلها إلى التقارب مع الدول العربية.
فيما يتعلق بمعيار المستهدفين: فإن الاجتماعات التي عقدتها الإدارة بلغت أكثر من 30 اجتماعاً داخل وخارج سورية، مع مكونات وأحزاب سورية، بهدف التوصل لصيغ تفاهم، سواء مع مكونات حزبية وعشائرية في منطقة الشرق السوري، أو أحزاب سياسية خارج سورية في دمشق أو خارج البلاد، ويعزى ذلك إلى تعثرها المستمر في الدخول إلى هيئة التفاوض السورية والمشاركة في اللجنة الدستورية، كما أنها عقدت لقاءات دولية متنوعة مع ممثلي خارجيات دول أوربية عدة، إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا.
ومن خلال تحليل نصوص البيانات الرسمية والتصريحات الصحفية، يمكننا استخلاص مواقف الإدارة السياسية خلال الفترة المذكورة من قضايا عدة، أهمها: الموقف من الفاعلين المحليين، الموقف من النظام والمفاوضات معه، الموقف من الحوار الكردي-الكردي، الموقف من العملية السياسية السورية، إضافة إلى الموقف من الفاعليين الدوليين، كالموقف من تركيا وروسيا والولايات المتحدة والدول العربية.

الموقف من القضايا والأطراف المحلية

يمكن قياس هذا الموقف من خلال الرؤية السياسية للإدارة، وموقفها من النظام والتفاوض معه، وموقفها من المعارضة، وموقفها من الحوار الكردي-الكردي.

الرؤية السياسية لـ "الإدارة الذاتية"

تكرر الإدارة ومؤسساتها أنها تتخذ من نظرية "الأمة الديمقراطية" لزعيم "حزب العمال الكردستاني" المسجون في تركيا عبد الله أوجلان مرجعاً لرؤاها السياسية كافة، والتي تستند إلى "اللامركزية ومبادئ المساواة والتعددية"، دون أن تدعي أنها تسعي لإقامة دولة قومية كردية في سورية (51). وبناء عليه تدّعي الإدارة أن رؤيتها السياسية المعلنة تعكس رؤية أبناء المنطقة نحو شكل سورية المستقبلية، ومنها ما أعلنته كمبادرة للحل في سورية في نيسان الماضي (52)، وهي رؤية ذات طابع يساري في بيئة متعددة الاتجاهات الثقافية والسياسية.
خلال عام 2023 ظهرت مناسبات عدة حاولت "قسد" استغلالها لإظهار بعض التغييرات في خطابها وعلاقاتها السياسية، انطلاقاً من كارثة الزلزال يوم 6 شباط/فبراير الذي ضرب تركيا والشمال السوري، حيث أبدت استعدادها لتقديم المساعدة، وبدأت بجمع تبرعات، وحاولت إظهار نفسها للسوريين على أنها طرف مرن ومبادر للتعاون مع مختلف الأطراف السورية، في محاولة لإحراج النظام والمعارضة(53)، وللسبب نفسه بادرت إلى إعلان استعدادها استقبال اللاجئين السوريين من لبنان(54)، كذلك حاولت استغلال التطبيع العربي مع نظام الأسد وإعادته للجامعة العربية، وأصدرت تصريحات وبيانات عدة، ويندرج ذلك التغيير في خطاب الإدارة كله ضمن تكتيك سياسي تحاول الإدارة تصديره مستغلة بعض المناسبات، دون أن يكون متأتياً عن مراجعات ناتجة عن تراكم وإرادة حقيقة في الإصلاح والتغيير.
وكانت "الإدارة الذاتية" قد أعلنت في 18 نيسان 2023 عن مبادرة تهدف إلى "التوصل إلى حل سلمي وديمقراطي للأزمة السورية"، داعية النظام السوري إلى "إظهار موقف مسؤول، واتخاذ إجراءات عاجلة تساهم في إنجاح هذه المبادرة". وفي بيان لها، أعربت "الإدارة الذاتية" عن استعدادها للقاء جميع الأطراف السورية "للحوار معها من أجل التشاور والتباحث لتقديم مبادرات وإيجاد حل للأزمة السورية"، ووفق بيان "الإدارة الذاتية"، نصت المبادرة على 9 نقاط، هي: " وحدة الأراضي السورية، مشاركة جميع فئات المجتمع، والاعتراف بالحقوق المشروعة لسائر المكونات، تطبيق تجربة النظام الديمقراطي المعمول به في مناطق شمال شرقي سوريا في بقية المناطق، توزيع الثروات والموارد الاقتصادية بشكل عادل بين كل المناطق السورية، استقبال النازحين والمهجرين في مناطق شمال شرقي سورية، استمرار جهود مكافحة الإرهاب، وقف التدخل التركي في الشؤون السورية، مطالبة الدول العربية بلعب دور إيجابي وفعال لإيجاد حل مشترك، طرح المبادرة على قاعدة وطنية، دعوة الجميع للمشاركة والإسهام في المبادرة"(55) .
تتحدث قسد بشكل متواصل في بياناتها عن حرصها على مراعاة حقوق جميع المكونات ومحاولة التقارب معها، خاصة العشائر العربية، إذ عقدت اجتماعات عدة مع وجهاء وشيوخ عشائر مؤكدة على شراكاتها السياسية معهم، ولكن انتفاضة العشائر في دير الزور في شهر أيلول عام 2023 أظهرت الفرق الكبير بين النظرية والتطبيق على الأرض، فقد رفضت "قسد" المطالبات العشائرية بتحسين ظروف المنطقة الأمنية والاقتصادية، وإعادة هيكلة مجلسي دير الزور المدني والعسكري ليكونا ممثلين لمصالح أبناء عشائر المنطقة، وليس تبعاً لمقياس الولاء لـ"قسد"، ناهيك عن التعامل مع الحراك العشائري باستخدام القوة والاعتقالات.
تدل المؤشرات على محاولة فرض رؤية "حزب الاتحاد الديمقراطي" على "الإدارة الذاتية"، مما يجعل هذه الرؤية محل اغتراب من قبل بعض مكونات الإدارة والحواضن الاجتماعية في المنطقة التي تسيطر عليها.

الحوار الكردي-الكردي

كانت وما تزال قضية التمثيل السياسي للكرد السوريين محل تنافس وخلاف مستمر في الوسط الكردي نفسه، تمظهر هذا التنافس ما بين "حركة المجتمع الديمقراطي/ تف دم" التي يتزعمها الاتحاد الديمقراطي، وبين أحزاب المجلس الوطني الكردي، وعلى الرغم من بدء هذه الحوارات في "هولير/أربيل 1 و2" 2012 و 2013، إلا أنها تعثرت كما لم تطبق مخرجات اجتماعاتها، ثم جاءت دعوة قيادة "قوات سوريا الديمقراطية" في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 للحوار بين الأطراف الكردية، والتي ترافقت مع دفعٍ أمريكي واضحٍ، مما يؤكد أن الرغبة في الحوار دافعها خارجي يهدف للوصول إلى صيغة توافق معقّدة؛ تتمكن عبرها من "التمكين المحلي"، و"التفاعل أكثر" مع المعارضة السورية و"تهدئة" الجانب التركي(56).
سبقت الجلسات إجراءات تعزيز ثقة، تمثلت في السماح بإعادة افتتاح مكاتب أحزاب المجلس الوطني الكردي في مناطق سيطرة الإدارة، وانطلقت أولى جلسات الحوار بين "أحزاب الوحدة الوطنية" المكونة للإدارة الذاتية و"المجلس الوطني الكردي"، في شهر نيسان/أبريل 2020 برعاية أميركية، تلتها جولتان، واستمرت المفاوضات حتى نهاية 2020، إذ تم الاتفاق على الرؤية السياسية المتمثلة بـ "سورية دولة ذات سيادة، يكون نظام حكمها اتحادياً فيدرالياً يضمن حقوق جميع المكونات"، واعتبار "الكُرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية"، والاتفاق على تأسيس (المرجعية الكردية العليا) بنسبة 40% لكل طرف و20% لبقية الأحزاب والمستقلين. لكن الجولة الثالثة أظهرت نقاط الاختلاف بين الطرفين في نقاش ملفات: عودة بيشمركة روج(57)، المشاركة في الإدارة الذاتية، فك الارتباط بحزب العمال الكردستاني، المناهج التعليمية (58).
ويبدو أن سبب تعثر المحادثات يعود إلى رفض الشراكة الكاملة إدارياً ومالياً وعسكرياً، ورفض فك الارتباط مع حزب العمال وإخراج كوادره الأجنبية من المنطقة، كما أن الإدارة اشترطت لعودة قوات بيشمركة روج أن تكون تحت قيادتها وضمن مؤسستها العسكرية بمعزل عن المجلس الوطني الكردي، إضافة لمطالبة أحزاب المجلس بإصدار موقف واضح من الصدام العسكري بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال في إقليم كردستان العراق، وطلب الانسحاب من الائتلاف(59).
يمكن تصنيف أسباب فشل جلسات الحوار الكردي-الكردي ضمن سببين رئيسين:
1. ذاتي: نتيجة إصرار قيادة "قسد" على أنها المظلة الشرعية التي يجب على مختلف القوى الكردية الانضمام لها، إضافة إلى رفض مناقشة تعديل "الإدارة الذاتية"، أو شكل القوات الأمنية، في سلوك يشبه ما حاول نظام حزب البعث فرضه على القوى السياسية السورية بالانضمام إلى "الجبهة الوطنية التقدمية". كما أن مشكلات الصراع على السلطة وعلاقة الأحزاب الكردية بالحاضنة الشعبية، وأطماع بعض قيادات الأحزاب بالحصول على مكاسب اقتصادية من "قسد"؛ كانت سبباً في امتلاكها زمام المبادرة وقوة الموقف خلال جلسات الحوار.
2. خارجي: كارتباط كل من "قسد" والمجلس الوطني الكردي بحليف خارجي، الأمر الذي وسّع مساحة الاختلاف من كونه اختلافاً كردياً-كردياً إلى خلاف الحلفاء أنفسهم، مما أدى إلى إخفاق المحادثات، فقد رفضت "قسد" طلب التبرؤ من حزب "العمال الكردستاني"، وفي ظل انعدام الرغبة لإنجاح الحوار من قبل "قسد"، جاءت جلسات الحوار الأخيرة فقط استجابة للضغوط الأميركية دون تقديم أي تنازلات.

الموقف من النظام والتفاوض معه

أعلن نظام الأسد مطلع شهر شباط/فبراير من عام 2020 موافقته على بدء مفاوضات جدية مع "مسد" بعد جهود ووساطات روسية. ومن خلال تحليل الخطابات طالبت "مسد" بإعادة النظر في قانون الإدارة المحلية للمشاركة في إدارة المنطقة، على أن تكون "قسد" جزءاً من منظومة جيش النظام، معلنة رفضها لمساري "سوتشي" و"أستانا"(60).
إلا أن هذه المفاوضات لم تستمر طويلاً، فقد أعلنت رئيسة مجلس "مسد" إلهام أحمد، في 19 كانون الأول/ديسمبر عام 2021، عن فشل المفاوضات التي ترعاها روسيا مع نظام الأسد، وقالت: "لم يتم التوصل إلى أي نتيجة في الحوارات السابقة مع النظام السوري في دمشق" وأضافت: "روسيا فشلت ولم تستطع لعب دور "الضامن" في الحوار مع النظام السوري"(61).
تشهد المفاوضات بين "مسد" والنظام حالات تقارب وتباعد، حسب الظروف والتطورات الإقليمية والمحلية، وبالأخص تلك المرتبطة بالتهديدات التركية، فمع كل مرة تهدد فيها تركيا بشن عملية جديدة شرق سورية؛ تشهد هذه المفاوضات تقارباً ولقاءات، حيث انطلقت جولة مفاوضات جديدة بين الطرفين في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بين "قسد" والنظام السوري برعاية روسية، وكان وفد "مسد" برئاسة بدران جيا كرد نائب الرئاسة المشتركة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، لكن النظام رفض مجدداً الاعتراف بـ"الإدارة الذاتية" و"قسد" دستورياً بأي شكل من الأشكال، لأن الاعتراف سيؤدي إلى تقويض سلطته المركزية في البلاد، فأعلنت "الإدارة الذاتية" فشل هذه المفاوضات. وكان النظام قد دعا إلى تسليم المنطقة له من دون أي شروط، ورفض بشكل قطعي القبول بمقترحات وفد "مسد" التي تعلقت بشرعنة "الإدارة الذاتية" وقوات "قسد" والآسايش(62).
تعمل "مسد" جاهدة للتقارب مع النظام، وتبدي رغبتها في ذلك، إلا أن مطالب الطرفين متباعدة، وقد أعلنت قيادة "مسد" في أكثر من تصريح لها رغبتها بالحوار والتفاهمات بشأن المنطقة، وانخراط "قسد" في جيش النظام، وتهدف من ذلك لشرعنة وجودها (63). ويبدو أن المحدد الأساسي في رغبة "الإدارة الذاتية" في التفاهم مع النظام تأتي كمحاولة لتجنّب الضغوط التركية، وكرد فعل على رفض إدخالها في المفاوضات السياسية الأممية ضمن وفد المعارضة، لكن رغم ذلك لم تتمكن "قسد" من تحقيق إنجاز واضح نتيجة إصرار النظام على "شروط تعجيزية".

الموقف من المعارضة السورية

بعد عدم تمكنها من الانضمام إلى مؤسسات المعارضة الرسمية، مثل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، اتجهت "الإدارة الذاتية" إلى البحث عن إطار جديد للعمل مع المعارضة السورية، وعملت على ذلك بجدية، وعقدت اجتماعات ولقاءات عدة داخل سورية، وفي فيينا وستوكهولم خلال عامي 2021 و2022، لكنها لم تجنِ ثماراً مهمة منها، لأن معظم من شارك في الاجتماعات من أطراف سياسية سورية؛ كان يخرج بنتيجة أن "مسد" تحاول فرض نفسها كطرف مهيمن لا كشريك، وترفض التنازل عن أي مكسب أو منصب سيادي (64). ويبدو أن الإدارة لم تنجح دبلوماسياً في تحقيق مكاسب سياسية بسبب أداء فريق عملها الذي تعثّر على مدار هذه السنوات، وما يزال يصر على قيادتها دون أي تغييرات جذرية قد تأتي بشخصيات تحظى بقبول إقليمي ودولي، ويمكن التفاوض معها (65).
إذاً تنطلق محددات الإدارة الذاتية في تقاربها مع النظام من ضرورة تحصيل مكاسب تشرعن سلطة الأمر الواقع، وللبحث عن خيارات أخرى لمواجهة التهديدات التركية، كما أنها تنفتح على بعض الأطراف المعارضة في محاولة لتأطير مساحات عمل مشتركة تخفف من خسائرها، جراء عدم وجودها في الأطر الرسمية للمعارضة السورية، أما فيما يتعلق بقضية الحوار مع المجلس الوطني الكردي فيبقى خارج اهتمامات الإدارة، ولا تستكمل جلسات هذا الحوار إلا بضغط غربي، وتكون جلساته غالباً صورية دون نتائج ملموسة، كما تبرز أمام الإدارة تحديات الشرعية المحلية والسياسية، وارتباطها بحزب العمال الذي يمنعها من فتح أي شراكة حقيقية.

الموقف من الفاعليين الدوليين

تبيّن الفقرات أدناه طبيعة مواقف الإدارة الذاتية تجاه مختلف الفاعلين الدوليين، سواء كحلفاء أو خصوم أو دول أخرى.

الموقف من تركيا

طرحت "مسد" مرات عدة، استعدادها لإيجاد صيغة تفاهم مع تركيا، دون أن تتطرق للمشكلة الجوهرية المتمثلة بعلاقتها مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما يجعل أنقرة ترفض الأمر بشكل قاطع، وتتعامل مع قيادات "قسد" و"الإدارة الذاتية" على أنهم جزء من حزب العمال المصنف على قوائم الإرهاب عندها، ولذلك عوّلت "مسد" على التغيرات الداخلية في السياسية التركية، وبدا ذلك في اهتمامها بالانتخابات التركية 2023، وأبدت دعمها لتحالف حزب الشعب وتحالف اليسار الأخضر، ونظمت مسيرات شعبية عدة لدعمهم في مناطق الشرق السوري، وتخوّفت من فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان(66).
وحول الضربات التركية لمواقع قوات "قسد" وقيادتها، كررت "مسد" إدانتها هذه الضربات، والطلب المتكرر من التحالف الدولي وروسيا وغيرها من الدول ذات النفوذ بالمنطقة العمل لوقفها، ومنع أي عملية عسكرية تركية في شمال سورية (67)، مع أخذ التهديدات التركية الدائمة على محمل الجد (68). وتؤكد المعطيات أن الإدارة لا تملك هوامش مناورة، بالتحديد بعد العملية العسكرية التركية "نبع السلام" 2019، فقد خسرت جزءاً من فاعليتها نتيجة الاتفاقيات التركية-الأمريكية والتركية-الروسية (69)، إذ استثمرت تركيا كل جهدها في سورية على تقليص قدرات "الإدارة الذاتية" العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهذا واضح من استمرار سياسة استهداف كوادر "قسد"، من دون أي اعتراض أمريكي أو روسي، وكذلك زيادة فرض القيود على النشاط السياسي لـ"الإدارة الذاتية" في دول الاتحاد الأوروبي(70).

الموقف من روسيا

تدير قسد علاقتها مع موسكو وفق محددات عدة: فمن جهة أولى تنظر إلى موسكو كوسيط للعلاقة مع النظام، وقوة معادلة يمكن الاستفادة منها في التخفيف من التهديدات التركية المتكررة، ومن جهة ثانية فوجود القوات الروسية في منطقة الجزيرة السورية يتطلب إبقاءها في مناطق سيطرة النظام (71)، إذ تعتقد قسد أن روسيا لم تقم بدورها المطلوب للضغط على النظام لإنجاح المحادثات، وأن كلاً من روسيا والنظام يحاولان استخدام التهديدات التركية لدفع قسد للتنازل.
وقد شهدت علاقات "قسد" بروسيا شدّاً وجذباً، نتيجة عدم التزام موسكو بنقاط المراقبة في بلدتي عين عيسى وتل تمر، وعدم ضغطها على تركيا لإيقاف هجماتها عبر الطائرات المسيّرة التي تكرّرت مراراً. إلا أن دائرة الاختلاف المركزية تتحدد أكثر في الضغط الروسي على "قسد" لتسليم نقاط الحدود مع تركيا إلى النظام بشكل كامل، وانسحاب "قسد" إلى جنوب الطريق الدولي"M4"، وهذا ما ترفضه "قسد" جملة وتفصيلاً(72)، رغم إدراكها أن الوجود الروسي يشكّل ضامناً لعدم دخول الأتراك إلى مناطق نفوذها.

العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة

تتركز اجتماعات الوفود الغربية التي جاءت إلى مناطق الإدارة شرق سورية على موضوع محاربة الإرهاب، ووضع مخيم الهول، وقد استفادت الإدارة بشكل كبير من وضع المخيم وخاصة الرعايا الأجانب، إذ استقبلت منذ عام 2020 عشرات الوفود من مختلف دول العالم لمناقشة مستقبل المخيم وقاطنيه، ومخاطر وجود مقاتلي التنظيم وعائلاتهم على استقرار المنطقة (73). كما ركّزت الإدارة عبر مكتب العلاقات الخارجية وما يقوم به من زيارات لدول أوروبا والولايات المتحدة أيضاً على موضوع محاربة الإرهاب واستخدامه كفزاعة لضمان استمرار الدعم الغربي لها ولمؤسساتها، وعلى الرغم من نهاية العمليات العسكرية المباشرة ضد داعش، إلا أن قسد تطالب باستمرار بضرورة بقاء قوات التحالف الدولي على الأرض في المنطقة (74).
وتركز قسد في حراكها الدبلوماسي مع الوفود القادمة إلى سورية وخلال لقاءاتها في الخارج على موضوعين آخرين؛ أولهما: أن على تلك الدول إعادة تقييم علاقتها مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أو هيئة التفاوض السورية من خلال شرعية تمثيل المكونات السياسية المعارضة(75)، ثانيهما: مطالبة "مسد" بشكل دائم بمزيد من الضغط الغربي لوضع حد للتهديدات التركية، وحماية مناطق الإدارة من أي عملية عسكرية تركية محتملة. لكن الحرب الأوكرانية أثرت بشكل واضح على تعامل الدول الغربية، فقد اضطرت لتقديم تنازلات لتركيا من أجل الموافقة على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو(76).
أما عن علاقة الإدارة مع الولايات المتحدة فتتسم بأنها علاقة استراتيجية، تهدف من خلالها واشنطن إلى ضمان عدم عودة تنظيم "داعش"، إضافة إلى حرمان النظام وروسيا من الاستفادة من ثروات الشرق السوري، إلى حين التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
وبالتالي يتجلى موقف الإدارة الذاتية من الفاعلين الدوليين في محددات عدة، أهمها: الإبقاء على علاقة متوازنة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، تحكمها الحاجة للطرفين لحماية مناطق سيطرتها، مع الإبقاء على نظرية الشراكة في محاربة الارهاب، وتسعى للانفتاح على دول إقليمية عدة لمحاولة أخذها أداوراً مستقبلية تعوضها عن عدم مشاركتها في مؤسسات المعارضة الرسمية، ولكنها تواجه تحديات أبزرها الرفض التركي لأخذها أي دور محلي، أو حتى فتح علاقات إقليمية أو دولية.

النتائج والاتجاهات المستقبلية: التماهي مع سيناريوهات الملف السوري

يمكن تفصيل وقياس مؤشر الفاعلية السياسية وفق مستويات عدة، هي:
1. مؤشر الشرعية: على الرغم من محاولة "الإدارة الذاتية" إنتاج نصوص تشريعية لتحكم مؤسساتها، وإظهار شرعيتها في المناطق التي تسيطر عليها، إلا أن هذه النصوص تفتقد الشرعية بسبب طريقة صياغتها وإقرارها، وتعاني من مشاكل بنيوية في النصوص، إضافة لرفضها من قبل المجتمع نتيجة اعتمادها على فلسفة بعيدة عن طبيعة المنطقة، وفوق كل هذا بقيت النصوص حبراً على ورق دون تطبيق، نتيجة المركزية التي يفرضها "حزب الاتحاد الديمقراطي" ومن خلفه حزب العمال على مختلف المؤسسات السياسية والخدمية والأمنية.
2. الأداء السياسي: كان لعملية "نبع السلام" تأثير كبير في تغليب التيار اليميني داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، ما عزّز استفراد شخصيات بعينها في صناعة القرار والموقف السياسي، مع استمرار تدخّل حزب العمال الكردستاني في مختلف الملفات السياسية والأمنية، ولكن بالوقت نفسه أفرزت "نبع السلام" حاجة قسد لتقديم بعض التنازلات لكسب أصدقاء جدد.
3. العلاقة مع القوى المحلية: لم تفلح جهود "مسد" في الدخول في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية بسبب الرفض التركي، فانتهجت سياسة الانفتاح على مختلف القوى السياسية السورية داخل وخارج البلاد، ولكن إصرار قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي على احتكار مركزية القرار، دون تقديم تنازلات جوهرية واضحة، وعدم فتح مجالات التشاركية الفعلية مع باقي القوى؛ أدى لإفشال معظم جلسات الحوار والتواصل، كما في إفشال جلسات الحوار مع المجلس الوطني الكردي.
4. العلاقات الدولية: يبدو أن سلوك "قسد" تغيّر نوعاً ما بعد "نبع السلام"، فقد استمرت في تعزيز علاقتها مع الغرب، وفي الوقت نفسه سعت أيضًا إلى التعاون والتحالف مع روسيا والنظام السوري مما دفعها لتقديم بعض التنازلات، ومع ذلك لم تنجح في تحقيق اختراق واضح، بسبب التطورات الدولية والمحلية، بما في ذلك تطور العلاقات الروسية التركية، وظروف الحرب في أوكرانيا التي دفعت الغرب إلى مراعاة المصالح التركية.
الاتجاهات المستقبلية لمشروع الإدارة الذاتية
يرتبط مستقبل الإدارة الذاتية بعوامل بنيوية، باتت تمتلك جزءها الأكبر من خلال سياسة التحكّم والضبط والمركزية التي تفرضها، إلا أن ذلك لا يعني أن البنية بشكلها العام لم تعد عرضة لانتكاسات تهدد المشروع وفق تسويق الإدارة له باعتباره مظلة سياسية، خاصة التحديات المرتبطة بملف تمثيل المكونات، وملف الحريات السياسية، وملف الحياة المدنية والسياسية.
كما يرتبط مستقبل هذه الإدارة أيضاً بمسيرة الحل السياسي السوري واتجاهاته المستقبلية، والتي تتراوح بين البقاء في حالة الجمود والتمترس الجغرافي، أو احتمالية عودة سيطرة النظام إلى مناطق شمال شرق سورية، أو إنجاز مقاربة جديدة للحل السياسي، كما هي موضحة أدناه:

أولاً: إعادة سيطرة النظام على مناطق شمال شرق سورية

تعتبر إعادة سيطرة المركز على الأطراف كافة احتمالاً له مؤشراته وعوائقه، من المؤشرات الداعمة له زيادة رقعة سيطرة النظام مع مرور الزمن والمتغيرات الدولية، وزيادة التعاون الإقليمي معه وازدياد عمليات التطبيع، أما عن معيقاته فتتمثل في الوجود الأميركي بالمنطقة وما يحدثه من معادلات أمنية، إضافة إلى عدم امتلاك النظام للأسباب المادية للقيام بعمل عسكري نتيجة ما يعانيه من أزمات اقتصادية وأمنية.
وفي هذا الاتجاه المحتمل، تعمل "الإدارة الذاتية" على خطوات تقارب ملحوظ خلال الفترة الماضية مع النظام وروسيا، محاولة تحصيل اعتراف من النظام والروس بسلطتها المحلية، وذلك عبر الحصول على حلول وسط من خلال الروس مثل منح حصة نفطية وإدارية، ودمج قوات قسد بالجيش، وهذا ما يمثل الحد الأدنى لمطالب "قسد" وأقصى ما يمكن أن يقدمه النظام. وعند نقاش مستقبل "الإدارة الذاتية" ومؤسساتها السياسية والعسكرية والخدمية، وعلاقاتها مع الغرب، يبدو أن هذا السيناريو بعيد المنال حالياً، نتيجة رفض النظام تقديم تنازلات جوهرية تفقده المركزية، إضافة إلى رفض تركيا منح الإدارة أي امتيازات تعزز سلطتها.

ثانياً: استمرار حالة الجمود

إن بقاء النظام في المركز ضعيفاً، وتعزيز قوة سلطات الأمر الواقع في مختلف مناطق السيطرة السورية، قد يؤدي إلى استمرار لامركزية الأمر الواقع. وفي هذا السياق قامت الإدارة بعدة خطوات تشكل مؤشرات داعمة لوجودها في حال استمرار هذا السيناريو كخطوات تعديل العقد الاجتماعي، وإعادة الهيكلة الجديدة، وطرح رؤى تنطلق من سلطة الأمر الواقع التي فرضتها. إلا أن أبرز معيقات هذه الخطوات تتمثل في تركيا وعدم قبولها بخطوات من جانب واحد كفرض لامركزية غير متناظرة، إضافة لرفض هذا الاحتمال من قبل روسيا والنظام.
وبالتالي يمكن للإدارة ومؤسساتها السعي للحفاظ على الوضع القائم دون تغييرات ميدانية أو سياسية، وتكريس سلطة الأمر الواقع في منطقة سيطرتها، مع إدخال بعض الشخصيات المقبولة محلياً ودولياً في قيادات الصف الأول، وهذا ما حصل فعلياً بتشكيلة "مسد" الجديدة، إضافة إلى تقديم تنازلات شكلية لصالح بعض المناطق مثل دير الزور، والحفاظ على علاقة متوازنة مع الروس والأمريكان، مع الحفاظ على الوضع الراهن حتى ظهور متغيرات جديدة، وهذا الخيار الأقرب للترجيح على المدى المنظور.

ثالثاً: تحريك الملف السياسي السوري

مع احتمال تحريك الملف السوري والضغط للوصول إلى حل سياسي سوري عام، ومع فشل تطبيق مخرجات القرار الدولي 2254، يمكن أن يتم طرح مقاربات جديدة منها خيار اللامركزية، وهو سيناريو تجهزت له قسد مسبقاً، من دعاماته: أن تستغل "مسد" الدعم الغربي لها في ملف محاربة الإرهاب، وحالة الجمود غير المستدامة، وخطر عودة انتشار الإرهاب والتطرف، إضافة إلى زيادة النفوذ الإيراني بعد حرب غزة، والتصعيد التركي ضد مناطق قسد، للدفع نحو تحريك الملف سياسياً.
لكن القدرة على اعتبار "قسد" شريكة في ذلك، يتطلب منها إبداء مرونة أكبر في التفاوض وقدرة أعلى على مواجهة خطر المليشيات الإيرانية، واتخاذ مواقف أقل عدائية مع تركيا وفصائل المعارضة السورية، مع إتاحة فرصة لإنجاح الحوار الكردي-الكردي، وإبداء مؤشرات حول القبول بإعادة هيكلة مؤسسات الإدارة، ومناقشة مستقبل قواتها العسكرية. لكن آليات صنع القرار في "مسد"، ومؤشرات أدائها السابقة، تجعل من هذا السيناريو مستبعداً، نتيجة رفض قادة "مسد" إعلان فك الارتباط بحزب العمال، وانخراط هؤلاء القادة بتنفيذ الأجندة السياسية التي يفرضها الحزب من قنديل، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا وإقليم كردستان العراق وإيران.

خاتمة

يظهر من خلال الدراسة أن "الإدارة الذاتية" بمختلف مؤسساتها حاولت إضفاء شرعية على سلطة الأمر الواقع التي فرضتها، من خلال إعلان نصوص "شبه دستورية"، ورفع شعارات "الديمقراطية والتعددية والمشاركة العادلة"، ولكن مؤشرات التفاعل والأداء السياسي وواقع الحريات في المنطقة أظهر خللاً واضحاً بين النظرية والتطبيق، كما أن البراغماتية التي تحاول إظهارها في بعض القضايا تبقى مؤطرة ضمن رؤية مجموعة ضيقة من قيادات "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الذي يفرض رؤيته بشكل جلي على مؤسسات الإدارة، ليظهر نفسه كسلطة أمر واقع "قابلة للحياة والاستمرار".

كما تجهد "الإدارة الذاتية" بالإبقاء على الوضع القائم، مستغلة التنافس الدولي وتضارب المصالح الإقليمية في منطقة شمال شرق سورية، ولكن مركزيتها المطلقة وتبعيتها الأيديولوجية بدأت تسبب لها أزمات متراكمة، وخاصة ما ظهر مؤخراً من انتفاضة عشائرية ضدها في دير الزور، من الممكن أن تتكرر في مختلف مناطق سيطرتها، ويرتبط مستقبل هذه الإدارة بالمتغيرات السياسية، التي ربما تحمل توافقات دولية وإقليمية من شأنها الإجهاز على مشروع الإدارة برمته أو تحجيمه.


([1]) بدر ملا رشيد، "المظلة الكردية المفقودة في سورية.. بين التناحر على السلطة والاتفاقيات الهشة"، مركز عمران للدراسات، 20/3/2019، تمت المشاهدة: 12/9/2023، الرابط: https://bit.ly/3Qeccwa

([2]) العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سورية، موقع الإدارة الذاتية، 12/1/2023، الرابط: https://aanesgov.org/ar/?p=9221  

([3]) قوات محلية تتبع لقبيلة شمر العربية تنتشر في محافظة الحسكة قرب معبر اليعربية الحدودي مع العراق، أعلن عن تأسيسها عام 2013 وانضمت لـ "قوات سوريا الديمقراطية" عند تأسيسها، للمزيد: https://bit.ly/3MfiLxi

([4]) قوات محلية من المكون السرياني تتبع لحزب الاتحاد السرياني تنشط في القامشلي والحسكة منذ عام 2012، انضمت إلى "قسد" عند تأسيسها، للمزيد: https://bit.ly/3FxZvaw

([5]) ميثاق العقد الاجتماعي، الموقع الرسمي لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd، 6/1/2014، تم الاطلاع بتاريخ:14/8/2023: https://bit.ly/495UnrS

([6]) العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سورية، موقع الإدارة الذاتية، 12/1/2023، الرابط: https://aanesgov.org/ar/?p=9221 

([7]) بدر ملا رشيد، "قراءة في العقد الاجتماعي لفيدرالية الشمال"، مركز عمران للدراسات، 16/8/2016ـ تم الاطلاع 14/12/2023، https://bit.ly/3NstJ3e

 ([8]) مقابلات تم اجراؤها مع عدد من نشطاء الحسكة ودير الزور بعد إعلان العقد الاجتماعي الجديد بتاريخ 25/12/2023.

 ([9]) ملاحظات تم استخلاصها من ورشة عمل لمناقشة الأداء السياسي للإدارة الذاتية عقدها مركز عمران في مدينة ماردين بتاريخ 19/9/2023.

([10]) حزب كردي يصدر قانوناً للأحزاب الكردية بسورية، الجزيرة نت، 28/4/2014، تمت المشاهدة: 15/9/2023 https://bit.ly/3QtlplJ

([11])  العمل على صياغة قانون لتنظيم الحياة السياسية شمال شرق سورية، راديو بيسان، 22/12/2021، تمت المشاهدة: 10/9/2023، https://bit.ly/3QdTIMx

([12])  انظر النص الكامل المنشور على صفحة "مجلس العدالة الاجتماعية في الجزيرة" بتاريخ: 19/7/2018، الرابط: https://bit.ly/4aTM82P

([13])   انظر المادة 7   من نص قانون الأحزاب الذي أقره مجلس مقاطعة الجزيرة المنشور على صفحة "مجلس العدالة الاجتماعية في الجزيرة" بتاريخ: 19/7/2018، الرابط: https://bit.ly/4aTM82P

([14])  مقابلة مع المحامي والخبير القانوني إبراهيم ملكي، أجريت بتاريخ 6/12/2023

([15])  توقيف عمل الحزب الجمهوري الكردستاني في مناطق الإدارة الذاتية لمخالفته قانون الأحزاب، ادار نيوز، 15/10/2022، تمت المشاهدة: 9/9/2023، https://bit.ly/3QvqRo0

([16]) ساشا العلو، "الإدارة الذاتية: مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة"، مركز عمران للدراسات، 29/4/2021، تمت المشاهدة: 11/9/2023، https://bit.ly/40e3t1Q

([17]) نشوء الحركة السياسية الكردية في سورية وتطورها، مركز آسو للاستشارات، 7/2020، تمت المشاهدة: 23/9/2023، https://bit.ly/3Shpf2z

([18]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية.  أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023

([19]) المرجع نفسه.

([20]) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/8/2023.

([21]) لمزيد من المعلومات حول التحالف ومواقفه السياسية يمكن مراجعة صفحتهم على فيسبوك:  https://bit.ly/472Fdlk

([22]) المرجع السابق  https://bit.ly/472Fdlk

([23])  سلام حسن، "المنظمة الآثورية تهاجم "قسد" وتحذّر من التغيير الديمغرافي في سورية"، العربي الجديد، 23/1/2022، تم الاطلاع 11/12/2023 https://bit.ly/3TkQutE

([24])  جورج خابور، "حزب "الاتحاد السرياني" الأداة الطيعة بيد (PYD)"، عين المدينة، 24/10/2018، تم الاطلاع 11/12/2023 https://bit.ly/3NlMrtc

([25])  انشقاق جديد يعصف بأحد أكبر الأحزاب الكردية السوريةـ تلفزيون سوريا، 8/12/2023، https://www.syria.tv/243685

([26])  لمعرفة المزيد عن حزب سوريا المستقبل يمكن مراجعة الموقع الرسمي للحزب :  https://bit.ly/3UVOV6k

([27]) "الإدارة الذاتية" تتجه إلى حظر الأحزاب الكردية المناهضة لها، عنب بلدي، 13/3/2017، تمت المشاهدة 25/9/2023، https://bit.ly/3Q9A1p4

([28]) عدنان أحمد، "قسد" تعتقل ناشطين وقياديين من المجلس الوطني الكردي في شمال وشمال شرقيّ سورية"، العربي الجديد، 18/7/2021، تمت المشاهدة: 25/9/2023، https://bit.ly/3tK633k

([29]) جلال بكور وعمار الحلبي، "سورية: اعتداء جديد على المجلس الوطني الكردي وأكبر أحزابه يثمن الإجراءات ضد العمال الكردستاني"، العربي الجديد، 15/12/2020، تمت المشاهدة: 27/9/2023، https://bit.ly/3s8h6D6

([30]) عبد الله البشير، "اعتداء جديد يطال مقراً لحزب "يكيتي" الكردي شمالي سورية"، العربي الجديد، 16/12/2020، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/3Se5bxX

([31]) هل ترضخ "قسد" لأصوات المتظاهرين أم تمضي في المواجهة؟، شبكة بلدي،19/5/2021، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/3QdtlGe

([32]) مظاهرة طلابية في الدرباسية قوبلت بالضرب والاعتقالات، يكيتي ميديا،20/1/2021، تمت المشاهدة: 26/9/2023، https://bit.ly/45KGcFG

([33]) تقرير اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق المقدم للدورة العادية الـ 52 لمجلس حقوق الإنسان، 1/3/2023، من ص 21 إلى 24 من التقرير، https://bit.ly/3vE8llx

([34])  لا بديل عن العودة… انتهاكات قوات الإدارة الذاتية الكردية في محافظة الحسكة، الشبكة السورية لحقوق الإنسان،27/10/2025، https://bit.ly/3SeSBOF

([35])  قسد تقوّض النشاط المدني شمال شرقي سورية، المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان، 29/3/2020، https://bit.ly/49cxBxV  

([36]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، أجريت بتاريخ: 10/9/2023

([37]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية، أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023

([38]) عماد كركص وسلام حسن، "سورية: ملاحظات كردية على وثيقة التفاهم بين "مسد" وهيئة التنسيق"، العربي الجديد، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/499SHxG

([39]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي من القامشلي، أجريت بتاريخ: 10/9/2023

([40]) مقابلة مع عضو سابق في مكتب العلاقات الخارجية لـ "مسد"، أجريت عبر الهاتف بتاريخ: 9/8/2023

([41]) المرجع نفسه.

([42]) فلاديمير فان ويلجنبرج، "استراتيجيات قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا"، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية،10/11/2020، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/3tTXOSb

([43]) مقابلات عدة أجراها الباحث مع ناشطين وإعلاميين موجودين في القامشلي والرقة، ولكن لن يتم التصريح بالأسماء لأسباب أمنية.

([44]) قوات سوريا الديمقراطية تسعى إلى إيجاد طريق نحو استقرار دائم في شمال شرق سوريا، مجموعة الأزمات الدولية، تم النشر: 25/11/2020، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3tP4H7y

([45) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/9/2023.

([46]) مقابلة مع سليمان، وهو اسم مستعار لناشط سياسي كردي يقيم في مناطق سيطرة الإدارة، طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية، أجريت عبر برنامج الواتس آب بتاريخ: 25/8/2023

([47]) حصل حراك شعبي عشائري في دير الزور نهاية شهر آب 2023، بعد اعتقال قسد لقيادة مجلس دير الزور العسكري، وقد تطور هذا الحراك من مظاهرات وقطع طرق إلى اشتباكات مسلحة، توسع نطاقها حتى شمل معظم مناطق سيطرة قسد في محافظة دير الزور، حاولت قسد السيطرة عليها عبر هجوم عسكري موسع تمكنت خلاله من إعادة سيطرتها على مواقع عدة، ولكن لم تنته الهجمات على حواجز قسد حتى بداية 2024، مع  محاولة أطراف محلية وإقليمية استغلال الحراك لتحقيق مصالحها، وعلى رأسها إيران، للمزيد انظر: سامر الأحمد، "في مدلولات تصعيد قسد ضد مجلس دير الزور العسكري"، السورية نت، 30/8/2023، https://bit.ly/48AcMfA

([48]) صفحة "اعتصام حتى إلغاء القرار" على موقع فيس بوك، 1/10/2023، تمت المشاهدة: 1/10/2023، https://bit.ly/3FvjIxJ

([49]) مقابلة مع عبد القادر عاكوب ناشط سياسي ينحدر من مدينة القامشلي، أجريت بتاريخ: 19/9/2023

([50]) الاجتماعات الدولية تشمل الوفود الأجنبية التي زارت مناطق سيطرة الإدارة، أو زيارات مسؤولي الإدارة للدول.

([51]) فلاديمير فان ويلجنبرج، "استراتيجيات قوات سوريا الديمقراطية في شرق سورية"، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية،10/11/2020، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/3tTXOSb

([52]) الإدارة الذاتية تدعو لتوسط عربي وأممي بحل مع الحكومة السورية، موقع رووداو، 18/4/2023، تمت المشاهدة: 2/10/2023: https://bit.ly/45MynPY

([53]) تداعيات زلزال شباط 2023 على المشهد السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص47، 31/3/2023، تم الاطلاع 1/12/2023، https://bit.ly/46Yt9RO

([54]) الإدارة الذاتية تتحرك لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان، العربية نت، 20/6/2023، تم الاطلاع 10/12/2023،  https://bit.ly/4ajtzoD

([55]) "الإدارة الذاتية" تعلن عن مبادرة لحل الأزمة السورية"، تلفزيون سوريا، 18/4/2023، تمت المشاهدة: 3/10/2023، https://bit.ly/3MeJque

([56]) بدر ملا رشيد، "رسائلٌ إيجابية بين الأطراف الكُردية.. تمنياتٌ مثقلة بالتحديات"، مركز عمران للدراسات، 10/3/2020، تمت المشاهدة: 3/10/2023 https://bit.ly/46J1Co5

([57])  هي قوات كردية تضم مقاتلين سوريين يقيمون في إقليم كردستان العراق، يتبعون سياسياً للمجلس الوطني الكردي، للمزيد يمكن مراجعة تقرير عبادة كوجان، أكراد سوريون تدربوا في كردستان العراق ويسعون للعودة، عنب بلدي، 12/6/2016، تمت المشاهدة: 25/10/2023، https://bit.ly/3SaPPKR

([58]) عبد الرحيم تخوبي، "الحوار الكردي-الكردي في سورية.. المجريات والدوافع والمصير"، مركز جسور للدراسات، 16/10/2023، تمت المشاهدة: 5/10/2023، https://bit.ly/3Q3hpa8

([59]) مقابلة مع عبد الله كدو عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، أجريت في مدينة اسطنبول بتاريخ: 13/8/2023.

([60]) بشار خليل، "موسكو توافق على لعب دور الوسيط لإجراء مفاوضات جدية بين "مسد" ودمشق"، آرتا إف إم، 10/2/2020، تمت المشاهدة: 6/10/2023، https://bit.ly/3Sdhk6g

([61])  وسام سليم، "رئيسة "مسد" تعلن فشل المفاوضات مع النظام السوري"، العربي الجديد، 18/12/2021، تمت المشاهدة:6/10/2023، https://bit.ly/476NrbZ

([62]) مصادر كردية: المفاوضات بين "قسد" والنظام" توقفت بشكل نهائي و"باءت بالفشل"، شبكة شام، 19/6/2023، تمت المشاهدة: 7/10/2023، https://bit.ly/3Q9MHwa

([63]) "مسد" بشأن الاجتماع التشاوري العربي: نحن مع أي تسويات تعيد لسورية الاستقرار، شبكة رووداو، 15/4/2023، تمت المشاهدة: 8/10/2023، https://bit.ly/3FsBYIh

([64]) مقابلتان مع شخصيتين شاركا في مؤتمرات خارج سورية وفي الرقة مع "مسد “رفضا الكشف عن هويتهما.

([65]) مقابلة عبر المسنجر مع د. فريد سعدون ناشط سياسي وأكاديمي من القامشلي، أجريت بتاريخ: 10/9/2023

([66]) محمد عيسى، "عضو بـ"مسد": فوز أردوغان يهدد الإدارة الذاتية بـالتفكك"، شبكة رووداو، 15/5/2023، تم الاطلاع 15/9/2023  https://bit.ly/3Rs5BPc

([67]) عدنان أحمد، "مسد تطالب التحالف الدولي بمنع أي عملية عسكرية تركية شمالي سورية"، العربي الجديد، 26/5/2022، تمت المشاهدة: 9/10/2023، https://bit.ly/3SdIJFt

([68]) "مسد" تأخذ التهديدات التركية بجدية.. و4 محاور للعملية، المدن، 1/11/2021، تمت المشاهدة: 9/10/2023، https://bit.ly/3FBiVeA

([69]) اتفاق تركي أميركي بتعليق عملية "نبع السلام" وانسحاب الأكراد، الجزيرة نت، 17/10/2019، https://bit.ly/48RCD2S ،   اتفاق روسيا وتركيا على إبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود السورية التركية، وكالة رويترز، 23/10/2019، https://bit.ly/3UGamIz

([70]) ياروسلاو لوكوف، "قمة الناتو: تركيا تطلب من فنلندا والسويد تسليم "إرهابيين" بعد الموافقة على انضمام البلدين للناتو"، موقع بي بي سي عربي، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3s9dkJB

([71]) الاستراتيجيات المؤثرة على تطورات شرق سوريا، مركز الإمارات للسياسات، 20/11/2021، تمت المشاهدة: 20/10/2023: https://bit.ly/495HaiN

([72]) شفان إبراهيم، "قسد بين روسيا وأميركا والحوار الكردي – الكردي"، العربي الجديد، 19/9/2021، تمت المشاهدة: 10/10/2023، https://bit.ly/3MhhgP9

([73]) للمزيد حول الأوضاع في مخيم الهول ومخاطر عودة التنظيم يمكن مراجعة تقرير واشنطن بوست: https://bit.ly/476hAsi

([74])  قوات سوريا الديمقراطية تسعى إلى إيجاد طريق نحو استقرار دائم في شمال شرق سوريا، مجموعة الأزمات الدولية، 25/11/2020، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3tP4H7y

([75]) إلهام أحمد: على المجتمع الدولي إعادة النظر بمنح الشرعية للائتلاف السوري المعارض بعد تقارب دمشق وأنقرة، موقع الإدارة الذاتية، 18/1/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/40969xE

([76]) ياروسلاو لوكوف، "قمة الناتو: تركيا تطلب من فنلندا والسويد تسليم "إرهابيين" بعد الموافقة على انضمام البلدين للناتو"، موقع بي بي سي عربي، 29/6/2023، تمت المشاهدة: 15/10/2023، https://bit.ly/3s9dkJB

التصنيف الدراسات

الملخص التنفيذي

  • استطاعت موسكو أن تلغي "منطق السيطرة" من حسابات المعارضة ومكّنت نظام الأسد عسكرياً في معظم مناطق ما عرف بـ"سورية المفيدة".
  • ازداد تبلور مناطق سيطرة دولية واسعة تجعل "عنصر السيادة" الذي يبحث عنه النظام ومن خلفه الروس عنصراً بعيد المنال، فالتموضع الصلب والانخراط المتزايد للفواعل الدولية والإقليمية في سورية جعل أي مكتسب سياسي بعيداً بسبب تضارب الرؤى والتوجهات ما بين هذه الفواعل.
  • لم يستطع مسار الأستانة إنجاز اتفاقات خفض التصعيد بمفرده وعبر الاستناد على الحركية الأمنية فقط، على الرغم من مساهمته في تحجيم أدوار الصراع الوطني. ولم يفلح أيضاً في تحجيم حدود تأثير ونفوذ تلك الدول التي إن توافقت أمنياً في البداية لكنها أظهرت تباينات سياسية واضحة في أهدافها. كما لم يُقلل من خيارات المعارضة المسلحة بل ازدادت نتيجة توسع نفوذ تركيا التي اتكأت على الأستانة كإطار مرجعي لانخراطها الأخير في الشمال.
  • تُشكل الجبهة الجنوبية بما تحويه من تطورات محتملة اختباراً جدياً للترتيب العسكري العام في سورية. فبالإضافة إلى تعاظم أسباب "تحجيم طهران" وإبعادها عن هذه المنطقة، يُتوقع ظهور متغير في الجنوب مرتبط بتطور نوعي شهدته تفاعلات تلك الجبهة ألا وهو العبث الإيراني الأخير في معادلات أمن الإقليم وجرها لإرهاصات حرب كبرى مع إسرائيل. وبذات الوقت تتزايد التطورات العسكرية الدافعة لتجهيز عمل عسكري مرتقب من قبل فصائل المعارضة من أجل تغيير موازين القوى وإعادة ترتيب الأوراق خاصة مع تقدم قوات الأسد في الغوطة الشرقية وتوقع تحركه بعدها نحو درعا.
  • يمكن اعتبار منطقة شرق النهر منطقة تتصلب فيها التموضعات الأمريكية وتتعزز فيها مؤشرات استمرار المناوشات الروسية. إذ عملت واشنطن مؤخراً على تعزيز قدراتها العسكرية في عشرة مواقع بالمدفعية الثقيلة والمروحيات والمقاتلات والمدرعات تمهيداً لمواجهات محتملة على عدة جبهات أهمها دير الزور ومنطقة التنف شرقي سورية. بالمقابل لا تزال موسكو تنوي الاستمرار في تمكين سلطة الأسد على كامل الأراضي السورية ويستوجب هذا منها الاستمرار في المناوشات التي تهدف تجاوز اتفاق "شرق وغرب النهر" وجر الـPYD لمفاوضات مع النظام لإعادة ترتيب التفاهم على المنطقة وفق منطق "سيادة الدولة". والثابت من خلال هذه المناوشات هو استمرار فرضية الحرب الباردة بين الروس والأمريكان.
  • يُتوقع أن تحتوي معادلات فرضية وضرورة إعادة الترتيب على المعطيات التالية: استدامة التواجد الأمريكي في سورية وبقاء امتلاكها لعنصر تعطيل الحركية الروسية؛ واستمرار اختبار ضبط النفس في الجنوب السوري؛ وضوح طبيعة التموضع التركي في معادلة علاقتها مع واشنطن وموسكو؛ توفير أطر أمنية جديدة تستوعب هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية في سورية. وأمام هذا الافتراض يكون المشهد السوري قد اقترب من تجاوز "الصراع المحلي" ونقله كلياً للمستوى الإقليمي والدولي والذي وإن كان مرتباً أولياً بتفاهمات واتفاقات أمنية، إلا أنها شديدة القلق ولم تعد صالحة لضبط التحولات الجديدة.

مدخل

يشهد الميدان السياسي والعسكري في سورية منذ مطلع عام 2018 جملة من المتغيرات والتحولات الطارئة بشكل يجعله مرشحاً لجولات ومستويات صراع متزايدة. ويعود ذلك بشكل أساس إلى تنامي النفوذ الدولي والإقليمي واحتمالية تزايد انخراطها في صراعات عابرة للصراع المحلي. فبعد أن ظنّ الروس أن باستطاعتهم التسيّد المطلق وإعادة الهندسة السياسية والعسكرية بما يتفق مع استراتيجية الكرملين، وجدت موسكو نفسها أمام ملف سِمَتُه الرئيسية السيولة المتنامية. كما لا تستند عملية إدارته فقط على المشتركات الأمنية وإنما ترتبط بالتوافق السياسي وهو ما يزال غائباً كقاعدة عمل بين الفواعل. لقد أدى ذلك الأمر أن يكون ضبط المشهد عملية عابرة لمنطق المكاسب ومتوافقة مع إدراك جذر الصراع وأسبابه في سورية. وطالما تغيب عن أجندة موسكو الحلول غير الصفرية ستبقى أسيرة لنهج العرقلة الإقليمية والدولية والذي بات أغلب الفواعل يتبعونه. ومن جهة أخرى تساهم خارطة التفاعلات العسكرية الدولية في وضع المشهد العام أمام جملة من الصراعات المؤجلة والتي لم تستطع المقاربات السابقة من تذليل أسبابها، مما يعزز من احتمالية أن تساهم في بعثرة الترتيبات التي جهدت موسكو في تحقيقها في سورية عبر تدخلها([1]).

وفي ذات الوقت الذي استطاعت موسكو أن تلغي "منطق السيطرة" من حسابات المعارضة ومكّنت نظام الأسد عسكرياً في معظم مناطق ما عرف بـ"سورية المفيدة". وباتت تتبلور في الجغرافية العسكرية مناطق سيطرة دولية واسعة تجعل "عنصر السيادة" الذي يبحث عنه النظام ومن خلفه الروس عنصراً بعيد المنال كونه المدخل الرئيس لإعلان "إنهاء الأزمة" وعودة "التمكين الكامل". وبمعنى أخر لا يمكن للصراع المتعدد الأوجه في سورية أن ينتهي لصالح الروس ونظام الأسد بمجرد تحجيم قوة المعارضة العسكرية، فاختلالات النظام العسكرية قبيل التدخل الروسي؛ ومنطق "إدارة الأزمة"؛ وتنامي مهددات دول الجوار، ساهم في تموضع صلب وانخراط فعال للفواعل الدولية والإقليمية في سورية. ويُنذر هذا التطور بجعل أي مكتسب سياسي بعيد المنال طالما أن تضارب الرؤى والتوجهات ما بين هذه الفواعل هو سيد الموقف.

 تحاول هذه الورقة التحليلية أن تتكئ على معالم ومؤشرات المشهد العسكري الراهن لتبحث في طبيعة التحولات الناشئة وتختبر مقولة "انتهاء الصراع العسكري" بمعناه العابر للصراع الوطني. كما تهدف الورقة إلى قياس آثار تلك التحولات على مدى التماسك الهندسي الروسي من جهة، وعلى الأطر العامة الناظمة "للملف السوري" ببعديه العسكري والسياسي من جهة ثانية، وعلى الترتيبات العسكرية ومدى قدرتها على استيعاب تلك التحولات من جهة ثالثة.

اتفاقات خفض التصعيد: ما بين التآكل والثبات الشكلي

في شهر آيار من عام 2017 أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن اتفاق "خفض التصعيد" في سورية الذي يقضي بإقامة أربع مناطق آمنة بسورية، وتشمل وفق الإعلان أكبر منطقة لخفض التصعيد -محافظة إدلب وأحياء مجاورة في محافظات حماة وحلب واللاذقية. وتقع المناطق الثلاث الأخرى شمال محافظة حمص والغوطة الشرقية شرقي العاصمة دمشق، وفي جنوب سورية على الحدود مع الأردن، إلا أنه والملاحظ وفق بوصلة الحركة العسكرية الروسية (والمبينة بالشكل المجاور) أن هذه الاتفاقات كانت تكتيكاً والتفافاً مدروساً حتى يتسنى للروس والنظام من زيادة مساحات السيطرة في مناطق التأثير الجيوسياسي في سورية والتي عرفت بـ “سورية المفيدة" وذلك عبر تغليب أداتي الضربات الجوية وآليات الحصار وما سيتبعه من إفراغ لجيوب ومناطق المعارضة.

من جهة أخرى وفيما يتعلق بالوصول لاتفاقات خفض التصعيد فإنه وبعد قرابة العام وبالاستناد على الحركية الأمنية الناظمة لتلك المناطق يمكن تصدير النتائج التالية:

أولاً: عدم استطاعة الأستانة -كإطار ناظم-لإنجاز معظم هذه الاتفاقات.  ففي حين تم بلورة خرائط منطقة إدلب وترتيبات التفاعل التركي فيها في إطار الدول الضامنة، إلا أن باقي المناطق يتطلب دخول دول ليست من ضمن الدول الضامنة لإنجازها، كمصر ولا سيما فيما يتعلق بشمال حمص والغوطة الشرقية. وكانت تلك المناطقتين آنذاك ضرورة روسية لكي تدفع بمساقاتها السياسية بناء على هذا التثبيت الميداني بهدف بلورة إطار سياسي ناظم للعملية السياسية يخفف التكلفة السياسية للتدخل العسكري من جهة ويخطف من مسار جنيف وظائفه السياسية وإعادة تعريفها بما يتفق مع الرؤية الروسية. المثال الثاني يتمثل في الأردن والولايات المتحدة فيما يرتبط بترتيبات الجبهة الجنوبية والتي لاتزال تلقى معارضة أمريكية واضحة حيال حدود تواجد الميليشيات الإيرانية في هذه الجبهة. كما لا تزال أيضاً تشهد عبثاً إيرانياً مقصوداً في المعادلات الأمنية في تلك الجبهة مما يرجح انفجار هذا الترتيب الأولي.

ثانياً: غياب الفاعل الوطني عسكرياً لصالح الإقليمي والدولي وتداعياته العابرة للأستانة. فبالاستناد على طبيعة الانخراط الروسي بعد الأستانة عسكرياً، يتمثل التكتيك الروسي في تخفيف وتثبيت حدود التدخل الإقليمي عبر تكريس مفهوم الضامنين، فكان بحاجة لدور تركي يدفع الأخير لربط توجهاته في الملف السوري من بوابة التفاهم البيني على حساب تفاهم أنقرة مع واشنطن. ويساهم ذلك أيضاً في ضبط المشهد في الشمال السوري الذي يكتنفه العديد من العناصر المعقدة (كفواعل متنوعة وقدرات عسكرية نوعية وكثافات سكانية). كما كان بذات الحاجة وأكثر فيما يتعلق بترتيب علاقته مع طهران والتي تستوجب من الروس الاستثمار بمواردها البشرية في سورية. وبذات الوقت توفر الاتفاقيات لموسكو انخراطاً ايجابياً في هذه المعادلات بما لا يزمن الصراع ويجعله مفتوحاً كديدن طهران في كافة سلوكياتها. إلا أن هذا التكتيك المستند على مبدأ التفاهم الأمني الثلاثي خطوة بخطوة، وبرغم مساهمته في تحجيم أدوار الصراع الوطني –كما أعلنها بوتين في خطاب النصر في حميميم آواخر العام المنصرم-فقد عظّم من حدود تأثير ونفوذ تلك الدول والتي إن توافقت أولياً أمنياً إلا أنها ستظهر تباينات واختلافات سياسية واضحة. أنظر الخريطة (1) والتي تدلل على تنامي النفوذ والسيطرة الدولية.

خريطة رقم (1): مواقع السيطرة والنفوذ المحلي والدولي والإقليمي حتى 15آذار 2018

ثالثاً: احتفاظ المعارضة بمروحة خيارات نتيجة توسع نفوذ تركيا التي اتكأت على الأستانة كإطار مرجعي لانخراطها الأخير في الشمال السوري. فبعد نجاح تركيا بالتعاون مع الجيش السوري الحر في بسط نفوذها على منطقة درع الفرات وجعلها منطقة آمنة، تعمل -عبر بوابة تذليل المهددات الأمنية المشتركة وبالتوافق والترتيب القلق مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية-على توسيع المساحات الآمنة. وتقوم بذلك عبر الانخراط الصلب في منطقة عفرين أو عبر البدء بترتيب المشهد العسكري والأمني في إدلب من خلال نقاط وقواعد مراقبة وسياسة مخلخلة في صفوف هيئة تحرير الشام. ومن المؤشرات التي تدعم هذه الاستراتيجية ما شهدته الساحة من اقتتال بين هيئة تحرير الشام وهيئة تحرير سورية. كما يدلل هذا بشكل واضح على تزايد مكاسب أنقرة سياسياً وبالتالي معها أيضاً تحسن خيارات المعارضة الفاعلة في تلك المناطق سواء من زاوية ابتعاد معارك الحسم مع النظام أو من خلال تطبيق نماذج حكم مستقرة وشفافة ورشيدة. وسينعكس هذا بطبيعة الحال على أي إطار سياسي ينظم علاقة المركز مع الأطراف في سورية.

الجبهة الجنوبية: الاختبار الأكثر جدية لأي ترتيب عسكري قادم

رغم عدم اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على ترتيبات الأستانة كمقاربة روسية إلا أنه يمكن تفهم واشنطن لتلك المقاربة من بوابة التأييد لتفاهم شرق النهر وغربه والذي لم يعارضه منطق الأستانة بشكل عام. ولكن عند شمول المنطقة الجنوبية ضمن خطة خفض التصعيد، احتاجت موسكو ظهور ضامن أمريكي لتحقيق هذا الاتفاق الذي لايزال يلقى معارضة من "إسرائيل" بحكم هواجسها الأمنية حيال التوغلات الإيرانية في حدودها الشمالية من جهة وبحكم تطلعات الروس والإيرانيين بالاستحواذ على تلك المنطقة من جهة ثانية.

وبالإضافة إلى أسباب تحجيم طهران وإبعادها عن هذه المنطقة، يتوقع ظهور متغير في الجنوب يُسهم في إعادة تشكيل وترتيب المشهد العسكري في سورية. ويرتبط ذلك بتطور نوعي شهدته تفاعلات تلك الجبهة التي مورس فيها ضبط دولي وإقليمي شديد القلق، ألا وهو العبث الإيراني الأخير في معادلات أمن المنطقة وجره لإرهاصات حرب كبرى مع إسرائيل. ويظهر ذلك خصوصاً بعدما اخترقت طائراتها من دون طيار لأجواء فلسطين المحتلة والرد المباشر من قبل الطائرات الإسرائيلية والتي تعاملت معها منظومة الدفاع الجوي للنظام وأسقطت إحدى تلك الطائرات. ويعتبر ذلك حدثاً نوعياً لم تشهده طبيعة الاختراقات والتدخلات الإسرائيلية التي كانت مداخلها عابرة للأزمة المحلية لصالح جعل غايات هذا التدخل متعلقة بتحجيم النفوذ الإيراني في الجنوب السوري وضرب تحركات التسليح الخاصة بحزب الله. وللعلم يذكر أن عدد الضربات الإسرائيلية منذ بدء الثورة وحتى تاريخ إعداد هذه الورقة قد بلغ 79 ضربة([2]).

إذاً أضحى حديث "التوسع والتأثير الإيراني المتزايد في سورية وخاصة تواجد الميليشيات الإيرانية القريبة من الحدود الإسرائيلية السورية" أولوية بالغة الأهمية على جدول أعمال معظم الزيارات والرسائل المتبادلة بين تل أبيب وواشنطن. وقد ازدادت وتيرة هذه الاتصالات في المطالبة بتفعيل الاستراتيجية الأميركية بخصوص إيران المعلنة من قبل ترامب نهاية عام 2017 والقاضية بزيادة الضغط على إيران والحرس الثوري بسبب زعزعتها للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وتواردت المعلومات من المخابرات الأميركية والصور الفضائية عن إقامة قاعدة جديدة للحرس الثوري وقوات القدس في سورية صالحة لنشر صواريخ متوسطة وقليلة المدى، ناهيك عن وجود أنباء عن إقامة مصنع للصواريخ في جنوب لبنان. وعلى الرغم من تزايد المؤشرات الدافعة باتجاه حرب كبرى تريدها طهران بالدرجة الأولى إلا أن ملامحها الكبرى لا تزال مرتبطة بتفاهمات روسية أمريكية قد تفضي إلى ترتيب عسكري جديد سيكون عنوانه الأبرز دفع موسكو لممارسة الضغط على طهران لتغيير استراتيجيتها وهو أمرٌ بالغ الصعوبة روسياً بحكم العلاقة المصلحية التي تجمعها مع إيران في سورية، وبحكم إدراكها لطبيعة التوغل الإيراني في سورية.

من جهة أخرى، يُتوقع أن يشهد الجنوب السوري تطورات عسكرية خلال المرحلة المقبلة، في ظل ما تشهده من تجهيزات لعمل عسكري مرتقب من قبل فصائل المعارضة. إذ تؤكد التصريحات العسكرية لقادة الجبهة الجنوبية عن احتمالية عن تجهيز الفصائل لعمل عسكري بعد أن أصبح الجميع على قناعة مطلقة بالحاجة لتحرك يُغير موازين القوى ويُعيد ترتيب أوراق المنطقة، وخاصة مع تقدم قوات الأسد في الغوطة الشرقية، وتوقع تحرك النظام بعدها نحو درعا.([3]) كما يرتبط الجنوب بمدلولات التعزيزات الأمريكية في "قاعدة التنف" وإرسال الجيش الأمريكي 200 جندي إليها ارتباطاً وثيقاً خاصة أنها تأتي في إطار يتوقع أنها ضمن عمليات عسكرية يخطط لها في الجنوب السوري ضد الميليشيات الإيرانية، مع احتمالية امتداد هذه العمليات إلى منطقة البادية. وتُنبئ هذه التطورات بإمكانية فتح معارك بنسبة معقولة وهو أمر قد يزيد من اشتعال المشهد العسكري.

شرق النهر: ما بين التصلب الأمريكي والمناوشات الروسية

تقوم الإدارة الأمريكية (التي تشهد تبدلات متسارعة في مراكز صنع القرار فيها) بإعادة نشر قواتها في شرق سورية وذلك لتحقيق عدة أهداف منها التصدي للنفوذ الإيراني والاستمرار في محاربة تنظيم الدولة، ودعم قوات سورية الديمقراطية شرق النهر([4]).

كما عملت واشنطن مؤخراً على تعزيز قدراتها العسكرية في عشرة مواقع (هي قاعدتيها الجويتين وثمان نقاط لوحدات حماية الشعب تمتد من عين دادا غربا إلى رميلان شرقاً) تماهياً مع تصريحات البنتاغون "الحازمة" بأن عمليات التحالف الدولي التي تحمل اسم "العزم الصلب" مستمرة. وكان من المقرر أن تُنشر قوة حرس الحدود على طول الحدود السورية التركية في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شرق نهر الفرات، وعلى الضفة الشرقية للنهر وصولاً إلى مدخل النهر إلى العراق وفي منفذ البوكمال الحدودي لإقامة نقاط تفتيش ونشر فرق مكافحة العبوات التي خلفها تنظيم "الدولة" في المناطق التي خسرها، ومهام أخرى. ووفقاً لعدة تقارير، فإن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايك بومبيو" (المرشح لوزارة الخارجية بعد تيرلسون) يعمل على تعزيز القواعد الأمريكية شمالي سوريا والعراق بالمدفعية الثقيلة والمروحيات والمقاتلات والمدرعات، وذلك تمهيداً لمواجهات محتملة على عدة جبهات وهي([5]):

  1. دير الزور: حيث تعمل القوات الأمريكية على تعزيز قدرات قوات سوريا الديمقراطية، وتمكينها من تشكيل حائط صد أمام قوات النظام وميلشيا "حزب الله" ومنعهم ن التقدم باتجاه الحدود السورية-العراقية.
  2. الحدود السورية العراقية في إقليم الأنبار: حيث تعمل القوات الخاصة الأمريكية على تشكيل تحالف من عشائر المنطقة، حيث لا يوجد مقاتلون أكراد يمكن الاعتماد عليهم في تلك المناطق.
  3. منطقة التنف شرقي سوريا: حيث تتمركز وحدة من القوات الخاصة الأمريكية ووحدة مهام خاصة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لمنع النظام وحلفائه من تشكيل قوة في تلك المنطقة الاستراتيجية. وقد تم تنفيذ عمليات نوعية ضد عناصر من الميلشيات الموالية للنظام، والتي حاولت الاقتراب من القوات الأمريكية فتم استهدافها وقتل خمس من عناصرها على الفور.

بالمقابل لا تزال موسكو تنوي الاستمرار في تمكين سلطة الأسد على كامل الأراضي السورية ولا سيما في منطقة شرق النهر الغنية بالموارد النفطية والمائية والزراعية. ويستوجب هذا منها الاستمرار في المناوشات التي تهدف تجاوز اتفاق شرق وغرب النهر من جهة، وضرورة جر الـPYD لمفاوضات مع النظام لإعادة ترتيب التفاهم على المنطقة وفق منطق "السيادة السورية"([6]). إذ حاولت موسكو والنظام التخطيط لهجوم 7 شباط (فبراير) الفاشل ضد قوات سوريا الديموقراطية ومعهم جنود أميركيين في شرق سورية، والذي ردت واشنطن عليه بالدفاع عن قواتها وإسقاط مئتي قتيل من شركة «فاغنر» الروسية. وفي مطلع الشهر المنصرم، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أنه شن ضربات جوية على قوات موالية للنظام السوري في الريف الشرقي لدير الزور بين قريتي خشام والطابية، شرق نهر الفرات، حيث توجد مواقع نفطية مهمة على مسافة نحو ثمانية كيلومترات شرق نهر الفرات، الخط الفاصل لمنع الاشتباك، بعد "هجوم دون مسوغ" على قيادة قوات سوريا الديمقراطية. وأدت تلك العمليات إلى مقتل أكثر من مائة مقاتل من قوات النظام.

والثابت من خلال هذه المناوشات هو استمرار فرضية الحرب الباردة بين الروس والأمريكان بغض النظر عن الحجة والادعاء، فموسكو التي تسيّدت المشهد العسكري، يشكل التواجد الأمريكي عثرة في طريق هندستها للحل السياسي([7]). وفي ظل تفاهمات هشة تنظم العلاقة بين الأميركيين والروس في سورية، فإن من الصعب التنبؤ بمآلات التنافس على ورقة النفط والمعابر الحدودية وغيرها في سورية. لكن موسكو في كل الأحوال لا تبدي ارتياحاً للسيطرة الأميركية غير المباشرة على حوالي 80% من احتياطيات النفط السورية وفق بعض التقديرات، وهذا يجعل المشهد العسكري لا يزال مرشحاً لمتغيرات جديدة.

انخراط روسي متنامي ومكسبٌ لم يكتمل بعد

أعلن بوتين نهاية عام 2017 من قاعدة حميميم في طرطوس "نصره" على "أقوى الجماعات الإرهابية العالمية". وأمر ببدء سحب القوات الروسية إلى قواعدها الدائمة في روسيا، مع الاحتفاظ بقاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية وعلى منشأة بحرية في طرطوس "بشكل دائم". إلا أنه وبحكم انتفاء عناصر السيولة في المشهد السوري الذي يتم التعاطي معه بإغفال الأسباب المولدة للصراع، فإن هذا الانسحاب يُشكل حالة دعائية أكثر منها واقعية، وذلك وفقاً للمؤشرات أدناه:

أولاً: الاستمرار في الانخراط العسكري وبكثافة عالية. إذ يُدلل الانخراط الكثيف والنوعي للسلاح الروسي في سورية على أن الأمر لا يتعلق فقط باستعراض فائض القوة وتجريب تلك الأسلحة في الميدان السوري بغية جلب عقود بيع لتلك الأسلحة([8])، وإنما يدلل بشكل واضح أيضاً على عدم قدرة موسكو على تثبيت المشهد الميداني. وهذا تطلب منها زيادة مستوى الانخراط كما كان واضحاً في طلعاتها الجوية في الجبهات الشمالية ولاسيما في ريف حماه وإدلب والغوطة الشرقية كما هو موضح في الجداول أدناه:

ثانياً: التدخل المتزايد في بُنية "الجيش النظامي". لقد بَدت ملامح السيطرة الروسية على مفاصل النظام وقواته، أكثر وضوحاً في الشهور الأخيرة، بعد تدخلهم في إعادة هيكلة وزارة الدفاع وقيادة الأركان، وبعض الأجهزة الأمنية. وفي حين تبدو بعض التحركات الروسية مدفوعة بما يوصف بمكافحة "قضايا الفساد" لمعالجة الهدر الكبير في مخصصات القوات المسلحة السورية، فإن بعضاً آخر منها لا يبدو مفهوماً إلا في سياق تثبيت شبكة من الضباط السوريين الموالين لروسيا في أبرز المواقع العسكرية والأمنية الحساسة. ولعل الهدف الأبرز وراء هذا الانخراط هو ما نجم إبان حركية التدخل الروسي عبر افتقاد هذا الجيش لأهم عناصر التماسك والحفاظ على المكاسب وتلاشي آليات "المبادأة الاستراتيجية"، وبمعنى آخر تنامي الارتكاسات البنيوية داخل هذا الجيش وهو ما يجعل تكلفة التدخل الروسي سياسياً وعسكرياً في ارتفاع مستمر([9]).

رابعاً: رسوخ الحل الصفري في المخيال الروسي. على الرغم من نجاح موسكو بحرف اتجاه العملية السياسية في سورية من كونها عملية انتقال سياسي حقيقي إلى ترتيبات سياسية شكلية، إلا أن تعثر مسار سوتشي نسبياً كمسار أريد له أن يكون حوار سورياً يُفضي حلاً سياسياً يكون انعكاساً للمفهوم الصفري، وتحول هذا المسار الذي هوَّل له الروس إلى لجنة دستورية مقترحة أعادهم إلى مطلب الحسم العسكري. ويتضح ذلك خاصة بعد ظهور "اللاورقة" التي اعتمدتها الدول الخمسة قبيل المؤتمر، وهي وإن اتفقت مع الطرح الروسي في ترتيب خطوات العملية (كدستور وانتخابات) إلا أنها حرمت موسكو من السيادة المطلقة عبر ربط أي مخرج سياسي بدور فعّال للأمم المتحدة([10]). كما يدل هذا الأمر على أن الترتيب العسكري للمشهد السوري لم يكن بالقدر الكافي الذي يؤمِّن لموسكو التحكُّم المطلق بالمشهد السياسي، مما دفعها للعودة مجدداً لتثبيت الحل الصفري ميدانياً. ويُشير هذا أيضاً بشكل واضح إلى ملامح عودة روسية عابرة للاتفاقات وخاضعة لمعيار بسط السيادة. ويعتري ذلك الكثير من المدخلات التي يجعل تلك العودة تورطاً وانخراطاً متزايداً. انظر الجدول أدناه والذي يوضح حجم الغارات الروسية المنفذة على الأحياء المدنية في المحافظات منذ تدخلها. ويوضح الجدول أن الزخم في مطلع هذا العام هو الأشد بالنسبة للأعوام السابقة.

عمليات إعادة الترتيب والفواتير المحتملة

تؤكد معطيات المشهد العسكري على تبلور طموحات إقليمية ودولية ناشئة (انظر الجدول أدناه الذي يبين انتشار القواعد الأجنبية في سورية) تجعل هذا المشهد يدخل في مرحلة إعادة تشكل وترتيب جديد سواء بالاتكاء على فكرة ومفهوم الدول الضامنة أو عبر ترسيم جديد لحدود النفوذ الدولي. وسينعكس هذا الترتيب الجديد حُكماً (سلباً أو إيجاباً) على العملية السياسية التي دخلت مرحلة من السيولة المغرقة منذ جنيف 8 وما تبعها من تطورات ميدانية (عملية غصن الزيتون، محاولات إعادة ترسيم حدود منطقة إدلب، معركة "الإبادة" في الغوطة الشرقية، العبث الإيراني في الجنوب السوري)، وما رافقها أيضاً من هشاشة في بنى الفواعل السورية سواء المعارضة التي باتت جسماً مائياً يصعب ضبط توجهاته أو النظام الذي يجد نفسه غير قادر على رفق السيطرة العسكرية بسيطرة سياسية واجتماعية (كما يتخيل) وغير مؤهل لمواجهة استحقاقات مرحلة البناء وإعادة الإعمار.

 وفقاً لهذه المعطيات يمكن الاستدلال على تنامي فرضية وضرورة إعادة الترتيب، ويُتوقع أن تحتوي معادلاتها على المعطيات التالية:

  • استدامة التواجد الأمريكي في سورية وبقاء امتلاكها لعنصر تعطيل الحركية الروسية وهو ما سيفرض -بعد عدة محاولات روسية فاشلة في تحجيمه-مرحلة تطبيع وتكيُّف من قبل موسكو مع هذا المعطى ومحاولة جعله ذو آثار أمنية أكثر منها سياسية.
  • استمرار اختبار ضبط النفس في الجنوب السوري، وهو ما يتطلب تعاملات دولية حذرة وقلقة. وسيرتبط استقرارها المؤجل بمدى نجاح المجتمع الدولي في تنفيذ مهمته الصعبة في ضبط إيران التي استطاعت خلال سني الصراع من احتلال سورية أفقياً بشكل أتاح لها امتلاك عنصر العطالة.
  • وضوح طبيعة التموضع التركي في معادلة علاقتها مع واشنطن وموسكو، فتركيا التي بلغت مهدداتها الأمنية مبلغاً جعل الخيارات الصلبة هي المدخل الأكثر حسماً لتنامي تلك المهددات، ستكون ذات تأثير واضح في الشمال السوري خاصة بعد شبه اكتمال تحقيقها لأهداف غصن الزينون واستحواذها شبه المكتمل على الأجزاء الشمالية.
  • استمرار الثلاثي (موسكو وطهران والنظام) في منوال عمليات "بسط السيطرة" في مناطق دمشق ومحيطها وحمص وحماه وريف اللاذقية، وهو أمرٌ سيرتبط كثيراً بمدى ثبات التنافس الأمريكي الروسي وعدم تدحرجه لمربعات أكثر حدية، ويتعلق إلى حد ما بمدى تقبُّل بنى هذا الثلاثي لمعارك الاستنزاف.
  • توفير أطر أمنية جديدة تستوعب هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية في سورية. ويمكن لهذه الأطر أن تكون وفق الجبهات، لعل أبرزها نموذج لمنطقة غرب النهر في الشمال ويستوجب ترتيباً روسياً أمريكياً تركياً، ونموذج للجنوب السوري والبادية السورية ويستوجب ترتيبات أمريكية روسية بالدرجة الأولى وقد تطول بحكم التضارب المتنامي.

وأمام هذا الافتراض المستند على هذه المعطيات، يكون المشهد السوري قد اقترب من تجاوز "الصراع المحلي" ونقله كلياً للمستوى الإقليمي والدولي والذي وإن كان مرتباً أولياً بتفاهمات واتفاقات أمنية، إلا أنها شديدة القلق ولم تعد صالحة لضبط التحولات الجديدة. فبات هذا المشهد بحاجة لترتيب آخر وهذا ما سيؤثر حكماً على طبيعة المخرج السياسي العام من جهة، وأداور الفواعل المحلية وحدودها من جهة ثانية، وسيجد هذا المشهد نفسه أمام المعطيات التالية:

  • أدوار دولية متعاظمة في مرحلة ما بعد الصراع، واستحقاقاته المتعددة.
  • عدم قدرة تماسك النظم المركزية كأطر سياسية للدولة، وتبلور مفاهيم الحكم المحلي أو الذاتي.
  • هشاشة مستدامة في معادلات الاستقرار، التكيف مع مفهوم الدولة الفاشلة.

ختاماً

  بعد إمعان موسكو بترتيب وهندسة المشهد العسكري في سورية منذ أخرجت حلب الشرقية من معادلات الصراع وساهمت في بلورة مفهوم الدول الضامنة، ولايزال معيار الاختبار لمدى تماسك هذا الترتيب يشهد قلقاً متزايداً لم يفلح حتى الآن في ضبط المشهد العسكري وتخفيف عناصر السيولة التي تعتريه. فمن جهة أولى ورغم استطاعتها –بالتوافق مع عوامل أخرى- من إخراج الصراع من دوائره الوطنية وخلق مقاربات عسكرية جديدة خففت من قدرة قوى المعارضة المسلحة إعادة تبنيها لنهج السيطرة والاستحواذ، إلا أن الصراع الدولي بات أكثر وضوحاً ولايزال في مراحل ما قبل الترتيب النهائي لحدود التأثير والنفوذ، ومرجحاً لحقبة زمنية طويلة تتبلور فيها مظاهر الحرب الباردة على الأراضي السورية بشكل أكبر واحتمالية تحولها لصدامات مباشرة. ومن جهة ثانية عادت عوامل الاستعصاء لتظهر بقوة في أتون حركة العملية السياسية رغم نجاح موسكو في إعادة تعريف عناصرها الأولية بما يتفق مع مخيالها السياسي. ولم تستطع موسكو الاستفراد في هذا المجال وخطف مسار جنيف لصالح الأستانة أو سوتشي، بل تنامت مؤشرات عودة فعالية المجتمع الدولي عبر التأكيد على الدور الأممي كناظم رئيسي لهذا الحقل. كما يرتبط قياس "مؤشرات" انخفاض التكلفة السياسية والعسكرية للتدخل الروسي في سورية عبر تتبع مقدرة النظام وحلفائه على إرفاق السيطرة العسكرية بمفاهيم السيادة وتضمينها آليات عودة الحياة، باعتبارها الهدف المعلن وراء التدخل.


([1]) منذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 (تاريخ بدء التدخل العسكري الروسي) تركزت معظم الضربات الجوية الروسية على مواقع المعارضة السورية بغية إخراجها من دوائر التأثير والفاعلية، كما عملت موسكو على إنشاء منطقة عدم تجوال في الأجواء السورية وإجبار طيران التحالف الدولي من التنسيق المباشر مع القوات الروسية قبل تنفيذ أي غارة، وذلك عبر نصب جهاز يعرف بـ Richag-AV الذي يتمتع بقدرة عالية على اعتراض الاتصالات والإشارات التي قد تُرسل إلى الصواريخ الذكية ومنها الباتريوت الأمريكي؛ كما قامت موسكو بإرساء سفينة حربية بالمياه السورية بالقرب من اللاذقية تحوي على مئات الصواريخ s300 العابرة للقارات ووفرت كمية كبيرة من الذخيرة والمستشارين والتقنيين لقوات النظام، وناهيك عن حماية وتثبيت المصالح المختلفة لدى روسيا بدءاً من الوجود العسكري وصولاً إلى الصفقات التجارية أو الدعم التقني لمشاريع غاز ونفط في البادية السورية، فقد حقق تدخلها تمكيناً عسكرياً للنظام في معظم مناطق (سورية المفيدة) وحصنت دفاعاته بالخط الساحلي من الشمال الى الجنوب.

([2])  موزعة على الشكل التالي (2012: 1، 2013: 6، 2014: 7، 2015: 16، 2016: 19، 2017: 26، 2018: 4)، آخر تلك الضربات كان فجر السبت 2018/2/10 على مطار "تي فور" إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية 6 أهداف إيرانية فقط، دون التعرض لأي من الاهداف داخل المطار سواء العائدة للنظام وهما "السرب 19 سوخوي24" و"السرب 827 سوخوي22م4" أو أي قطعة تتبع لقيادة اللواء الجوي "70" أو الدفاعات الجوية للنظام داخل المطار أو الأهداف التي تتواجد فيها بعض القوات الجوية الروسية. وحسب المصدر فإن الأهداف التي تعرضت للضربات الجوية الإسرائيلية: (-أربع عربات لإطلاق وقيادة -الطائرات المسيرة الإيرانية التي تمركزت في مطار "تي فور" في نهايات السنة الماضية 2017--المبنى الخاص بتواجد العناصر الإيرانية التي تعمل على هذه الطائرات-هنكار مبيت الطائرات المسيرة الإيرانية شمال شرق المطار-مستودع خاص بالقطع الفنية العائدة لهذه الطائرات المسيرة الإيرانية. للمزيد انظر: بالتفصيل.. الغارة الإسرائيلية استهدفت 6 مقرات إيرانية قبل إسقاط الطائرة، موقع زمان الوصل، تاريخ: 11/2/2018، الرابط: https://goo.gl/vWKAFE

([3])  ولعل العنصر الأكثر بروزاً في استراتيجية هذا التحرك يتمثل في معارك الطرق الرئيسية، إذ يخضع نحو 50% من مدينة درعا لسيطرة المعارضة، وكانت أحكمت سيطرتها على حي المنشية بمعظمه، لتنتقل المعارك إلى أطراف حي سجنة المجاور، خلال الأشهر التي سبقت اتفاق “تخفيف التوتر”، تموز 2017. وسيتركز العمل المرتقب على مناطق مختلفة من أوتوستراد درعا-دمشق، ساعية تلك الفصائل لحصار النظام في مدينة درعا، ثم التوجه نحو بلدة خربة غزالة، الواقعة تحت سيطرة النظام، ثم وصلها مع داعل والريف الغربي للمحافظة، وسط استعدادات للنظام الذي بدأت منذ السبت 10 من آذار، بتعزيز نقاطه الحدودية مع المعارضة داخل المدينة، وتحديداً في أحياء: شمال الخط، السحاري، المطار، الكاشف، السبيل، القصور. ويتوقع أن تمتد محاور العمل العسكري تمتد على طول أوتوستراد درعا-دمشق، من منطقة اللجاة باتجاه الوردات على أطراف بلدة محجة، من الجهة المقابلة للأوتوستراد، إضافة إلى منطقة البقعة على أطراف بلدة إزرع، والنجيح المتاخمة له، على أطراف اللجاة.

([4]) إجراء انتخابات برعاية أمريكية، وتوفير الدعم للسلطة المحلية من خلال تدريب الموظفين الحكوميين ودعم مشاريع إعادة الإعمار وتحسين قطاعات الخدمات العامة وإصلاح البنى التحتية، إنشاء جيش جديد قوامه 30 ألف مقاتل قوامه وحدات "قسد" التي تتشكل من الأكراد والعرب والسريان والتركمان الذين دربتهم الولايات المتحدة لشن العمليات الخاصة، وتكليفهم بمهام حفظ الحدود برعاية عسكرية أمريكية.

([5])  الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه سوريا تثير مخاوف إقليمية، موقع نور سورية /المرصد الاستراتيجي، تاريخ 18/2/2018، الرابط: https://goo.gl/FQht1A

([6])  للمزيد انظر: تطورات العلاقة بين الإدارة الذاتية والنظام وروسيا خلال عامي 2016 – 2017، ورقة بحثية صادرة عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ 22/1/2018، الرابط: https://goo.gl/MGJNYR

([7]) قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن الوجود العسكري الأميركي في سوريا يمثل تحديا جديا في طريق التسوية السلمية للأزمة السورية والحفاظ على وحدة البلاد، للمزيد أنظر: هل بدأت روسيا وأميركا معركة شد الحبل بسوريا؟ موقع الجززيرة، تاريخ 8/2/2018، الرابط: https://goo.gl/FppXtC

([8])  14 ألف تجربة مختلفة لأنواع السلاح الروسي تمت في سوريا بعد التدخل العسكري لموسكو في سبتمبر 2015، فقد نفّذ هذا السلاح خلال سنتين 30 ألف طلعة جوية، شملت 90 ألف هجوم على الأرض، وخلال هذه الطلعات جربت مقاتلات (سوخوي 35) ومروحيات (مي-35) القتالية الحديثة، بدعم من منظومة الدفاع الجوي، واستخدمت لأول مرة طائرات (مي-8) و(مي-24) و(مي-28 أتس)، و(كا-25 التمساح)، وفي يونيو (حزيران) 2017، ظهرت مركبة الدعم الناري من طراز (BMPT-72)، لأول مرة خارج روسيا، وتحديدًا في قاعدة حميميم الروسية بسوريا، وكذلك جربت موسكو  منظومة دفاعها الجوي (إس-400 ترايمف)، ومنظومة (كراسوخا 4) المحملة على شاحنة كبيرة، كما سجلت طائرتا (أورلان وفوربوست)، دون طيار الروسية، أولى طلعاتهما الجوية القتالية في سوريا.

أما بالنسبة لسلاح البحرية، فقد استخدمت أحد أكثر السفن الحربية الروسية تقدمًا، وهي فرقاطة من نوع (بايرن كلاس 21631)، ووقعت تجربة هذا النوع من السفن الحربية في بحر قزوين، وحسب المعهد البولندي فقد «شاركت البحرية الروسية بأساطيلها المختلفة (المتوسط، الشمال، المحيط الهادئ، والبحر الأسود، والبلطيق)، وجرّبت للمرة الأولى حاملة الطائرات (أدميرال كوزنيتسوف) وغواصات (كيلو كلاس) وفرقاطات وسفن حربية. ومن خلال السفن الحربية الجديدة، جرّبت البحرية الروسية صاروخ (كاليبر) (إس إس إن 27) ومداه 2600 كليومتر، وأطلقت الغواصات صواريخ لتجربتها في الميدان السوري».

وجربت في سورية مقاتلات جديدة حديثة من طراز (سو- 35) و(سو- 34)، بالإضافة إلى (سو- 24) و(سو – 25) المزودة بمنظومات حديثة تعمل على زيارة مدى فعالية استخدام الأسلحة غير الموجهة، واختبرت روسيا صواريخ (كاليبر) المجنحة التي أطلقت من منصات إطلاق مختلفة بما في ذلك من غواصات (فارشافيانكا)، وكما أسلفنا أرسلت طائرات من الجيل الخامس المتطور (سو-57).

للمزيد انظر: ميرفت عوف: "وسط صمت دولي... كيف تحولت سوريا إلى حقل تجارب للأسلحة الروسية؟، موقع ساسة بوست، تاريخ:7/3/2018، الرابط: https://goo.gl/h2SZDX

([9])  رائد صالحاني:" الأركان والدفاع مع الروس... وحافظ مخلوف إلى الواجهة مجدداً"، موقع المدن، تاريخ 19/1/2018، الرابط: https://goo.gl/Dzuexx

([10]) ورقة غير رسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف بشأن سورية”، كان هذا عنوان الورقة التي نتجت عن اجتماع باريس 23/1/2018 للدول الخمس: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، الأردن، وجرى تسريب مقصود للورقة صبيحة يوم 26/1/2018 ختام جولة فيينا للمفاوضات.

للمزيد انظر: ورقة الدول الخمس، تقدير موقف صادر عن موقع تطورات جنيف، تاريخ 12/2/2018، الرابط: https://goo.gl/vzSsjo

التصنيف أوراق بحثية