أدَّت الأحداث المستمرة في سوريا منذ عام 2011 إلى خلق حالة من التشظي في القطاع الدفاعي وانهيار حدود الدولة، رافق ذلك نشوء جماعات راديكالية وميليشيات طائفية عابرة للحدود، بالإضافة إلى انقسام المجتمع بالتوازي مع وضع إنساني متردي، وتهجير أكثر من 10 ملايين إنسان داخليًّا وخارجيًّا نتيجة عمليات النظام العسكرية، وقد قاد ذلك في نهاية الأمر إلى ضياع السيادة الوطنية تحت الضغوط الخارجية والتنازلات التي تمَّ تقديمها من قِبَل قيادة النظام لكلٍّ من روسيا وإيران في صالح بقائها في سدَّة الحكم.
على الرغم من الأحداث الجسام التي مرت بها سوريا، والتي كان القطاع الدفاعي فيها هو الأكثر نشاطًا وإن اختلفت فعاليته، فإن المؤسسات المدنية قد بقيت ضمن حدود تدخلاتها الدنيا كما هو الحال قبل عام 2011، في مقابل صلاحيات كبرى ممنوحة دستوريًّا لرئيس الجمهورية، حيث فشلت هذه المؤسسات في الحفاظ على سوريا “البلد” خلف “القيادة الحكيمة” كما تدَّعي، في مقابل نجاحها في دعم نظام الحكم القائم.
مع العلم أن بشار الأسد لديه -أسوةً بأبيه من قبله- صلاحيات دستورية وقانونية واسعة في مختلف قطاعات الدولة (المدنية والعسكرية)، وقد أسهمت هذه الصلاحيات في تمكُّنه من التحكُّم بالدولة كيف شاء، ووطَّدت في الوقت ذاته ديكتاتورية النظام القائمة أساسًا على الرعب والخوف.
لن نتحدَّث هنا عن جرائم النظام في حق الشعب السوري، فهي معروفة للجميع، بل سنسلِّط الضوء قليلًا على بعض الأدوات الدستورية والقانونية المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي التي يستخدمها نظام الأسد في توطيد ديكتاتوريته.
الدستور
في عام 2012، تمَّ إقرار دستور جديد وُضِعت مواده على أساس الدستور السابق 1974، وذلك ضمن حزمة “إصلاحات” مفترضة كان من شأنها تخفيف حالة الاحتقان الشعبي، إلا أن الدستور الذي جاء في ست عشرة صفحة وبمواد مقتضبة، لم يتأخر فحسب، بل لم يلبِّ مطالب الشعب السوري التي وصلت إلى حدِّ المطالبة بإسقاط النظام ورموزه، فقد تطوَّرت الأمور مع الوقت إلى مواجهة مسلحة بين قوات النظام والشعب السوري، وذلك بالتزامن مع حالات انشقاق في صفوف الجيش والشرطة.
لقد منح دستور 2012 رئيسَ الجمهورية صلاحياتٍ واسعة في السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) قوَّضت الطموح إلى الوصول لدولة مؤسسات، خاصةً أن الدستور لم يذهب عميقًا في تفصيل مواده، مما سمح بإفساح المجال أمام مشرعي “النظام” لتفسير تلك المواد بالطريقة التي تناسب احتياجاتهم ورغباتهم، وأسندت أهم قطاعات الدولة إلى قوانين كان يتمُّ استصدارها بمراسيم تشريعية من رئيس الجمهورية بناءً على صلاحياته التشريعية.
وقد نصَّ الدستور على أن رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، كما منحه سلطة إعلان الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح بعد موافقة مجلس الشعب، أما في حالة الطوارئ فقد منحه سلطة إعلانها أو إلغائها عبر مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته، كما منحه حقَّ تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وإنهاء خدماتهم.
يضاف إلى ذلك عدد كبير من المواد الدستورية الأخرى التي تمنح الأسد صلاحياتٍ مطلقة تمكِّنه من إدارة الدولة بالشكل الذي يريده.
قانون الخدمة العسكرية
وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 وتعديلاته. يُنظم القانون المسائل المتعلِّقة بخدمة العسكريين في الجيش من الضباط وضباط الصف والأفراد المتطوعين، وكذلك شروط الترقية والرواتب والإعارة…إلخ، كما يحدِّد الهيكلية العامة للجيش والقوات المسلحة وتكوينها، ويحدِّد مهام مجلس الدفاع العسكري الذي يرأسه بشار الأسد، التي تتمثَّل في كلٍّ من: العقيدة القتالية، وحجم الجيش وتنظيمه وتمركزه وتسليحه وتجهيزه وتدريبه، ومشاريع القوانين والأنظمة المتعلِّقة بالقوات المسلحة، ودراسة القضايا المهمَّة المتعلِّقة بالجيش والقوات المسلحة، وهذه المهام التي يقوم بها مجلس الدفاع العسكري تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين ماهية الجيش وأساس وجوده وفعاليته وهدفه، وبقيت حكرًا على العسكريين فقط دون أن يكون هناك أيُّ دور أو تمثيل مدني.
وقد منح القانون أيضًا للقائد العام سلطةَ إنشاء أو إلغاء أو تنظيم أو تعديل أجهزة القيادة العامة وتحديد سلطاتها واختصاصاتها وأملاكها، وذلك دون الرجوع لأحد، سواء من القيادة العامة أو حتى من خارجها، كما للقائد العام الحق في تعيين الوظائف الكبرى في الجيش، كنواب القائد العام ورئيس هيئة أركان الجيش والقوات المسلحة، بناءً عن مرسوم صادر عنه.
بشكل عام، لقد عزَّز هذا القانون السلطةَ العسكرية المطلقة داخل المؤسسة العسكرية بعيدًا عن أيِّ تدخل من قِبَل المؤسسات المدنية في كيفية إدارة القطاع الدفاعي أو تشكيله في سوريا.
قانون خدمة العَلم
وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 30 لعام 2007 وتعديلاته، ويتضمَّن هذا القانون الأحكام والقواعد والنُّظم الخاصة بخدمة العلم الإلزامية والاحتياطية والواجبات والحقوق في الجيش، وخصَّ القائد العام نفسه بعدد من الصلاحيات، مع تفويض بعضها للقيادة العامة، وأجاز القانون للقائد العام بمرسوم يصدر عنه إعارة المجندين (المدنيين أصلًا) إلى إحدى الجهات الحكومية العربية والأجنبية، دون العودة إلى أحد، وغيرها الكثير من المواد التي تسمح له بالتحكُّم في كل شيء.
على صعيد آخر، عانى القانون في بعض مواده من ثغراتٍ فتحت الباب أمام شبكات فساد من أعلى المستويات إلى أدناها، وقد وصل الأمر في النهاية إلى تعديلها بناءً على توجيهات روسية، كما تُركت هذه الشريحة (المجندون الإلزاميون) فريسةً لحاجات قيادة النظام في تغطية النقص البشري الحاصل في الجيش، والتي أبقتهم في الخدمة عدَّة سنوات دون حتى أن يُسمح لمجلس الشعب بالنظر في إمكانية إنهاء خدمتهم العسكرية، مع العلم أن الخدمة الإلزامية يُفترض أن تكون مدَّتُها 18 شهرًا بعد أن كانت 24 شهرًا، بناءً على المرسوم التشريعي رقم 35 بتاريخ 19 آذار/ مارس 2011 الذي حاول به بشار الأسد استمالة المُكلَّفين بالخدمة العسكرية بعد بدء الأحداث في سوريا بعدَّة أيام فقط.
وبشكل عام، يلاحظ في قانون خدمة العلم غياب أُطر المراقبة البرلمانية من قِبَل مجلس الشعب على سير وتنظيم عملية خدمة العلم، واقتصار عمل لجنة الأمن الوطني في مجلس الشعب على إجراء لقاءات ومناقشة أمور بعيدة عن جوهر عملها الذي يُفترض بها أن تقوم به.
العلاقة مع المؤسسات المدنية
يملك مجلس الشعب -بحسب نظامه الداخلي– حقَّ التصديق على مشروعات المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي أبرمها أو التي عقدها مجلس الوزراء والتي تتعلَّق بسلامة الدولة، وهي معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التي تتعلَّق بحقوق السيادة (المادة 163)، وللمجلس الموافقة عليها أو رفضها (المادة 164).
للوهلة الأولى، يبدو فعلًا أن مجلس الشعب ومجلس الوزراء يملكان صلاحياتٍ جيدة تمكِّنهما من إدارة أهم الخطوات بما يتعلَّق بالقطاع الدفاعي، إلا أن الشياطين تكْمُن في التفاصيل، خاصةً أن كافة قوانين القطاع الدفاعي قد صدرت بمراسيم تشريعية ولم تصدر عن مجلس الشعب أساسًا، حيث منحت تلك القوانين صلاحياتٍ مطلقة للقائد العام، وضيَّقت المجال أمام علاقات مدنية عسكرية متوازنة.
خاتمة
تنسحب صلاحيات الرئيس/ القائد العام على بقية القوانين المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي في سوريا، وقد سمحت تلك الصلاحيات الممنوحة له بالتحكُّم في القطاع الدفاعي بالشكل الذي يريده هو لا بالشكل الذي يضمن مصلحة البلاد العليا، ناهيك عن عدم السماح لمجلس الشعب بمناقشة قضايا “أساسية” تتعلَّق بالجيش بشكل خاص وبالقطاع الدفاعي بشكل عام، واقتصرت بعض التعديلات التي قادها مجلس الشعب على تصحيح رتوش في تلك القوانين، أو العمل على مشاريع قوانين من شأنها تعزيز السلطة الحاكمة، والإيهام بأن هذه القوانين قد صدرت فعلًا عن “ممثلي الشعب”.
يرتكز بشار الأسد في ديكتاتوريته على عدَّة قطاعات رئيسة هي: عسكرية يتحكَّم بها وموالية له في العصبية الطائفية، ومدنية تعتمد على حزب البعث ومجردة من الصلاحيات، وأمنية قوية تضبط كافة القطاعات الأخرى وتدير عملها. وليس هذا الارتكاز حديث العهد، بل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة في عام 1970.
بالرغم مما سبق، يُعَدُّ رئيس الجمهورية -بشار الأسد- بحسب ما نصَّت عليه المادة 117 من الدستور: غيرَ مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، وتُوجَّه له التهمة عبر مجلس الشعب الذي يسيطر عليه بشكل مطلق، مع العلم أن الخيانة العظمى لم يتم تحديد ما هي، لا في الدستور ولا في أيِّ قانون آخر.
المصدر: منتدى الشرق للأبحاث الاستراتيجية؛ https://bit.ly/3sWdhi4
بتاريخ 6 تشرين الأول 2020 وخلال مقابلته مع موقع السورية نت؛ أوضح الباحث في مركز عمران للراسات الاستراتيجية معن طلاع أن نظام الأسد فرض ثلاث شروط لانخراطه في العملية الدستورية كاعتبار مخرجاتها بمثابة مقترحات دستورية تعرض على مجلس الشعب والاستفتاء، وأن تبدأ العملية في جنيف ولكن تٌخرج من دمشق، إضافة الى عدم وجود إطار زمني محدد لعمل اللجنة الدستورية.
وأكد طلاع أن هذه الشروط جعلت استحقاق الدستور هو استحقاق حكومي أكثر مما هو استحقاق سياسي، وبالتالي فإن النظام أراد تعطيل كافة استحقاقات القرار 2254 والمضي باستحقاقاته بغية فرض واقع سياسي جديد يرتجي به الشرعنة والقبول الدولي.
المصدر السورية نت: https://bit.ly/36PVvlT
"بمجرد أن أحصل على جنسية هذا البلد سأنتخب للمرة الأولى في حياتي" هكذا أجاب شاب سوري في الثلاثينات من عمره خلال مقابلة اللجوء في أحد البلدان الأوروبية. ففي حين توصف عملية الانتخاب بأنها حق المواطن في اختيار من يمثله سياسياً وينوب عنه في إدارة دولته سواء من خلال الانتخابات على المستوى المحلي (الانتخابات المحلية) أو على المستوى التشريعي (انتخابات مجلس الشعب) أو على المستوى الوطني متمثلاً برئاسة الدولة، فإن ذلك الحق يتحوّل إلى حلم بعيد المنال بالنسبة للمواطن من جهة، وإلى أداةٍ صوريّة تتلاعب بها الأنظمة الديكتاتورية في مشاهدٍ هزلية غايتها الاستمرار في الاستحواذ على الحكم بشكل كامل دون أي منازع من جهة أخرى.
عمل حافظ الأسد بعد انقلاب حزب البعث وقبل تسلمه السلطة عام 1973 على تأسيس نموذج استبدادي مُحكم، تمثّل بمنظومة تشريعية متكاملة من القوانين والأنظمة التي كرّسها دستور 1973، ولم يتوقّف عند المنظومة المؤسساتية كأداة تنفيذيّة كانت تعكس فساد وتلاعب السلطة المهيمنة على الحكم لعقود. |
وعند تناول الحالة السورية كمثال، نجد أن السوريين قد حُرِموا فعلياً من حق الانتخاب لمدة واحد وخمسين عاماً بشكل مقونن في ظلّ حكم عائلة الأسد. فمنذ أن استولى حزب البعث على الحكم عام 1963 لم تجري أية انتخابات تشريعية لمدة عشر سنوات، ليحوّل بعد ذلك نظام الأسد عملية انتخاب السلطة التشريعية إلى استحواذٍ لحزب البعث متمثلاً بالجبهة الوطنية التقدمية على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان لمدة أربعين سنة، كما حوّل عملية انتخاب السلطة الرئاسية إلى مجرد استفتاء صوري على من تختاره القيادة القطرية لحزب البعث، بنتائج تراوحت نسبة "نعم" فيها من 97% إلى 100% على مدى الاستفتاءات التي جرت خلال واحد وأربعين سنة. أما الانتخابات المحلية فأُفرِغَت من محتواها بشكل مطلق على مدى ما يقارب خمسة عقود، حين نصّ قانون الإدارة المحلية رقم 15 لعام 1971 على تعيين المحافظ واعتباره من السلطة التنفيذية بدل انتخابه من السكان المحليين، وأحال كل ما يتعلق بهذه الانتخابات إلى القانون بدلاً من ضمانتها دستورياً.
على مرّ كل تلك السنوات، يظهر جليّاً لكل من عمل لدى الدولة السورية في عهد "الجمهورية الثانية" ــكما يطلق على الفترة التي بدأت بانقلاب حزب البعث على السلطةـــ حرص النظام الحاكم على "التخريج القانوني" لكل ما يقوم به من قولٍ أو فعل، على الرغم من كل الانتهاكات الحقوقية والفظائع الإنسانية التي ارتكبها ولا زال يرتكبها حتى اليوم بحقّ الشعب السوري، مهما شاب ذلك التخريج من عيوب شكلية وموضوعية. وهنا يبرز التساؤل الجوهري حول ماهية المنظومة القانونية والتشريعية التي استطاع النظام في سورية أن يسخرها لتحقيق أغراضه وبقائه في الحكم حتى اليوم. إضافةً إلى التساؤل الأهم فيما يخصّ مسألة الانتخابات من حيث مدى أهميتها بل وجدواها في ظلّ الوضع السوري الراهن. حيث يسعى النظام الحاكم إلى الاستمرار في استخدامها كأداة صورية لشرعنة سلطته، في ظل قلة حيلة الشعب وضعف وعيه العام بأهمية العملية الانتخابية وجدواها، وعجز المجتمع الدولي عن فرض صيغة سياسية للحل تجرد النظام من هذه الأداة وتضعه أمام انتخابات حرة ونزيهة تعكس الإرادة الحقيقة لكل مكونات الشعب السوري.
تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى معاينة "هندسة" النظام الانتخابي السوري في ظل نظام الأسد، وكيف تم تصميمه من الناحية القانونية والتقنية بما يحقق الاستحواذ الكامل على الحكم بسلطاته الرئاسية والتشريعية فضلاً عن المحلية. وذلك من خلال تسليط الضوء على العناصر القانونية والدستورية التي تحكم العملية الانتخابية وتؤثر على نتائجها وجدواها، إضافةً إلى بعض الملاحظات الواجب مراعاتها في أي عملية سياسية للحل في سورية تفادياً لتكرار ما حدث عشية 1973، وبما يضمن الوصول إلى تمثيل ديمقراطي حقيقي للشعب في سلطات الحكم. خصوصاً مع تجهيز نظام الحكم الحالي للانتخابات التشريعية هذا العام، والانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في العام القادم (2021)، وأخيراً الانتخابات المحلية في حال إجراءها كما هو مقرر لها قانوناً (عام 2022).
يلاحَظ في تصميم دستور 1973 التناقض المتعمّد بالنصّ على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة الثامنة) ومن ثمّ منح "مجالس الشعب" كمؤسسات ينتخبها المواطنون ديمقراطياً حقّ إدارة الدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة العاشرة)، لتظهر "الجبهة الوطنية التقدمية" المنصوص عليها في المادة الثامنة كموحدة لطاقات الشعب بمثابة حلّ لذلك التناقض ظاهرياً، رغم أنها تفرغ المادة العاشرة كلياً من محتواها بوضع تلك الجبهة تحت قيادة حزب البعث. إلا أن ما يحلّ التناقض بشكل حقيقي هو معرفة أن حزب البعث آنذاك كان تحت قيادة حافظ الأسد الذي سيصبح رئيساً في الخطوة اللاحقة، مما يفسّر "تفصيل" الدستور السوري على شخصه تماماً في تلك الفترة.
في حين أن دستور 1973 يجعل رئيس الجمهورية مقترحاً من قيادة حزب البعث بدلاً من انتخابه من الشعب، فإن هذا الرئيس يتمتع بموجب الدستور بسيطرة مُحكمة ومباشرة على كلٍ من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، دون أن يكون بدوره مسؤولاً أمام أحد. |
وفي محاولة لفهم المقصود بإدارة الدولة والمجتمع، يوضّح الباب الثاني من الدستور سلطات الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، ويمنح في المادة الخمسين منه "مجلس الشعب" المنتخب بشكل مباشر من الشعب سلطة التشريع (إقرار القوانين، إقرار المعاهدات والاتفاقيات، إقرار العفو العام، إقرار الموازنة العامة)، إضافةً لاختصاصه بترشيح رئيس الجمهورية وبإمكانية حجب الثقة عن الحكومة، مع حظر الحدّ من "وكالة" ممثلي الشعب بأي قيد، على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين. ثم يحيل كل ما عدا ذلك من أحكام تتعلق بالعملية الانتخابية إلى القانون، بما في ذلك شروط ممارسة حق الانتخاب. وبينما يفرض الدستور على المجلس وضع نظامه الداخلي، لا يجعل من مجلس الشعب مسؤولاً أمام أي جهة، سواءً عن مدى التزامه بالنظام الداخلي أو من حيث تقييم أداء أعضاء المجلس ورئيسه ومدى تمثيلهم الحقيقي لإرادة الشعب.
أما السلطة التنفيذية فيمنحها الدستور بموجب المادة الثالثة والتسعين إلى رئيس الجمهورية ليمارسها "نيابة" عن الشعب، وبعد أن كان قد نصّ في المادة الواحدة والسبعين على ترشيح رئيس الجمهورية من قبل مجلس الشعب، يستدرك في المادة الرابعة والثمانين ليجعل ذلك الترشيح مبني على اقتراح قيادة حزب البعث يُعرض على المواطنين للاستفتاء. كما يجعل الدستور من مجلس الوزراء "هيئة تنفيذية وإدارية" ومن مجالس الشعب المحلية "هيئات" تمارس سلطاتها في الوحدات الإدارية وفق القانون الذي يحدد كل ما يتعلق بانتخابها وعملها. وفي حين يمنح الدستور رئيس الجمهورية ـــ غير المنتخب فعلياًـــ كلاً من السلطة التنفيذية ورئاسة السلطة القضائية وسلطة التشريع ـــ التي كان قد منحها لمجلس الشعب قبل ذلك ـــ مع تخويله حق حلّ مجلس الشعب، عدا عن الصلاحيات الأخرى غير المحدودة ومنها رئاسة الجيش والقوات المسلحة، فإنه ورغم كل ذلك يعفيه من أي رقابة على سلطته أو تقييم لأدائه من قبل أي جهة وتجاه أي فعل باستثناء حالة الخيانة العظمى التي لم يعرّفها أي من الدستور أو القانون.
لعبت صياغة دستور 1973 من حيث اختيار المصطلحات دوراً أساسياً في التكريس الدستوري لأدوات الاستبداد التي قامت عليها كل المنظومة القانونية في سورية خلال حكم البعث. |
وبالنتيجة، فإن دستور 1973 المليء بالتناقضات، وصف الدولة السورية بأنها ديمقراطية شعبية في مادته الأولى، لينص تالياً على أنها محكومة بقائدٍ أوحد يقترحه الحزب الأوحد دون أن ينتخبه أحد أو يسأله عمّا يفعل. وكما يتضّح من صياغة الدستور، فقد استُخدِمت المصطلحات بشكل مُحكم بما يلتف على الاستبداد من جهة، وبما يحقق السيطرة الكاملة على الحكم من جهة أخرى، ومن الأمثلة على ذلك أنه نصّ على "إدارة الدولة والمجتمع" من قبل المجالس المنتخبة في حين نصّ على "قيادة الدولة والمجتمع" من قبل حزب البعث. كذلك وصف مهمة عضو مجلس الشعب المنتخب "بوكالة تمثيل الشعب" التي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي الوكالةـــ عقداً تترتب عليه التزامات متبادلة، وبالمقابل وصف مهمة رئيس الجمهورية "بالنيابة عن الشعب" والتي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي النيابةـــ تخويل النائب بالحلول محل الأصيل في كافة الحقوق وآثارها. كما استخدم الدستور اختصاص "ترشيح رئيس الجمهورية" من قبل مجلس الشعب، ليستخدم لاحقاً اختصاص "اقتراح رئيس الجمهورية" من قبل قيادة حزب البعث، في محاولة لإخفاء التناقضات التي احتواها الدستور في هذا الخصوص، فضلاً عن التناقضات التي سنعرض لها لاحقاً فيما يخص كل سلطة من سلطات الحكم على حدى، منذ تولي نظام الأسد السلطة وحتى اليوم.
تتناول هذه الدراسة المسألة الدستورية في سورية من عدة زوايا، أولها: التركيز على أهمية عملية الصياغة الدستورية بحد ذاتها، وذلك بالتأكيد على العناصر الضرورية لشرعنة المنتج النهائي (الدستور). أما القسم الثاني: فيناقش القضايا الخلافية التي ستواجه القائمين على عملية الصياغة، ومن أهمها قضية الهوية، ومساحة الحقوق والحريات، واللامركزية، وشكل النظام السياسي، ويقدم القسم الثالث: خلاصات وتوصيات للمختصين وصانعي القرار.
أولاً: يستعرض القسم الأول أهمية عملية الصياغة الدستورية كمصدر أساسي لشرعية الوثيقة الدستورية، ويوصي بضرورة الاستفادة من التجربة الإنسانية. يتناول هذا القسم بعض التجارب الفاشلة في عملية الصياغة (حالتي العراق ومصر)، وتجربتين ناجحتين (جنوب أفريقيا وتونس)، ويستخلص العناصر المطلوبة لعملية صياغة سليمة.
ثانياً: يستعرض هذا القسم أهم الإشكاليات التي تعاني منها سورية اليوم، وهي: قضية الهوية، وعلاقة الدين بالدولة، وموضوع الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها مشاركة المرأة بشكل حقيقي وفعال، وكيفية طمأنة المكونات العرقية والدينية والطائفية، وموضوع اللامركزية، وأخيراً التوافق على تركيبة النظام السياسي. يتم مناقشة هذه القضايا ضمن سياق التجارب الدستورية السورية السابقة، وتجارب بعض الدول العربية المشابهة لها.
ثالثاً: يقدم القسم الثالث مجموعة من الخلاصات والتوصيات بناء على التحليل في القسمين السابقين، أهمها:
وختاماً، فإن السياق المنطقي لصياغة دستور جديد لسورية يجب أن يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي، تشرف على عملية انتخاب جمعية تأسيسية، تقوم بعملية صياغة الدستور، وتدير حواراً مجتمعياً حولها، وذلك في إطار حل سياسي على أساس وثيقة جنيف لعام 2012 وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وتترافق مع مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإعادة تشكيل للقطاع الأمني.
تشكل مسألة صياغة دستور جديد لسورية المستقبل أحد أهم عناصر الحل السياسي للقضية السورية. ومع أن هذه القضية مدرجة على كافة المستويات، إلا أنها لم تحظ بنقاش واف يتناسب مع أهميتها. ستناقش هذه الورقة أهم أبعاد المسألة الدستورية، وهي: أهمية عملية الصياغة الدستورية وجديتها، ثم تناقش القضايا الخلافية المتوقعة، ومنها مسألة الهوية وشكل النظام السياسي، وأخيراً تخلص إلى بعض التوصيات التي يُؤمل أن تكون مفيدة للمختصين وصانعي القرار حول عملية صياغة الدستور المطلوب.
بداية، فإن الدستور هو القانون الأساسي الذي يحدد شكل النظام السياسي ويحكم سلوك الدولة، على أساس المبادئ المترسخة التي توافق عليها المجتمع من خلال عقد اجتماعي بين مختلف المكونات المجتمعية، وآخر سياسي بين الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من اختلاف الدساتير، فإن أغلبها يشتمل على وصفٍ لهيكلة النظام السياسي، وتنظيم علاقة السلطات ببعضها، والقيود المفروضة على وظائف الإدارات الحكومية المختلفة، وذلك من خلال تحديد مدى وطريقة ممارسة سلطاتها السيادية. وتعكس الدساتير الحديثة حدود وممارسات السلطة السياسية من خلال شمولها على آليات مؤسساتية لحماية مصالح وحريات وحقوق المواطنين، بما في ذلك الأقليات.
تعتبر التجربة الإنسانية في الصياغة الدستورية غنية في تقديم نماذج ناجحة في تحقيق أهدافها، بينما تشير تجارب أخرى إلى فشل كبير أدى إلى تكرار التجربة مراراً قبل الوصول إلى صيغ مقبولة من قِبل القوى السياسية والمجتمعية المشكِّلة لهذه الدول. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى بعض الحالات الاستثنائية التي دفعت القادة المسؤولين عن بناء الدولة إلى تأجيل الخوض في القضايا الخلافية للعملية الدستورية حتى أجل غير مسمى، هذا هو حال التجربة الإسرائيلية التي قرر سياسيوها، بعيد الإعلان عن قيام “كيانهم/دولتهم”، عن تأجيل كتابة دستور لمعرفتهم أن الخوض في مسائل مثل تعريف من هو اليهودي، ومناقشة الخلاف الموجود بين اليهود المتدينين والعلمانيين قد يفجر صراعاً، شعر القادة في ذلك الوقت أن الدولة الناشئة بغنى عنه، وانتهى الأمر بعدم اعتماد دستور مكتوب. وبالطبع، فإن المملكة المتحدة التي تعدُّ أعرق دولة مترسخة في تقاليدها البرلمانية ليس فيها دستور مكتوب، بل مجموعة من الوثائق والأعراف والتقاليد والقوانين والسوابق التي تقوم مقام الدستور بشكله الرسمي.
الدرس الآخر الهام في عملية الصياغة الدستورية هو مدى جدية القوى السياسية الفاعلة في التوصل إلى حالة دستورية حقيقية، تلخص المبادئ والأسس المتفق عليها بين المكونات المجتمعية، وترسي دعائم دولة القانون، وتفصّل دور المؤسسات، وتحدد حقوق وواجبات المواطنة. للتدليل على هذه النقطة من المهم الإشارة إلى أن أغلب الدول الاستبدادية فيها دساتير تحتوي على كافة المتطلبات الأساسية لوثيقة يمكن أن تشكّل نواة لحالة دستورية حقيقية، بيد أن الممارسة العملية بعيدة كل البعد عن ذلك. يلخص ناثان براون في كتابه، الدساتير في عالم غير دستوري، الدوافع الحقيقة لتبني دساتير في المنطقة العربية قبل الربيع العربي، بقوله: "إن الهدف الحقيقي هو دعم مكانة السلطة السياسية في الدولة العربية، وليس إيجاد حالة دستورية أساسها دولة القانون". ويفصّل براون في الأهداف الثلاثة للعملية الدستورية في المنطقة العربية، وهي: 1) استخدام الصياغة الدستورية كرمز لسيادة الدول الناشئة، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، 2) الهدف الثاني للعملية الدستورية هو تحديد التوجه الأيديولوجي للنظام السياسي، ولعل دساتير المرحلة البعثية في سورية مثال على ذلك، 3) أما الهدف الثالث فهو توضيح شكل النظام السياسي وكيفية انتقال السلطة.([1]) ومع ذلك، فقد ساهمت عملية صياغة دساتير في المنطقة العربية في التذكير بأهمية الحالة الدستورية، أي قيام الحكم على أساس من الشرعية قوامها حكم القانون، خاصة فيما يتعلق بتضمين الدساتير العربية على حقوق أساسية للمواطنين، في مقابل السلطة التنفيذية المتغوِّلة. لكن النخب السياسية في الدول العربية، بشكليها الجمهوري والملكي، استطاعت إفراغ هذه النصوص من محتواها باللجوء إلى عدة استراتيجيات، ومنها:
الخلاصة، إن العبرة ليست في وجود دستور مكتوب يحتوي على نصوص قد ترسي قواعد حياة سياسية على أساس قانوني، بل في الممارسة الحقيقة وجدية النخب السياسية، وخاصة الفئة الحاكمة منها، في أن تعكس ممارساتها النصوص الدستورية التي أقرَّتها. ومن هنا فإن عملية الصياغة الدستورية في مراحل التحول من الحكم الدكتاتوري إلى دولة القانون هي بداية الطريق إلى الحكم القانوني الشرعي.
يقدم القسم التالي ملخصاً عن بعض التجارب القاصرة والناجحة لعملية الصياغة الدستورية.
ولعل الرؤية التي حملها أول حاكم أمريكي للعراق -بعيد الاحتلال الأمريكي عام 2003 - بول بريمر بأن نظام صدام حسين أقرب للنظام النازي، وهو فهم مشوه للطبيعة الاستبدادية لذلك النظام، قد ساهمت بعملية إقصاء الطائفة السنيّة من العملية السياسية. هذه الخلفية السياسية لعملية صياغة الدستور ما كان لها أن تكوّن البيئة الصحيحة لعملية لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، وتمت بمقاطعة شبه كاملة للعرب السنّة (كان 17 عضواً عربياً سنياً من أصل 275 في الجمعية التأسيسية)، ومشاركة عالية من المكونين الآخرين (العرب الشيعة والأكراد)، الأمر الذي دفع بعض العرب السنّة، خاصة من أنصار النظام السابق، إلى اللجوء لاستخدام العنف بعد إقرار الدستور، حيث شهد عاما 2006-2007 أعلى مستويات العنف ضد المحتل الأمريكي وبداية للصراع الطائفي بين السنّة والشيعة.([2])
الدرس العراقي يتلخص بأن إقصاء أي مكون مهما كان حجمه من المشاركة في الصياغة الدستورية، سيسحب جزءاً من شرعية المنتج النهائي، مهما كانت جودة محتوياته. ومع أن الإدارة الأمريكية حاولت تصحيح المسار، من منطلق محاصرة التنظيمات الإرهابية المتنامية، وذلك في عام 2008، عندما قام الجنرال ديفيد بيترايوس بتجنيد أبناء القبائل العرب السنّة لمحاربة تنظيم القاعدة في العراق، وسميّت تلك القوات بقوات "الصحوات"، إلا أن النجاح كان جزئياً. لأن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي جاء من خلال العملية السياسية التي أسّس لها دستور عام 2005، رفض الإيفاء - بحكم خلفيته وتخوفه الطائفي - بوعد كان قد قطعه للأمريكان بإدماج قوات الصحوة ضمن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وكان الهدف من إدماج قوات الصحوة إعادة نوع من التوازن لهذه المؤسسات بعد أن سيطرت عليها الأحزاب الشيعية المؤيّدة لإيران. وكان من نتائج هذا الرفض قيام حركة سلمية شعبية داخل المناطق السنية، تم تجاهل مطالبها، واعتقال قادتها وتصفيتهم، ومن ثم قمع هذا الحراك، كل هذا أدى إلى ظهور النسخة الثانية مما سمي بتنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي تسبب في المزيد من العنف والمآسي لكافة مكونات الشعب العراقي، وتطلب تحالفاً دولياً لهزيمته، وكان من نتائجه غير المحسوبة ترسيخ هيمنة إيران على المشهد السياسي العراقي.([3])
الإشكال الأساسي كان في عملية الصياغة التي لم تستوفِ شرط المشاركة المناسبة من كافة مكونات المجتمع المصري، الأمر الذي أضعف من شرعية الوثيقة الجديدة. وبتفصيل أكثر، فقد كان هناك اتفاق على أن تتضمن الجمعية الدستورية تمثيلاً متساوياً للقوى الإسلامية والليبرالية، لكن مقاطعة أغلبية القوى غير الإسلامية لعملية الصياغة، دفع بالفريق الآخر للإصرار على الاستمرار بعملية الصياغة، وإتمام كتابة الوثيقة، وإقرارها، وطرحها للاستفتاء العام، وتوقيع الرئيس عليها. هذا الإصرار على إتمام العملية على عجالة أدى إلى معارضة الوثيقة من قبل كافة القوى التي شعرت أنه تم استبعادها - رفضت بعض هذه القوى المشاركة في عملية الصياغة - وأصرت على عدم الاعتراف بشرعية "الدستور" الجديد، رغم إيجابياته الكثيرة. ويمكن الإشارة إلى أن واحداً من مطالب المعارضة التي طالبت برحيل مرسي قبل أقل من عام على حكمه، كانت تعديل بعض المواد التي أثارت حفيظة القوى الليبرالية التي قاطعت عملية الصياغة.([4]) ومع أن كثيراً من التقارير تؤكد قبول الرئيس مرسي بمطلب تعديل المواد المثيرة للجدل في الدستور - بعيد تصاعد المعارضة والتظاهرات ضده - كما قبل مطلب تشكيل حكومة وفاق وطني، إلا أن رفضه التنحي باسم التمسك بالشرعية لم يكن كافياً للمعارضة والمؤسسة العسكرية.([5])
أما بالنسبة لدستور عام 2014، فقد عالج بعض القصور الموجود في دستور عام 2012، خاصة بعض المواد الإشكالية التي تمت الإشارة إليها، إلا أن إقصاء القوة الإسلامية الأساسية المتمثلة في الإخوان المسلمين في أعقاب الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي، قد كرر الخطأ نفسه في عملية الصياغة. ليس هذا وحسب، بل إن الدستور جاء ليكون على قياس المؤسسة العسكرية، برمزها اللواء عبد الفتاح السيسي، ويقنن مرة ثانية لإقصاء الإسلام السياسي بتبني مادة تنص صراحة على عدم السماح بتشكيل أحزاب سياسية على أساس العرق والجنس والدين.([6]) وتكفي الإشارة إلى أن إقرار الدستور الجديد في استفتاء شعبي جاء في أعقاب قرار النظام العسكري الجديد حلّ جماعة الإخوان وتصنيفها كجماعة إرهابية،([7]) وهي الجماعة عينها التي فازت بأكثر من 37 بالمائة من الأصوات في أول انتخابات حرة ونزيهة لمجلسي الشعب والشورى، كما فاز مرشحها محمد مرسي في أول انتخابات رئاسية تنافسية حرة ونزيهة في تاريخ مصر الحديث. المفارقة الثانية، أنه وعلى الرغم من وجود نصٍّ يمنع قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني، فقد تم استثناء حزب النور السلفي من هذا الأمر، لأنه ممن أيدوا الانقلاب على مرسي، وتمت مكافأة الحزب بأن "فاز" بعض أعضائه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ظل رئاسة السيسي عام 2015.
العنصر الثاني للنجاح: تمثّل في تصاحب هذا الاتفاق مع آليات قابلة للتطبيق، ومنها تشكيل محكمة دستورية، كان لها صلاحية مراجعة الدستور الجديد، بعد إقراره من قبل الجمعية التأسيسية التي سيطر على تركيبتها الحزب الوطني الإفريقي، وقبلَ طرحه على الاستفتاء العام. وبالفعل فقد تمت مراجعة مشروع الدستور الدائم من المحكمة الدستورية، وتم إرجاعه إلى الجمعية التأسيسية، لوجود مادتين قد خالفتا المبادئ ما فوق الدستورية التي تم التوافق عليها كأساس لعملية الانتقال الديمقراطي. وباختصار، فقد كانت هناك إرادة حقيقية لإرساء قواعد جديدة للعبة السياسية، تضع حداً لنظام الفصل العنصري، وتعطي الأغلبية السوداء الحقوق الأساسية التي حُرمت منها لفترة طويلة، ومنها الحق في تشكيل حكومة أغلبية، لكن من دون أن تهمّش الأقلية البيضاء، وهي المعادلة الدقيقة التي كانت وراء سر نجاح عملية صياغة الدستور في ذلك البلد.([8])
وباختصار، إن الهدف من عرض بعض التجارب الفاشلة والناجحة للعملية الدستورية التأكيد على أهمية عملية الصياغة، بحد ذاتها، لأنها أحد أهم مصادر الشرعية للوثيقة التي تنبثق عنها، فكلما كانت العملية شاملة لكافة القوى السياسية، وغلبت عليها روح التوافق والتشاركية، وضمنت مطالب الأغلبية من دون أن تكون على حساب أي أقلية - مهما كان حجمها المجتمعي أو السياسي - كانت الوثيقة أكثر شرعية ومدعاة لاحتكام الجميع إليها. ولو أردنا تطبيق العناصر اللازمة في عملية الصياغة على الدساتير السورية لوجدنا أن أكثر الدساتير اقتراباً من التجارب الناجحة - في الحالة السورية - هو دستور عام 1950، فقد شاركت أغلب القوى السياسية في صياغته، وغلبت عليه الروح التوافقية بين القوى المجتمعية والسياسية، في لحظة نُضجٍ في الممارسة السياسية لم يكتب لها الاستمرار، وأدى التنافس السياسي والإيديولوجي إلى استقطاب دفع بأغلبية القوى السياسية، خاصة القومية الثورية منها، إلى تبرير إقصاء الآخرين بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، الأمر الذي أعطى العقيد أديب الشيشكلي مبرراً للالتفاف على الدستور - الإنجاز، ومحاولة صياغة نظام سياسي "رئاسي" ضمنه الدستور الذي أعقبه وتم تفصيله على مقاسه. أما الدساتير الفاشلة بامتياز، استناداً إلى متطلبات الصياغة الشرعية، فهما دستورا عامي 1973 و2012. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الوثيقتين تمت كتابتهما في ظل سيطرة الأب الشاملة على العملية السياسية، ووحشية الابن في قمع أكبر حركة معارضة في تاريخ حكم الأسدين.
لعل من عناصر النجاح لأي وثيقة دستورية أن تحاول تقديم حلول للإشكاليات السياسية الآنية التي تعاني منها البلاد، وفي الوقت نفسه تعكس توافقات تتجاوز تلك اللحظة، ليُكتب لها نصيب من الاستمرارية والدوام، وتُبقي باب التعديل مفتوحاً لتعالج القضايا المستجدة. وبالنظر إلى أهم الإشكاليات التي تعاني منها سورية اليوم فيمكن تلخيص أهم القضايا السياسية الإشكالية، وهي قضايا مترابطة بـقضية الهوية، وعلاقة الدين بالدولة، وموضوع الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها مشاركة المرأة بشكل حقيقي وفعال، وكيفية طمأنة المكونات العرقية والدينية والطائفية، وأخيراً التوافق على تركيبة النظام السياسي. سيتم مناقشة هذه القضايا على ضوء كيفية تعاطي التجارب الدستورية السورية السابقة، وتلك القريبة منها في الدول العربية التي مرت بتجارب متشابهة.
وقبل الخوض في النقاش التفصيلي، لعل من المفيد الإشارة إلى أن الدولة السورية، ورغم حداثتها، قد مرت بعدة تجارب في الصياغة والحياة الدستورية، أهمها:([12])
إن أهمية استعراض التجارب الدستورية المتنوعة للدولة السورية يكمن في أن هذه التجارب حاولت التعاطي مع القضايا/الإشكاليات السياسية الملحة في وقتها، وقدمت اجتهادات في التعاطي مع القضايا التي ستتم مناقشتها هنا. وعموماً، يمكن تقسيم التجارب الدستورية في سورية إلى ثلاثة نماذج: أولها: لم يُكتب له حظ التطبيق الفعلي كدستور 1920، ودستور اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة، ثانيها: الدساتير المؤقتة، ومنها دستور الجمهورية العربية المتحدة، والدساتير المؤقتة التي أصدرها حزب البعث بعد استلامه السلطة، وهي دساتير 1964، و1969 و1971، وهي متشابهة جداً، وأخيراً: الدساتير التي تم العمل بها، وهي دساتير عام 1930، ودستور عام 1950، ودستور عام 1973، وأخيراً دستور عام 2012. وسيتم التركيز على الفئة الثالثة من الدساتير عند معالجة القضايا الخلافية.
تشير أغلب الدساتير إلى هوية الأمة التي تعدُّ المكون الأساسي للدولة. وباستعراض أغلب الدساتير العربية، نرى أنها تشير إلى الهوية العربية/الإسلامية لهذه الدول. من الناحية العملية، تعاني الدولة العربية المعاصرة - ومنها سورية - من أزمة هوية نتيجة أن أغلبية الدول العربية تم تشكليها من قبل قوى استعمارية غربية لم تأخذ بعين الاعتبار رغبات ومطالب السكان المحليين. ويمكن تلخيص أزمة الهوية في الدولة العربية المعاصرة بما اصطلح عليه بعض علماء السياسة بالتناقض والتعارض بين الدولة والأمة (المجتمع السياسي) المكون لها. بمعنى آخر، هناك عدم توافق بين الإقليم المشكِّل للدولة وبين المجتمع السياسي المكون لها.([13]) فمثلاً، عند الحديث عن الدولة الفرنسية، فلا يوجد تناقض بين الأمة الفرنسية والدولة الفرنسية. هذا الواقع مختلف تماماً في أغلب الدول العربية، وعلى رأسها سورية. فلم يكن هناك "أمة سورية"، قبل حصول سورية على استقلالها، بل مجتمعات متنوعة، ذات أغلبية عربية ومسلمة (من الطائفة السنية)، مع وجود أكراد (أغلبهم مسلمون سنة)، وأقليات من الأرمن والشركس، وأقليات دينية من المسيحيين العرب (بأغلبية أرثوذوكسية)، ومن العلويين، والدروز، واليهود (وهذه الأقليات الدينية باستثناء الأرمن عربية بامتياز). وبعد فشل تجربة الحكم الفيصلي المقتضبة - بسبب الاحتلال الفرنسي - تم تقسيم "سورية الكبرى" إلى أربع دول، وهي: سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين. محاولة تشكيل أمة "سورية" واجهتها تحديات من الولاءات الضيقة للشعب السوري، ومنها الولاء للطائفة والإثنية والقبيلة، وولاءات "ما فوق الوطنية"، وهي العروبة والإسلام.
لقد كان تحدي بناء هوية وطنية للشعب السوري بتنوعه، من أكبر التحديات التي واجهت النخب الحاكمة منذ الاستقلال. مع ذلك أدركت النخب الحاكمة أنها بحاجة للإشارة إلى الهوية العربية/الإسلامية لسورية كنوع من الاعتراف بأن الدول "القُطرية" التي أوجدها الاستعمار البريطاني - الفرنسي، هي كيانات مصطنعة، لم يكن لشعوبها دور في إنشائها. ولذا فإن الإشارة إلى الهوية العربية/الإسلامية لسورية لم يكن مجرد انعكاس للواقع الديمغرافي (حوالي 90 بالمائة من العرب، و74 بالمائة من المسلمين السنة)، بل كان محاولة لتعميق استقلال الدولة الناشئة، والسعي إلى تغيير واقع التقسيم الذي أوجده الاستعمار، من خلال إعادة تشكيل الدولة القطرية في إطار "قومي/عروبي" أوسع. ولم يكن غريباً أن تحاول الوثائق الدستورية المتتالية إقرار أن الشعب السوري جزء من "الأمة العربية"، وإلى وجود إشارة إلى الهوية الإسلامية، لتعكس بذلك هوية الأغلبية لكن بشكل غير مرض، حيث اعتبرت بعض الأقليات أنها مُقصاة من هذا التعريف. ولعل أكبر تحد واجه التعريف العربي/الإسلامي لسورية كان من الأقليات التي لم تشعر أنها مشمولة بأحد هذين المكونين للهوية. فمثلاً، لم يستسغ الأكراد، وهم القومية الثانية في سورية، يوماً إطلاق تسمية "الشعب العربي السوري" على السوريين. ولم يكن الحال أفضل بالنسبة لغير المسلمين عندما اشترطت الدساتير المتعاقبة منذ دستور عام 1950 أن يكون رئيس الدولة مسلماً.
لقد حاولت الدساتير المتتالية تقديم صيغ مختلفة لموضوع هوية الدولة السورية ودور الدين في الدولة، لتعكس النقاش الدائر في وقتها حول هذه القضية. فباستعراض سريع للوثائق الدستورية السابقة نرى أن الإشارة إلى الهوية العربية من الثوابت في كافة الوثائق الدستورية، لكنه يحتل مكانة كبيرة في الفترة الممتدة من 1950- 1970، وهي مرحلة المد القومي، إذ لم يكن الحديث عن الهوية العربية أمراً نظرياً، بل شهدت هذه الفترة تجربة الوحدة مع مصر (1958-1961)، وعدة محاولات لإيجاد "اتحادات" عربية، كان آخرها "اتحاد الجمهوريات العربية" في عام 1971 مع مصر وليبيا، وكان من المفروض أن تنضم إليها السودان، لكن هذا الاتحاد لم ير النور إلا في الوثائق التي تم الاتفاق عليها، ولم يدخل أبداً حيز التنفيذ. وفيما يلي عرضٌ موجزٌ لكيفية تعاطي الوثائق الدستورية المختلفة مع قضية الهوية العربية وعلاقة الدين بالدولة:
في أولى محاولات الصياغة الدستورية نص القانون الأساسي (الدستور) الذي وضعه المؤتمر السوري في مواده العامة على أن "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام".([14]) وحددت المادة الثالثة أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جميع المملكة السورية. أما بالنسبة لدور الدين في المملكة الوليدة فقد نصت المادة السادسة من الفصل الثاني: "على الملك حين جلوسه أن يقسم أمام المؤتمر يميناً باحترام الشرائع الإلهية وبالأمانة للأمة وبمراعاة القانون الأساسي". وتتكرر الإشارة إلى الصفة العربية، باشتراط أن يكون الحاكم العام للمقاطعة (وهذه إشارة إلى المقاطعات الثلاث المشكِّلة للمملكة هي سورية العثمانية، أي الداخل والساحل والجنوب)، اشترطت أن يكون الحاكم "سورياً عربياً" متصفاً بالصفات المشروطة في عضوية مجلس الشيوخ".([15]) وأخيراً، هناك عدة إشارات إلى "الأمة العربية" في بيان المؤتمر السوري الذي تمت بناء عليه مبايعة فيصل الأول بن الحسين ملكاً على سورية. وتحديداً هناك تصريح من المؤتمرين بأننا "اجتمعنا بصفتنا ممثلي الأمة السورية في جميع أنحاء القطر العربي السوري تمثيلاً تاماً، وقررنا بإجماع الرأي استقلال بلادنا السورية، التي منها فلسطين بحدودها الطبيعية...".([16]) لقد جاء ذكر الهوية العربية لسورية منسجماً مع المرحلة التي كانت تمر بها البلاد، وهي مرحلة خروج القوات التركية من سورية، بدفع وقيادة من الحلفاء الغربيين. ولذا حاولت الوثيقة الإشارة إلى الهوية الجديدة للبلاد لتمييزها عن الدولة العثمانية، حيث كانت الرابطة الإسلامية هي مصدر شرعية الحكم العثماني. كما أن المشاركين في المؤتمر السوري أرادوا من خلال صياغة القانون الأساسي التأكيد على أن الأمة السورية قادرة على نيل استقلالها وحكم ذاتها أمام مطامع الدول الغربية التي لم تمهل الدولة الوليدة أكثر من ثلاثة أشهر، ليحل الاستعمار الفرنسي مكان الحكم العثماني. أما عن دور الدين في المملكة الوليدة، فلقد اقتصر على اشتراط أن يكون الملك "مسلماً"، وعلى أن يحترم مليك البلاد "كافة الشرائع الإلهية"، دون الإشارة إلى دور محدد للشريعة أو الفقه الإسلامي في التشريع. ومع أن القانون الأساسي غير واضح في تبنيه نظام "الملكية الدستورية" بشكله المعاصر، فقد حاول محاكاة هذا النموذج لكن دون تبنّيه بشكل صريح، إذ أُعطي الملك فيصل صلاحيات تنفيذية وتشريعية أكثر من تلك التي استقر عليها ملوك الديمقراطيات الغربية. ومع أن هذا يعني أن منصب "رئيس الوزراء"، وهو المنصب التنفيذي الأول في الملكيات الدستورية، يمكن أن يؤول لغير المسلم لكن حقيقة أن الملك له صلاحيات أكبر من كونه رئيس الدولة الرمزي عنى استبعاد غير المسلمين من هذا الموقع.
وتتراجع الإشارة إلى الهوية العربية لسورية في دستور عام 1930، وهو الدستور الذي صاغته الجمعية التأسيسية التي تم انتخابها في ظل الانتداب الفرنسي في عام 1928. وعلى الرغم من أنه من بين مسؤوليات سلطة الانتداب إيجاد قانون أساسي للبلاد فقد ماطل المندوبون الفرنسيون لسنوات في السماح للسوريين في صياغة دستور لهم، وعندما أقرت الجمعية التأسيسية مشروع الدستور اعترض المفوض السامي الفرنسي على ست مواد نصت على استقلال سورية الكامل ووحدتها، وهو ما اعتبره المفوض السامي يتناقض مع "الانتداب". وأخيراً، وبعد عدة محاولات من تعطيل انعقاد الجمعية التأسيسية التي رفضت تدخلات الحاكم الفرنسي، وجد المفوض الفرنسي نفسه مجبراً على إصدار الدستور كما أقرته الجمعية التأسيسية التي سيطر على تركيبتها نواب "الكتلة الوطنية"، بشرط إضافة مادة أخيرة، تنص على ألا يتعارض أي حكم من أحكام الدستور مع التعهدات التي قطعتها فرنسا - لأنها الدولة المنتدبة المسؤولة أمام عصبة الأمم - على نفسها فيما يختص بسورية.([17])
وبالعودة إلى موضوع الهوية، نص الدستور على المواد التالية:([18])
لقد عكست هذه المواد حرص القادة الوطنيين في ذلك الوقت، على تأكيد حق سورية في الحصول على استقلالها، وعلى المحافظة على وحدتها، بعد أن اُستقطع منها لبنان وفلسطين وإمارة شرق الأردن، وأُعطي لواء اسكندرون نوعاً من الحكم الذاتي، وقسمت سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي إلى أربع دويلات هي: دويلة دمشق، دويلة حلب، دويلة العلويين، دويلة الدروز. ولعل اللغة التي صاغتها الجمعية التأسيسية للمادة الثانية نصت على أن: "البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية ذات وحدة سياسية لا تتجزأ، ولا عبرة لكل تجزئة طرأت عليها منذ الحرب العالمية حتى اليوم".([19]) ويمكن النظر إلى دور الدين في الوثيقة بحصره في ديانة رئيس الجمهورية، إضافة إلى المادة ما قبل الأخيرة، وهي المادة التي تعطي "الطائفة الإسلامية" حق إدارة الأوقاف الإسلامية، من خلال ممثلين منتخبين يحدد القانون كيفية انتخاب هذه المجالس وصلاحياتها.([20]) ومع أن النظام السياسي الذي قرره هذا الدستور هو أقرب للنظام البرلماني - من غير المستبعد أن يكون متأثراً بالجمهورية الفرنسية الرابعة - فهذا يعني أن منصب رئيس الوزراء مفتوح لكافة أطياف الشعب. لكن وبقراءة متأنية لنصوص الدستور وصلاحيات الرئاسة يبدو أنه يرسخ نموذج النظام شبه الرئاسي، حيث يقتسم الرئيس صلاحيات السلطة التنفيذية مع رئيس الوزراء، الأمر الذي يعني إقصاء غير المسلمين عن هذا المنصب. وعلى غير غرار دستور المملكة السورية، فقد تم العمل بهذا الدستور، ضمن حدود ما سمح به الانتداب الفرنسي، خاصة في الفترة التي أعقبت توقيع معاهدة 1936 بين فرنسا وسورية، حيث جرت انتخابات على أساس هذا الدستور، وتألفت حكومة وطنية برئاسة هاشم الأتاسي، وترأس الوزارة جميل مردم بك، وكان الملفت فيها تشكيل وزارتين للخارجية والدفاع لأول مرة منذ العهد الفيصلي. واستمرت هذه الحكومة حتى قام المفوض السامي الفرنسي بتعليق الدستور وحل مجلس النواب في تموز/يوليو 1939. وعندما حصلت سورية على استقلالها عام 1946، تم العمل بهذا الدستور، بعد إلغاء المادة 116 التي أعطت المندوب السامي حق تعطيل أي حكم يتناقض مع الانتداب.
الوثيقة الدستورية الثالثة التي اعتبرت الأكثر "ديمقراطية" في تاريخ سورية المعاصر هي دستور عام 1950. يتضمن الفصل الأول بمواده الأربع الأولى تحديد الهوية للجمهورية الجديدة على النحو التالي: فعلى الرغم من عدم تضمين صفة "العربية" في اسم الجمهورية، إذ تم الاكتفاء بتسمية الجمهورية بـ"الجمهورية السورية"، إلا أن المواد التالية قد نصت صراحة على الهوية العربية - الإسلامية لسورية. فقد نصت المادة الأولى على ما يلي: 1) سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة، 2) وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن جزء من أراضيها، 3) والشعب السوري جزء من الأمة العربية. أما المادة الثانية فقد نصت على أن: "السيادة للشعب لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها". وفيما يتعلق بدور الدين، فقد نصت المادة الثالثة على ما يلي: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، 3) حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام، 4) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية. وأخيراً، نصت المادة الرابعة على أن: اللغة العربية هي اللغة الرسمية.([21]) وبتحليل سريع لكيفية تعاطي هذا الدستور مع قضية الهوية يمكن الإشارة إلى الأمور التالية: أولاً: يعتبر هذا الدستور هو الأول الذي تمت صياغته بعيداً عن التهديدات والتأثيرات الاستعمارية، وجاء نتيجة مداولات الجمعية التأسيسية، وفي لحظة تشاركية وتوافقية فريدة، جعلت كثيراً من السوريين ينظرون إليها بنوع من الحنين إلى الماضي (النستالجيا)، إذ تقدم تلك المرحلة بديلاً واقعياً لممارسات النظام السياسي في مرحلة احتكار حزب البعث، وعائلة الأسد للسلطة. ثانياً: رغم عدم تضمين وصف "العربية" في اسم الجمهورية، فإن الهوية العربية لسورية كانت واضحة لتعكس صعوداً للقومية العربية. ولعل تدليلاً إضافياً على تأثير المد القومي العربي يتجلى في القَسَم المطلوب تأديته من قبل أعضاء مجلس النواب، وهم أصحاب السلطة التشريعية في البلاد، وهذا نصه: "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لدستور البلاد مدافعاً عنه وعن استقلال الوطن وحريات الشعب ومصالحه وأمواله وكرامته، وأن أحترم قوانين البلاد وأقوم بمهمة النيابة بشرف وصدق وإخلاص وأن أعمل لتحقيق وحدة الأقطار العربية".([22]) ويتشابه معه قَسَم رئيس الجمهورية في تعهده باحترام الدستور وحريات الشعب والإخلاص للنظام الجمهوري والمحافظة على استقلال الوطن "والدفاع عن سلامة أرضه وأن أعمل على تحقيق وحدة الأقطار العربية".([23]) ثالثاً: وكما هو الحال في دستور عام 1930، استمر تقليد اشتراط أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام، لكن وفي حال التزام النظام السياسي بقواعد النظام البرلماني الصرف، بإعطاء الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء الذي يتم اختياره لأنه باعتباره زعيم أكبر الكتل البرلمانية، فهذا يعني أن منصب رئيس الوزراء هو أعلى منصب تنفيذي متاح لغير المسلمين. ذلك مع بقاء منصب الرئاسة رمزياً، كما هو الأمر في النظام البرلماني الصرف. الجدة فيما يتعلق بهذا الدستور تكمن في نصه على أن الفقه الإسلامي هو "المصدر الرئيسي للتشريع"، يوازيه التأكيد على حرية الاعتقاد، واحترام الدولة لجميع الأديان السماوية، وكفالة حرية القيام بجميع الشعائر. ولعل هذه الإضافة عائدة إلى تأثير الإسلام السياسي الذي كان حاضراً في الجمعية التأسيسية، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الشخصيات الإسلامية المستقلة.
ولم يختلف دستور عام 1953 الذي قدمه الزعيم أديب الشيشكلي، عن سلفه، فيما يتعلق بالهوية العربية والإسلامية للجمهورية السورية، ما خلا إضافة إلى المادة الأولى في بندها الثالث لتشير إلى ما يلي: "والشعب السوري جزء من الأمة العربية. وعلى الدولة أن تسعى، في ظل السيادة والنظام الجمهوري لتحقيق وحدة هذه الأمة".([24]) ويمكن تفسير هذه الإضافة إلى شعور الزعيم الشيشكلي بتنامي الشعور القومي في البلاد، فأراد بذلك مجاراة الأحزاب القومية، من بعث وغيره. الأمر الأهم، أنه في الإبقاء على أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام" في نظام هو الأقرب للنظام الرئاسي، حرمان لغير المسلمين من فرصة الارتقاء إلى هذا الموقع، وهذا أمر مختلف عندما كان النظام أقرب للنظام البرلماني في ظل الأنظمة السابقة.
وبعد استقالة الرئيس الشيشكلي، نتيجة لمطالبات شعبية ومن بعض الوحدات العسكرية، في 25 شباط/فبراير 1954، عاد الرئيس هاشم الأتاسي لسدة الرئاسة لإكمال ولايته الدستورية وتشكيل حكومة تشرف على إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، حيث انتخب الرئيس شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 6 أيلول/سبتمبر 1955، واستمر العمل بدستور عام 1950 حتى قيام دولة الوحدة بين مصر وسورية في شباط/فبراير 1958، بينما اعتُبر الدستور الذي وضع في عهد الرئيس الشيشكلي باطلاً.
عكَسَ دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي جاء مقتضباً من 73 مادة اللحظة القومية العاطفية، وتم الإسراع في تشكيل مؤسسات لم تحظ بكثير من التفكير والتدبير بشكل يحفظ مصالح القطرين المشكِّلين للاتحاد. ولم يشمل الجزء المتعلق بالهوية حيزاً كبيراً في الوثيقة الدستورية التي جاءت بها دولة الوحدة، فقد اقتصرت المادة الأولى على أن "الدولة العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة وشعبها جزء من الأمة العربية".([25]) أما الأمر الملفت للنظر فهو غياب أي إشارة إلى دور الدين في الدولة، سواء بالنسبة لهوية الدولة، أو شرط الرئاسة، أو دور الشريعة أو الفقه الإسلامي في التشريع. وانعكست المشاعر القومية العربية بشكل أوضح في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة، وفي كلمات الرئيسين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر الموجهة إلى مجلسي النواب السوري ومجلس الأمة المصري.
لقد كان فشل أول تجربة اتحادية للدول العربية نكسة للقوى القومية، خاصة الناصرية والبعثية والقوميين العرب. ومع أن فشل دولة الوحدة كان مدعاة لبعض النخب السياسية لتفكّر بشكل عقلاني بالتركيز على تقوية الهوية الوطنية قبل الخوض في تجارب وحدوية غير مدروسة، دفع هذا الفشل بعض الأحزاب القومية، خاصة حزب البعث الذي شعرت قياداته بأنها استُغلت من قبل النظام المصري، إلى تبني التفكير الإنقلابي للوصول إلى الحكم بأي وسيلة، وذلك لتقديم نموذج قومي مختلف عن التجربة الناصرية. ومن هنا كانت تجربة الانفصال وقتية، إذ تعالت لغة المزايدات لدى كافة القوى السياسية العروبية في سورية، مدعية أنها ستعيد تجربة الوحدة، لكن بشكل أفضل وأنضج. ومن هنا لم يتسنَّ لفترة الحكم الانفصالي صياغة دستور جديد بقدر ما اعتمدت دستور عام 1950 بتعديلات جزئية. النقطة المضيئة الوحيدة في فترة الانفصال كانت الانتخابات البرلمانية الحرة النزيهة التي شهدتها البلاد لآخر مرة، ، بمشاركة أغلبية القوى السياسية.
وبعد انقلاب 8 آذار/مارس 1963 وحتى اعتماد دستور 1973، صدر دستوران مؤقتان يمكن تسميتهما بدساتير حزب البعث، أولهما: في 25 نيسان/إبريل 1964، وثانيهما: في 1 أيار/مايو 1969، وتم تعديله بعد انقلاب الأسد في 16 شباط/فبراير 1971. وتتشابه هذه الدساتير المؤقتة في معالجتها لموضوع الهوية بتركيز أكبر على الالتزام بالوحدة العربية، وتحديد النظام السياسي والاقتصادي بأنه نظام "الديمقراطية الشعبية" وتبني النظام "الاشتراكي". فمثلاً تنص المادة الأولى في دستور عام 1964، على ما يلي: 1) القطر السوري جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة وهو جزء من الوطن العربي، 2) الشعب العربي في سورية جزء من الأمة العربية يؤمن بالوحدة ويناضل في سبيل تحقيقها، 3) السيادة في القطر السوري للشعب.([26]) أما عن دور الدين في الدولة، فتنص المادة الثالثة على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام (تختفي هذه المادة في الدساتير المؤقتة لعامي 1969 و1971)، والفقه الإسلامي مصدر "رئيسي" للتشريع، وليس المصدر "الرئيسي"، كما نص على ذلك دستور عام 1950. وهكذا يتضح أن الهوية في هذه الدساتير المؤقتة معرَّفة من خلال عدسة حزب البعث العربي الاشتراكي. ولأول مرة تتم إضافة مادة إلى دستور عام 1969 لتتكرر في الدستور المؤقت لعام 1971، ودستور حافظ الأسد لعام 1973، وهي: "الحزب القائد في المجتمع والدولة، هو حزب البعث العربي الاشتراكي".([27]) هناك أيضاً بعض التفاصيل ذات العلاقة بالهوية في التغييرات التي أحدثتها دساتير حزب البعث، ومنها الإشارات المتكررة إلى التزام النظام بتحقيق أهداف الحزب في الوحدة العربية والعمل على تحقيقها. فمثلاً، تنص المادة 37 من دستور 1964 على نوعية القَسَم لأعضاء المجلس الوطني كما يلي: "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لدستور البلاد مدافعاً عنه وعن استقلال الوطن ومصالح الشعب وأن أحترم قوانين البلاد وأقوم بمهمتي بشرف وأن أعمل لتحقيق أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية". تراجع دور الدين في الدولة، وهذا متوقع من حزب "علماني تقدمي"، لكن هذا التراجع لم يلغِ دور الدين تماماً، بل تم التقليل منه ليكون الفقه الإسلامي مصدراً "رئيسياً" للتشريع، وليس المصدر "الرئيسي"، كما نصت على ذلك الدساتير السابقة. أمر آخر مثير للنظر، أنه في القَسَم المذكور لأعضاء مجلس الشعب في دستوري 1969 و1971، تم حذف الذات الإلهية من القسم، ليكون على النحو التالي: "أقسم بشرفي ومعتقدي أن أحافظ مخلصاً على النظام الديمقراطي الشعبي وأن أحترم الدستور والقوانين، وأن أرعى مصالح الشعب وسلامة الوطن، وأن أعمل وأناضل لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية".([28])
وأخيراً، هناك تشابه بين دستوري عام 1973 و2012 (دستورا حافظ وبشار الأسد)، في موضوع الهوية ودور الدين في الحياة العامة، مع بعض التغييرات ذات المغزى. ففي دستور 1973، يحدد الفصل الأول في مبادئه السياسية هوية البلاد على النحو التالي: 1) الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية، 2) القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي، 3) الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة.([29]) أما دستور عام 2012 فينص في مادته الأولى على: 1) الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة، ولا يجوز التنازل عن أيٍّ من أراضيها، وهي جزء من الوطن العربي، 2) الشعب في سورية جزء من الأمة العربية.([30]) الفارق الواضح بين الصيغتين، غياب وصف "الشعبية الاشتراكية" في الدستور الثاني، وتراجع التزام الشعب السوري في العمل والنضال لتحقيق الوحدة الشاملة. وكلا الأمرين يعكسان أيديولوجية حزب البعث، الأمر الذي يعني التخلي عن هذا الجانب من الأيديولوجية البعثية في دستور الابن. وهناك تباين في القَسَم الدستوري المتضمن تحت المادة السابعة في كلا الدستورين، فهو في دستور 1973 كما يلي: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري الديمقراطي الشعبي، وأن أحترم الدستور والقوانين، وأن أرعى مصالح الشعب وسلامة الوطن، وأن أعمل وأناضل لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية". أما في دستور الابن، فهو: "أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية". ومرة ثانية، هناك تخلٍ عن الأهداف الثلاثة لحزب البعث - حُملت على أنها أهداف الأمة العربية - ألا وهي: الوحدة والحرية والاشتراكية. مع ذلك، يُبقي القَسَم في دستور الابن على تعهد بتحقيق "العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية"، وهي أهداف أكثر غموضاً، لكنها بالتأكيد تخلٍ واضح عن أهداف حزب البعث "الحاكم".
أما عن دور الدين، فهناك تشابه في الصياغة، مع إضافة منطقية في دستور 2012. فقد نص دستور عام 1973 على ما يلي: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.([31]) ويتبنى دستور 2012 اللغة نفسها في مادته الثالثة، مضيفاً البندين التاليين: 1) تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، 2) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.([32])
لم تغب الحقوق والحريات العامة عن الوثائق الدستورية السابقة بقدر ما هي مقيدة أحياناً، خاصة في حالة الحقوق السياسية، وأنها الجزء الأكبر الذي لا يطبَّق في هذه الدساتير. والحقيقة فإن تفحصاً دقيقاً لقسم الحقوق والحريات والمواطنة يشير إلى اقتراب أكثر الدساتير من المعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرياته. وفيما يلي بعض الملاحظات المقارنة:
يظهر التراجع في الحقوق والحريات في الدساتير اللاحقة، وذلك إما من خلال تقليص مساحتها أو تقييدها، والأهم من ذلك الالتفاف على تطبيقها. ففي دستور الجمهورية العربية المتحدة، مثلاً، يتم اختزال الحقوق والحريات تحت الباب الثالث، بعنوان "الحقوق والواجبات العامة". فإذا تم استثناء المادة 11 التي تتحدث عن واجب الدفاع عن الوطن والجندية الإجبارية، لا يبقى في الدستور إلا أربع مواد، وهي: 1) المساواة أمام القانون، 2) لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، 3) حظر تسليم اللاجئين السياسيين، 4) الحريات العامة مكفولة في حدود القانون.([38]) وتعكس لغة المادة الرابعة الروح التقييدية للحريات، بربطها بحدود القانون الصادر في أغلب الأحيان عن السلطة التنفيذية. وتستمر الدساتير الثلاثة المؤقتة التي صدرت في عهد حزب البعث بتقييدها للحقوق والحريات، لتنسجم مع رؤية حزب البعث الريادية للمجتمع والدولة، ومع إعادة تعريفها لمفاهيم كالحرية لتعني حرية الوطن أولاً ثم حرية الفرد. فلو أخذنا الدستور المؤقت لعام 1969، وهو مشابه لدستوري عام 1964 ودستور 1971، يتم اختزال الحقوق والحريات لتقتصر على المساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص، وحق المحاكمة (لكن يختفي هنا تجريم التعذيب، وعدم اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية)، وسرية المراسلات، وعدم جواز إبعاد المواطن، وحق التعليم والعمل، والمساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب، لكن حسب القانون.([39]) فمثلاً، لو أخذنا حق المساهمة في الحياة السياسية لوجدنا أن هذا الحق قد تم تقييده بتبني المادة السابعة التي تنص على أن: "الحزب القائد في المجتمع والدولة، هو حزب البعث العربي الاشتراكي". وبمعنى آخر، وبتبني هذه المادة، وهي المادة المستنسخة من تجارب الدول الشيوعية، فإن الإطار الوحيد للحياة السياسية والعمل النقابي هو من خلال هذا الحزب. فحتى عندما يقدم الدستور المؤقت لعام 1969 إضافة جديدة في الإشارة إلى دعم حق المرأة في المشاركة في الحياة العامة فإنه يأتي ضمن تعريف النظام البعثي للحياة العامة على النحو التالي: "على الدولة أن توفر للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة في الحياة العامة وأن تعمل على إزالة القيود التي تمنع تطويرها، بما يمكنها من المشاركة في بناء المجتمع العربي الاشتراكي".([40])
وينهج دستورا عامي 1973 و 2012 طريقة الدساتير المؤقتة السالفة نفسها في تقييد الحريات والحقوق، مقارنة بدستور عام 1950. ويتضح هذا التقييد في الممارسات التالية: 1) ربط الحقوق والحريات بتوجهات الحزب الحاكم، 2) تعليق العمل بهذه الحقوق والحريات المنصوصة بالاستناد إلى الأحكام العرفية المفروضة منذ عام 1963-2012، 3) تجاهل هذه البنود بشكل كلي أو كامل. من الأمثلة على تراجع بعض الحريات غياب بعض المواد التي تمنع محاكمة المواطنين أمام محاكم استثنائية أو عسكرية. أما من الأمثلة على تحديد الحريات من خلال وضعها بصيغة شرطية المادة التي تتحدث عن حرية التعبير في دستور عام 1973 المتضمنة: "لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى، وأن يسهم في الرقابة والنقد والبناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون".([41]) لكن وللحقيقة، فإن دستوري عامي 1973 و2012 يتضمنان أغلب الحقوق والحريات الموجودة في دساتير الدول المتطورة، لكن الإشكال هو في عدم احترام هذه الحقوق والحريات. فمثلاً، أعاد دستور 1973 المادة المتعلقة بتحريم التعذيب، وكذا دستور 2012، لكن تكفي الإشارة إلى أن سورية، خاصة بعد الثورة السورية عام 2011، قد تكون هي الأسوأ في العالم في نسبة المعتقلين السياسيين الذين تمت تصفيتهم بشكل منهجي تحت التعذيب.([42]) كما أزال دستور عام 2012 شرطية الحقوق والحريات، كما وردت في الدستور السابق، لكنها بقيت مواداً نظرية ليس لها علاقة بالواقع، فمن الحقوق المنصوص عليها: "للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلمياً والإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور وينظم القانون ممارسة هذه الحقوق".([43])
ترتبط اللامركزية في الحكم بتركيبة النظام السياسي. فكلما كان النظام ديمقراطياً اتجه إلى إعطاء صلاحيات أكبر للوحدات المشكلة للنظام السياسي. وبالتعريف فإن من سمات الأنظمة السلطوية تفضيل المركزية ليسهل لها السيطرة والتحكم. من الملفت للنظر في قراءة التجارب الدستورية المتنوعة للدولة السورية ميلها إلى الاقتضاب والعمومية عند الحديث عن اللامركزية، وفي أغلب الأحيان إحالة الموضوع إلى قوانين تفصل هذه القضية.
في أول تجربة دستورية قدم ممثلو المؤتمر السوري نوعاً من اللامركزية التي كانت أقرب ما تكون إلى النظام الفيدرالي، إذ شمل الدستور باباً كاملاً حول "المقاطعات"، وهي الوحدات المكونة للمملكة السورية (الداخل والساحل والجنوب: سورية ولبنان وفلسطين والأردن). ففي الفصل الحادي عشر يحدد دستور عام 1919 مبدأ إدارة المقاطعات عن طريق "اللامركزية في إدارتها الداخلية ما عدا الأمور العامة التي تدخل في خصائص الحكومة العامة (المركزية)"، كما تحدد المواد اللاحقة طريقة إدارة المقاطعات عن طريق مجالس نيابية منتخبة وحاكم عام يعينه الملك، وإيجاد آلية لحل الخلافات بين مجالس المقاطعات والحكومة المركزية عن طريق مجلس الشيوخ (المركزي).([44]) وعلى الرغم من أن هذا الدستور لم يطبق فعلياً بسبب الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان، إلا أنه قدم منظوراً متطوراً لفكرة اللامركزية والحوكمة المحلية.
أما دستور عام 1930، فلم يفصل في اللامركزية واكتفى في بابه الأخير تحت عنوان أحكام مختلفة بالنص على: "يوضع قانون خاص بشأن حدود المناطق الإدارية وتنظيمها وصلاحياتها تراعى فيه الحالة الخاصة ببعض هذه المناطق".([45]) وهنا نرى تميزاً في دستور عام 1950 الذي اشتمل على فصل كامل بعنوان "التقسيمات الإدارية"، ولعل أهم عناصره تقسيم أراضي الجمهورية إلى محافظات، تُدار من قبل مجالس يُنتخب ثلاثة أرباعها ويعين الربع الباقي، وتقوم المجالس بانتخاب رئيسها ومكتبها التنفيذي. كما حدد هذا القسم إحدى عشرة صلاحية، ومنها: الصحة ومكافحة الأمية، وتوفير المياه الصالحة، وتنشيط السياحة، ورعاية الأعمال الخيرية، وتنظيم واستثمار الصيد البحري والنهري والبري. وأخيراً، حدد موارد المحافظات، وكيفية الصرف على مشاريعها.([46])
ولعل أكبر فشل في تجاهل أهمية اللامركزية في الحكم قد تجلى في تجربة دولة الوحدة حيث أصر الطرف المصري، وبعض مؤيديه من السوريين، على إقامة دولة وحدة اندماجية بدلاً من نظام فيدرالي يراعي خصوصية القطرين. يرسخ الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة فكرة الدولة الموحدة المركزية، وكذا الممارسة الفعلية التي حرص الطرف المصري على ترسيخها. ولعل من المفيد التذكير بأن أغلبية المتحمسين لفكرة الوحدة مع مصر لم يتخلوا عن الفكرة كمبدأ، وإنما طرحوا فكرة الاتحاد الفيدرالي بين البلدين بدلاً من نموذج الوحدة الاندماجية. وبالطبع، فإن أجواء الانقسامات والمزايدات، إضافة إلى التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، قد دفعت السياسيين والعسكريين السوريين إلى القبول بكافة شروط عبد الناصر للوحدة، ومنها: إجراء استفتاء شعبي على الوحدة، وحل الأحزاب السياسية، وانسحاب الجيش من السياسة. ومع أن بعض هذه الشروط قد تبدو منطقية للوهلة الأولى، إلا أن المقصود منها إضعاف وتحييد الزعماء السياسيين السوريين لتأمين تبعية الإقليم السوري لمصر. وتلخص إحدى الدراسات التقييم الذي قدمه كثيرون ممن كتبوا عن تجربة الوحدة بما يلي: "وكان الخطأ الفادح في محاولة المصريين تطبيق النظام المركزي القائم في مصر على سورية، والهدف من ذلك إقامة دولة اندماجية، متجاهلين أو جاهلين خصائص المجتمع السوري، والفروق السياسية والاجتماعية والجغرافية القائمة بين القطرين".([47])
وبعد انقلاب البعث، يدخل مصطلح "الديمقراطية الشعبية" الدساتير المؤقتة الثلاثة للأعوام 1964، و1969، و1971، ليربط الحكم - بما في ذلك الحكم المحلي - بحزب البعث. ويخلو دستور عام 1964 من أي إشارة إلى اللامركزية، بينما يشتمل الدستوران الباقيان على فصل حول "مجالس الشعب المحلية". ويعتمد الدستوران اللغة ذاتها، وذلك بالإشارة إلى أن مجالس الشعب المحلية هي أجهزة الدولة في الوحدات الإدارية، مع تحديد الوحدات الإدارية بقانون، ثم تُفصل ذلك المادة التالية بنصها: "يحدد قانون الإدارة المحلية اختصاصات مجالس الشعب وطريقة انتخابها وتكوينها وحقوق وواجبات أعضائها، وجميع الأحكام المتصلة بها".([48])
ويلحق دستور حافظ الأسد لعام 1973 موضوع اللامركزية بالسلطة التنفيذية، ويعتمد اللغة نفسها المشار إليها في الدستورين السالفين. وبما أن الدستور أحال هذا الموضوع إلى القانون، فقد تم إصدار القانون (15) لعام 1971، الذي وضح التقسيمات الإدارية، وتم فيما بعد تطوير القانون، مع إنشاء وزارة الإدارة المحلية. الملاحظ من خلال القانون وكذا الممارسة العملية في فترة الأسد الأب ما يلي: 1) رغم طرح مبدأ "الديمقراطية الشعبية"، فقد بقيت السمة الغالبة على العلاقة بين الحكومة والمجالس المحلية تميل لصالح المركزية الشديدة؛ 2) هيمنة حزب البعث على الإدارة المحلية بكونه الحزب القائد للمجتمع والدولة،([49]) 3) خضوع الإدارة المحلية، كباقي مفاصل الدولة، للمراقبة الأمنية الصارمة.
ومع أن دستور الأسد الابن أبقى على إحالة موضوع الإدارة المحلية للقانون، فقد كانت الجدة في تبنيه لمبدأ اللامركزية بشكل واضح: "يرتكز تنظيم وحدات الإدارة المحلية على تطبيق مبدأ لا مركزية السلطات والمسؤوليات..."، وأضاف في المادة التالية: "يكون لوحدات الإدارة المحلية مجالس مُنتخبة انتخاباً عاماً وسرياً ومباشراً ومتساوياً".([50]) ومع أن قانون الإدارة المحلية الجديد صدر في أجواء ما بعد الثورة المنادية بمزيد من الحقوق والحريات على حساب المركز، فإنه اعتمد رغم أسبقيته على دستور عام 2012، فقد جاء قانون رقم (107) ليعيد النظر في التقسيمات الإدارية إلى: محافظات، مدن، بلدان، بلديات، وأكد على لا مركزية السلطات والمحليات، إلا أن إحدى الدراسات التي رصدت القانون في النظرية والتطبيق قد توصلت إلى خلاصتين: أولاهما: الاستمرار في اعتماد المركزية كنهج في تنظيم الإدارة المحلية، وثانيهما: استمرار تبعية نظام الإدارة المحلية لحزب البعث، على الرغم من إلغاء الدور الاستثنائي لحزب البعث في دستور عام 2012.([51])
شهدت سورية عدة نماذج للأنظمة السياسية من خلال دساتيرها المختلفة. ففي الفترة الانتقالية البسيطة بين خروج الأتراك من سورية وبداية الاستعمار الفرنسي، تبنى أعضاء المؤتمر السوري نظام الحكم الملكي النيابي، وتمت المناداة بفيصل بن الحسين ملكاً على البلاد. وكان المنطق السياسي لتبني هذا النظام السياسي يستند إلى حجتين: أولاهما: أن الحكم الملكي النيابي تدرج من الملكية المطلقة المستبدة (متجسدة في الحكم العثماني) إلى النظام الجمهوري الذي قد لا يكون الشعب السوري مستعداً له. أما الحجة الثانية: فتتمثل في مكافأة الدور الذي لعبه الأمير فيصل في تحرير البلاد العربية من الحكم التركي، والخبرة التي كسبها في التعاطي مع الدول الغربية.([52]) وعلى الرغم من أن هذا النظام لم يُكتب له البقاء إلا لأشهر معدودة، إذ وضع إنذار "غورو" الشهير نهاية مبكرة لأول تجربة في الحكم النيابي (الملكي الدستوري)، فإن معالم هذا النظام قد تم تحديدها في حكومة مسؤولة أمام مجلس نواب منتخب بوجود الملك فيصل الذي أُعطي صلاحيات أكبر مما هو معتاد في الملكيات الدستورية، وهو أمر متوقع في مرحلة انتقالية افتقدت فيها القوى السياسية التجربة والخبرة. الأمر المثير الثاني في هذا النظام السياسي: هو تبني نوع من "اللامركزية الإدارية" التي تقترب من الحكم الفيدرالي بين المقاطعات الثلاث المشكِّلة للمملكة السورية، مع إعطاء المقاطعات صلاحيات واسعة، بما في ذلك تشكيل مجالس نيابية خاصة بها، وتعيين "حكام" من قبل الملك، يكونون مسؤولين أمام هذه المجالس. الأمر الأخير: تبنى المؤتمر السوري في هذا الدستور نظام المجلسين للسلطة التشريعية، النواب والشيوخ، مع إعطاء صلاحيات هامة لمجلس الشيوخ، وذلك لإحداث توازن بين المركز والمقاطعات. وبالطبع، فإن عدم تطبيق هذا النظام السياسي قد حرم السوريين من تجربة فريدة، كان من الممكن أن ترسخ حكماً ملكياً دستورياً، أو نموذجاً آخر، بين الحكم المطلق والدستوري، مماثل لتجربة حكم الأسرة الهاشمية في الأردن.
ثم شهدت سورية أولى تجاربها مع الحكم الجمهوري النيابي، والذي تجسد من خلال دستوري عام 1930 و1950. وفي كلا النموذجين تتوضح معالم نظام أقرب للبرلماني، لكن فيه بعض خصائص النظام المختلط (شبه الرئاسي)، إذ يعطي في كلا الحالتين صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية (المنتخب من خلال مجلس النواب) من تلك المعروفة في النظام البرلماني الصرف. فمثلاً: من صلاحيات رئيس الجمهورية عقد المعاهدات والتوقيع عليها، كما نص ذلك دستور عام 1930، وهو يختار رئيس الوزراء والوزراء بناء على اقتراح رئيسهم، وله حق حل مجلس النواب بموافقة مجلس الوزراء.([53]) ويضاف إلى ذلك صلاحيات أخرى لرئيس الجمهورية في دستور عام 1950، وهي إعلان الحرب وعقد الصلح، بقرار من مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس الدفاع الوطني، إضافة إلى أن الرئيس هو القائد الأعلى للجيش وهو رئيس مجلس الدفاع الوطني.([54]) كما أن غياب إشارة واضحة إلى أن الرئيس ملزم باختيار رئيس وزراء - يكون رئيس الأغلبية البرلمانية أو ائتلاف حاكم يتمتع بدعم الأغلبية - تعطي الرئيس في كلا الحالتين دوراً أكبر في النظام السياسي على حساب رئيس الوزراء. مع ذلك، فإن النظام السياسي الجمهوري النيابي كما تم تحديد مبادئه العامة في كلا الدستورين قد شكل خطوة متقدمة جداً في تبني نظام ديمقراطي، لم يتسنَّ له الاستمرار بسبب تدخل العسكر في السياسية، وذلك مع الانقلابات الثلاثة التي شهدتها سورية في عام 1949، والانقلاب الرابع (الثاني للعقيد الشيشكلي في عام 1951)، ثم صعود الأحزاب القومية "العقائدية"، ومزايداتها التي دفعت بأغلبية القادة السياسيين لتسليم حكم البلاد إلى الرئيس جمال عبد الناصر تحت مسمى دولة الوحدة. وأخيراً، كان للتدخلات الخارجية لكل من محوري العراق من ناحية، والسعودية ومصر من ناحية ثانية دور كبير في تعميق الخلافات والانقسامات الداخلية للأحزاب والقوى السياسية السورية التي شعرت أنها بحاجة لدعم الدول العربية في وجه تنامي المطامع الإسرائيلية.([55]) لكن وقبل المضي قدماً في الحكم على التجارب اللاحقة، من المهم التركيز على مزايا النظام الجمهوري النيابي، على الرغم من عدم مجاراته للنظام البرلماني الصرف. في كلتا الحالتين، صاغ مشروعي الدستورين جمعيةٌ تأسيسيةٌ منتخبة، سيطر عليها الوطنيون - حتى في ظل الانتداب الفرنسي - الأمر الذي دفع سلطات الانتداب للضغط من أجل تعديل بعض الفقرات التي تركز على استقلال ووحدة البلاد، أو تعطيل العمل بالدستور تماماً، كما فعل المندوب السامي عدة مرات. الأمر الثاني: أن ممثلي الشعب السوري في الجمعيتين كانوا على وعي بالقضية الأساسية التي واجهتهم (الاستقلال ووحدة الأراضي السورية في دستور 1930)، والتركيز على سيادة الأمة والأهداف الأساسية التي تم تحديدها في مقدمة دستور 1950، وهي: إقامة العدل، ضمان الحريات الأساسية للمواطنين، نشر روح الإخاء وتنمية الوعي الاجتماعي بين المواطنين، دعم واجب الدفاع عن الوطن والجمهورية والدستور، تحرر المواطنين من الفقر والمرض والجهل، كفالة المساواة في الواجبات والحقوق، تقوية الشخصية الفردية. الخاصية الثانية للنظام الجمهوري البرلماني، كما جاء في دستور عام 1950، هو نصه الواضح على أن "السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها".([56]) ومع إضافة بند في المبادئ الأساسية المتضمنة في الحقوق والحريات على حق السوريين في حق تأليف الأحزاب، بشرط أن تكون غاياتها ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية، يكون الدستور قد رسخ أكثر المعايير ديمقراطية للممارسة السياسية. ملاحظة أخرى حول النظام الجمهوري النيابي: إن إعطاء رئيس الجمهورية بعض الصلاحيات التنفيذية له مزايا وسلبيات، من المزايا الواضحة أن دور رئيس الجمهورية المنتخب من قبل مجلس النواب قد يكون هاماً في المراحل الانتقالية، وعندما تكون الحياة الحزبية ضعيفة يمارس الرئيس دوراً "وطنياً" جامعاً، فوق الأحزاب والمناكفات السياسية. لكن الخطورة في حالة عدم وجود قيود واضحة على صلاحيات الرئيس أو فترة حكمه يمكن أن يتحول الرئيس بسهولة إلى "ديكتاتور". لقد كان المشرعون على وعي بهذا الاحتمال في كلا الدستورين، فمن الضمانات لعدم تحول الرئيس إلى حاكم مستبد في دستوري 1930 و1950 النص الواضح على تحديد مدة الرئاسة بخمس سنوات، لا يجوز تمديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء فترة الرئاسة.([57]) لكن الغموض في دستور عام 1950 يتمثل في عدم نصه على أن رئيس الجمهورية محكوم باختيار رئيس الوزراء بالأغلبية البرلمانية أو ائتلاف الأغلبية، كما هو متعارف عليه في الأنظمة البرلمانية. وباختصار، فإن تركيبة النظام السياسي، بشكله الجمهوري النيابي، والتوسع في الحقوق والحريات، وإيجاد صيغ توافقية لقضايا الهوية، وعدم السماح لأي فرد أو جماعة باحتكار تمثيل الشعب، ورفع القيود عن تشكيل الأحزاب السياسية، كل ذلك جعل من دستور عام 1950 الدستور الأكثر "ديمقراطية" في تاريخ سورية.
وعلى الرغم من إبقاء العقيد الشيشكلي على كثير من مواد دستور 1950، إلا أنه حوَّر تركيبة النظام السياسي باتجاه النظام الرئاسي. فلكي يقوي من منصب الرئاسة جعل دستور الشيشكلي انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، وألغى منصب رئيس الوزراء، وحصر السلطة التنفيذية كلها في رئيس الجمهورية، يمارسها نيابة عن الشعب، ووسع من صلاحيات الرئيس بشكل كبير.([58]) وبالطبع فقد افتقد هذا الدستور إلى الشرعية، وذلك للطريقة التي تم بها تمريره، إذ قام العميد الشيشكلي، بكونه اعتباره رئيساً للأركان، بإرسال الدستور إلى رئيس الوزراء، اللواء فوزي سلو، ليتم العمل به بدلاً من دستور 1950. وعلى الرغم من إجراء انتخابات رئاسية جرت في أجواء مقاطعة عامة من القوى السياسية، نجح فيها الشيشكلي، فقد كان الإجماع في العودة إلى دستور عام 1950، بعيد استقالة الشيشكلي ومغادرته البلاد. وتم اعتبار الدستور الذي تبناه الشيشكلي ونظامه السياسي الرئاسي لاغياً.
وأما النظام السياسي للجمهورية العربية المتحدة، فقد كان نظاماً رئاسياً، لم يكن مجلس الأمة المعين ليشكل نوعاً من الرقابة والتوازن مع الصلاحيات الرئاسية (checks and balances)، الأمر الذي عنى، خاصة مع وجود شخصية كاريزامتية كعبد الناصر، تحول النظام السياسي إلى نظام "استبدادي". ولم تساعد المركزية العالية: (حيث تحكمت القاهرة بأغلب القرارات، وغابت الحياة الحزبية) على تقبل السوريين للنظام السياسي الوحدوي.([59])
ومع انقلاب 8 آذار/مارس عام 1963 دخلت سورية نفق النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، والمتأثر بتجارب الدول الشيوعية. وتُعتبر الفترة بين الانقلاب الأول (1963) وانقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 مرحلة انتقالية، شهدت بداية تخلص حزب البعث من شركاء انقلاب آذار/مارس من الناصريين والمستقلين، ثم تخلص أعضاء القيادة القطرية من القيادة "اليمينية" التقليدية (ومنها المؤسسون للحزب)، بعد عام 1966. وأخيراً حُسم الصراع بين صلاح جديد وحافظ الأسد لصالح الأخير، الذي تمكن أخيراً من تأسيس نظام سياسي فريد، سيتم التوسع في عناصره وتركيبته، على أساس من دستور عام 1973.
يحدد دستور 1973، (دستور حافظ الأسد)، خمسة منطلقات رئيسية للنظام السياسي، وهي: 1) إن الثورة العربية ضرورة لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، 2) لا يمكن تحقيق إنجازات حقيقية لأي قطر عربي في ظل واقع التجزئة، 3) يُعتبر النظام الاشتراكي الضرورة الأساسية لتأطير نضال الجماهير في معركتها ضد الصهيونية والإمبريالية، 4) الحرية حق مقدس، و"الديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن ممارسة حريته التي تجعل منه إنساناً كريماً". وترتبط حرية المواطن بحرية الوطن التي لا يصونها إلا المواطنون الأحرار و"لا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الاقتصادي والاجتماعي"، 5) إن حركة الثورة العربية جزء أساسي من حركة التحرر العالمي.([60])
باستثناء النقطة الرابعة التي تؤطر قضية "الحرية" بنظام "الديمقراطية الشعبية"، تبقى النقاط الأربعة الأخرى أقرب للشعارات التي كانت رائجة ضمن الأدبيات الحزبية للأحزاب القومية في تلك الفترة. الديمقراطية الشعبية كما ترجمتها أغلب الممارسات للأنظمة السياسية التي تبنت هذا الشكل من الحكم، ما هي إلا كناية عن رفض النظام الديمقراطي التمثيلي (بشكله الغربي)، وتبني نظام استبدادي باسم الحزب الواحد، أو الحاكم الملهم، أو مجلس قيادة الثورة. في حالة دستور الأسد فإن هذه الممارسة مؤطرة من خلال احتكار حزب البعث للعملية السياسية، أضاف إليها الأسد بعض الشخصيات التي قبلت هذا الأمر الواقع من بقايا الأحزاب القومية الأخرى، والتي تم تضمينها في "الجبهة الوطنية التقدمية".([61])
السمة الثانية للنظام السياسي، كما صاغه الأسد، يتمثل في: المركزية الشديدة للنظام "الرئاسي"، لكن من دون وجود المراقبة والتوازن بين السلطتين التشريعية والقضائية مع السلطة التنفيذية أو في تقييد فترة حكم الرئيس. لقد أطر دستور 1973 الصيغة "القانونية" لاستمرار الأسد في الحكم مدى الحياة، وكذلك تمركز كافة السلطات في يديه. ومن هنا تأتي أهمية "الحزب الحاكم" ومجلس الشعب في إيجاد أداة "شرعية" للاستفتاءات الرئاسية التي كانت تتم كل سبع سنوات، وفاز فيها الأسد الأب بنسبة لم تقل أبداً عن نسبة (99.9%) المعهودة. الأمر الثاني الذي حاول الدستور التفصيل فيه هو: تعدد الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحزبية الواسعة لرئيس الجمهورية. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين النظام السياسي للأسد وتلك الأنظمة السلطوية التي اعتمدت تجربة الحزب الواحد، فقد تميز النظام السوري بالخصائص التالية: 1) تحكم فرد واحد، وهو الرئيس الأسد، بالنظام السياسي، ونجاحه في استئصال أو ترويض كافة أشكال المعارضة السياسية، منهياً بذلك عقوداً من الاضطرابات والفوضى السياسية، 2) الدور المحوري للمؤسسة الأمنية والعسكرية في ضمان استمرار واستقرار النظام، 3) التوازن الدقيق بين عمل الأجهزة الأمنية التي تسيطر عليها شخصيات من الطائفة العلوية وبين المؤسسات الحزبية والبيروقراطية (المذكورة في الدستور)، والتي تعكس تمثيلاً يكاد يقترب من التركيبة السكانية، مع تفضيل أبناء الريف على حساب أهل المدينة في كلتا الحالتين.([62])
لقد رسخ حافظ الأسد "الازدواجية" في تركيبة النظام السياسي بين المؤسسات الرسمية التي نص عليها الدستور (مجلس الشعب للسلطة التشريعية، ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا للسلطة القضائية، وحزب البعث كحزب حاكم) وبين الأجهزة الأمنية المتشعبة، ومسؤولي الأمن في المؤسسة العسكرية الذين تربطهم "عصبية" الانتماء الطائفي والعائلي مع الرئيس الأسد. وهكذا أوجد الأسد نوعاً من "التقسيم الوظيفي" بين المؤسسات الرسمية وبين دائرة صنع القرار الحقيقية (الرئيس ومساعديه من قادة الأجهزة الأمنية)، وبين باقي مؤسسات الدولة والحزب التي اقتصرت على تنفيذ وتبرير توجهات وسياسات النظام. ملاحظة أخيرة: في ظل نظام الأسد الأب، لم يكن من السهولة فهم تركيبة وآلية عمل النظام السياسي من خلال قراءة الدستور، وذلك بسبب "الباطنية السياسية" التي اعتمدها النظام في الممارسة. من الأمور المعروفة أن النسخة الأولى من مشروع دستور عام 1973 حذفت كل ما تعلق بالدين، كاشتراط أن يكون الرئيس مسلماً أو أن يكون للفقه الإسلامي دور في التشريع كما نصت الدساتير السابقة، لكن عندما قامت معارضة شعبية واسعة من المجتمع السوري، قبِل الأسد الرضوخ إلى المطالب الشعبية. ولحل إشكالية الخلفية الطائفية للأسد - منحدر من الطائفة العلوية - أوعز الأسد لمفتي الجمهورية حينها، الشيخ أحمد كفتارو، ولرئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، موسى الصدر، بإصدار فتاوى تؤكد أن الطائفة العلوية هي طائفة مسلمة تنتمي إلى المذهب الشيعي الجعفري (الإثنا عشري)، وبذا تم حل الإشكال الدستوري.([63]) المثال الثاني حول انفصال الدستور عن الواقع يتمثل في: تعطيل القسم المتعلق بالحريات والحقوق عن التنفيذ، إما استناداً إلى حالة الطوارئ السائدة منذ عام 1963، أو إلى تجاهل كامل لهذه النصوص باسم أولويات أخرى كمقاومة العدو الصيهيوني والإمبريالي أو التصدي للمؤامرات الخارجية.
لقد ورث بشار الأسد نظاماً سياسياً، كان يدرك أن أي محاولة لإصلاحه قد تؤدي إلى تقويضه. وشهد العالم لحظة غير مسبوقة في "المرونة الدستورية"، تمثلت في تعديل المادة 83 من الدستور السوري، في أقل من عشرين دقيقة، فقد تم تغيير المادة المتعلقة بعمر الرئيس من أربعين سنة إلى أربع وثلاثين سنة. وعلى الرغم من المطالب الشعبية بضرورة الإصلاح السياسي المتدرج للانتقال إلى نظام تعددي يضع حداً لتجربة حكم الحزب الواحد وذلك بإلغاء المادة الثامنة، كأضعف الإيمان، ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق الحريات، لم يستجب الأسد لأي من هذه المطالبات إلا بعد قيام الثورة السورية بأكثر من عام.
وبدراسة متأنية للتغييرات في النظام السياسي لدستور عام 2012، يتضح أن بشار الأسد أراد البرهنة على أنه أجرى تعديلات أساسية تتجاوب مع كثير من المطالب الشعبية، فقدم بعض التنازلات النظرية، كإنهاء حكم الحزب الواحد، إلا أنه تم تفصيل الدستور الجديد على مقاس الأسد لضمان استمراره في الحكم حتى عام 2028 على أقل تقدير. فمن بين التنازلات المتعلقة بالنظام السياسي، كما أشار إليها الدستور الجديد، ما يلي: 1) تشمل مقدمة الدستور إشارات إلى حكم القانون، ومجموعة من المبادئ الأساسية، منها حكم الشعب القائم على "الانتخاب والتعددية السياسية والحزبية وحماية الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي والحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون"،([64]) 2) إلغاء المادة الثامنة التي كانت متضمنة في الدساتير البعثية السابقة، واستبدالها بمادة تنص على أن النظام السياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية وتتم ممارسة السلطة الديمقراطية عبر الاقتراع،([65]) 3) كفالة الدستور الجديد للتنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، وتعدد روافده باعتباره تراثاً وطنياً يعزز الوحدة الوطنية،([66]) 4) التخلي عن النظام الاقتصادي الاشتراكي،([67]) 5) التوسع في باب الحقوق والحريات، وإضافة فصل حول سيادة القانون، 6) اعتماد مبدأ الانتخابات الرئاسية التنافسية، بدلاً من طريقة الاستفتاء على المرشح الأوحد التي اعتمدها النظام منذ عام 1973.
لكن كثيراً من هذه الإيجابيات - من الناحية النظرية - تتلاشى بتقييد الحياة الحزبية من خلال اشتراط البند الرابع من المادة الثامنة على ما يلي: "لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون".([68]) ومع أن بعض هذه التقييدات قد تكون منطقية بالنسبة لنظام سياسي جاد في عملية الانتقال الديمقراطي، إلا أن الهدف العام منها في حالة دستور بشار هو إقصاء تيارات سياسية كاملة عن العمل السياسي، كتيارات الإسلام السياسي، أو الأحزاب الكردية أو أي حزب لا يتفق مع أجندة الجهات المختصة المناط بها تقرير كيفية تطبيق هذه المادة. أما تفصيل هذا الدستور على مقاس بشار الأسد فهو في كيفية اختيار الرئيس، فبالإضافة إلى اشتراط أن يكون الرئيس "مسلماً"، ومتماً الأربعين من عمره، تضيف المادة الرابعة والثمانون ما يلي: أن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، وغير محكوم بجرم شائن ولو رد إليه اعتباره، ألا يكون متزوجاً من غير سورية، وأن يكون مقيماً في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة عند تقديم طلب الترشيح. إضافة إلى ذلك، فإن الطريقة الوحيدة للترشيح للرئاسة تتم عن طريق حصول المرشح على تأييد 35 عضواً من مجلس الشعب.([69]) إن أي متابع للكارثة السورية يعلم علم اليقين أن هذه المواد والاشتراطات ما هي إلا لحرمان السوريين الذين عارضوا بشار الأسد واضطروا إلى مغادرة البلاد من حق المنافسة على المنصب الأهم في النظام السياسي، وبالتالي إقصاء أغلبية المعارضين من حق الترشح. وكما أظهرت التجربة السورية وغيرها من التجارب العربية، فإن من يُسمح لهم بالترشح من الداخل عادة من عملاء النظام، وذلك بهدف إعطاء عملية الاقتراع مسحة التنافس. وهكذا، فلو تجاوزنا افتقاد الدستور إلى الشرعية بسبب غياب العملية الدستورية، فإن الفشل الكبير في هذا الدستور في المواد المشار إليها، والهادفة إلى إلغاء مبدأ التناوب السلمي على السلطة، وهو التقليد الذي قامت ثورات الربيع العربي لوضع حد له. ما يقدمه دستور الابن تنازلات في قضايا لا تؤثر على تركيبة النظام السياسي، وتحاكي تلك التنازلات التي قدمها النظام المصري في عام 2005، وهي التي سمحت بتعدد المرشحين الرئاسيين، لكنها لم تُصغ بهدف إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي.
إن نقطة البداية في أي عملية صياغة دستورية تكمن في التسليم بأن الوثيقة النهائية تستمد جزءاً كبيراً من شرعيتها من العملية نفسها. النقطة الثانية: تتمثل في قناعة المصممين بأنه يمكن التوصل إلى حلول توفيقية لكافة القضايا العالقة والجدلية إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى المكونات المجتمعية الرئيسية ممثلة بقوى سياسية مسؤولة ولديها قيادات تتجاوز اهتماماتها المسائل الآنية. ثالثاً: فإن أي عملية دستورية لا تضع غايتها تغيير قواعد النظام السياسي للانتقال من دولة الاستبداد والفساد وحكم العائلة والمافيا إلى سعة الديمقراطية ودولة القانون، وترسخ مبدأ التبادل السلمي للسلطة، محكوم عليها بالفشل. وفيما يلي بعض التفصيل لهذه النقاط الثلاث:
يمكن لأي فرد أو مجموعة بحثية كتابة مجموعة من المبادئ والأحكام المنظمة لعمل منظومة سياسية، قد تجاري بمحتواها عنان القيم المثالية والأهداف المنشودة، وتكون أساساً لوثيقة دستورية، لكن مثل هذه الجهود لا يمكن أن ترقى إلى ما يُصطلح عليه بالعملية الدستورية السليمة، لأن الاحتكام لهذه المبادئ والقيم يستند إلى التسليم والقبول بعملية الصياغة. هذه الفكرة البسيطة كانت فتحاً في عام 1918، عندما طرحها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في محاضرته الشهيرة "السياسة كمهنة"، وحدد فيها أنواع الشرعية الثلاثة، أولها: الشرعية المستمدة من القيم التقليدية، وثانيها: القائمة على الإمكانيات الاستثنائية للشخصية الكاريزماتية، وأخيراً: الشرعية القائمة على أساس "القواعد القانونية المقبولة".([70]) لقد كان فيبر محقاً بأن التطور البشري يسير باتجاه الشرعية العقلانية القانونية المستندة إلى القبول بـ "قواعد اللعبة"، وهو ما يتم مأسسته من خلال العملية الدستورية. إن ما أعطى شرعية لدساتير عام 1919 و1930، وخاصة دستور عام 1950، أنها تمت من خلال عملية ساهمت فيها أغلب مكونات المجتمع السياسي السوري في وقتها، ومرت بمراحل الصياغة القانونية والنقاش السياسي من خلال مجالس تأسيسية، تم انتخابها لهذا الغرض (في 1928 و1950)، وأخيراً أخذت حظها من الحوار والنقاش، حتى تم إقرارها في الجمعيات التأسيسية ومن خلال استفتاءات شعبية لاحقاً.
واستناداً إلى دراسة التجربة السورية، وبعض التجارب المعاصرة، فقد قام فريق اليوم التالي الذي اجتمع على مدار أكثر من ستة أشهر في بدايات الثورة السورية في النصف الأول من عام 2012، بهدف تقديم خارطة طريق للانتقال الديمقراطي في سورية، قدم الفريق المعني بالتصميم الدستوري بعض التوصيات للعناصر المطلوبة في عملية صياغة دستورية شرعية، ومن أهمها:
وبالانتقال إلى الواقع السياسي، لا بد من التعليق على النقاش والجهود الدولية الجارية حول الدستور بأنها لم تصل إلى أي نتيجة ملموسة، وذلك إما لأنها حاولت سحب الأمر من يد السوريين، عندما قدم الطرف الروسي "دستوراً" جاهزاً للمفاوضين السوريين في الآستانة يضمن بقاء الأسد في السلطة،([72]) أو عندما حاول بعضهم اختزال العملية السياسية في "السلة الدستورية"، وأخيراً محاولات اختزال السلة الدستورية في اقتراح تعديلات على دستور عام 2012، لتقليص صلاحيات الرئيس لحساب رئيس الوزراء، ونقل بعض الصلاحيات إلى المجالس المحلية، وتأسيس غرفة برلمانية ثانية، والتأكيد على حياد المؤسسة العسكرية والأمنية.([73]) إن أغلب الجهود المذكورة تقف وراءها القيادة الروسية، لتحويل "النصر العسكري" التي أحرزته مع حليفتها إيران ووكيلها النظام السوري إلى نصر سياسي. من الواضح أن كافة هذه الجهود قد باءت بالفشل، إما لأنها حاولت الالتفاف على السوريين، أو أنها خالفت متطلبات عملية الصياغة الدستورية، ومنها التسلسل المنطقي للأشياء. فمثلاً، قبلت الأطراف السورية المعارضة، ومنها الائتلاف الوطني وهيئة المفاوضات الأولى والثانية بمرجعية وثيقة جنيف لعام 2012، والقرارات الأممية المتعلقة بقضية الانتقال السياسي في سورية، وخاصة قرار مجلس الأمن رقم 2254، لأنها قدمت سياقاً منطقياً قائماً على أساس تشكيل هيئة حكم انتقالي، بصلاحيات تنفيذية كاملة، تقوم بقيادة مرحلة انتقالية، يكون من عناصرها إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية، تقوم بصياغة دستور جديد للبلاد، يرافقه مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإصلاح للقطاع الأمني، ومن ثم تجري انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس الدستور الجديد.
إن المحاولات القائمة على تحوير هذا السياق من شأنه إطالة عمر الأزمة لأنها تتعاطى مع أعراضها، لكنها لا تقدم حلولاً جذرية لها. هذه القضية كانت حاضرة في وعي السوريين الذين تم استطلاع آراءهم على أولوية صياغة دستور جديد، فقد رأت أغلبية ساحقة ممن تم استطلاع آراءهم في مناطق النظام والمعارضة ومناطق سيطرة الأكراد والسوريين في الخارج، بأن الأوضاع الحالية (تم الاستطلاع في عام 2017)، غير مناسبة لصياغة دستور كامل للبلاد، وأن الأولويات تتمثل في وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، وفك الحصار، وهزيمة داعش، وإخراج المقاتلين الأجانب، بينما كان موضوع صياغة دستور دائم لسورية في ذيل الأولويات، وأيدها (18%) فقط من المُستطلع رأيهم.([74]) وكبديل، فقد كان تفضيل أغلبية المستجيبين لتبني دستور مؤقت، أو إعلان دستوري يحكم المرحلة الانتقالية. وبالنسبة لطريقة صياغة الدستور، فقد كان التفضيل لطريقة التوافق بين القوى السياسية، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية (40.6%)، بينما كان الخيار الثاني صياغة دستور عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة (30.3%)، وجاء خيار لجنة خبراء متخصصة في الدرجة الثالثة (25.3%).([75]) أخيراً، لا يمكن الحديث عن أي عملية سياسية، لها علاقة بالانتقال السياسي، بما في ذلك الصياغة الدستورية، من دون إيجاد الآليات المناسبة لإشراك ما يقرب من 6 ملايين لاجئ سوري في هذه العملية، وعدد أكبر من النازحين داخل البلاد. وبالطبع، فهذا يتطلب جهوداً دولية كبيرة، وتعاوناً من الدول المستضيفة للاجئين.
أما الخلاصة والتوصيات بالنسبة للقضايا الخلافية، فتشير التجربة التاريخية والتجارب المماثلة أن التوصل إلى حلول وسطية يتطلب إشراك كافة القوى السياسية، وتغليب روح التوافق القائم على تطمين الأغلبية للأقليات. وفيما يلي اقتراحات مستخلصة من التجربة الدستورية السورية حول أهم القضايا الخلافية:
لقد دفعت الممارسات التمييزية ضد الأكراد السوريين إلى رد فعل معاكس، يصل إلى مداه الأقصى في مطالبة بعض السياسيين الأكراد بتشكيل كيان كردي منفصل عن سورية. ومع أنه من حيث المبدأ لا يجوز حرمان أي شعب من حق تقرير المصير، فإن الواقع الإقليمي قد عقَّد من هذا الأمر، خاصة لانقسام الشعب الكردي بين دول أربع: إيران والعراق وتركيا وسورية. وعلى مدى عقود طويلة اختلفت معاناة الأكراد من قطر لآخر، إلا أن المطالبة بالحقوق المتساوية بقيت هي القاسم الأعظم. في الحالة السورية، تعالت الأصوات الكردية بالمطالبة بالحقوق العادلة، بدءاً بحقوق المواطنة وانتهاء بالمطالبة بدولة كردية مستقلة. ومع انطلاق الثورة السورية، كانت أغلبية المكون الكردي ضمن الحالة المعارضة، وناضلت في كافة المفاصل للحصول على تعهدات من الفصائل العربية المعارضة بحقوق حُرمت منها لعقود طويلة. وعلى الرغم من الحدة في النقاشات والعناد والمكابرة من الطرفين فقد تم التوصل إلى بعض التفاهمات التي تصلح أن تكون أساساً للحديث عن موضوع الهوية في سورية المستقبل.
وللحقيقة فإن أحد الدروس المستفادة من تجربة المعارضة أن الحدة في النقاش والتطرف في المطالب لم تخلق أجواءً صحيةً دائماً للتوصل إلى توافقات مقبولة من الجميع، فعلى سبيل المثال دفعت الفصائل الكردية المعارضة إلى المطالبة بحذف صفة "العربية" من اسم سورية ليكون "الجمهورية السورية"، كما عليه الأمر مع دستور عام 1950. ومع أن عدم وجود هذه الصفة لن يغير هوية الأغلبية العربية ولن يؤثر على "عروبتهم"، كما أن وجودها في باقي المراحل لم يعط القوى السياسية العربية مزايا إضافية أمام نظام الأسدين. مع ذلك تبقى الحقائق الديمغرافية والشفافية والحوار الهادئ أساساً للتوصل إلى تفاهمات حول هذه القضية. ومن هنا، فإن الإبقاء على عروبة سورية، في عنوان الجمهورية، أو في المبادئ الأساسية، قد يكون مقبولاً من المكون الكردي وباقي المكونات غير العربية مهما كانت صغيرة، إذا قابلها اعتراف بالتنوع وشمول لباقي هذه المكونات. فمن الأمثلة التوافقية لحل هذه القضية، الاقتراحات التي قدمها فريق عمل الورشة الدستورية في مشروع "اليوم التالي"، في الحديث عن مبادئ أساسية للدستور القادم. فمقابل الاعتراف بوحدة سورية واستقلالها، وأنها جزء من العالم العربي - يرفض بعضهم مصطلح الوطن العربي - يمكن النص على شمول سورية لكافة المكونات، وعلى رأسها المكون الكردي. فقد جاءت الصيغة المقترحة كما يلي: "الاعتراف بالأكراد والتركمان والسريان والآشوريين والشركس والأرمن كجزء من النسيج الوطني السوري".([76]) وباختصار، فإن التشاركية المؤدية إلى توافق هو الطريقة الوحيدة للتوصل إلى حل لهذه القضية. فمثلاً، إن مطالبة المكون الكردي قد تلقى قبولاً من بعض القوى السياسية العربية (خاصة الليبرالية منها) بحذف أو "تخفيف" الإشارة إلى الهوية العربية، لكن الإصرار والحدة في طرح هذه القضية قد يولد تطرفاً مقابلاً، والحسم في هذه الحالة في الاحتكام إلى الاستفتاء الذي لن يكون في صالح الأقلية.
هذا ما يقد يُفسر دعم أغلبية المستجيبين لاستطلاع فريق اليوم التالي الأخير حول الهوية العربية، إذ طالبت نسبة (77.8%) بضرورة حضور الهوية العربية في الدستور القادم، بينما عارضت نسبة (67%) حذف كلمة "العربية" من الاسم الرسمي للجمهورية السورية.([77])
وعندما حاول حافظ الأسد الالتفاف على هذا النص، قامت مظاهرات واسعة، اضطر بعدها إلى إعادة النص كما هو في الدساتير السابقة، وحرص دائماً على الإقرار بالشهادتين، خاصة في أوائل الثمانينيات أثناء الحملة على الأخوان والمكون الإسلامي، وأداء الصلوات في المناسبات الدينية مع "أرباب الشعائر الدينية". وكما ذكرنا سابقاً، فإن النص على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام في ظل نظام برلماني صرف، لا يحمل تمييزاً كبيراً، خاصة وأن المنصب التنفيذي الأهم، رئاسة الوزراء، متاح للجميع. الإشكالية في تبني النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، حيث يتمتع الرئيس بصلاحيات تنفيذية، في هذه الحالة هناك حرمان لغير المسلمين (مهما كانت نسبتهم) من شرف التنافس على هذا المنصب. ولا يحتاج المرء إلى خيال خصب ليتصور أن أغلبية السوريين، بمن فيهم المسلمون الملتزمون، سيفضلون رئيساً ديمقراطياً، ولو كان غير مسلم، على رئيس مسلم ديكتاتوري.
من هنا، فإن التوصية بأنه لا مانع من الإبقاء على شرط الإسلام لرئيس الدولة، في حالة النظام البرلماني الصرف، ففي هذه الحالة لن تكون سورية أكثر ديمقراطية أو أقل تديناً من المملكة المتحدة. أما إذا كان تفضيل السوريين للنظام الرئاسي أو شبه الرئاسي الذي يعطي صلاحيات تنفيذية لمنصب الرئاسة، فالأولى بسورية أن تلغي هذا الشرط، وتصر على المحددات الدستورية التي تمنع الرئيس، مهما كان دينه من إساءة استخدام سلطاته. الأمر الثاني: وتماشياً مع الاتجاه نحو العلمانية التي يتغنى بها النظام السوري، عندما تكون مناسبة، فقد تم التخفيف من دور الدين في دساتير ما قبل حكم البعث إلى ما بعده ليصبح "الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع"، بدل أن كان "المصدر الرئيسي" للتشريع، كما هو حال دستور عام 1950.
وفي كلتا الحالتين لم تتحول سورية في ظل البعث إلى دولة مدنية علمانية بالمعنى الحقيقي، فلقد شهدت سورية تنامي ظاهرة المد الإسلامي، كما كان هو الحال في باقي دول المنطقة، إضافة إلى تحكم النظام واستغلاله للمؤسسة الدينية الرسمية. وعلى الرغم من أن نظامي الأسد الأب والابن حاولا تحييد الدين، كما يفهمه تيار الإسلام السياسي، عن الحياة العامة، فلم يستطيعا وضع حد لانتشار ظاهرة التدين في المجتمع السوري على مدى العقود الماضية. وكما هو الحال مع القسم المتعلق بالحقوق والحريات، فإن القسم المتعلق بدور الفقه الإسلامي "كمصدر للتشريع"، لم ينل حظاً كبيراً من التطبيق، في نظام حافظ وولده. وأخيراً، لم يكن "إسلام" حافظ الأسد وولده، والنص على دور الفقه الإسلامي كمصدر للتشريع ليقف في وجه الرئيسين "المسلِمَين" لمنعه من انتهاك حقوق المسلمين، والإسلاميين تحديداً، وهم الذين مثلوا الأعداء التاريخيين للنظام، وعانوا على يديه ما لم يعانه أي مكون آخر.
تواجه سورية اليوم نوعين من الضغوط في هذه القضية، أحدهما خارجي، تقوده روسيا وبعض الدول الغربية التي حرصت على تحييد دور الدين في الوثائق التي صاغتها، وأصرت على التأكيد على "علمانية" الدولة السورية، باسم المحافظة على الأقليات، وخاصة الأقلية العلوية، وتؤيد هذا التوجه الأقليات الدينية والعرقية، بما فيها بعض المكونات المسلمة كالعلويين والدروز، وغير المسلمين (المسيحيون تحديداً)، وحتى بعض السنة كقسم كبير من المكون الكردي، وأخيراً العلمانيون العرب السنة. مقابل ذلك، هناك المكون السني من المتدينين والملتزمين، أو المنتمون إلى الإسلام السياسي، إضافة إلى التيارات السلفية التي نمت في ظل قمع نظام الأسد للثورة السورية، ترى هذه الفئات – وهي ليست صغيرة من حيث العدد والوزن - ضرورة نص الدستور القادم على دور للإسلام في الحياة العامة، فلم يكن غريباً أن تكون نسبة المؤيدين من المستجيبين لاستطلاع اليوم التالي، على مدار عام 2017 قد بلغت (77.9%) من الراغبين بنص الدستور على أن تكون الشريعة مصدراً "رئيسياً" للتشريع،([78]) وفي ذلك استمرارية لكافة الدساتير السابقة، بما فيها دستور بشار الأسد لعام 2012.
أمام هذا الخلاف، فإن بعض التوصيات التي توصل لها فريق اليوم التالي في عام 2012، قد تكون مفيدة. العنصران اللذان تم التوافق عليهما من الفريق الذي ضم ممثلين لتيارات فكرية ودينية وسياسية متنوعة، هما: 1) الشريعة الإسلامية والديانة المسيحية والرسالات الدينية والإنسانية الأخرى مصادر ملهمة للتشريع، 2) الدولة محايدة فيما يتعلق بمسألة الدين، تحترم قيمه ولا تجبر الناس عليه أو تمنعهم عنه.([79]) وبالنسبة للإسلاميين فإن هذه الصيغة هي أضعف مما جاء في دستور بشار الأسد لعام 2012، الذي نص في مادته الثالثة على: 1) دين رئيس الجمهورية الإسلام، 2) الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، 3) تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، 4) الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.([80]) التوافق العام الذي قبلت به أغلبية من الإسلاميين هو في القبول بسورية دولة "مدنية ديمقراطية". ومع أن بعضهم يفهم من الدولة المدنية أنها المقابل لحكم العسكر (فحكم العسكر بالتعريف غير ديمقراطي)، فإن مصطلح المدنية كان أقرب إلى أنها الدولة غير الدينية (الثيوقراطية)، وهذا المصطلح كان أكثر قبولاً عند الإسلاميين من مصطلح العلمانية سيء السمعة، خاصة وأنه يرتبط بأذهانهم بالتجربة التركية في ظل أتاتورك، وتجربة إيران/الشاه.
لعل من شروط التوصل إلى توافق في هذه القضية القيام بحملة توعية في صفوف الإسلاميين للتفريق بين العلمانية التي تعادي الدين (العلمانية اللايكية) التي جاءت من التجربة الفرنسية، وبين النموذج (الأنكلوسكسوني) للعلمانية، وهو النموذج الذي لا يعادي الدين، بل يتعامل معه بحيادية إيجابية. ولعل هذا ما نص عليه النموذج الأمريكي الذي لا يتبنى ديناً (أو تفسيراً مسيحياً معيناً)، وإنما يحترم جميع الأديان. ولعل من المفيد هنا تذكير الإسلاميين بأن الإنجاز الذي حققه حزب العدالة والتنمية في تركيا تمثل في إعادة تعريف "العلمانية" من العلمانية المعادية للدين إلى العلمانية المحايدة تجاه الدين. ولعل هذا هو السبب الرئيس في نجاح الحزب، (ذو المرجعية الإسلامية) من حكم هذا البلد العلماني العريق.
لقد استأثر المكون العلوي منذ انقلاب البعث عام 1963 بامتيازات استثنائية، تمثلت في احتكار هذا المكون للمؤسسة الأمنية، والسيطرة التدريجية على المؤسسة العسكرية، ومن خلالها تمت السيطرة على كثير من المفاصل السياسية والبيروقراطية في الدولة، وأخيراً على الأنشطة الاقتصادية الكبرى في البلاد، من خلال رمرمة الاقتصاد (نسبة إلى احتكار رامي مخلوف لأهم الأنشطة الاقتصادية في ظل بشار الأسد). الضمانات المطلوبة للأقليات في أي دستور مقبل هامة لطمأنتها، وبشكل خاص طمأنة المكون العلوي تحديداً بأنه لن يكون هناك عمليات انتقامية من ضحايا العنف الذي مارسه نظام الأسد ضد أغلبية الشعب السوري. ولعل أفضل ضمان أن تترافق الضمانات الدستورية مع عدالة انتقالية ومصالحة وطنية.
أما بالنسبة لباقي الأقليات، فمن المهم معالجة الظلم الذي وقع على المكون الكردي، وطمأنة المكون المسيحي للتمسك ببلاده، وعدم إشعاره بالغربة في وطنه. وبالنسبة لأغلبية الشعب السوري، وعلى رأسه الأقليات العددية، فإن تبني اللامركزية الإدارية سيكون مكملاً عملياً للحقوق والحريات. أما بالنسبة للقضية الثالثة وهي موضوع المساواة بين المرأة والرجل: فهناك تطورات إيجابية يمكن الإفادة منها. أولى هذه الإيجابيات أن المرأة قد ساهمت في الثورة السورية وضحت كالرجل أو أكثر. لقد فتحت الثورة السورية آفاقاً جديدة للمرأة السورية، وأخرجتها من دائرة استغلال النظام الأسدي لقضية المرأة باسم العلمانية والتقدمية، لتصل إلى قناعة أن المساواة الجندرية يجب ألا تبقى حكراً ً على الأنظمة "التقدمية"، كما أنها ليست مضمونة بشعارات من قبل قوى معارضة تنادي بالحرية والديمقراطية. لقد بلورت بعض الناشطات السوريات مطالبهن بضرورة تحقيق التمثيل النسوي الفعلي في كافة مفاصل العملية السياسية، بما في ذلك عملية البحث عن حل سياسي، وصياغة الدستور، والتمثيل في المؤسسات السياسية لسورية المستقبل.
ومن الجهود المبذولة في عملية التحضير لعملية دستورية متوافقة مع النوع الاجتماعي (الجندر) اقترحت بعض الناشطات الممثلات لجمعيات نسوية سورية بعض المبادئ الدستورية الحساسة لموضوع مشاركة المرأة، ومنها: 1) يكفل الدستور تحقيق المساواة التامة بين النساء والرجال في حقوق المواطنة بما يضمن تمتعهن بكافة الحقوق والحريات، 2) يكفل الدستور وتلتزم الدولة بتمكين النساء من المشاركة في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضمان حق متساوٍ للنساء والرجال في شغل جميع المناصب في الدولة وجميع مراكز صنع القرار.([82]) كما نجحت نساء سوريات في فرض نسبة تمثيل للمرأة لا تقل عن ثلاثين في المئة في بعض مؤسسات المعارضة، وهذا ما التزمت به هيئة المفاوضات في رؤيتها التي طرحتها للحل السياسي. وأخيراً، لا بد من وضع إطار قانوني لحماية حقوق المرأة، بعد إقرار الدستور، ومنها إيجاد الآليات المساعدة للمرأة لخوض المعترك السياسي، وذلك من خلال توفير فرص التعليم والتدريب والدعم الأسري. ولعله من المفيد في المراحل الأولى، إيجاد نوع من التمييز الإيجابي من خلال إلزام الأحزاب السياسية بتخصيص مواقع متقدمة للنساء على قوائمها الانتخابية، كما تفعل كثير من دول شمال أوروبا.
فالنظام الرئاسي الذي يمثل نظام الولايات المتحدة نموذجه، يقوم على أساس (checks and balance) المراقبة والتوازن بين السلطات المستقلة: التشريعية والتنفيذية والقضائية. في النظام الأسدي، كان هناك سلطة واحدة متغولة لشخص الرئيس على كافة السلطات، وتلعب المؤسسات التشريعية (مجلس الشعب)، والقضائية (المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء) أدواراً تزينية لهيكل نظام يشبه ما تعارفت عليه الدول بالأنظمة السياسية. ويكاد توصيف تقرير الأمم المتحدة عن حالة الحرية في العالم العربي يقترب من إدراك طبيعة النظام السوري عندما يصف تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات بحالة "الثقب الأسود" في الفضاء تدور باقي المؤسسات في فلكه، إضافة إلى اعتماد المؤسسة الرئاسية على أجهزة القمع بكافة أشكالها، لتجسد حالة الاستبداد المطلق.([83])
ومن هنا، فإن التحدي الأكبر في بناء حياة دستورية حقيقية لسورية المستقبل تكمن في تبني نظام سياسي تتوفر فيه شروط أساسية أهمها تخفيض صلاحيات السلطة التنفيذية المتمثلة في مؤسسة الرئاسة. ولذا لم يكن غريباً أن تتجه المعارضة السورية، منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، إلى الإشارة إلى تفضيلها للنظام البرلماني، باعتباره النموذج المقابل للنظام الرئاسي، إضافة إلى الحنين إلى النظام السياسي الذي جسده دستور عام 1950 الذي اعتبر الأكثر ديمقراطية في تاريخ البلاد. وللحقيقة، فإن النقاش حول النظام السياسي الأفضل للدول التي تمر بانتقال ديمقراطي لم يكن حاسماً في أفضلية النظام البرلماني على الرئاسي. ومن الأمثلة على الأدبيات المتوفرة حول توصية تبني النظام البرلماني على الرئاسي في الفترات الانتقالية، ما كتبه آرند ليبهارت بعنوان: "خيارات دستورية للديمقراطيات الجديدة". يؤكد ليبهارت أن الأنظمة الرئاسية، مع نظام انتخاب الدوائر الفردية، تميل إلى تقوية نموذج ديمقراطية حكم الأغلبية التي غالباً ما تكون الفائز الوحيد في حال تبني هذا النظام في المراحل الانتقالية.
أما الأنظمة البرلمانية، وهي التي يوصي بها ليبهارت، إذا ما ترافقت مع نظام الانتخاب النسبي، فإنها تشجع روح التوافق في الحياة السياسية، وتحفز التشاركية بين القوى السياسية. ويخلص ليبهارت إلى تفوق النظم البرلمانية في المجالات التالية: حقوق الأقليات، وتزايد نسبة المشاركة السياسية، وتقليل نسبة التفاوت الاقتصادي بين المكونات المجتمعية.([84]) ومع أن توصيات ليبهارت كانت بشكل أساسي لدول أمريكا اللاتينية، فقد تبنت أغلب هذه الدول في مراحل تحولها النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي. النقطة الأساسية في النقاش - بغض النظر عن تبني أي من الأنظمة السياسية - أن تكون السلطة التشريعية منوطة ببرلمان منتخب، يمارس صلاحيته التشريعية بشكل كامل، كما يمارس دوراً رقابياً على السلطة التنفيذية. لكن نقطة الضعف الكبيرة في تبني نظام برلماني في لحظة التحول، فيما لو طُبقت على الحالة السورية، تكمن في عدم وجود أحزاب سياسية قوية، وهي عماد نجاح النظام البرلماني. لذا، فإن التوصية في تبني النموذج شبه الرئاسي (أو المختلط كما يُسمى أحياناً)، الذي يحتفظ بأهم مزايا النظام البرلماني، ويقسم السلطة التنفيذية بين رئيس منتخب لفترة محددة، ورئيس وزراء تختاره الأغلبية الحزبية في البرلمان، ويكون مسؤولاً أمامها.
ويمكن تلخيص مزايا هذا النظام بما يلي: 1) يقدم هذا النظام حلاً وسطاً بين النظامين الرئاسي والبرلماني، ويحاول تجاوز سلبيات كل منهما، 2) يُضعف هذا النظام الصلاحيات الرئاسية، مما يخفف من احتمال استبداد الرئيس، 3) يقلل من احتمالات عدم الاستقرار في مرحلة الانتقال، بوجود رئيس فوق الأحزاب يكون بمثابة الضابط لتنافسها، 4) يحقق توازناً للسلطات بين الجهات السياسية الثلاث: الرئيس، والبرلمان، والحكومة برئاسة رئيس الوزراء الذي تختاره الأغلبية البرلمانية. وبالطبع فلهذا النظام سلبياته، خاصة في حالة وصول رئيس ذي توجهات شعبوية (بوتين)، أو في حالة تحكم جهة كالمؤسسة العسكرية بالرئيس (بوتفليقة)، ومع ضعف البرلمان والحياة الحزبية يمكن أن ينحرف هذا النظام إلى نظام استبدادي. ومما يعزز من فرص نجاح النظام شبه الرئاسي، استقلالية السلطة القضائية، وتبني اللامركزية الإدارية، التي يمكن أن يعززها وجود برلمان بغرفتين (نواب وشيوخ)، يكون فيه مجلس الشيوخ ممثلاً للمحافظات، ووجود رئيس توافقي.
والخلاصة، فإن صياغة دستور جديد لسورية يتطلب من الناحية النظرية عملية تتحقق فيها التشاركية والتوافق والملكية الوطنية، تبدأ بهيئة حكم انتقالي محايدة وشاملة لكافة مكونات المجتمع السوري - مهما كان حجمها - وتشرف على عملية انتخاب جمعية تأسيسية، مهمتها صياغة دستور جديد قائم على التجربة التاريخية للبلاد وعلى تجارب الدول الناجحة، تقدم مسودتها إلى استفتاء حقيقي، تسبقه عملية حوار جاد وتوعية حول العملية الدستورية ونشر ثقافة التوافق. ومن الطبيعي أن تكون هذه العملية في سياق حل سياسي على الأسس التي تبنتها الأمم المتحدة، تترافق مع مصالحة وطنية، وعدالة انتقالية، وإعادة تشكيل للقطاع الأمني. وأخيراً، فإن عملية الصياغة الدستورية السليمة هي بداية لحياة دستورية ترسي دعائم دولة القانون، وتحفظ حقوق وحريات مواطنيها، وتطلق طاقات أبنائها في التنمية والإبداع. وبما أن الأنظمة الديمقراطية - نتاج الحياة الدستورية - عرضة للتراجع فهي بحاجة للرعاية المستدامة.
([1]) Nathan J. Brown, Constitutions in a Nonconstitutional World: Arab Basic Laws and the Prospects for Accountable Government (Albany, NY: State University of New York Press, 2002), p. 195-6
([2]) حول العملية الدستورية في العراق، انظر:
Jonathan Morrow, “Iraqi Constitutional Process II: An Opportunity Lost,” USIP Special Report 155, November 2005; and Julia Choucair-Vizoso, “Iraq” in Ellen Lust, ed. The Middle East, 14th ed. (Thousand Oaks, CA: SAGE, 2017), pp. 498-9.
([3]) حول علاقة ظهور داعش وعلاقتها بتهميش المكون السني، انظر:
“The Rise of ISIS,” Frontline, 28 October, 2004. https://www.pbs.org/wgbh/frontline/film/rise-of-isis/
([4]) انظر ملخص الأزمة الدستورية في عهد مرسي:
“Q & A Egypt Constitutional Crisis,” BBC News, 24 December 2012. https://www.bbc.com/news/world-middle-east-20554079
([5]) انظر على سبيل المثال: "الساعات الأخيرة قبل الانقلاب.. كيف أدار السيسي لعبة "الخداع الاستراتيجي" ضد مرسي؟"، الجزيرة نت، 24 فبراير 2019، https://www.aljazeera.net/programs/al-jazeeraspecialprograms/2019/2/24/
([6]) المادة الرابعة والسبعون، دستور مصر الصادر عام 2014https://www.constituteproject.org/constitution/Egypt_2014.pdf?lang=ar
([7]) تم تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية في ديسمبر 2013، بينما تم إقرار الدستور الذي يمنع تشكيل أحزاب على أساس الدين في 18 يناير 2014.
([8]) حول ملخص لعملية الصياغة الدستورية في جنوب أفريقيا، انظر:
“The Drafting and Acceptance of the Constitution,” South African History Online, no date
https://www.sahistory.org.za/article/drafting-and-acceptance-constitution
Laryssa Chomiak & Robert Parks, “Tunisia,” in Ellen Lust, ed. The Middle East, 14th ed. (Thousand Oaks, CA: SAGE, 2017), pp. 808-854.
Mohamed-Salah Omri, “The Tunisian Constitution: The Process and the Outcome,” Academia, February 12, 2014.
https://www.academia.edu/6166557/The_Tunisian_Constitution_The_process_and_the_outcomes
([10]) المادة الأولى والسادسة، دستور تونس، https://majles.marsad.tn/uploads/documents/TnConstit_final_1.pdf
([11]) لقد استحقت اللجنة الرباعية الفوز في جائزة نوبل للسلام لعام 2015 لدورها المحوري في إنقاذ عملية التحول الديمقراطي، انظر على سبيل المثال، "الرباعي الراعي للحوار الوطني بتونس...نوبل للسلام"، الجزيرة نت، 11/10/2015، http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2015/10/11
([12]) تم جمع الدساتير السورية، حتى دستور عام 1973، في: مازن يوسف صباغ، سجل (الدستور) السوري. دمشق: دار الشرق للطباعة والنشر، 2010.
([13]) من الكتب التي عالجت خصوصية التناقض بين الأمة والدولة:
Raymond Hinnebusch, The International Politics of the Middle East. 2nd edition. Manchester: Manchester University Press, 2015.
([14]) المادة الأولى من الفصل الأول للقانون الأساسي- الدستور- للمملكة السورية، متضمن في كتاب مازن يوسف صباغ، سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 81.
([16]) نص البيان متضمن في كتاب مازن يوسف الصباغ، ص. 69-75.
([17]) المادة 116، من دستور عام 1930.
([18]) المواد الثلاث الأولى، وبالإضافة إلى المادة الرابعة التي تتحدث عن العلم السوري، هي الأحكام الأساسية للفصل الأول، في الدولة وأراضيها، دستور عام 1930.
([19]) المادة الثانية كما جاءت في مشروع الدستور لعام 1928، لكن المفوض السامي الفرنسي عدلها عندما أصدر الدستور عام 1930.
([21]) نص الدستور متضمن في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 245-298.
([22]) المادة السادسة والأربعون.
([23]) المادة الخامسة والسبعون.
([24]) المادة الأولى من دستور 1953.
([25]) الباب الأول الدولة العربية المتحدة، من دستور الجمهورية العربية المتحدة، متضمن في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 429-446.
([26]) نص دستور 1969 متضمن في المرجع السابق، ص. 518-533.
([27]) تأتي هذه المادة تحت رقم المادة السابعة في دستوري 1969 و1971، لكنها تتعدل في دستور الأسد لعام 1973، لتنص على ما يلي: "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية". المادة الثامنة.
([28]) المادة 51 في كلا الدستورين.
([29]) البنود من واحد إلى ثلاثة من المادة الأولى، دستور 1973.
([30]) المادة الأولى من دستور 2012.
([31]) المادة الثالثة من دستور 1973.
([32]) البندان الثالث والرابع من المادة الثالثة، دستور 2012.
([33]) الفصل الثالث: في حقوق الأفراد والجماعات، من المادة التاسعة وحتى السادسة عشر.
([34]) الحقوق والحريات متضمنة في الفصل الثاني من الدرس، بعنوان "في حقوق الأفراد"، دستور عام 1930.
([35]) البند الأول للمادة الثامنة عشر، دستور عام 1950.
([36]) الفقرة هاء من البند الثالث، المادة التاسعة والثلاثون، دستور عام 1950.
([37]) المادة الثانية والثمانون من دستور عام 1953.
([38]) المادة السابعة إلى العاشرة، في الباب الثالث، دستور الجمهورية العربية المتحدة، عام 1958.
([39]) المواد 21 إلى 41 تحت باب حقوق وواجبات المواطنين والتنظيمات الجماهيرية والجمعيات التعاونية، الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية، 1969.
([40]) المادة 24 من الباب الثاني، دستور عام 1969.
([41]) المادة 34، من الفصل الرابع، دستور عام 1973.
“If the Dead Could Speak: Mass Deaths and Torture in Syria’s Detention Facilities,” Human Rights Watch, December 16, 2015.
([43]) المادة الرابعة والأربعون، من الباب الثاني: الحقوق والحريات وسيادة القانون، دستور عام 2012.
([44]) المواد 122-144، دستور عام 1919.
([45]) المادة 109، دستور عام 1930.
([46]) الفصل السادس، التقسيمات الإدارية، دستور عام 1950.
([47]) أمل مخائيل بشور، دراسة في تاريخ سورية السياسي المعاصر. بيروت: توزيع جروس برس، بلا تاريخ، ص. 455.
([48]) الفصل الثالث، مادة 67 و68، الدستور المؤقت لعام 1969، وعام 1971.
([49]) وحدة المعلومات بمركز عمران، "في واقع الإدارة المحلية في مناطق سيطرة النظام المركزية"، مجموعة من الباحثين، حول المركزية واللامركزية في سورية: بين النظرية والتطبيق. الكتاب السنوي الرابع، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2018، ص. 162.
([50]) المادة الحادية والثلاثون بعد المئة، دستور عام 2012.
([51]) "في واقع الإدارة المحلية في مناطق سيطرة النظام المركزية"، مرجع سابق، ص. 166-168.
([52]) انظر، "مضبطة الأسباب الموجبة للدستور (القانون الأساسي) التي أقرت من قبل المؤتمر السوري، متضمنة في سجل (الدستور) السوري، مرجع سابق، ص. 109-132.
([53]) المواد 74-77 من دستور عام 1930.
([54]) المادة 82 و83 من دستور عام 1950.
([55]) حول الدور الذي لعبته الدول الإقليمية في هذه الفترة، وعلاقة القوى السورية معها، انظر:
Patrick Seale, The Struggle for Syria: A Study of Post-War Arab Politics 1945-1958, 2nd ed., (London: I B Tauris, 1986)
([56]) البند الثاني من المادة الثانية، دستور عام 1950.
([57]) المادة 68 في دستور 1930، و73 في دستور 1950.
([58]) انظر، الفصل الثاني (السلطة التنفيذية)، رئيس الجمهورية، دستور 1953.
([59]) كان هذا أحد شروط عبد الناصر للوحدة، وهو حل الأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، وتأطير الحياة الحزبية من خلال حزب واحد حاكم.
([61]) المادة الثامنة، دستور 1973.
([62]) للتفصيل حول تركيبة النظام السوري، نجيب الغضبان، "الاستمرارية والتغيير في النظام السوري"، ملف الأهرام الاستراتيجي، السنة السادسة، العدد 67، تموز/يوليو 2000.
([63]) الرواية موثقة في أكثر من دراسة، ومنها:
Patrick Seale, Asad of Syria: The Struggle for the Middle East (Berkeley: University of California Press, 1988), p. 173.
([65]) المادة الثامنة، دستور 2012.
([66]) المادة التاسعة، دستور 2012.
([67]) الفصل الثاني، "المبادئ الاقتصادية"، دستور 2012.
([68]) البند الرابع في المادة الثامنة، دستور 2012.
([69]) المادتان: الرابعة والثمانون والخامسة والثمانون، دستور 2012.
([70]) Max Weber, “Politics as a Vocation,” from H. H. Gerth and C. Wright Mills, eds. Trans. From Max Weber: Essays in Sociology (New York: Galaxy, 1958), pp. 77-87
([71]) مشروع اليوم التالي، "الفصل الخامس: التصميم الدستوري"، دعم الانتقال الديمقراطي للسلطة في سورية، منظمة اليوم التالي، 2012، ص. 79-93.
([72]) تعقيباً على ذلك قامت أربعون منظمة وهيئة سورية بالتوقيع على بيان يؤكد أن السوريين هم المعنيون بكتابة دستور بلادهم، ورفضوا أن يتم الحديث عن دستور دائم في هذه الظروف. انظر، اليوم التالي، أي دستور تحتاج سورية؟ استنبول: اليوم التالي، تموز/يوليو 2018، ص. 1.
([73]) تم نسب ورقة تفاوضية، تقدمت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن والسعودية إلى المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، بعنوان "الإصلاح الدستوري"، قبيل لقاء فيينا في بداية غام 2018.
([74]) اليوم التالي: أي دستور تحتاج سورية؟ مرجع سابق، ص. 7-8.
([75]) المرجع السابق، ص. 9-10.
([76]) مشروع اليوم التالي، مرجع سابق، ص. 89.
([77]) أي دستور تحتاج سورية؟ مرجع سابق، ص. 20.
([79]) مشروع اليوم التالي، مرجع سابق، ص. 89.
([80]) المادة الثالثة، دستور عام 2010.
([81]) أي دستور تحتاج سوريا؟ ص. 19.
([82]) تجمع سوريات من أجل الديمقراطية، المبادئ الدستورية المتوافقة مع النوع الاجتماعي (الجندر)، بروكسل 2016، ص. 3 .
([83]) UNDP. Arab Human Development Report 2004. (New York, NY: UNDP, 2005).
([84]) Arend Lijphart, “Constitutional Choices For New Democracies,” in Larry Diamond and Marc F. Plattner, eds. The Global Resurgence of Democracy (Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 1996), pp. 162-74.