مركز عمران للدراسات الاستراتيجية - Displaying items by tag: الموازنات العامة السنوية

توطئة؛

دأبت حكومة النظام على استخدام الرقم الاقتصادي أداة لتمويه الحقائق حول الانهيار الذي ألمَّ بالاقتصاد السوري بعد عام 2011. بعد التراجع الكبير الذي سجلته مؤشرات الاقتصاد الكلي، وانخفاض أداء القطاعات الإنتاجية والخدمية، والتدهور في إيرادات الخزينة العامة وتدني المستوى المعيشي للمواطنين. وقد تبدى هذا التمويه بشكل واضح في الأرقام التي أُعلِنَ عنها في الموازنات العامة السنوية المتتالية مع غياب الشفافية اللازمة حول إجراءات إعدادها وتنفيذها، وخاصة بعد الانكماش الحاد في مصادر تمويلها والاعتماد بشكل كبير على التمويل بالعجز. ويعكس كل ما سبق السياسة التي يسعى إليها النظام باستخدامه الاقتصاد كوسيلة لشرعنة وجوده وتوطيد سلطته في هذا البلد.   

العجز المتأصل في الموازنة

في موازنتها لعام 2019 والتي بلغت قيمتها (3882) مليار ليرة سورية أي ما يعادل (8.92) مليار دولار أمريكي. وفي جانب العجز الذي يمثل أحد البنود الأساسية في الموازنة العامة أكدت حكومة النظام في بيانها المالي استمرار التدهور في وضعها المالي، حين أقرَّت الموازنة العامة للدولة بعجز بلغت نسبته 42.8% من قيمتها([1]أي ما يساوي 948.3 مليار ليرة سورية و2.18 مليار دولار أمريكي، الأمر الذي أثار الكثير من علامات الاستفهام لدى المتابعين والمحللين للوضع الاقتصادي في سورية حول مدى قدرة الحكومة على تغطية هذا العجز. ومع تأكيد الحكومة على أن هذه الموازنة هي الأكبر في تاريخ سورية، إلا أنَّ ذلك لا يعدو كونه تمويهاً إعلامياً للتغطية على تراجع اعتمادات الموازنة خلال السنوات الماضية وانخفاضاً في قيمتها. ففي عام 2011 بلغت قيمة الموازنة 12.96 مليار دولار، وبفارق 4.04 مليار دولار عن موازنة عام 2019، و6.66 مليار عن موازنة عام 2018. ولم تظهر في الموازنة العامة الحالية تفصيلات الإيرادات التي سيتم الاعتماد عليها لتمويل الموازنة وجعلها خالية من العجز. ورغم تأكيد وزير مالية النظام أن مصادر التمويل تعتمد بالكامل على الموارد الداخلية والمديونية الداخلية للمصرف المركزي عن طريق سندات موضوعة في التداول النقدي؛ لكن من المستبعد جداً أن تكون "الحكومة" قريبة من تغطية نفقاتها، في ضوء التراجع الحاد في قيمة هذه الإيرادات خلال الأعوام الماضية عما كانت عليه عام 2010، ممَّ يجعل هذه الموازنة كسابقاتها تعتمد على التمويل بالعجز.

تراجعت نسبة تغطية الإيرادات للنفقات العامة بشكل كبير على مدار الأعوام الماضية، حيث بلغت نسبة العجز في الموازنة عام 2018 (25.3%) من قيمة الموازنة أي ما يساوي(808.4) مليار ليرة سورية وهو ما يعادل (1.616) مليار دولار أمريكي. في حين بلغت هذه النسبة في الأعوام السابقة كما يبين الشكل (1).

 

وتثير هذه النسب الكبيرة للعجز السنوي العديد من التساؤلات التي تمحورت حول مدى قدرة "الحكومة" على تغطية هذا العجز، وما هي الآثار المحتملة لهذا العجز على مستقبل الاقتصاد السوري، على اعتبار أنَّ هذه النسب أكبر من قدرة الاقتصاد السوري على تحملها، بسبب غياب السوق المالية الفاعلة وعدم القدرة على الوصول إلى الأسواق الدولية للحصول على التمويل. وبعد أن بلغت كلفة الدمار الذي خلفته الحرب نحو 400 مليار دولار أمريكي وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة([2]). فضلاً عن ارتباط ملف إعادة الإعمار بالاعتبارات السياسية والاقتصادية على المستوى الدولي.       

السعي الحثيث لتغطية العجز

على مدار الأعوام الماضية، وفي سبيل تغطية هذا العجز سعت حكومة النظام جاهدة نحو زيادة إيرادات الخزينة العامة بمختلف الوسائل، ابتداءً من الاستفادة من الضرائب والرسوم عبر استحداث أوعية ضريبية جديدة، وزيادة الرسوم على الأوعية الضريبية الحالية وتحسين إجراءات التحصيل الضريبي ومكافحة التهرب الضريبي، إلى العمل على زيادة الإيرادات الاستثمارية، مروراً بضبط الإنفاق العام وترشيده، أو بالتضخم عن طريق الإصدار النقدي بدون تغطية، وانتهاءً بالاعتماد على القروض المحلية والخارجية لتمويل إيرادات الموازنة بالعجز. إلا أن هذه الإجراءات لتخفيض العجز تبدو في قسمها الأكبر خارج سيطرة السلطات المالية بشكل كبير، لأسباب ترتبط بالظروف الأمنية الحاضرة وتأثيرها على الظروف الاقتصادية، والعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على قطاعي الطاقة والاقتصاد، إلى جانب الخسائر الكبيرة لدى المؤسسات في القطاعين العام والخاص والتي أدت إلى تراجع إيراداتها وعدم قدرتها على تسديد الضرائب.

كما تبدو المشكلة أكثر تعقيداً في ظل غياب خيارات التمويل والاعتماد بشكل كبير على التمويل بالعجز عبر الاقتراض الداخلي من المصرف المركزي الذي أظهرَ تقرير للبنك الدولي في عام 2016 تراجع احتياطات المصرف من القطع الأجنبي من 20 مليار دولار في بداية عام 2011 إلى 700 مليون دولار([3]). أو اللجوء إلى الاستدانة من المصارف المحلية المتخصصة التي تعاني من مشكلات كبيرة في السيولة والديون المشكوك في تحصيلها. بالإضافة إلى قيام "الحكومة" بتدوير بعض الديون إلى سنوات مقبلة دون أن يرصد لها أي بند في الموازنة. إلى جانب غياب أي معلومات مؤكدة عن مصير احتياطي الذهب لدى المركزي والذي بلغ حجمه في بداية عام 2012 (25.8) طن وما قيمته 1.36 مليار دولار، ووجود تسريبات تفيد بقيام النظام ببيعه لتعويض نفاد احتياطي العملة الصعبة([4]). إلى جانب ذلك فإن ما يتداول عن نية المصرف المركزي طرح سندات وأذونات لا يعدو كونه إجراء لطمأنة السوق، ومن المتوقع ألا يكون هناك إقبالاً لشراء هذه السندات مهما بلغت نسبة الفائدة عليها، في ظل عدم ثقة المستثمرين بالوضع الاقتصادي، لا سيما مع فقدان الليرة السورية لنسبة 1000% من قيمتها منذ عام 2011 والذي لا يمكن أن تجاريه أي فائدة([5]).

وبالتالي فإن تصريح حكومة النظام باللجوء إلى الاقتراض من البنك المركزي لتمويل العجز لا يعدو كونه مجرد وسيلة تتكئ عليها لتفسير كيفية تمويلها للعجز، وتسويقاً لفكرة أن المصرف المركزي لا يزال قادراً على لعب دوره في تمويل عجز الموازنة العامة للدولة.

التبعات المستقبلية للدين 

إن لجوء هذه "الحكومة" إلى الاعتماد على الاقتراض الداخلي خلال الأعوام الماضية أدى إلى زيادة المديونية الداخلية بشكل كبير، والتي تخطت وفقاً لبعض التقديرات حاجز أربع تريليونات ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي 8 مليار دولار أمريكي. مجبراً إياها في الوقت ذاته على اتخاذ إجراءات تقشفية، مثل الضغط على الإيرادات من أجل تخفيض حجم النقد الأجنبي اللازم لتمويل المستوردات، وتخصيص الفائض من أجل تمويل الإنفاق الجاري، واللجوء في المقابل على صعيد الإيرادات إلى احتساب فائض السيولة لدى شركات ومؤسسات القطاع العام، وقسم من أموال التأمينات الاجتماعية وأموال التأمين والمعاشات كمورد من موارد الموازنة على الرغم لما لهذه التدابير من تبعات وآثار سلبية على كل من النمو والنشاط الاقتصادي. وبالتالي أسهم هذا الوضع في زيادة العرض النقدي وظهور تأثيرات تضخمية واضحة، وأدى إلى تشويه الموازنة وانخفاض مستوى الشفافية فيها نظراً لعدم انعكاس هذا التمويل في بنودها بشكل واضح.

إنَّ ما سبق يدلل بشكل واضح أن النظام وفي سبيل استمراره يعتمد بشكل كبير على الاقتراض الخارجي لتمويل موازنته، فبعد القرض الائتماني الأول الذي حصل عليه من إيران في عام 2013، والذي بلغت قيمته 3.5 مليار دولار؛ بدأت عجلة الديون الخارجية بالدوران لتتخطى في نهاية عام 2018 حاجز 60 مليار دولار ترجع في جزء كبير منها لكل من إيران وروسيا([6]). مع عدم وجود أية أرقام معلنة من قبل النظام ودائنيه حول هذه الديون، وقيام أفراد حكومته بالتعمية عليها ومحاولة التقليل من أرقامها بشكل كبير عبر التصريحات المنمَّقة. وبالتالي ستفرض هذه الديون نفسها على الاقتصاد السوري وستشكل أبرز الملفات التي ستواجه مستقبل الأجيال القادمة في سورية، مجبرة إياها على تسديد فواتيرها الضخمة تحت عنوان خدمة الدين العام إلى أن تتمكن بعد عقود عدة من تسديدها. ولتشكل حجر عثرة في طريق نهوض هذا البلد وتعافيه من الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب. يضاف إلى ذلك الارتهان السياسي والاقتصادي للقوى والتكتلات التي ستنخرط في عملية إعادة الإعمار.     

ختاماً يمكن القول، أنه وعلى الرغم من تمَّكن النظام من الاستفادة من القروض المحلية والخارجية والعوامل الاقتصادية الداخلية لتثبيت وجوده خلال الأعوام الماضية لإرساء وتنفيذ موازناته العامة؛ إلا أنه لن يتمكن على المدى المنظور من السيطرة على آثار الاختلال الجاري في توازنات الاقتصاد الكلي إلا بشكل محدود، في ظل التدني المستمر لفاعلية أدوات التدخل المالية والنقدية في الاقتصاد، والتخبط الواضح في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل تداعي هذا الاقتصاد وتفككه نتيجة تعرض محركاته الأساسية لضربات قوية أنهكت بنيته وأفقدته الكثير من مقوماته جراء الحرب المستمرة والتدمير الممنهج للبلد إنسانياً وعمرانياً واقتصادياً.


([1]) قراءة أولية في أرقام موازنة 2019 … الحكومة تتوقع زيادة الإيرادات بنسبة 23 بالمئة، جريدة الوطن، 05-11-2018: http://bit.ly/2Gk9nsM

([2])  400 مليار دولار كلفة الدمار في سورية، جريدة الشرق الأوسط، 10-08-2018: https://goo.gl/YHTkdY

([3]) البنك الدولي يعلن انهيار احتياطي سورية من العملات الأجنبية، السورية نت، 20-04-2016:  https://goo.gl/v4SK1X

([4]) الأسد يبيع احتياطي الذهب بأسعار بخسة، بيروت اوبسيرفتر، 18-04-2012: https://goo.gl/voCuWy

([5]) عدنان عبد الرزاق، الليرة السورية تخسر 1000% من قيمتها في سبع سنوات، العربي الجديد، 01-07-2018: https://goo.gl/DttDNL

([6]) نضال يوسف، سورية غارقة بالدم والديون، مجلة صور، 27-05-2017: https://goo.gl/vMG2Ha

التصنيف تقدير الموقف