مركز عمران للدراسات الاستراتيجية - Displaying items by tag: الأحزاب السورية

حِقَبٌ عدة مرت على سورية، لم تكن كافية لتشكل هوية اجتماعية سياسية مكتملة من جهة ولا حتى هوية مؤسساتية مستقلة داخل الدولة من جهة أخرى، فبعد استقلال سورية عن فرنسا في نيسان سنة 1947، دخلت البلاد مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها ومرحلة التعددية والحرية السياسية التي نشطت من خلال تنافس الأحزاب، مثل الحزب الوطني والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي والإخوان المسلمين الذين تنافسوا في انتخابات برلمانية ورئاسية عدة.

ومن جانب آخر كان الصراع العسكري المدني على السلطة ومؤسسات الدولة ومُقدراتِها والحراك المدني في أًوجهِ، إلى أن استطاع حزب البعث بانقلابه عام 1963 وضع مؤسسات الدولة المدنية و العسكرية في قبضته تدريجياً، وتأطير حراك المجتمع المدني الذي عادة مايكون مراقباً لسياسيات الدولة وحامياً لحقوق فئات المجتمع، ليصبح معززاً لاستبداد الحزب الواحد الحاكم وسبيلاً لقمع الشعب ونهب قوت يومه.

ومع انطلاق ثورة الكرامة عام 2011 خرج السوريون في سبيل حقوقهم وحريتهم دون أن يضطروا إلى مأسسة حراكهم أو إدارته بشكل ممنهج لأن الحراك الشعبي السلمي أو المسلح في دول شرارة الربيع كان وحده كافياً لهروب بن علي وتنحي مبارك ومقتل القذافي وحرق عبد الله صالح، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود معارضة سياسية مستمرة ومنظمة ضد هؤلاء المستبدين ماقبل ثورات الربيع العربي وإن كانت ثانوية أوضعيفة.

 ومع طول أمد الثورة السورية وتفعيل المسار السياسي و المدني ليصبح موازياً للحراك الشعبي بسبب محاولات الأسد لتمييع القضية سياسياُ بمساعٍ روسية، كان لابد من ظهور مؤسسات ثورية سورية إعلامية كانت أو سياسية أو إغاثية تحاول أن تكون نواة بديلة عن مؤسسات النظام في حال سقوطه و منافسة له أيضاً في الساحة الاقليمية و الدولية، و لتعوض غياب الدولة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد.

مؤسسات في خدمة المستبد

بعد انتزاع الأسد الأب للسلطة من رفاقه البعثيين ثم تسلمه لرئاسة الدولة في 1971، عمل على تغيير بنية مؤسسات الدولة كَكُل، ابتداءً من هيكلية الجيش وولائه و انتهاءً بمؤسسات المجتمع المدني، ففي عام 1980 أصدرت سلطات الأسد قراراً بِحَل نقابات المحامين و الأطباء و أطباء الأسنان و الصيدلة و المهندسين، واعتقلت عدداً كبيراً من منتسبي هذه النقابات، لتقوم لاحقاً بتعيين أعضاء تابعين لحزب البعث ضمن نقابات جديدة بهيكليات مختلفة.

 أدى تشابك منظمات المجتمع المدني مع السلطة القائمة إلى تشكل كتلة استبدادية صلبة لقمع المجتمع السوري و إنهاء أية تعددية فكرية أو حزبية، تشمل الأطفال في مراحلهم الدراسية الأولى من خلال تنسبيهم إلى طلائع البعث، مروراُ بطلاب المدارس و الجامعات عبر اتحاد شبيبة الثورة و الاتحاد الوطني لطلبة سورية، حتى الوصول إلى التخصصات و المهن من خلال النقابات الصُوَريّة.

ومع العقد الأول من استلام بشار الأسد السلطة، كان هناك انفتاح مؤقت للعمل المدني تمثَّل بانتشار المنتديات الفكرية وترخيص بعض منظمات المجتمع المدني يما سُمي  ” ربيع دمشق ” الذي لم يستمر طويلاً، حيث تم اعتقال أغلب مؤسسي تلك المنتديات و إلغاء ترخيص المنظمات و استبدالهم بمنظمات مجتمع مدني لا تتبع للنظام ظاهرياً و تحمل أسماء رنانة تدل على الانفتاح والتغيير، مثل الأمانة السورية للتنمية التي استولت عليها أسماء الأسد وأصبحت رئيساً لها، و جمعية البستان الخيرية التي يملكها رامي مخلوف والتي نشطت في المجال الإغاثي والتعليمي، والتي شكلت بعد انطلاقة الثورة  “ميليشيا جمعية البستان” بهدف تجنيد الشباب برواتب مغرية بُغية قتالهم إلى جانب جيش النظام.
ماضِ ثوري أم خبرة مهنية؟

مع بدايات الثورة، كان النصيب الأكبر لإدارة العديد من المؤسسات الثورية لأشخاص كان لهم سجل معارض لنظام الأسد قبل 2011، وكان لبعضهم تاريخ أيضاً من الاعتقال لسنوات سواء في عهد الأسد الأب أو الابن بسبب حراكهم السياسي أو الحقوقي، حيث كانت ثنائية الاعتقال والتاريخ المعارض هي ضمان مغري لتفادي أية اختراق من قبل نظام الأسد لمؤسسات الثورة التي مازالت في طور الولادة.

وعلى الرغم من تمكن العديد من المؤسسات الثورية من الحفاظ على سرية عملها وحراكها و لكن غياب  آليات توظيف الكوادر كان واضحاً،  تم الاعتماد على الثقات أو المعارف أو سلسلة الثقات بشكل أساسي من أجل التوظيف، مما أدى إلى تشكل خليط من الإشكاليات سواء على صعيد سياسات العمل أو على صعيد المصداقية في الأداء أمام المجتمع السوري، فانعكست سياسة التوظيف على تفاعل هذه المؤسسات مع المناطق بناء على التركيبة الجغرافية للموظفين أو حتى الأرضية الايدلوجية التي قامت عليها المؤسسة بناء على مؤسسيها و مدرائها، كما ظهر الأداء الهزيل أثناء التفاعل مع المؤسسات الدولية والاقليمية، ناهيك عن حالات الانفصام عن الواقع التي ظهرت في مواقف مؤسسات ثورية من أحداث كانت قد تأسست بالأصل من أجلها.

الثقة – الثورية – المهنية، الثالوث المُغيَّب.

 60 عاماً من تغييب المواطن السوري عن العمل المدني الحقيقي و مؤسساته في سورية، وفقدان عامل الثقة بين أبناء الشعب بسبب سياسة الأسد القائمة على الدولة الاستخباراتية، حيث اعتمدت أجهزة المخابرات على تجنيد مخبرين محليين لاتقتصر مهمتهم فقط على التقارير المتعلقة بأمن الدولة بل أيضاً لتفنيد السلوكيات و الممارسات الشخصية للمواطنين مثل ارتياد المساجد أو حتى تسجيل الأحاديث ضمن العائلة الواحدة، هذه العوامل وغيرها كانت عقبة أمام بناء الثقة المتبادلة بين المنظمات الثورية السورية والمجتمع السوري، حيث كان عامل الشك والريبة هو الأساس في تلك العلاقة وكل مؤسسة هي غير صالحة وفاسدة حتى تُثبِت العكس.

ومع انتشار المؤسسات السورية في مجتمع يحمل ترسُبات من عدم الخبرة المؤسساتية و نقص الثقة في العمل الجماعي، كان أداء وسياسات فئة من المؤسسات الثورية عامل إضافي لغياب الثقة، حيث غابت في بعضها الشفافية و انتشرت عنها حالات من الاختلاس أو هدر الأموال.

لم تكن الثقة المُغيبة هي ثقة مالية فقط، بل حتى ثقة في مدى ولاء هذه المؤسسات للثورة مقارنة بولائها لايدلوجيات القائمين عليها أو حتى مدى إيمانها بفكرة الثورة، حيث بعض موظفين المنظمات مازالوا يقضون عطلهم السنوية و إجازاتهم في مناطق النظام، و بعضهم أصلاُ ترك عمله و عاد إلى مناطق النظام، وهذه الحالات تفتح التساؤلات عن ماهيَّة السياسيات المتبعة في مؤسسات الثورة لقبول الأشخاص والموظفين فيها.

مؤسساتٌ تحمل عبئ غياب الدولة

عادة ماتكون مؤسسات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية و المستقرة  لتحقيق مصالح المواطنين وحماية حقوقهم وإقامة مشاريع توعوية لرفع كفاءاتهم، لكن الوضع السوري كان مختلفاً، ففي ظل غياب الدولة التي تقدم الخدمات للمواطنين مثل تمهيد الطرقات وبناء المساكن وتوفير المياه والكهرباء و الخدمات الصحية، كان هذا العبئ على عاتق المؤسسات السورية التي اهتمت بهذه الخدمات، فبالإضافة إلى عدم وجود خبرة  كافية لكوادر هذه المؤسسات بالأمور الخدمية، كان هناك  احتياج مالي ضخم لتأمين أساسيات المعيشة و البنية التحتية للأماكن التي تنشط بها بالتزامن مع غياب دعم الدول الحقيقي لإعادة تأهيل هذه المناطق.

و على الرغم من كل المعوقات المالية وغيرها، استطاعت الكثير من المؤسسات الثورية السورية أن تُقدم نماذج خدمية ناجحة طبياً وتعليمياً ومؤسساتياً قياساُ بِقُصر عمر التجربة السورية في العمل المدني و المؤسساتي، و المتغيرات الجغرافية و السياسية و التمويلية.

الثورات الحقيقية .. تؤهل أبناءها

على مدى سنين الثورة، عشرات آلاف الشباب فقدوا جامعاتهم وأعمالهم إما بسبب التهجير أوالاعتقال، وأضحوا بلافرص عمل أو تعليم، وكثير من هؤلاء يتحقق فيهم عامل الثقة الأمنية و الثورية وينقص بعضهم الكفاءة والمهنية المؤسساتية، تلك الكفاءة التي يجب تدريبهم عليها وإعادة دمجهم في المؤسسات السورية الثورية واعتبار تأييدهم للثورة و تضحيتهم في سبيلها هو عامل تزكية لا عامل محدد وحاسم في استلام الوظائف و المناصب وتعيين الكوادر.

وفي كل الحالات تبقى المؤسسات الثورية السورية أمام واجب مزدوج اتجاه المجتمع السوري، حيث يتوجب عليها رفع كفاءة كوادرها لتتمكن من صنع مساحة الاشتباك مع مؤسسات النظام التي مازالت حتى هذه اللحظة تملك حراكاً و تأثيراً في المنظمات الدولية مثل الاتحاد الوطني لطلبة سورية ومؤسسة بسمة أمل التابعة لأسماء الأسد، كما يجب أن تُعزز مبدأ الشفافية أمام المجتمع لتعزز من ثقته بها، و ذلك عبر سياسيات واضحة للتوظيف والتوثيق المالي المتعلق بها.

فتواجد ثنائية المهنية والثورية في الكوادر هو مايغيب عن كثير من مؤسساتنا الثورية أوالمعارضة، فَعِند غياب المهنية من الطبيعي أن تجد مجموعة أشخاص صادقين ومخلصين و لكن لم يستطيعوا تحقيق أهداف مؤسساتهم على صعيد الأهداف أو على صعيد اهدار الأموال، وفي حالة غياب انتماء الموظفين للثورة و إيمانهم بهاـ فمن الطبيعي أن أتجد كوادر لدى مؤسسات ثورية ومعارضة لامشكلة عندهم مع النظام أو رموزه ومؤيديه من الفنانين.

وختاماَ، إن المجتمع السوري بمؤسساته وأفراده يصنع تجربته وخبراته التي لم يمارسها من قبل، ولكن ماكان مقبولاً من أخطاء وعثرات في بدايات 2011 لم يعد مستساغاً ومقبولاً بعد عشر سنوات من عمر الثورة، وماكان يعتبر قلة نضج وخبرة في البدايات أصبح كارثياً بعد أن يُكرر بمنهجيات واضحة ومتجاهلة لمطالبات المحاسبة و المسائلة، فالأخطاء تكرارها يصبح خيانة، و التجاوزات تراكمها عمالة.

 

المصدر: السورية نت https://bit.ly/3FCyHEd 

التصنيف مقالات الرأي

الملخص الترويجي

كانت علاقة الدين بالدولة في الدستور السوري نقطة جوهرية في جميع الحوارات والتفاوضات التي جرت بين التيارات المحافظة والليبرالية سابقاً، وجوهرية أيضاً في حوارات اللجنة الدستورية التي يفترض بأنها ستضع دستوراً لسورية. وعليه تهدف الدراسة إلى توسيع النقاش باتجاه بناء حوار فعال بين التيارات داخل اللجنة الدستورية وخارجها، لفتح الباب نحو حوارات مستقبلية تكسر القطيعة بين العديد من الثنائيات السورية وعلى رأسها ثنائية المحافظ والليبرالي.

 

تنقسم الدراسة إلى جزئيين أساسيين؛ الأول عرض تاريخي تحليلي لتعامل الدساتير السورية مع المسألة الدينية والمسائل المرتبطة بها، مستعرضةً مقارنات للقضايا ذاتها في الدساتير العربية. والثاني أهم الخلاصات لدراسات بعض المفكرين المحافظين العرب والسوريين، في تحديد القضايا التي يمكن للتيارين الوصول فيها إلى نقاط مشتركة تنعكس في الدستور، وإلى القضايا التي لا يمكن للدستور أن يعالجها إلا وفق النظام السياسي والقانوني المقبل في سورية."

تمهيد

كانت مصادر التشريع في الدستور السوري نقطة جوهرية في جميع الحوارات والتفاوضات التي جرت بين التيارات المحافظة والليبرالية، وهي على ما يبدو ستكون أيضاً جوهرية في حوارات اللجنة الدستورية التي تشكلت كجزء من الحل السياسي، والتي يفترض بأنها ستضع دستوراً لسورية ضمن سلة حلول أخرى تسعى إلى إحلال السلام. كانت الهيئات التأسيسية التي كتبت جميع الدساتير السورية والعربية تتعرض إلى نقطتي خلاف أساسيتين وهما: دين الدولة، ومصادر التشريع فيها. لقد جادلنا أن دين الدولة ومصادر التشريع فيهما قضيتان مرتبطتان ومنفصلتان بآن ([1]) ارتباط القضيتين يتأتى من أنهما كانتا مجال تفاوض أساسي بين التيارات المحافظة والليبرالية، وانفصالهما يكمن في عدم تعيين مخرج واضح لاستخدام أي منهما دستورياً. توضيحاً، يفترض أن ترتبط التشريعات القانونية بمصادر التشريع، وبالتالي فإن قانون الأحوال الشخصية، وهو القانون المفترض أنه الأكثر تأثراً بمصادر التشريع، يجب أن يتأثر بشكل واضح بتغير النص الدستوري، إلا أن هذا الأمر لم يكن دقيقاً، ففي حالات مثل دستور الـ 1920 ودستور 1930 وغيرهما لم يكن هناك ذكر لمصدر التشريع ورغم ذلك ظل قانون الأحوال الشخصية ذا طابع إسلامي. من جهة أخرى كان دين الدولة في تونس هو الإسلام وقانون الأحوال الشخصية ذا طابع ليبرالي مثلاً. كما أوضحنا أن التفاوض الذي جرى بين التيار المحافظ المسلم من جهة والتيارات الليبرالية والمحافظة المسيحية من الطرف الآخر، قد حال دون تبني نصٍ صريحٍ حول دين الدولة في الدستور، و"الاكتفاء" بجعل الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع. في حين أن هذا التفاوض في تونس أفضى إلى تنازل التيارات المحافظة فيها عن جعل الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، و"الاكتفاء" بعبارة " دينها الإسلام" في وصف الدولة التونسية. إذاً تنازل التيار المحافظ في سورية في دستور 1950 عن عبارة دين الدولة هو الإسلام ورضي بالشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، وتنازل التيار المحافظ في تونس عن الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع ورضي بدين الدولة هو الإسلام. إذاً يمكن الاستنتاج أنه لا توجد علاقة سببية واضحة أو اتفاق على المخرج المتوقع من استخدام هذه العبارة أو تلك.

انطلاقاً من هذه المقدمة، سنعمد في بحثنا هذا إلى توسيع النقاش باتجاه بناء حوار فعال اليوم بين التيارات داخل اللجنة الدستورية وخارجها، آملين أن نفتح الباب نحو حوارات مستقبلية تكسر القطيعة بين العديد من الثنائيات السورية وعلى رأسها ثنائية المحافظ والليبرالي.

وسنتطرق أيضاً إلى قضية حقوق المرأة كونها مرتبطة بشكل وثيق بمصادر التشريع ودين الدولة والحوار الليبرالي-المحافظ ولكونها أخذت حيزاً هاماً في مداولات دستور 1920 وغيره من الدساتير. ولكن وقبل أن نلج في إشكالية البحث وأسئلته، نرى من الواجب توضيح هذه الثنائية أولاً، واصطلاحنا ثانياً.

يعاني المجتمع السوري من ثنائيات، أعاقت بالتضافر مع عوامل أخرى بناء هوية وطنية جامعة، فثنائيات من قبيل عربي -كردي، مسلم -مسيحي، سني -علوي، داخل -خارج، كانت على الدوام، وبشكل صارخ بعد العام 2011، مصدر قلق اجتماعي عام، وعامل عنف رهيب. إلا أن واحدة من الثنائيات التي اخترقت كل الثنائيات الأخرى، هي ثنائية ليبرالي -محافظ، أو لتوصيف القضية بشكل أدق ثنائية علماني -إسلامي. كانت هذه الثنائية دائمة البروز عند الانعطافات التاريخية في سورية، وليست أحداث السبعينات والثمانينات وحدها الشاهد. وكنتيجة للصورة المتخيلة عن الآخر، تكرست كلمة العلمانية كمرادف للإلحاد والإسلامية كمرادف للتطرف، رغم محاولات الطرفين شرح المفهومين، إلا أن الانطباع العام لم يتغير. من هنا، ولأغراض إجرائية وقصدية، فإننا نستعمل مصطلح الليبرالية لنقصد به التيارات التي تنادي بفصل الدين عن الدولة والمساواة بين الأفراد بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والطائفة والمذهب، والتيارات المحافظة التي لا تدعم كلياً أو جزئياً فكرة المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء أو بين المسلم والمسيحي. الغرض من تحديد المصطلحات بهذا الشكل هو قصديّ بالدرجة الأولى. إذ نتوخى من تكريس هذا التقسيم في الخطاب السياسي السوري، بدل تقسيم علماني -إسلامي لعدة أسباب: أولاً، تجنب الصورة المتخيلة عن كل منهما، والتي تسم العلمانية بالإلحاد والكفر والإسلامية بالتطرف. ثانياً، نقل الخلاف الأيديولوجي إلى الحيز السياسي. ثالثاً، إن ثنائية المحافظ ليبرالي تكسر التخندق الحاصل في ثنائيات هوياتية مقسمة للمجتمع، كثنائية مسيحي/ مسلم أو عربي/ كردي. رابعاً، هو الشكل الذي يأخذه مصطلح الإسلامية في الأدبيات الغربية، والذي عن قصد أو بغير قصد، يضع مصطلح الإسلامية Islamic كمكافئ لمصطلح الإسلاموية Islamist رغم أن التيارات المحافظة في الغرب قد تسمي نفسها مسيحية Christian وليس مسيحوية Christianist.

ينطلق البحث في تحديد إشكاليته وأسئلته الأساسية ومنهجه، من ثم ينقسم البحث إلى جزئيين أساسيين: نمضي في الجزء الأول في عرض تاريخي تحليلي لتعامل الدساتير السورية مع المسألة الدينية والمسائل المرتبطة بها، مستعرضين مقارنات للقضايا ذاتها في الدساتير العربية. من ثم ننتقل في الجزء الثاني، وبالاستناد إلى استخلاصات الجزء الأول، وإلى دراسات بعض المفكرين المحافظين العرب والسوريين، في تحديد القضايا التي يمكن للتيارين الوصول فيها إلى نقاط مشتركة يمكن أن تنعكس كنقاط مشتركة في الدستور، وإلى القضايا التي لا يمكن للدستور أن يحلها، ويجب أن تترك للنظام السياسي والقانوني المقبل في سورية.

في الإشكالية والأهداف

برزت علاقة الدين بالدولة كمحدد أساسي للعلاقة بين التيارات المحافظة والليبرالية في سورية بشكل واضح في الدساتير السورية منذ دستور عام 1920. ([2]) وصلت هذه الإشكالية حد المواجهة في الشارع في العام 1972 إبان وبعد مداولات دستور 1973. لم تكن هذه القضية الوحيدة التي أثارت نزاعاً في مداولات الدساتير المختلفة، لكنها تبدو واحدة من القضايا الأكثر أهمية، على الرغم من قلة الأبحاث التي تطرقت إلى هذه المسألة حتى تاريخ كتابة هذا البحث، رغم وجود أبحاث هامة طبعاً في هذا المجال. إلا أننا بدأنا نلحظ اهتماماً متزايداً بها بعد الحديث عن دستور جديد كمخرج للحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2011. فعلى سبيل المثال، عقد المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ندوة بعنوان "مئوية الدستور السوري الأول 1919/1920: إشكالية العَلمنة" من تقديم محمد جمال باروت بتاريخ 2 أيلول 2020، لمناقشة تعامل مؤتمر العام 1920 مع قضية العلمانية. ([3]) كما ظهر بحث هام للدكتور إبراهيم دراجي والدكتورة ريم تركماني تناول قضية علاقة الدين بالدولة في العام ذاته. ([4])

على الرغم من أهمية هذا البند في الحياة السياسية عموماً، وفي الدستور خصوصاً، ظلت هذه المسألة بعيدة عن التناول البحثي الجدي والعميق في محاولة معرفة المحددات الأساسية التي أفضت إلى النصوص المعتمدة، أو غيابها، في جميع الدساتير، ناهيك عن مفاعيل هذه النصوص سياسياً وقانونياً.

زد على ذلك، أن عبارة "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع" حافظت على نفسها تقريباً، مع تباينات طفيفة، في جميع الدساتير السورية منذ العام 1950 وحتى آخر دستور في العام 2012، متنازعة مع محاولات لإدراج نص "دين الدولة هو الإسلام" لتبقى كذلك نتيجة للتفاوض المتوتر بين التيارات، دون أن يكون هناك تفسير واضح للفرق بين العبارتين، ومتنازعة مع محاولات أخرى لإزالتها تماماً من دون أن تبرز محاولات جدية لاقتراح نصوص دستورية تعمل على تقريب وجهات النظر بين التيارات.

عليه فإن هذا البحث سيسعى للإجابة عن الأسئلة الآتية:

  • كيف برزت علاقة الدين بالدولة في الدساتير السورية المختلفة؟ وكيف تباينت النصوص الدستورية فيما بينها من جهة وفيما بينها وبين الدساتير العربية من جهة أخرى؟
  • ما الأسباب التي أفضت إلى اعتماد هذه النصوص، وما دور العوامل الداخلية والخارجية في تبنيها أو إغفالها؟
  • ما دور حقوق الجماعات وحقوق الأفراد فيها؟ وما مفاعيل هذه النصوص وآثارها القانونية والمجتمعية على الأفراد والجماعات؟
  • وبالاستناد إلى المحدثين من التيارين المحافظ والليبرالي، هل بالإمكان الوصول إلى نصوص توافقية تشكل أساساً للحوار بين هذين التيارين؟

في الإجابة عن هذه الأسئلة يسعى البحث إلى تحقيق الأهداف التالية:

  • تسليط الضوء على علاقة الدين بالدولة من وجهة نظر التيارين الليبرالي والمحافظ وانعكاساتها الدستورية، وفهم الأسباب التي أفضت إلى تبني النصوص النهائية في دساتير 1920، 1950، و1973
  • التقاط مجالات التقاطع المحتملة بين التيارات، ومدى إمكانية الوصول إلى إطار مشترك في الدستور التي تشتغل عليه اللجنة الدستورية.

 

سنعمد في هذا البحث إلى المنهج الوصفي التحليلي في مقاربة وجهات نظر التيارات المحافظة والليبرالية، مع استخدام المنهج التاريخي في فهم السياقات السياسية والاجتماعية التي أطّرت تعاطي الدساتير السورية المتعاقبة مع القضية الدينية. كما استعملنا المنهج المقارن في مقارنتنا بين الحوارات والتفاوضات التي جرت بين مختلف التيارات السياسية للجمعيات والهيئات التي كتبت دساتير الأعوام 1920، 1950، و1973. سنركز خلال استعراض المسألة الدينية على الحوارات والتفاوضات التي رافقت كتابة هذه الدساتير في محاولة لمقاربة الحوار الليبرالي المحافظ دستورياً مركزين على ثلاثة دساتير أساسية هي: دستور 1920 كونه أول دستور لسورية بعد انفصالها عن السلطنة العثمانية، وكونه أول دستور سوري يكتبه السوريون، ودستور 1950 كونه أول دستور يكتب بعد الاستقلال عن فرنسا، ولأنه أول دستور يذكر نصاً واضحاً لمصادر التشريع، ولأنه أول دستور يتم التنازع فيه بين نصي دين الدولة ومصادر التشريع، وأخيراً دستور 1973 والذي شهد تثبيت الحكم العسكري الشمولي لسورية الذي ابتدأ مع انقلاب آذار 1963، والذي دام حتى يومنا هذا. لا نعني بكلامنا أن الدساتير الأخرى كدستور العام 1930 مثلاً، غير مهمة، إلا أننا نرى أن هذه الدساتير الثلاثة شكلت عاملاً فارقاً في الحياة السياسية السورية.

سنعمد إلى الاقتباس الكامل لمداخلات أعضاء الهيئات التي كتبت هذه الدساتير، كون هذه المداخلات هي ما شكل الأساس في عملية الاستخلاص والتحليل من جهة، ولأهمية هذه المداخلات كناحية توثيقية من جهة أخرى.

لن نتطرق في هذا البحث إلى جميع النصوص التي تتعلق بالدين كالقسم، والتعليم، وأحوال الطوائف، وذلك أن هذه القضايا هي حصيلة النقاش على المادة الثالثة في الدستور، ومقدمته. فما جرى في نقاشات جميع الدساتير تركز على المادة الثالثة – حتى في غيابها في نص 1920 مثلاً-وعلى المقدمة كما سنرى في دستور 1950.

في سعينا للإجابة عن أسئلة البحث، سنركز على السياقات الاجتماعية والسياسية وتحديداً في النشاط السياسي الحزبي الذي سبق ورافق عملية كتابة الدساتير هذه. بالتالي، سنستعرض أهم الأحزاب التي عملت داخل قبة البرلمان في الجمعيات التأسيسية التي كتبت هذه الدساتير، سواء تلك المنتخبة كما هو الحال في المؤتمر السوري العام 1919-1920، وفي الجمعية التأسيسية في العام 1950، أو المعينة كما هو الحال في مجلس الشعب المعين في العام 1971-1973.

سنستعرض في ذلك، التفاوضات التي جرت داخل قبة البرلمان وتلك التي جرت خارجه بين الأحزاب فيما بينها، وبينها وبين القوى المجتمعية الدينية وقوى المجتمع المدني خارج البرلمان.

أولاً: الدستور والمسألة الدينية

ظلت المسألة الدينية حاضرة بقوة في كل الدساتير السورية التي كتبت خلال 100 عام، منذ العام 1920، تاريخ الدستور السوري الأول وحتى دستور العام 2012. وكانت واحدة من القضايا الأساسية التي أخذت قسطاً وافراً من الحوارات والتفاوضات التي رافقت كتابة ثلاثة دساتير على الأقل، وهي: دساتير الأعوام 1920، 1950، و1973 ولهذه الدساتير أهميتها الخاصة. فدستور العام 1920 كان أول دستور للكيان السوري بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية والذي، أي الدستور، لم يقيض له أن يرى النور بعد دخول القوات الفرنسية إلى دمشق. ودستور العام 1950 كان أول دستور سوري بعد الاستقلال ونهاية حقبة الانتداب. أما دستور 1973 فهو أطول دستور يحكم البلاد والذي أسس لحكم الأسد الأب والابن لقرابة 40 عاماً، والذي أثر بشكل واضح على دستور العام 2012 الذي جاء بعد انتفاضة العام 2011.

ليس مستغرباً أن تشهد هذه الدساتير الثلاثة تفاوضات مهمة لعلاقة الدين بالدولة شأنها في ذلك شأن كل الدساتير الأخرى في العالم العربي والعالم أجمع. فعلاقة الدين بالدولة لها أثر على القضية الهويّاتية التي يسعى الدستور إلى تأصيلها من جهة، وعلى حقوق الإنسان والجماعات من جهة أخرى.([5]) كما ستؤثر هذه النصوص، افتراضاً، على القوانين التي تكتب بفعل هذا الدستور، وبشكل أساسي قانون الأحوال الشخصية، وحقوق النساء، والأقليات الدينية والطائفية والمذهبية، وربما قوانين أخرى، ناهيك عن آثارها الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية.

تظهر العلاقة بين الدين والدستور في مجالات عدة منها ديباجة الدستور،([6]) ودين رأس السلطة التنفيذية، ودين الدولة، ومصدر التشريع، وحرية الاعتقاد، والأحوال الشخصية للطوائف، والتعليم عموماً والديني خصوصاً. ليست هذه قضايا عابرة، بل هي قضايا تقبع في جوهر الدستور كوثيقة للعقد الاجتماعي الذي يحكم علاقة الدولة بالمجتمع من جهة ويحدد وظيفتها من جهة أخرى، والتي ستحكم التشريعات التي ستستند إلى هذا الدستور.([7])

سنقتصر في هذا البحث على الدساتير الثلاثة الآنفة الذكر، مركزين فيها على التفاوضات التي دارت بين القائمين على كتابة الدستور من جهة، وبينهم وبين القوى الأساسية في المجتمع من جهة أخرى.

ثانياً: الدساتير السورية والمسألة الدينية

1.   دستور 1920

على خلاف دستوري العامين 1950 و1973، خلا دستور 1920 من أي ديباجة، رغم وجود أسباب موجبة لكنها لم تعتبر جزءاً من نص الدستور، وابتدأ فوراً بتعداد فصوله. ([8]) تظهر المسألة الدينية في دستور العام 1920 بشكل صريح في المادة الأولى التي تحدد دين الملك، وفي المادة الثالثة عشرة التي تمنع التعرض لحرية المعتقدات والديانات، والتي لا تمنع الحفلات الدينية من الطوائف على ألا تخل بالأمن العام أو تمس بشعائر الأديان والمذاهب الأخرى، وفي المادة الرابعة عشرة التي تذكر كيفية إدارة المحاكم الشرعية والمجالس الطائفية التي تحسب شرائعياً في الأحوال الشخصية المذهبية، وكيفية إدارة الأوقاف العامة مع أنها تتركها للمشرع لإقرار هذه الكيفية.

أما بشكل ضمني فيوجد المواد: العاشرة، والتي تقول إن السوريين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، والمادة الحادية عشرة والتي تتحدث عن صيانة الحرية الشخصية، والمادة التاسعة والسبعين والتي تتحدث عن حق الانتخاب، والتي تتشابه إلى حد كبير مع الدساتير العثمانية 1878 و1908.

صمت هذا الدستور عن قضايا أساسية تتعلق بعلاقة الدين بالدولة، فهو لم يذكر دين الدولة ولا مصدر التشريع فيها ولا حقوق المرأة، ولا مكانة الدين الإسلامي في المجتمع بين باقي الديانات.

إن ظهور المسألة الدينية بشكل صريح وضمني والسكوت عن قضايا مرتبطة بها في دستور 1920، جاء نتيجة تفاوضات حول الدين والدولة وحقوق المرأة،([9]) جرت في أروقة المؤتمر السوري العام بين ثلاثة تيارات وهي: التيار الليبرالي، والذي كان يريد دولة لادينية بالمعنى اللائيكي،([10]) والتيار المحافظ، والذي أراد دولة إسلامية عربية بأساس ديني، والتيار الوسط، والذي كان يأخذ بالأساس الاجتماعي للمسألة الدينية في الدستور.

مثّل التيار الليبرالي شخصيات مثل رجل الدين المرموق الشيخ سعيد مراد، أستاذ مادة جملة الأحكام الشرعية في معهد الحقوق في بيروت ومن ثم في دمشق، ([11]) وإبراهيم الخطيب مندوب لبنان، سعد الله الجابري نائب حلب، ودعاس جرجس من قلعة الأكراد، وصبحي الطويل من اللاذقية. ([12]) أما التيار المحافظ فمثلته شخصيات مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني من حلب، والشيخ أحمد القضماني من دمشق، والشيخ أحمد العياشي وإبراهيم الشيخ حسن وخليل التلهوني. والتيار الوسط فمثّلته شخصيات مثل الشيخ رشيد رضا.

سنستعرض فيما يلي المواقف التفاوضية للأطراف الثلاثة ولكن قبل ذلك سنمر على الأحزاب السياسية التي كانت ممثلة في المؤتمر السوري العام.

1.1 الأحزاب السورية التي شكلت المؤتمر السوري العام

1.1.1 الكتلة التقدمية (حزب التقدم)

قاد الحراك القومي العربي خلال الحرب العالمية الأولى الجمعية العربية الفتاة، والتي تأسست في باريس في العام 1911 وتشاركت مع غيرها من الأحزاب والجمعيات التي عملت بشكل سري حتى شباط العام 1919 تحت اسم حزب الاستقلال العربي، ([13]) والذي ضم بين أعضائه شخصيات مثل الشيخ كامل القصاب والليبرالي الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. تمتع حزب الاستقلال بعلاقة قوية مع الشيخ رشيد رضا من حزب الاتحاد السوري، والذي تأسس بدوره في القاهرة باسم حزب اللامركزية، والذي كان يدعو إلى نظام لامركزي يضمن حكماً ذاتياً للعرب، وذلك في العقد الثاني من القرن العشرين. بعد هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأولى تركزت أهداف حزب الاتحاد السوري في استقلال سورية الطبيعية وعروبتها، وعلى تبني نظام الحكم الملكي الدستوري، وخاصة بعد ظهور الأمير فيصل كشخصية ذات مرجعية دينية من سلالة الرسول الكريم كبديل عن الخلافة العثمانية، واللامركزية وبحماية الأقليات والأخوة بين المسلمين والمسيحيين. ([14]) تزعم هذا الحزب ميشيل لطف الله المسيحي رئيساً، والشيخ رشيد رضا نائباً للرئيس. يكفي أن نرى مسيحياً في الرئاسة وشيخاً في نيابة الرئاسة لندرك طريقة تعامل هذا الحزب مع قضية الدين. من الهام أن ننوه هنا أن الشيخ رضا كان يعتقد أن الدين الإسلامي قادر على توفير الحماية للمسيحيين وبأنه دين عصري وليس ديناً متطرفاً ورجعياً كما يزعم الغرب، وألا تعارض بين الإسلام والدولة المدنية الحديثة. ([15]) إذاً تركزت استراتيجية هذا الحزب على النضال القومي وعلى الإخاء بين أفراد الشعب، وذلك بشكل أساسي لمناهضة القوى الانفصالية المسيحية من جهة، والوقوف بوجه المزاعم الفرنسية بحماية المسيحيين في سعيها لفرض هيمنتها على سورية.

شكل حزبا الاستقلال والاتحاد تحالفاً تحت اسم الكتلة التقدمية والتي حصلت على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية في المؤتمر السوري العام ونجحت بإيصال الشيخ رضا إلى منصب رئيس المؤتمر.

1.1.2 الكتلة الديموقراطية: (الحزب الوطني السوري)

بدعم من الأمير فيصل، تشكل الحزب الوطني السوري من الشخصيات المتنفذة في دمشق بقيادة أمير الحج زمن السلطنة العثمانية عبد الرحمن باشا اليوسف، إضافة إلى شخصيات مثل عمر العابد، ومحمد الشريقي، وجنرالات الأمير فيصل مثل نسيب البكري وشريف ناصر، ([16]) كما كان من قياداته الشيخ المحافظ عبد القادر الخطيب، والذي رفض منح المرأة حق الانتخاب كما سنرى. ([17]) كانت غالبية أعضاء هذا الحزب من الفئة الأرستقراطية الثرية حتى سمي بحزب الذوات.  كخصمه السياسي، كان هذا الحزب يضع استقلال سورية الطبيعية هدفاً أسمى لكنه كان يدعو إلى التعاون مع فرنسا، منادياً بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين في الوقت ذاته.

1.2 التفاوضات التي أفضت إلى هذه النصوص

رغم وجود كتلتين أساسيتين هما الكتلة التقدمية والكتلة الديموقراطية وعدد آخر من الكتل الصغيرة والمستقلين، ظهرت في حقيقة الأمر داخل البرلمان ثلاثة تيارات عابرة لبنية الأحزاب وهي: التيار الليبرالي والوسط والتيار المحافظ. ربما يعود هذا الانقسام إلى حقيقة أن الأحزاب المشكلة في فترة الاستقلال كانت تركز على قضية الاستقلال وحده، دون التفكير ملياً في قضايا أيديولوجية أو برامجية ستواجهها عند كتابة الدستور. استندت التيارات الثلاثة في مطالبها ومواقفها التفاوضية إلى منطلقات مختلفة. فالتيار الليبرالي الذي كانت أغلبية أعضائه من الكتلة التقدمية استند في مطالبه نحو دولة لا دينية وحق المرأة في الانتخاب على جانب حقوقي من ناحية، وعلى جانب آخر مرتبط بالعلاقة مع الغرب وبضرورة التفاوض معه منعاً لتدخله في شؤون سورية وحماية لاستقلالها من ناحية أخرى. في حين استند التيار المحافظ على الشريعة الإسلامية والتقاليد المجتمعية. أما التيار الثالث، فقد استند على ما أسماه مصلحة الأمة وتمثّل روحها.

فالتيار الليبرالي رأى أن تبني دولة لا دينية حداثة وتشبّه بالغرب المتطور، وبأن حق المرأة في الانتخاب هو حقها الإنساني، بل وحتى الشرعي.

كانت المطالبة بدولة لا دينية حاضرة بقوة بين النخب السورية، فالجموع التي استقبلت الأمير فيصل في دمشق كانت ترفع لافتات كتب عليها الدين لله والوطن للجميع، ([18]) وكان هنالك العديد من قادة الجمعية العربية من العلمانيين، وكان العديد من صحف دمشق تطالب بدولة محايدة تجاه الدين والدولة، مستخدمة مصطلحات مثل مدنية الدولة وحتى العلمانية. ([19]) كما أننا نظن أن التيار الذي كان يطالب بحق المرأة الانتخابي هو نفسه الذي طالب بدولة لا دينية، آخذين بعين الاعتبار أن التباين في درجة الليبرالية التي يتوخاها عضو ما تختلف عن تلك التي يطلبها عضو آخر.

يقول رشيد رضا في مقاله المنشور في العام 1934: "قد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لادينية (لاييك) و وافقه بعض المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك".

ومن اللافت هنا عدة نقاط، الأولى إن اقتراح دولة لا دينية قبل نحو قرن من قبل أعضاء منتخبين لم يكن يرى على أنه خروج هائل عن المألوف، ([20]) على الأقل بين النخب. الثانية، هي أن رشيد رضا يسمي السوريين المسلمين المنادين بلادينية الدولة بالمسلمين الجغرافيين، والتي ربما عنى بها العلمانيين. الثالثة، هي أن الشيخ رضا لم ير بالدولة اللادينية نشازاً من جهة المفهوم، وسبب معارضته لها هو ما قد يفهمه الناس منها، لا جوهرها الفعلي.

أما في قضية المرأة، وتحديداً في تمكينها من حق الانتخاب، تبدو التفاوضات بين هذه التيارات جلية. فالتيار المحافظ، كان رافضاً بشكل قطعي لمشاركة المرأة في الانتخاب، مستنداً في ذلك إلى التقاليد وأحكام الشريعة. أما التيار الليبرالي فكان متحمساً لفكرة مشاركتها في الانتخابات، منطلقاً في ذلك من أنها متساوية مع الرجل في هذا الحق، وإلى مرجعيته الأوروبية. على سبيل المثال وفي معرض رفضه منح النساء حق الانتخاب يقول عبد القادر الكيلاني، والذي مثل الجهة في التيار المحافظ التي استندت إلى التقاليد المجتمعية: "إن الأوروبيين قد ساروا في حلبة التمدن 300 سنة فعاداتهم وتقاليدهم لا تمنع المرأة من الاشتراك معهم في كل شيء ومع ذلك أروني دولة من دول أوروبا أعطت الإناث هذا الحق" فالأصل عند هذه الجهة من التيار المحافظ هو العادات والتقاليد. أما الشيخ أحمد القضماني من دمشق فقد استند إلى الشريعة في معرض رفضه لإعطاء النساء حق الانتخاب. يقول الشيخ أحمد قضماني: "جعلها \أي المرأة\ الله بنصف عقل ونصف ميراث" فهذا التيار كان يرفض مشاركة المرأة في الانتخاب من وجهة نظره للشريعة الإسلامية. ([21])

وبالنسبة لموقف التيار الليبرالي المستند إلى مفهوم الحقوق والعلاقة مع الغرب كما أسلفنا. يقول السيد إبراهيم الخطيب: "لو كنت أعرف أن الأفكار مستعدة لقبول اقتراحي لهذه الدرجة لكنت اقترحت أن نعطي للمرأة أكثر من هذا الحق [حق الانتخاب]". ويقول السيد رفيق التميمي: "بإمكاننا أيها السادة أن نؤلف بين المذهبين القديم والجديد. إن حق الانتخاب واجب يعم جميع الوطنيين إلا أنه أصم فعلى كل وطني أن ينتخب ولكن لا يجازى إذا لم يصوت. نحن إذا أعطينا هذا الحق للمرأة فلها الحرية باستعماله أو رفضه." ويقول صبحي الطويل من اللاذقية: "إن هذا الانتخاب لو لم يفد إلا إثبات حق للمرأة لكفى".

أما التيار الذي استند في معرض دفاعه عن حق المرأة في الانتخاب إلى العلاقة مع الغرب فيمثله شخصيات مثل جورج حرفوش والشيخ سعيد مراد والذي دعي ببطل حقوق المرأة والذي يقول: "أتكلم باللغة العربية الفصحى التي يفهمها كل أحد. يقول الغربيون إن الشرق الذي سجل عليه إلى أجل غير معلوم جهل نصفه يجب أن نكون أوصياء عليه" ويقول جورج حرفوش: "غداً تقرأ أوروبا في جرائدها أن أعضاء المؤتمر السوري اقترحوا إعطاء حق الانتخاب للمرأة فتأكدوا أننا نحدث تأثيراً يغنينا عن عشرين وفداً". ([22])

أما التيار الثالث فقد كان يتحفظ على إعطاء المرأة حق الانتخاب من منطلق اجتماعي، والحفاظ على النظام العام، والذي سماه مرة بروح الأمة، ومصلحتها. لا يبدو أن هذا التيار كان رافضاً للفكرة من منطلق عقائدي، ولكن خشية من ردة فعل الجمهور. يقول محمد عزة دروزة في مذكراته: "وقد أخذ موضوع حقوق المرأة في الدولة حيزاً كبيراً، وكان للشيخ سعيد مراد (الغزي) مواقف إيجابية قوية في صدد تثبيت حقوقها وحريتها ومساواتها في الدولة، وكان للتقليديين مواقف مضادة ولكنها كانت تهزم أمام الحجج القوية من جهة، وكانت كثرة الشباب والمتفتحين في المؤتمر مساعدة على ذلك من جهة أخرى. ولولا أننا لاحظنا أن ظروف البلاد السياسية لا تتحمل هزة شديدة في الشعب يثيرها الرجعيون لأمكن إقرار مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات السياسية والمدنية والانتخابية والتمثيل وأهليتها لذلك".([23]) ويقول رشيد رضا: "فأنا أقول بوجوب محاربة الجامدين الذين يريدون أن تبقى المرأة جاهلة غير أن مسألة الانتخاب لا تترتب عليها مصلحة وقد توجب سوء التأثير وأظن أنكم تعرفون أن العوام والتيار العمومي لا يقبلان تحقيقاً فصرخة واحدة كافية لإثارتهما" ويقول في موضع آخر: "فإذا أعطينا المرأة حق الانتخاب أصبحت من أولي الأمر ولا يكون للرجل عليها درجة، نحن لا نريد أن ندخل في التفسير وقلنا إن المسألة لا مصلحة لنا فيها وليس لدينا من الوقت ما يسمح لنا بفتح الباب أمام المتعصبين".  أما عادل زعيتر فيقول: "لا شك أن كل واحد منا يريد أن تصل المرأة إلى الدرجة الراقية لكي تطلب حقها ولكن رغم ما قاله بعض الخطباء وادعاه من الفائدة في تخويل النساء حق الانتخاب أرى أن ذلك مضر لأنه لا يمتزج مع روح الأمة". ويقول الدكتور سعيد طليع: "فأنا لو كنت في أوروبا لكنت من الذين يدافعون عن إعطاء هذا الحق للمرأة ومؤيداً رأيي بالأدلة والبراهين القاطعة ولكني بما أني سوري وفي سورية لا يمكنني ذلك. نحن نسن قانوناً لكافة الأمة السورية فكل قانون لا ينطبق على روح الأمة لا يجدي نفعاً فسورية لا تتحمل هذا القانون". ([24])

انتهى الأمر كسابقه في موضع الدين بالدولة إلى الصمت عنه. لم يذكر الدستور أن الحق مقتصر على الرجال، ولم يذكر بشكل صريح موقفه من حق المرأة في الانتخاب. "الرئيس: [هاشم الأتاسي] يوجد اقتراح من عثمان سلطان وخمسة عشرة عضواً ويشاركهم السيد تيودور أنطاكي وهو "نقترح عدم البت في موضوع إعطاء المرأة حق الانتخاب وتسجيل الاقتراح في ضبط المؤتمر وإبقاء الفقرة من اللائحة القانونية على حالها" فمن يقبل ذلك فليرفع يده. وعند رفع الأيدي ظهر أن الأكثرية توافق الاقتراح".

لم تكن هذه القضايا، علاقة الدولة بالدين وحق الانتخاب للمرأة هي الوحيدة التي طرحت في المؤتمر، فقد ظهر خلاف أيضاً بين التيارين المحافظ والليبرالي حول ترويسة الخطاب الموجه إلى الأمير فيصل لشكره على ما قام به من أجل سورية، إلا أن التيار المحافظ احتج على عدم البدء بالبسملة، فاحتج بمقابلهم الليبراليون مطالبين بفصل الدين عن السياسة، ليأتي يوسف الحكيم، المحسوب على التيار الليبرالي بحل يتضمن البدء باسم الله، بدل باسم الله الرحمن الرحيم، فقبل الاقتراح. ([25])

من الملاحظ هنا، أننا لا نرى دوراً فاعلاً لرجال الدين من الطوائف غير السنية في مداولات هذا الدستور ولا في نصه. فعلى الرغم من ذكر المادة الرابعة عشرة لوجود طوائف ومذاهب لها أحوالها الشخصية الخاصة، إلا أننا لا نرى ذلك إلا استمراراً للنص كما ورد في الدستور العثماني 1876 وليس نتيجة تفاوضات تمت مع الزعامات التقليدية لهذه الطوائف كما جرى لاحقاً في مفاوضات دستور 1950. كما أننا لا نرى تحركات شعبية أثرت بطريقة أو بأخرى على مواقف أعضاء المؤتمر وقراراته، إنما التخوف من هكذا تحركات، كما ورد في مداخلة الشيخ رشيد رضا الذي كان يخشى ثورة من أسماهم بالمتعصبين. يعود هذا برأينا، إلى أن مداولات الدستور ظلت داخل قبة البرلمان ولم تحدث خارجه أي مفاوضات ذات مغزى، كتلك التي حدثت إبان مناقشة دستور 1950 على الأقل، رغم ورود تحركات للنساء والصحافة كما يورد كل من ماري شهرستان ([26]) وإليزابيت تومبسون ([27])، إلا أننا نرى أن هذه التحركات انحصرت في دمشق وبيروت وعلى نطاق ضيق لا يمكن مقارنته بما جرى في دستوري 1950 و1973.

انتهى المؤتمر إذاً دون نص صريح فيما يخص مرجعية الدولة الدينية وحقوق المرأة، رغم أن المرجعية الإسلامية ظلت راجحة في القوانين السائدة حتى العام 1950 تاريخ إقرار أول دستور بعد الاستقلال عن فرنسا. وانتصر التيار الوسطي الذي كان يحاول جمع التيارين المحافظ والليبرالي على قاعدة واحدة هي دعم الحكومة في مواجهة خطر فرنسا.

نستطيع هنا أن نخلص إلى ما يلي:

أولاً، لقد كان هذا الدستور شديد التأثر بالعامل الخارجي، فالتيار المحافظ كان من الشخصيات التي كانت تحظى بعلاقة طيبة مع الخلافة العثمانية والتي ظلت تؤكد على الروابط الإسلامية، في حين كان التيار الليبرالي متأثراً بالغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، معتبراً الغرب معيار العصرية. يقول يوسف الحكيم: "كان النواب التقدميون الأحرار على حق في تمسكهم بمبدأ فصل الدين عن السياسة، ذلك المبدأ الذي سارت عليه معظم الأمم الراقية. فهو لا يعني بوجه من الوجوه إهمال الدين والتجرد عن أحكامه السامية التي ترتفع بالإنسان نحو الكمال، نتعلم الصدق والمحبة والإخاء الإنساني والصفح عن الإساءة والعطف على الضعيف والفقير واحترام حقوق الآخرين ومراعاة القوانين والأنظمة التي تصدرها الدولة. بل يعني هذا المبدأ عدم تحكم العقيدة الدينية في سياسة الدولة التي قد تتبدل من يوم لآخر، وفي اطراد نهضتها من جميع نواحي الحياة، وقد ضم الوطن الواحد أبناء تعددت أديانهم ومذاهبهم واختلت درجات ثقافتهم وتفكيرهم وفلسفتهم".([28])

ثانياً، من الواقعية هنا أن نفترض أن روحية الدستور الليبرالي التي ألقت بظلالها على دستور 1920، كانت بين خطين أساسيين وهما الخط الذي يريد الابتعاد عن الخلافة العثمانية بمرجعيته الدينية والتقرب من الغرب من جهة، والخط الذي ما يزال يرى العلاقة مع الخلافة، وإن بصوت خفيض، أساساً دينياً لا تنازل عنه. غير أن التيار العروبي المهيمن على المؤتمر، وزخم الثورة العربية والرغبة بالاستقلال ومآسي تحكم المركز بالأطراف في زمن العثمانيين، جعل الخط الليبرالي متقدماً على المحافظ. ولكن لا بد من التنويه أن فشل فكرة اللادينية من حماية سورية من الانتداب أقنع المحافظين بعدم جدوى استمالة الغرب والتمظهر بروح الحداثة. وحتى رشيد رضا من التيار الثالث المعتدل بين التيارين الليبرالي والمحافظ أعاد تفكيره في السنوات اللاحقة من موقفه، وليس غريباً أن أحد أهم طلابه في مصر الشيخ حسن البنا صار الداعية الأساسي لفكرة الإسلام السياسي، والتي هاجمت ما تسميه نفاق الغرب تجاه الديموقراطية في العالم العربي عموماً.  

2.   دستور 1950

حفل هذا الدستور، على خلاف الدساتير السابقة كلها وتحديداً دستور العام 1920، بإشارات إلى المسألة الدينية في مواضع عدة. ربما كان هذا نتيجة العامل الداخلي والبعد المجتمعي، الذي أصبح أكثر طغياناً من البعد الخارجي الذي كما ذكرنا آنفاً كان مهيمناً على كتابة دستور العام 1920.

فنقرأ مثلا في المقدمة: "نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية بإرادة الله ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور لتحقيق الأهداف المقدسة التالية"، ونقرأ في موضع آخر من المقدمة: "ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومُثُله العليا. وإننا نعلن أيضاً أن شعبنا عازم على توطيد أواصر التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته الحديثة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق". ونقرأ في المادة الثالثة من هذا الدستور: "دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية. وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن ألا يخل ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية". ونقرأ في المادة الرابعة والثلاثين: "الأوقاف الإسلامية ملك للمسلمين، وهي مؤسسة من مؤسسات الدولة العامة، تتمتع باستقلال مالي وإداري وتنظم أوضاعها بقانون." ([29]) ونقرأ في المادة الثامنة والعشرين: "يكون التعليم الديني إلزامياً في المراحل لكل ديانة وفق عقائدها".

مرة أخرى كانت هذه النصوص حصيلة تفاوضات عريضة بين التيارات الليبرالية والتيارات المحافظة.

تشكلت التيارات الليبرالية من القوى اليسارية والقومية آنذاك، متمثلة بالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب البعث العربي، وشقيقه الحزب العربي الاشتراكي. في حين قاد التيار المحافظ المسلم حركة الإخوان المسلمين بقيادة الشيخ مصطفى السباعي. أما التيار المحافظ المسيحي فقد انحاز في هذه التفاوضات إلى جانب التيار الليبرالي كما سنرى.

تشكلت الهيئة التأسيسية من 114 عضواً موزعة على النحو التالي: عصبة العمل القومي، جماعة الشهبندر، حزب الشعب، الحزب الوطني، التنظيمات الدينية، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب التعاوني الاشتراكي، حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي، المستقلون من بينهم من العشائر. يذكر الدكتور أمين إسبر أن من بين المستقلين هناك “تقدميين" واشتراكي. زد على ذلك أن الحزب الوطني قاطع الانتخابات لكن بعضاً من أعضائه ترشح كمستقل.

للوقوف على موقف هذه الكتل لا بد لنا من فهم ظروف نشأتها وتركيبتها الاجتماعية وأهدافها.

2.1 حزب الشعب

ظهر حزب الشعب مع تفكك الكتلة الوطنية التي قادت النضال التحرري ضد الاحتلال الفرنسي، ممثلاً للبرجوازية الحلبية وكبار الملاكين وبعض البورجوازيات المدينية في المدن الأخرى. ([30]) كان حزب الشعب راغباً في تقديم رؤية أكثر واقعية في سعيه لحماية مصالح الطبقة البرجوازية، عبر تقديمه تنازلات للطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى. ([31]) تمكن الحزب من استقطاب شخصيات من خريجي الجامعات الفرنسية والمتأثرين بالفكر الليبرالي والاشتراكي فيها.

ضم الحزب في صفوفه شخصيات معروفة بقربها من التيار المحافظ والإخوان المسلمين مثل معروف الدواليبي. ([32]) حاول هذا الحزب أخذ موقف وسطيّ في كل شيء تقريباً. فهو دعا إلى الاحتفاظ بالتراث دون أن يمنع هذا من الاقتداء بالغرب في شتى مناحي الحياة. ([33]) وتبنى مؤتمره التأسيسي ما أسماه بـ"الاشتراكية التطورية". يقول عبد الله حنا: "في خمسينيات القرن العشرين، ظهر جناحان داخل حزب الشعب" جناح محافظ مثَّل عموماً ملاك الأرض ومصالحهم، ونظر بعين الرضى إلى الحزب الوطني الممثل أيضاً لملاك الأرض، وجناح ليبرالي وقف على يسار الوسط وتمثل في شاكر العاص (القريب فكرياً من أكرم الحوراني) والمحامي علي بوظو (من وجوه حي الأكراد بدمشق) والمحامي هاني السباعي من حمص، وعبد الوهاب حومد من حلب...". وتقول الدكتورة خلود زغير "كانت حلب المعقل الحقيقي لحزب الشعب بزعامة رشدي الكيخيا وناظم القدسي. وقد حاز الحزب على دعم النخبة الليبرالية والإسلامية الحلبية المستنيرة وحصل على دعم كبار الملاك ومعظم الصناعيين في حلب، وساهم في تشجيع النمو الصناعي الحلبي".

يبدو أن حزب الشعب كان مهتماً بالجانب الاقتصادي دوناً عن القضايا الأخرى، مما جعل خلطته دون اتجاه إيديولوجي محدد وواضح، وتحديداً في قضية علاقة الدين بالدولة. تقول الدكتورة الزغير: "أخيراً نلاحظ أن تلك الأحزاب كلها شهدت انقسامات واختلافات في الرؤى السياسية بين زعمائها، فانتماء أشخاص إلى حزب معين لا يعني التزامهم جميعاً التوجه السياسي نفسه. كان لكل زعيم شبكة مصالحه وعلاقاته المحلية والإقليمية، خصوصاً في ظل صراع المحاور الإقليمية على سورية آنذاك".([34]) يؤكد هذا الاستنتاج ما طرحه مقرر لجنة الدستور في مداخلته في الجلسة الثامنة والثلاثين للهيئة التأسيسية والتي انعقدت بتاريخ 24 تموز 1950" إن لحزب الشعب منهاجاً أقسم عليه أعضاؤه ولذلك هم ملتزمون بالتصويت على ما جاء في مشروع الدستور مما هو منسجم مع مبادئهم ويصرح بأن هذا الدستور جاء منسجماً مع مبادئ حزبه التي أعلنها وارتبط بها أمام الأمة ذلك لأن حزب الشعب قد وضع برنامجاً يقوم على المبادئ الآتية: أولاً الديموقراطية بمعنى أن الشعب هو مصدر كل سلطة. ثانياً-الحرية بأنواعها لكل مواطن. ثالثاً-المساواة بين المواطنين دون أي تفريق بينهم بسبب ثروة أو جاه أو دين أو مذهب. رابعاً-التسامح بين المواطنين. خامساً-مبدأ العادلة الاجتماعية التي يعتبرها الحزب ضرورة لازمة للأخذ بيد الأمة والسير بها في مضمار الأمم التي سبقتها في هذا الميدان". ([35])

باستثناء المساواة بين الجميع بغض النظر عن الدين والمذهب، لا يتطرق الحزب لعلاقة الدولة بالدين، كما نلاحظ من محاضر الهيئة التأسيسية انعدام مشاركة ممثلي حزب الشعب، وهو حزب الأكثرية، في التعليق على المادة المرتبطة بالعلاقة بين الدين والدولة. الأمر الذي تفسره تركيبة الحزب المختلطة وأولوياته الاقتصادية، ولربما أيضاً تفضيله البقاء وراء موقف التيار المحافظ المسلم في الدستور، فقد كان الحزب بحاجة إلى أصوات الإسلاميين ليحصل على أغلبية الأصوات وبالتالي كان ميالاً لإرضائهم. وكذلك كان ميالاً للوحدة مع العراق بسبب مصالح الحلبيين الاقتصادية، ولكن الفكر الجمهوري كان قد ترسخ في سورية، وكان من الضروري تقوية الرابطة الهاشمية ذات الطبيعة الدينية لتجاوز الاعتراضات على اتحاد مع نظام ملكي حتى وإن لم يكن اتحاداً اندماجياً. يؤكد هذه المقولة ما يورده Thomas Pierret في كتابه "الدين والدولة في سورية، الأمة السنية من الانقلاب إلى الثورة" عن تهديد بقتل رشدي كيخيا زعيم حزب الشعب ورئيس الجمعية التأسيسية، وجهه الشيخ النبهان، أحد رجال الدين الهامين في سورية آنذاك، بعد إشاعات من رغبة كيخيا بدستور علماني، مما استدعى إعلان كيخيا توبته أمام الشيخ النبهان وتأكيده السعي نحو دستور يتخذ الإسلام مرجعية له. ([36])

2.2 الحزب الوطني

تشكل الحزب الوطني بعد انشطار الكتلة الوطنية كقاعدة للبرجوازية الدمشقية التي مثلتها الشخصيات التي ساهمت في قيادة عملية التحرر ([37]) ([38]). كنظيره حزب الشعب، والذي مثل أكثر البرجوازية الحلبية من الكتلة الوطنية، لم يحمل هذا الحزب برنامجاً سياسياً واضح المعالم. "كان الحزب الوطني يضم زعماء دمشق، وعكس السياسة الدمشقية والثقافة والبيئة المحلية الاجتماعية بأضيق صورها، فلم يمتلك أي منهاج أو قيادة ذات بنية تنظيمية واضحة، كما لم يمارس أي نظام على أعضائه. كان المعيار الذي اعتمده في قوته الانتخابية قدرات أفراده وقادته وعلاقتهم، وخصوصاً تأثير سجلهم الوطني وسمعتهم الشخصية وثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية، وليس منهاجه الحزبي أو عقيدته السياسية، فهو لم يسع حتى إلى تجنيد أعضاء دائمين من الجماهير، وحصر تجنيد الأعضاء الجدد بوسط اجتماعي معين، غير مكترث بالتطورات والتغيرات التي حدثت في سورية كمجتمع ودولة بعد الاستقلال. وعلى الرغم من توافر الاحترام للقادة الوطنيين ولتاريخ الكثير منهم، فإن بعضهم بدت لديه الرغبة في الاستئثار بالحكم، مستندين إلى أنهم من الرعيل الأول لعهد الاستقلال". ([39])

كما لا تتضح أي وجهة للحزب في قضايا الهوية كالموقف من علاقة العروبة بالإسلام على الرغم من توجهه العروبي أما عن علاقة الدين بالدولة، ([40]) فقد أوضحها عضو الحزب آنذاك وجيه الحفار والذي يؤكد في كتابه على ضرورة فصل الدين عن الدولة، ([41]) ويؤكد هذا وجود شخصيات ليبرالية التوجه مثل سعد الله الجابري، الذي تزعم الحزب حتى وفاته في العام 1948. "أعلنت مبادئ الحزب أن "العرب في أنحاء وطنهم كافة أمة واحدة" واعتبرت "الصهيونية حركة عدائية خطرة على الكيان العربي" ... ومن أهداف الحزب "تشجيع الشركات الوطنية المساهمة والتعاونية وتأمين مساهمة الجمهور فيها، وإعادة النظر في الامتيازات الممنوحة". ([42])

على عكس حزب الشعب أبدى الحزب الوطني مواقف واضحة تجاه قضية الدين والدولة، لتظهر بشكل كبير في مقالات نجيب الريس، والذي كان أحد أهم شخصيات الحزب، والذي لم يكن عضواً في الهيئة التأسيسية، والذي كان أحد المناوئين الأكثر حدة لإعطاء أي هوية دينية للدستور. وهو، أي نجيب الريس، من قاد الحملة في الإعلام عن الجانب الليبرالي.([43])  غير أننا لسنا متأكدين من أن هذا التصدي خارج المجلس جاء نتيجة تشبث الحزب الوطني بفصل الدين عن الدولة، وإنما نابع برأينا عن رغبته في محاربة البرلمان والجمعية التأسيسية التي رفضها وقاطعها. يقول محمد حرب فرزات "فبينما كانت الجمعية التأسيسية ماضية في الدستور الجديد، تألفت جبهة من الحزب الوطني والتعاوني الاشتراكي والحزب الجمهوري الديموقراطي الذي أسس في حزيران 1950 وضم عدداً من مؤيدي القوتلي،... وأصدرت فيه هذه الأحزاب بياناً مشتركاً في 15 آب 1950 حملت فيه على الجمعية التأسيسية، واعتبرت الدستور القديم قائماً".([44])([45])

2.3 الكتلة الإسلامية الاشتراكية والإخوان المسلمون

حازت هذه الكتلة على عشرة مقاعد، ([46]) وتزعمها المراقب العام لجماعة الإخوان في سورية مصطفى السباعي، ([47]) وكان من أبرز شخصياتها محمد المبارك وعارف الطرقجي وعبد الحميد الطباع وسعيد حيدر وصبحي العمري وعبد الوهاب سكر وعبد السلام حيدر. ([48]) وقد أخذت هذه الكتلة بمبادئ الاشتراكية وزاوجتها مع الإسلام. قادت هذه الكتلة بزعامة السباعي جل المناقشات التي تناولت المادة الثالثة من الدستور. كما قادت هذه الكتلة التفاوضات الأساسية التي جرت خارج قبة البرلمان مع زعماء الطوائف المسيحية، والتيارات الليبرالية كالبعث والسوري القومي والشيوعي.

كانت مواقف هذه الكتلة واضحة جلية تجاه العروبة والإسلام وعلاقة الدين والدولة. "إذا عدنا إلى مفهوم "الأمة" في خطاب الإخوان المسلمين، نجد أن الشعب بمجموعه هو من يشكل الأمة فـ"الأمة هي مصدر القوة/ وتنفيذ إرادة الشعب واجب ديني". وفي بيانه الشهير حول دين الدولة، يؤكد السباعي أن "الشعب هو مصدر كل سلطة، وسيادته هي السيادة الحاكمة التي تتمثل في مجلسه التأسيسي وحكومته الدستورية". ([49]) كان السباعي أبرز من طور فكرة "الإسلام كقانون قومي" مشترك للمسلمين والمسيحيين، إذ ميز السباعي بين الإسلام الدين والإسلام الحضارة. "بالتالي، فإنه وجد في الإسلام فلسفة قومية للعرب، مسلمين ومسيحيين. يقول في هذا الصدد: "إن كل أمة من الأمم المتحضرة، وكل قومية من قوميات العالم الحديث، لها فلسفتها الخاصة بها، فللروس فلسفتهم الشيوعية وللغربيين فلسفتهم الديموقراطية أو الرأسمالية. ونحن العرب من مسلمين ومسيحيين لنا فلسفتنا التي طبعتنا في التاريخ طبعاً خاصاً." ([50])

حين تكلم السباعي عن أوجه الخلاف بين الإخوان وباقي الأحزاب السياسية، بيّن أن هذا "النزاع ينحصر في نقطة جوهرية -هي بالنسبة لدعوة الإخوان كالأساس من البناء وكالعمود الفقري من جسم الإنسان -وهي أن الإخوان يرون بحق أن الإسلام دين وسياسة/ عبادة وقيادة، مصحف وسيف، نظام شامل كامل يهيمن على جميع مرافق الحياة" ثم يضيف: "والأحزاب تنكر على الإخوان هذا الفهم الصحيح للإسلام، وتريد أن تحصر هذا الدين في الصوامع والمساجد، وتفصل بينه وبين السياسة والحكم ونظم الحياة! كما فعلت أوروبا، متجاهلة الفرق بين المسيحية والإسلام". ([51])

لم يكن الخطاب الإخواني حول مفهوم الدولة الإسلامية كما وضعه البنا والسباعي وغيرهم منطلقاً من مفهوم دار الحرب ودار الإسلام، والذي ساد لغة الجهاديين كالمودودي وسواه، "بل متمركزاً حول "شعبوية إسلامية" لا تكفر المجتمع المدني ولا ترى فيه "مجتمعاً جاهلياً" لا يقع في دار الإسلام "بل في دار الحرب" ([52]). أهمية هذا الخطاب هو طغيانه على مقاربة الكتلة الإسلامية في الجمعية التأسيسية لدستور 1950 سواء داخل المجلس أم خارجه.

لم تتوقف الكتلة الإسلامية عند الدين وعلاقته بالدولة في برنامجها السياسي، بل تعدته إلى مبادئ اقتصادية استندت إلى مفهوم الاشتراكية الإسلامية التي نادى بها السباعي، دون أن تحظى بتأييد كبير ضمن الأوساط المحافظة المسلمة. ([53])  

كانت هذه الكتلة هي صاحبة النسخة الأولى من الدستور والتي نصت المادة الثالثة فيها على أن" 1-دين الدولة هو الإسلام. 2-الأديان السماوية محترمة ومقدسة. 3-الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية. 4-المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات من غير تفريق بسبب الدين". ([54]) كما كانت هذه الكتلة هي من ضغط بقوة على ما يبدو للوصول إلى النص النهائي في كل ما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة في دستور الـ 1950 كما سنرى بعد قليل.

2.4 حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي

لا نعرف بالضبط عدد نواب حزب البعث العربي في الجمعية التأسيسية. يذكر أمين إسبر أن حزب البعث العربي الاشتراكي تمثل بثلاثة مقاعد، لكننا نعلم أن الحزب لم يكن آنذاك قد اتحد مع الحزب الاشتراكي، والذي لم يتأسس بدوره حتى بداية العام 1950. إلا أننا نعلم أن جلال السيد كان ممثلاً لحزب البعث العربي وأكرم الحوراني وإحسان الحصني كانا ممثلي حركة الشباب الحموي (سلف الحزب الاشتراكي العربي) على التوالي. لم يكن برأينا اختلاف كبير بين وجهة نظر البعث العربي والعربي الاشتراكي تجاه علاقة الدين بالدولة، فقد كان هنالك توجه متشابه بينهما في العديد من المجالات، أدى لاحقاً إلى اندماجهما تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي في نهاية العام 1952. رغم ذلك، ظل جناح الحوراني، أي العربي الاشتراكي، منادياً بالاشتراكية أساساً للنضال، في حين كان توجه البعث أكثر نحو الأيديولوجيا والقومية. ([55])

تشكل حزب البعث العربي في نيسان العام 1942 بحسب ما ينقل عبد الله حنا عن جلال السيد، على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد. ([56]) استهوى الحزب الأقليات من المسلمين، والمسيحيين، وبعض شيوخ القبائل ووجهاء المدن، ([57]) إضافة إلى وسط الطلاب والأساتذة. ([58]) في حين كان انتشار الحزب الاشتراكي، وسلفه حركة الشباب الحموي، بين الجيش والفلاحين. ([59]) كان لهذا الحزب توجهٌ ملتبسٌ تجاه الدين الإسلامي. يقول عبد الله حنا: "مع أن حركة البعث العربي هي حركة علمانية، إلا أن ميشيل عفلق سعى في خطابه على مدرج الجامعة السورية في نيسان/أبريل 1943 تحت عنوان "ذكرى الرسول العربي"، لإلقاء الأضواء على اللقاء بين القومية والدين الإسلامي/ بهدف كسب عواطف المؤمنين المسلمين. "إن الفروق الطائفية قال عفلق: "أبعدت قسماً هاماً من العرب عن روح بلادهم وتقاليدها وجعلتهم شبه غرباء في وطنهم، وأضعفت بالنتيجة مساهمتهم في الحكرة القومية. فنريد أن تستيقظ في المسيحيين العرب قوميتهم يقظتها التامة، فيروا في الإسلام ثقافة قومية لهم، يجب أن يتشبعوا بها ويحبوها".([60]) ويقول محمد حرب فرزات: "والأديان في نظر الحزب \البعث العربي\ على اختلافها متساوية ومقدسة ولكن الإسلام من "حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وخصوصية ثقافتهم أتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، له مكانة خاصة في القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها، إلا أن هذه المكانة لا تفرض فرضاً، بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها".([61])

لا يبدو صعباً تلمس أسباب استخدام البعث لخطاب قومي/ديني عاطفي في تلك الفترة. فهذا الحزب بأهدافه كان يحاول استهداف طبقة الفلاحين والعمال والتي بغالبيتها محافظة اجتماعياً وملتزمة دينياً ومتطلعة إلى أمجاد العرب والمسلمين، فهي بحاجة إلى خطاب يشابه هذه الفئة، هذا الخطاب هو ما جعل صوت البعث العربي خفيضاً في التعامل مع قضية علاقة الدين بالدولة كما سنرى لاحقاً.

على غرار حزب البعث، كان تيار أكرم الحوراني، حركة الشباب الحموي أو الحزب الاشتراكي، واضح التوجه نحو فئة الفلاحين، مما استلزمه توجيه خطابه الديني نحو محاربة الطائفية، وفك ارتباط الإقطاع بالدين. وخصوصاً بعد اتهام الإقطاع للحوراني بالماركسية، والتي كانت تختلط عند الكثيرين بمفهوم الإلحاد. ينقل عبد الله حنا عن جريدة الشعب التابعة للتيار النص التالي: " "ليست الإقطاعية من الدين بشيء، ومع هذا فهم يتبجحون باسمه وهو منهم بريء.... إن حركتنا الشعبية لا تستهدف القضاء على الإقطاعية والقبلية والعشائرية [فقط] وإنما تستهدف أيضاً القضاء على الطائفية. "إننا اليوم في معركة بين التقدمية والرجعية"، " نحن مؤمنون ولكننا لا نتعصب، لأن التعصب ليس من الدين في شيء. فالدين الإسلامي وكل الأديان بنيت على التسامح". ([62])

2.5 الحزب السوري القومي الاجتماعي

مثَّل الحزب السوري القومي الاجتماعي آنذاك في الجمعية التأسيسية نائبان هما عصام المحايري وعبد اللطيف اليونس([63]). كان لهذا الحزب موقف واضح من الدين وعلاقته بالدولة، إذ تذكر أدبيات هذا الحزب أن "المبدأ الأول من القسم الإصلاحي يقول: ": فصل الدين عن الدولة". إن أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القومي هي تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة، وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها، على الأقل. والحقيقة أن معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك، التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبثة بمبدأ الحق الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها. وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب للمؤسسات الدينية استعباداً أرهقها. ولم تنفرد المؤسسات الدينية باستعمال مبدأ الحق الإلهي والإرادة الإلهية، بل استعملته الملكية المقدسة أيضاً، التي ادعت استمداد سلطانها من إرادة الله وتأييد المؤسسات الدينية، لا من الشعب". ([64])

رغم مطالبة الحزب الواضحة بفصل الدين عن الدولة، إلا أنه يعود إلى مخاطبة العقل السوري مرة أخرى عبر الجانب الروحي. يرى محمد فرزات حرب أن هناك حالة من "تقدير الحزب للدين وإعلانه "رفض التسليم أن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي بحت". وكان هذا إحدى وسائله لكسب الرأي العام ضد المرشحين الشيوعيين، مع أنه هو نفسه يقول بفصل الدين عن الدولة." ([65])

كان ممثل الحزب في الجمعية التأسيسية عصام المحايري واحدا من الذين عارضوا فكرة ربط الدين بالدولة كما سنرى لاحقاً.

3.   تفاوضات دستور الـ 1950 حول الدين والدولة

يمكننا القول إن عملية التفاوض على علاقة الدين بالدولة كانت من أعقد التفاوضات التي جرت أثناء كتابة هذا الدستور، إلى جانب قضايا أخرى كالملكية والأحزاب. تكرست التفاوضات حول هذه القضية عبر مرحلتين أساسيتين، كما حدثت داخل قبة البرلمان، وخارجه على مستوى الإعلام والمستوى الشعبي، والذي رافقته عرائض واحتجاجات. وبشكل أكثر وضوحاً مما جرى أثناء المؤتمر السوري العام، الذي تركزت عملية التفاوض فيه داخل قبة البرلمان كما ذكرنا آنفاً. 

انتخبت الجمعية التأسيسية لجنة للصياغة ضمت ثلاثة وثلاثين عضواً، مثلت جميع الكتل الحزبية والمستقلين في الجمعية باستثناء الكتلة الجمهورية. ([66]) تشكلت اللجنة من شاكر العاص، عبد اللطيف يونس، عبد الوهاب حومد، علي بوظو، عارف الطرقجي، عبد الله تامر، عبد الحميد الدويدري، عصمت شاهين، عبداللطيف المقداد، عبد اللطيف السباعي، مصطفى السباعي، ناظم القدسي، لطيف غنيمة، منير العجلاني، محمد خير الحريري، قاسم الهنيدي، جميل العبدالله، محمد الشواف، قدري المفتي، فيضي الأتاسي، هايل السرور، عبد الوهاب سكر، حكمت الحراكي، حامد ناجي، أنور إبراهيم باشا، رزق الله أنطاكي، حامد منصور، أحمد قنبر، دهام الهادي، راتب الحسامي، إسبر يازجي، جادالله عزالدين، زكي الخطيب. انسحب أحمد قنبر وجاء بدلاً منه رئيف الملقي، ومن ثم انسحب عبد اللطيف السباعي وجاء بدلاً منه سعيد حيدر، وانسحب فيضي الأتاسي فحل محله جلال السيد. اجتمعت اللجنة اجتماعها الأول بتاريخ 4 كانون الثاني 1950، وانتخبت ناظم القدسي رئيساً لها، وزكي الخطيب نائباً له، وعبد الوهاب حومد مقرراً للجنة.

طرحت لجنة الصياغة مشروع الدستور لأول مرة بتاريخ 15 نيسان 1950 واضعة مقدمة تختلف اختلافاً جذرياً عن النص النهائي الذي ذكرناه أعلاه. يقول نص المقدمة (الديباجة): "نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية بإرادة الله ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور لتحقيق الأهداف المقدسة التالية: إقامة العدل على أسس قويمة، حتى يضمن لكل إنسان حقه، دون رهبة أو تحيز وذلك بدعم القضاء وتوطيد استقلاله. نشر روح الإخاء والتسامح بين المواطنين في ظل حكم جمهوري ديمقراطي حر، حتى يشعر كل إنسان أنه جزء في بنيان الوطن وأن الوطن في حاجة إليه. ضمان الحريات العامة الأساسية لكل مواطن، والعمل على المعاني التي تتمثل في مفاهيم الشخصية والكرامة الإنسانية، دعم واجب الدفاع عن الوطن والجمهورية والدستور وذلك بمساهمة كل مواطن بدمه وماله وعمله، حين يقتضي الواجب الحفاظ عليها. تحرير المواطنين من ويلات الفقر والمرض والجهل والخوف بإقامة نظام اقتصادي واجتماعي صالح يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي العامل والفلاح، ويؤمن الضعيف والخائف، ويوصل كل مواطن إلى خيرات الوطن. كفالة المساواة في الواجبات العامة والحقوق التي قررها الدستور ونصت عنها القوانين، وبصورة خاصة المساواة في الضرائب بنسبة تصاعدية، حتى تكون مساواة في التضحية والقدرة على المساهمة. تقوية الشخصية الفردية وتثقيفها وتعهدها، حتى يشعر كل مواطن أنه المسؤول الأول عن سلامة الوطن وعن حاضره ومستقبله ويعرف أن الوطن هو الحقيقة الخالدة الباقية وأن السوريين جميعاً أمناء عليها حتى يسلموها أولادهم وأحفادهم موفورة الكرامة، منيعة عزيزة الجانب، ويكون ذلك بتثقيف الشعب ثقافة وطنية صحيحة، وبنشر التعليم، وتسهيل أسبابه وبث المبادئ الأخلاقية القويمة، وتنمية الشعور الاجتماعي والتضحية في سبيل المجموع. ونعلن أن شعبنا السوري هو جزء من الأمة العربية بتاريخه وحاضره ومستقبله، يتطلع إلى اليوم الذي تجتمع فيه أمتنا العربية في دولة واحدة وسيعمل جاهداً على تحقيق هذه الأمنية في ظل الاستقلال والحرية. ونعلن أن هذه المقدمة جزء لا يتجزأ من هذا الدستور وضعت لتذكر المواطنين بالمبادئ التي قام عليها قانونهم الأساسي. وإننا، نحن ممثلي الشعب السوري العربي، لنضرع إلى الله العلي حتى نحقق مثلنا العليا، ونعيد بناء المجد العظيم الذي شاده أسلافنا العظام، ونرسم لأبنائنا وأحفادنا طريق السؤدد والعز." ([67])

كما وضع مشروع الدستور نص المادة الثالثة على الشكل التالي: " 1-الإسلام دين الدولة. 2-الأديان السماوية محترمة ومقدسة. 3-الأحوال الشخصية للطوائف مصونة ومرعية. 4-المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات من غير تفريق بسبب الدين." ([68])

إذاً اختلفت مقدمة الدستور النهائي عن المشروع بإضافة العديد من الإشارات الدينية إليها، وعادت المادة الثالثة لتنص على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. بين هذين النصين جرت تفاوضات صعبة داخل وبين التيار الليبرالي ورجال الدين المسيحيين والأعضاء المسيحيين في الجمعية من جهة، وبين التيارات المحافظة المسلمة من جهة أخرى. جرت هذه التفاوضات داخل قبة البرلمان وخارجه كما ذكرنا آنفاً.

3.1 التفاوضات داخل البرلمان

ليس لدينا معلومات كافية عما جرى داخل لجنة الدستور، والتي تقسمت بدورها إلى اللجنة التحضيرية ولجنة النص، لكننا نلحظ من تقرير مقرر اللجنة، الدكتور عبد الوهاب حومد، تجاهله للمادة الثالثة في استعراضه لأهم مواد وفصول الدستور، الأمر الذي قد يعزى إلى خشية حزب الشعب الذي ينتمي له الدكتور حومد، أو انعكاساً لتوترات حول هذه المادة حصلت أثناء إعداد النص. نؤكد أنه ليس لدينا إثبات على أي من الاحتمالين.

توقف نقاش الدستور حتى الجلسة الثامنة والثلاثين بتاريخ 24 تموز 1950. نظراً لأهمية علاقة الدولة بالدين كان افتتاح الجلسة من قبل ثلاثة من النواب المحسوبين على التيار المحافظ وهم الشيخ عبد الوهاب سكر النائب عن حلب وزكي الخطيب وحسن الحكيم. يمكننا أن نستخلص من مداخلات النواب الثلاثة مسائل أساسية عدة:

أولاً، كان هناك عدم رضا داخل أروقة التيار المحافظ عن التراجع عن نص دين الدولة هو الإسلام رغم الإضافات العديدة إلى مقدمة الدستور. تقول مداخلة الشيخ سكر "أخواني، الشعب يريد إقرار ما أقرته لجنة الدستور من أن (دين الدولة الإسلام)، ولم يرض بها بديلاً فرفع مادة أقرتها لجنة الدستور وهي معززة بإرادة الشعب وقوته وليس بالأمر الهين وكل ما جاء من وجوه التعديل فإن الشعب يستنكره ولا يقبله وحقه ذلك بلاد عربية إسلامية وأهلها إسلام من قرون وأجيال طويلة يحملون على عدم إعلان ما هم عليه من دستورهم إن هذا لأمر عظيم. ثم إني لسائل الزملاء المسيحيين ألم يقطعوا على أنفسهم حين ترشيحهم للنيابة كما فعل النواب المسلمون من العهود والمواثيق نحو الشعب وأكثريته الساحقة مسلمين وهل يستطيع أحد من الزملاء المسيحيين أن يقول إنه نجح بدون مساعدة المسلمين له ...... وإني لأعجب أشد العجب من إخواني أعضاء لجنة الدستور كيف قاموا بمناقضة أنفسهم برجوعهم عما كانوا عليه من الحق، ولقد سجل ما قالوه من الحجج والبراهين القوية على أن هناك قاعدة فقهية لو عمل بها وهي حق تقول (كل من قام بنقض ما تم من قبله فنقضه مردود عليه)."

ثانياً، لقد كان واضحاً توجه خطاب التيار المحافظ إلى المسيحيين وليس للبعثيين أو الاشتراكيين أو السوريين القوميين. بمعنى أن الخطاب كان نتيجة التفاوض مع التيار المحافظ المسيحي وليس مع التيارات الليبرالية. يقول حسن في مداخلته: "لما كان المفكرون من إخواننا المسيحيين مطلعين على هذه النصوص والوقائع ومطمئنين بذلك لعدالة الأكثرية المسلمة لم يترددوا في المساهمة في النهضة العربية عندما لاحت تباشيرها في أوائل العصر الحاضر، وقد قدر لهم المتقدمون من المسلمين العرب هذه الحركة الوطنية الطيبة فراحوا ينشطونها ويساهمون فيها بنحو ثانوي متخلين لإخوانهم المسيحيين عن تزعمها وعن مركز الصدارة فيها رغبة في تشجيعهم وفي تبديد مخاوف دهمائهم، ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفضل في انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 كان لقبضة من إخواننا المسيحيين".

ثالثاً، تركزت مداخلات نواب التيار المحافظ في تبريرها لضرورة النص على دين الدولة على ثلاثة منطلقات أساسية. الأول هو أن الدين الإسلامي هو دين الغالبية وبالتالي، وبحسب تفسيره للديموقراطية، فإن تحديد الإسلام كدين للدولة هو حق الغالبية المسلمة الديموقراطي. يقول حسن الحكيم: "... ومادامت الأكثرية المسلمة نفسها لا تعارض في تحقيق رغبتهم هذه لعواطفهم وزيادة في اطمئنانهم فمن حق هذه الأكثرية عليهم أن يبادلوها عاطفة بعاطفة فلا يعارضوها في تحقيق رغبتها من جهة النص في الدستور بأن الإسلام دين الدولة لا سيما وأن هذه المادة في مشروع الدستور تنص في نفس الوقت بصراحة تامة على أن الأديان السماوية محترمة ومقدسة، وأن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية، وأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات من غير تفريق بسبب الدين...". ثاني هذه المنطلقات، هو دور الإسلام في تشكيل الشخصية القومية العربية. يقول الشيخ زكي الخطيب وهو أيضاً من التيار المحافظ المسلم: "أيها السادة إن التقرير المطبوع من قبل لجنة الدستور بقلم مقررها المفضال وإن كان يخلو من إشارة إلى المادة الثالثة الحساسة، وكانت هناك محاولات شتى ترمي إلى حذف هذه المادة وإلى إبقائها بشكل الجسد الخالي من الروح كل هذا لا يجعلني أشك في حسن نية الباحثين من مخالفين ومؤيدين فأنا لا أريد أيها السادة أن ألفت نظر الجمعية التأسيسية الكريمة إلى أننا نحن العرب لا نستطيع أن نفاخر بعروبتنا إلا إذا اقترنت بالمبادئ السامية التي أتانا بها دين العروبة دين السماء، دين الحق المؤيد مؤيداً للأديان السابقة ولمبادئها ولما فيها من حق وأخوة ونهضة". ثالث هذه المنطلقات هو أن الإسلام، بخلاف المسيحية، هو دين عقيدة وتشريع، ولا يكتفي بالجانب الروحاني بحسب قناعة هذا التيار. جاء هذا المنطلق على لسان مصطفى السباعي في رده على مداخلة النائب إلياس دمر. يقول الشيخ السباعي: "أما الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة بحجة الحفاظ على قومية الأمة فاسمحوا لي أن أقول إن هذه هي الفكرة التي هبطت من وحي أجنبي. لأن ذلك مبدأ أعلنته أوروبا بعد أن تغلبت القومية على الكنيسة وانتصرت عليها، ولأن المسيحية دين خلق كريم وروحانية سامية ولا علاقة لها بالتشريع وتنظيم شؤون المجتمع، وقد أعلن ذلك السيد المسيح بقوله (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أما الإسلام فهو عبادة وخلق وتشريع، والتشريع أبرز خصائصه وأكثر أحكامه، والذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة وإنما يدعوننا في الواقع الى أن نبتر الإسلام ونحصره في دائرة ضيقة، فهل هذا هو ما تريدون؟ وهل تطلبون منا ذلك وأنتم في بلد تدين أكثريته الساحقة بهذا الإسلام وتحترم تشريعه احتراماً عميقاً وبالغاً." ([69]) إضافة إلى ذلك، اعتبر الشيخ السباعي أن لا خوف على المسيحيين في بلد مسلم كون الإسلام يعترف بالديانة المسيحية في حين أن العكس غير صحيح.

رابعاً، كان واضحاً تصدر النواب المسيحيين في المطالبة بفصل الدين عن الدولة، وفي مقدمتهم النائب إلياس دمر. اعتمد النائب إلياس دمر على البعدين القومي والحقوقي من جهة، وعلى قضية الاستعمار والعلاقة مع الغرب من جهة أخرى. فمن جهة تحدث النائب إلياس دمر عن القومية العربية بوصفها رابطة تاريخ ولغة جامعة للمسلمين والمسيحيين، معتبراً أن ارتباط الدين بالدولة متناقض مع مفهوم القومية. يقول في مداخلته: "من الوجهة الداخلية نحن دولة مستقلة نؤمن بالفكرة القومية العربية ونسعى لأجلها، ولا يصح والحالة هذه أن نتخذ من الدين ركناً من أركان القومية، فإن هذا يتناقض مع المبدأ القومي بالمعنى الصحيح، وأن نبقي أي أثر للنعرة الدينية أو التحديد الديني في دستورنا المقبل، فهذه النعرة هي من بقايا القرون الوسطى ومن مخلفات المستعمر، فهي بعيدة كل البعد غريبة كل الغرابة عن الروح العربية الأصيلة".

من جهة أخرى قارب النائب دمر قضية الدين والدولة من وجهة نظر حقوقية، معتبراً أن تحديد دين رئيس الدولة هو إنقاص من حقوق المواطنة لغير المسلمين. يقول في موضع آخر من مداخلته: "وقد جد في الدستور الملغى مادة تتعلق بدين رئيس الجمهورية ووجوب كونه مسلماً وربما جاءت مادة مماثلة لها في مشروع الدستور الجديد، أفلا ترون ذلك شذوذاً ومخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية التي سار عليها العالم المتمدن، هل يجوز حرمان المواطنين غير المسلمين من حق شرعي باعتبارهم مواطنين سوريين عرباً، عليهم نفس الواجبات المترتبة على المسلمين ولهم نفس الحقوق؟ ألا ترون أن ذلك يتعارض مع مبادئ الديمقراطية العربية الصحيحة التي هي مبدأ المساواة لأصحاب القومية الواحدة؟ فإن عدم تقييد الدولة ورئيسها بدين معين يفسح المجال أمام الكفاءات التي هي مقومات الرجل لا دينه - هذا مع العلم أن وجود مادة في الدستور أو عبارة مصبوغة بصبغة دينية أو بأي قيد آخر من هذا النوع تترك أثراً نفسياً غير مستحب في كل روح عربي غير مسلم، إذ يشعر هذا غير المسلم العربي الذي يمكن أن يكون مثالاً على الإخلاص والتضحية والوطنية – والذي يجاهد جنباً إلى جنب مع أخيه المسلم بأنه غريب في وطنه، ولا يتمتع بنفس الحقوق التي لأخيه المسلم شريكه بالجهاد والتضحيةـ لا لسبب إلا لأن دينه يختلف عن دين أخيه". أما البعد الثالث الذي حاول النائب دمر التركيز عليه، هو العلاقة مع الخارج، وبأن التمييز بين المسلمين والمسيحيين في الدستور مسألة تسر الغرب وتفتح له باب التدخل في سورية، إذ يقول: "فإنني واثق كل الثقة في أن الغرب يغتبط بأن يرى العرب يشيدون كيانهم القومي على أساس ديني، وأن غير المسلمين في البلاد العربية لا يشعرون بقوميتهم كما يشعر المسلم بها، وأن حقوق غير المسلمين منقوصة حتى يتمكن الغرب من بناء حججه الاستعمارية على هذا الأساس، وإني لأعتقد أن فصل الدين عن الدولة سيكون بمثابة الضربة القاضية لكل دعاية من هذا النوع من الوجهة الداخلية".

خامساً، جاءت مواقف بقية الأحزاب متوافقة مع سياساتها العامة التي ذكرناها آنفاً. فجلال السيد، النائب عن حزب البعث العربي، وجه اعتراضاته على القضايا الأساسية بالنسبة لحزبه وهي الاشتراكية والوحدة العربية، مؤكداً موافقته على النص المقترح. يقول السيد: "إنني أيها السادة أقول لكم إنني لو كنت أعتقد أن الكلمات والفقرات والجمل والمواد التي جاءت من مشروع الدستور والتي تتعلق بدين الإسلام، لو كنت أعتقد أنها غير صحيحة لما وافقت عليها، ولو كان الرأي العام ضدي ويتحمس لها، لأنني لا أريد أن أكون ولو في المسائل غير الحقة مسيراً بالرأي العام، ولكنني في القضايا الحقة أريد أن أكون أنا الموجه والقائد للرأي العام، ولن أبالي بعد ذلك بغضبه أو رضاه، ولذلك أرجو أن تؤخذ هذه القضية بنظرة كريمة لا أثر للعواطف فيها، فنحن قد سجلنا في مشروع الدستور في مقدمته وفي مواده، خاصة في المادة الثالثة، كل ما يقتضينا فضل الإسلام أن نضعه وأن نسجله اعترافاً بقدسيته وفضائله وطهارته والسلام عليكم." أما النائب عصام المحايري، النائب عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، فقد سجل اعتراضه على القضايا التي اعتبرها جوهرية لحزبه وهي علاقة الشعب السوري بالعروبة. أما دين الدولة، فقد أفرد له بضع جمل واعداً بالعودة إليه لاحقاً في اجتماعات مناقشة الدستور، الأمر الذي لم يحدث أبداً وفق محاضر جلسات الجمعية. يقول النائب المحايري: "بقي أمر أخير أثاره الزملاء البارحة وهو أمر دين الدولة. إن رأي القوميين الاجتماعيين الذين لي شرف تمثيل اتجاهاتهم في هذه الندوة رأي واضح جداً كنت أريد أن أبسطه وأتوسع فيه الآن، وأنا أناقش الآراء المخالفة التي بسطها لفيف من الزملاء يوم أمس لولا أني أطلت كثيراً. وإني لأترك مجال البحث في هذا الموضوع والمناقشة فيه حين تعرض هذه المادة للبحث، مشيراً فقط وبنوع خاص إلى أن ما قاله البعض من أن الشعب المسلم في البلاد لا يرضى عن دين الدولة بديلاً أمر خاطئ لأن المحمديين من القوميين الاجتماعيين وأنا منهم يدينون بخلاف ذلك، وليس ينفي هذا عنهم كونهم مسلمون (مسلمين) يؤمنون بالله وبرسوله وباليوم الآخر." ([70]) أما زميله في الحزب، عبد اللطيف يونس، فقد كان موقفه قريباً من موقف المحايري. يقول النائب يونس: "وهناك المادة الثالثة وإنني لا أرغب أن أخوض في بحثها مع العلم بأنني من القائلين، بل أنني من الراجين، بل من المتوسلين، بأن لا توضع هذه المادة في الدستور، ولكنني آمل من أعضاء هذه الجمعية وفي طليعتهم هذا الرجل النبيل المخلص [غالباً ما كان يقصد رشدي كيخيا] الذي عمل كل ما في وسعه ولا يزال يعمل في سبيل لم الشعب، وفي سبيل جمع الكلمة، لتجتمع كلمة الأمة على صعيد واحد متفقة على مبدأ واحد، فلا يختلف فيه مسلم، ولا يختلف فيه مسيحي، وإننا نأمل أن تلقى هذه الوساطة المبذولة من دولة رئيس الجمعية التأسيسية آذاناً صاغية لدى الأعضاء المسؤولين، وإني أناشدهم ذلك وإن كنت أنا في الصف الآخر الذي يقول بعدم وضع دين الدولة في الدستور، والسلام." ([71]) أما حزب الشعب، فلم يتطرق إلى المادة الثالثة إلا في مداخلات عارضة في مناقشة مواد أخرى. على سبيل المثال تحدث مقرر اللجنة الدكتور حومد في الجلسة الأربعين مطمئناً الشارع إلى أن المتحاورين في الجمعية التأسيسية قد وصلوا إلى نص جامع. ([72]) كما أورد النائب فيضي الأتاسي، نائب حمص عن حزب الشعب، ورئيس تحرير صحيفة "السوري الجديد"، ([73]) مقدمة الدستور، والتي تنص على الاستمساك بالإسلام ومكافحة الإلحاد، بوصفها مقيدة، إذا ما وضعت جنباً إلى جنب مع المواد المرتبطة بالأحزاب وتشكيلها، لأحزاب مثل الحزب الشيوعي. 

سادساً، كان لافتاً غياب شبه كامل لقضية حقوق النساء بشكل عام، وارتباط ذلك بالمادة الثالثة بشكل خاص، ولم يذكر هذا الأمر إلا بشكل سطحي في الدفاع عن الأسرة وليس عن حقوق النساء وذلك في مداخلة نائب القلمون، والمقرب من حزب البعث العربي، الدكتور "عبد السلام حيدر"، الذي قال: "العيب الثاني: مشروع الدستور يحوي كثيراً من التناقض بين أحكامه المختلفة وبين أحكام بعض مواده. فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة الثالثة على امتيازات الطوائف الدينية وصيانة الأحوال الشخصية لها، ونصت المادة السادسة عشرة على حماية الدولة للأسرة والزواج وتشجيعه، وإزالة العقبات المادية الاجتماعية التي تعوقه. وبما أنه أقر في المادة الثالثة امتيازات الطوائف فوسائل الحماية اللازمة للأسرة والزواج أصبحت غير متيسرة، كما أن إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه أصبحت متوقفة على خلو هذه الامتيازات منها، وهي كما نعلم ليست كذلك، فالشريعة الإسلامية اشترطت مهر المثل ‘ن لم يكن هنالك مهر مسمى، كما أباحت للزوجة ووليها فسخ عقد النكاح إن كان زوجها غير كفء لها، ومذهب الشيعة يتيح المتعة، والتقاليد المسيحية أخذت بمبدأ الدوطة وجميع ذلك مما يعوق الزواج ويضع في طريقه العقبات المادية والاجتماعية معاً". ([74])

توقفت بعد ذلك المداولات حول المادة الثالثة في الدستور وتم إقرارها بصيغتها الحالية التي ثبتت تقريباً بهذه الصيغة حتى تاريخنا هذا.

3.2 التفاوضات خارج البرلمان

 كان الحراك خارج البرلمان لاعباً أساسياً في تحديد علاقة الدين بالدولة بشكل أوسع مما جرى أثناء مناقشة دستور 1920. فقد قاد الحراك المدافع عن فصل الدين عن الدولة خارج البرلمان تياران أساسيان، هما: الحزب الوطني والكنيسة. في حين كان التيار المدافع عن نص "دين الدولة هو الإسلام" رابطة العلماء في دمشق.

كان الصوت الأعلى بين الأحزاب السياسية والمدافع عن فصل الدين عن الدولة هو نجيب الريس، المنتمي إلى الحزب الوطني، والذي كما ذكرنا كان قد قاطع انتخابات الجمعية التأسيسية، معتبراً أن هذا الدستور هو دستور الانقلاب، وأن حزب الشعب متحالف مع الانقلاب للهيمنة على السلطة. ([75]) وقد نشر الريس في جريدة القبس مقالاً رفض فيه ربط الدين بالدولة قال فيه: "لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم، لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم، ولكن البلاد ليست لنا وحدنا، بل هي لنا ولغيرنا، وخصوصاً النصارى الذين كانت لهم قبلنا، والذين دخلنا عليهم وهم فيها أصحاب دولة وملك ودين.... إن كنتم لا تقصدون التطبيق فلماذا إذاً هذه المادة التي يثير مجرد وضعها فقط نفوس غير المسلمين في سورية وفي غيرها، ويفتح علينا وعلى بلادنا باباً جديداً من الدعاية في العالم الخارجي نحن في غنى عن فتحه، ولا نعتقد أن أية حكومة تتألف في سورية تستطيع تطبيق أوامر الدين الإسلامي ونواهيه على رعاياها في معاملاتهم، وخصوصاً في هذه الأيام التي تفرض منظمة الأمم المتحدة والعرف الدولي وإجماع الدنيا وجوب المساواة بين المواطنين نساء ورجالاً وأدياناً في كل دولة مستقلة، وسورية عضو في هذه المنظمة ومجبرة على تطبيق قوانينها." ([76]) أحدثت هذه المقالة ضجة في الأوساط الإعلامية السورية واللبنانية منها الصحفي "التائه" و"الصياد" ورافقتها بيانات من المؤتمر الأول لطلاب المدارس الثانوية في سورية، وجاء من المغتربين السوريين في المهاجر الأمريكية بحسب ما تورد سعاد جروس.([77])

لم يتوقف الأمر عند الحزب الوطني، فالحزب الشيوعي السوري والذي لم يكن له ممثلون في الجمعية التأسيسية، أصدر في شهر كانون الثاني بياناً هو الآخر رافضاً تحديد دين الدولة، وعبر بيانه المعنون "المبادئ الأساسية التي يريد أن يجعلها الشعب السوري أساساً للدستور، مذكرة الحزب الشيوعي إلى الجمعية التأسيسية" يقول فيها: "لقد أظهر أبناء الشعب السوري في كل وقت، أنهم متحدون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم السياسية والاجتماعية، وفي سبيل الأهداف الوطنية والشعبية الكبرى. ولذلك يجب أن يسجل الدستور هذا الإخاء العميق بين جميع المواطنين دون تفريق بإقراره مبدأ فصل الدين عن الدولة، إن لجميع المواطنين حرية الاعتقاد والعبادة، وهذا لا يتنافى مع ما تطلبه جماهير الشعب السوري من جعل دستورنا دستوراً وطنياً لا طائفياً". ([78])

أما بقية الأحزاب فلا نرى لها بيانات واضحة رغم الزخم الاجتماعي الكبير الذي رافق نقاش هذه المادة، وربما للأسباب التي ذكرناها نفسها في الفقرة السابقة لجهة عدم رغبة هذه الأحزاب بخسارة قواعدها الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تحالفها مع الإخوان المسلمين حول قضايا اعتبرتها أكثر أهمية، كقضية العروبة والاشتراكية. على سبيل المثال، كان من الواضح تحالف السباعي وأكرم الحوراني على قضية الاشتراكية "نادى الإخوان المسلمون بوجوب النص على مبدأ تحديد الملكية الزراعية، ودعمت الجبهة الاشتراكية من خلال السباعي ممثلي الحركة الفلاحية في البرلمان الممثلة بأكرم الحوراني وإحسان الحصني نائبي الحزب العربي الاشتراكي"([79]). كما كانت حركة الإخوان "تتبنى شعارات وموافق تتقاطع مع معظم التيارات "التقدمية" في الساحة السياسية، لكن وفقاً لرؤية إسلامية؛ إذ دعا الإخوان إلى وقف التبعية للأجنبي، ودعموا سياسة الحياد الإيجابي، وطالبوا بوضع حد لتحالف الإقطاع والبرجوازية المدينية، ولتحرير العمال والفلاحين من الجهل والفقر، وفسح المجال للعناصر الشابة لدخول الجامعات ومعاهد التعليم العالي لتحسين مستوى المعيشة، ولتصفية الإقطاعية والدعوة إلى طريق تطور لا رأسمالي يقوم على تأميم رأس المال الأجنبي، وفرض قيود على رأس المال المحلي، وتأميم قطاعات الدولة، وحماية النظام الجمهوري للدولة السورية، ولتحرير فلسطين والنضال من أجل الوحدة العربية".([80])

إذاً انكفأت الأحزاب عن مناقشة المادة الثالثة خارج البرلمان وهي أصلاً ناقشتها بخجل داخله، لتترك الساحة للكنيسة لتزعم الحراك. يبدو هذا واضحاً من تحرك السباعي لمفاوضة الكنيسة بشكل مباشر، في حين اكتفى بالبيانات والبيانات المضادة في ردوده على الحزب الوطني وسواه من الأحزاب التي عارضت ذكر دين الدولة. ترأس التفاوض من الجانب المسيحي البطريرك ماكسيموس الرابع الصايغ، الذي ألقى عظة وجه فيها انتقادات شديدة للمادة الثالثة، واصفاً إياها بالتناقض. تذكر سعاد جروس في كتابها آنف الذكر أن السباعي اجتمع مع رجال الدين المسيحيين على "اختلاف طوائفهم وخرجوا بالاتفاق على بناء الدستور على أساس الإيمان بالله والمساواة وحسن الأخلاق"([81])، في حين لا نجد ما يذكر عن اجتماعات بين السباعي والقوى الليبرالية على اختلافها، مما يشي بخشية السباعي من القوى المسيحية وعدم خشيته من القوى الليبرالية.

رغم أن السباعي واجه تعقيدات مع القوى المسيحية أو الليبرالية، إلا أن مواجهته الكبرى كانت مع التيارات المحافظة الأكثر تشدداً. فقد رفضت رابطة العلماء تبني نص المادة المحور من دين الدولة هو الإسلام إلى الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع. يذكر الشيخ سرور زين العابدين، أحد زعماء التيار المحافظ السوري حتى وفاته في العام 2018، في مذكراته "ولقد دعت رابطة العلماء إلى عقد اجتماع عام من علماء المدن السورية ورجال الإصلاح فيها. فتقاطرت الوفود من البلدان وانعقدت عدة اجتماعات وكان في أواخر شعبان من هذا العام 1369هـ اجتماع علمي كبير كمؤتمر إسلامي حضره بعض الوزراء وأعضاء المجلس التأسيسي الموقر، وشهده كثير من الوجهاء وأهل المكانة في العاصمة. فدارت المذاكرات حول المادة الثالثة من مشروع الدستور (دين الدولة الإسلام) التي فازت بتأييد الأكثرية في عدة لجان وجاءت وفقاً لدساتير الدول المجاورة، ومماثلة لدساتير الدول الأجنبية الكثيرة، في النص على ارتباط الدولة بدين الأكثرية، فصدر القرار الإجماعي من المؤتمر بتأييد ألوف العرائض التي قدمتها هذه الأمة، بوفودها الكثيرة إلى المجلس التأسيسي الموقر والمحافظة على المادة الثالثة بنصها المحكم (دين الدولة الإسلام)، والنص الذي ربط الأنظمة والقوانين بروح التشريع أسوة بالحكومات العربية والإسلامية المستقلة من قبل والتي استقلت حديثاً كالباكستان وإندونيسيا"([82]) . لم تكتف رابطة العلماء بالبيانات بل ذهبت حد مطالبة الكتلة الإسلامية الاشتراكية بالاستقالة في حال لم يتم تثبيت المادة بنصها الأساسي.([83])

استدعى هذا الموقف الحازم من الرابطة السباعي لإصدار بيان وجهه للرأي العام المتدين مطالباً إياه بتبني النص الجديد حماية للوطن من انقسامات طائفية خطيرة. ([84])

تمكن السباعي في نهاية المطاف من إقناع جميع المعترضين يميناً ويساراً بالنص النهائي الذي خرج به دستور العام 1950، والذي مثل بطريقة أو بأخرى براغماتية السباعي في سعيه إلى طمأنة الجميع متحاشياً أن يؤدي النقاش حول المادة الثالثة إلى انتخابات جديدة لم تكن كتلة الإخوان المسلمين واثقة من نتائجها. ([85])

ما هو مؤكد أن التيار المحافظ، وإن وافق على بقاء هذه المادة حتى يومنا هذا، لم يكن يوماً راضياً عن إلغاء نص دين الدولة هو الإسلام، كما يورد الشيخ سرور زين العابدين في مذكراته التي ينقل فيها عن الشيخ عدنان زرزور النص التالي: "حدثني والدي رحمه الله أن رأي العلماء ورأي الشيخ حسن - ويعني فضيلة الشيخ حسن حبنكة الميداني - كان أن يقدم السباعي وإخوانه استقالاتهم من المجلس أو الجمعية التأسيسية إذا رفضت المادة المذكورة كتمهيد لتحرك شعبي واسع يجبر المجلس على تبني هذه المادة، وأنهم أو الشيخ حسن كفيل بهذا التحرك وتحقيق هذه النتيجة .... ولكن النواب لم يقدموا استقالاتهم... بل قبلوا بالنصوص الدستورية الأخرى! وكان لسان الحال ولسان المقال أيضاً – كما سمعته من بعض الأطراف -يلوم الأستاذ السباعي ... بل يعرض به وينال منه رحمه الله." ([86])

كما ذكرنا، ظلت المادة الثالثة في موقعها، وتقريباً في نصها، ثابتة في جميع الدساتير اللاحقة باستثناء دستور الوحدة 1958 والدستور المؤقت 1962، ويعود هذا برأينا إلى عدة أسباب: أولاً ظلت هذه المادة ثابتة في جميع الدساتير العربية تقريباً وبالتالي سيكون إلغاؤها في سورية إشكالياً. ثانياً، إن تثبيت مادة ما أيسر من إلغائها، وخصوصاً إذا ما كان ذلك متعلقاً بقضية بالغة الحساسية بالنسبة للمجتمع كقضية الدين، كما سنرى في أحداث دستور 1973. ثالثاً، ظل السبب الأساسي الذي استدعى تثبيت هذه المادة قائماً حتى يومنا هذا، ألا وهو خشية النخبة الحاكمة من المواجهة مع الشارع المحافظ.

4.   دستور 1973

في العام 1970 وفي الثالث عشر من تشرين الثاني، أقدم حافظ الأسد على انقلابه الذي أسماه "الحركة التصحيحية" والذي غير تاريخ سورية الحديث جذرياً. قام حافظ الأسد، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية خلفاً لأحمد الخطيب الذي عينه انقلاب الأسد رئيساً مؤقتاً ريثما يبلغ الأسد سن الأربعين، بإصدار دستور مؤقت، وتعيين مجلس شعب مؤلف من 173 عضواً وعضوة أنيطت به مهمة كتابة دستور دائم للبلاد. تضمن مجلس الشعب غالبية واضحة من أعضاء حزب البعث المقربين من الأسد، من أمثال عبد الله الأحمر، وعبد الحليم خدام، ومحمود الأيوبي، ومصطفى طلاس، ومحمد طلب هلال، كما ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الاشتراكي مثل: حسن عبد العظيم وعبد المجيد منجونة، وحركة الاشتراكيين العرب، مثل: عبد الغني قنوت، إضافة إلى عدد من المشايخ المقربين من الأسد وعلى رأسهم الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية. كما ضم ما لا يقل عن 11 مسيحياً و4 سيدات. ([87])

جاء هذا الدستور على خلفية مفاوضات طويلة استمرت بين العامين 1970 و1973 بين حافظ الأسد وما سيعرف بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية من ناحية، وبين ظهور مشروع دستور اتحاد الجمهوريات العربية بين ليبيا وسورية ومصر، والذي ظهر في العام 1972 وشكل عاملاً هاماً في مداولات هذا الدستور من ناحية أخرى.

على عكس دستور 1950، والذي كما ذكرنا زخرت مقدمته بالإشارات الإسلامية، جاءت مقدمة دستور 1973 خالية تماماً من أي إشارة للدين. أما المادة الثالثة فقد جاءت مختصرة أكثر من دستور 1950 لتكتفي بالبندين الأوليين، ناصة على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام، وبأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، محيلة باقي البنود التي كانت واردة في دستور 1950 والتي نصت على أن "حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن ألا يخل ذلك بالنظام العام، الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية" إلى المادة 35.

تركزت مقدمة الدستور على تعزيز الانتماء العروبي ومحاربة الصهيونية والاستعمار والإمبريالية والاستغلال، والسعي إلى تحقيق أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي في الوحدة والحرية والاشتراكية وتثبيت ارتباط شكل الدولة بـ “ثورة الثامن من آذار" و"الحركة التصحيحية". أي إن الهوية التي حاول دستور 1973 ترسيخها هي الهوية العربية لسورية دون أي ذكر للهوية الإسلامية.

مرة أخرى كان هناك تباين واضح بين علاقة الدين بالدولة بين مشروع الدستور والنص النهائي، ومرة أخرى كان لصالح ربط الدين بالدولة. فمشروع الدستور خلا من أي إشارة للدين، ([88]) وبدا دستوراً علمانياً، الأمر الذي استفز التيار المحافظ مما دفعه إلى الاحتجاج في الشارع([89])، بطريقة مشابهة لما جرى أثناء كتابة دستور 1950، فعادت لجنة كتابة الدستور إلى نص يخفف الاحتقان. وكحال الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور 1950، كانت التفاوضات التي تناولت المادة الثالثة داخل البرلمان أقل شأناً من تلك التي حدثت خارج البرلمان، بل لا نكاد نرى تفاوضاً حقيقياً داخل البرلمان بالمعنى الحقيقي للتفاوض. فمن تناول الحديث عن المادة الثالثة كانوا من أفراد الحزب الواحد متباينين بشكل طفيف عن بعضهم بعضاً وعن المعنى الحقيقي للنصوص. قد يعود ذلك إلى كون الأحزاب الممثلة في البرلمان هي أحزاب متحالفة سلفاً مع حزب البعث، مسلمة إلى حد كبير بقيادته، وهي الأحزاب التي تشكلت منها " الجبهة الوطنية التقدمية" بقيادة حزب البعث، تاركة زمام التفاوض كله له. إضافة إلى ذلك كانت الشخصيات المسيحية داخل مجلس الشعب صامتة بشكل كامل هذه المرة، وربما أيضاً بسبب تحالفها مع حزب البعث أو انتسابها له، وربما لتحالفها مع حافظ الأسد، الشخصية المنتمية للطائفة العلوية، هذا الانتماء الذي سيلقي بظلاله على جزء هام من التفاوض حول المادة الثالثة. إلا أن هذه المرة كان التفاوض الحقيقي بين السلطة بقيادة الأسد وحزب البعث من جهة وبين التيار المحافظ من جهة أخرى دون تدخل واضح للكنيسة أو الأحزاب اليسارية التي على ما يبدو اختبأت خلف موقف الأسد الداعي لدستور علماني لا يربط الدين بالدولة.

لقد كان الأسد على ما يبدو مطمئناً لعلاقته مع التيار المحافظ عبر شراكته مع الشيخ أحمد كفتارو والشيخ محمد الحكيم مفتي حلب، ([90]) وطبقة التجار في دمشق وحلب التي توسمت خيراً في بعض اللبرلة للاقتصاد بعد أن أنهكتها سياسات التأميم التي سرت منذ عهد عبد الناصر في العام 1958([91]). الأمر الذي جعله يطمئن إلى الدفع بدستور يخلو من نص المادة الثالثة بشكل كامل، ليعود بعد فترة قصيرة بنص مطابق لنص 1950، وإن كان موزعاً في مادتين. الجدير بالذكر، أن الدستور المؤقت الذي صدر بتاريخ 16/2/1971 كان قد تضمن المادة الثالثة بنص اقتصر على بند الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، دون النص على دين الرئيس أو باقي بنود المادة ([92]). كما أن نص مشروع دستور اتحاد الجمهوريات العربية الصادر في العام 1972، يتضمن مادة ستستخدم في التفاوضات على دستور 1973، وتنص هذه المادة على ما يلي: "تؤكد دولة الاتحاد على القيم الروحية وتتخذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع." ([93]) رغم ورود مواد في الدستور المؤقت ومشروع دستور اتحاد الجمهوريات العربية، إلا أن النص الأولي لمشروع دستور 1973 جاء خالياً منها كما ذكرنا، ليعود النص النهائي إلى نص دستور العام 1950.

 سنستعرض فيما يلي التفاوضات داخل مجلس الشعب والتفاوضات خارجه والتي أفضت إلى العودة إلى النص السابق للمادة الثالثة.

ثالثاً: التفاوضات داخل مجلس الشعب

تشكلت لجنة كتابة الدستور بتاريخ 26 آذار 1972، وفق أحكام المادة 48 من الدستور المؤقت الذي وضعه حافظ الأسد بعد انقلابه مباشرة وأصدره في العام 1971 برئاسة فهمي اليوسفي، عضو القيادة القطرية لحزب البعث وعضوية السادة: أدهم مصطفى - غسان شلهوب - حسن عبد العظيم - جورج صدقني - عصام النائب - أديب النحوي - محمود قدور - سعيد الخوري - موريس صليبي - محمود الزعبي - عثمان عدي - غازي ناصيف - جورجيت وردة - محمود عبد القادر - ريس فرحان الفياض - فتح الله علوش - عبدالله موصللي - مدني الخيمي - سميح فاخوري - مهدي حداد، والتي شكلت بدورها لجنة للصياغة من فهمي اليوسفي، وغسان شلهوب، وأديب النحوي، وسميح فاخوري، وغازي ناصيف. ([94]) غابت بعدها مداولات الدستور حتى تاريخ 8 كانون الثاني 1973 والذي خصص لمناقشة تقرير لجنة الدستور ضمن عدة نقاط أدرجت على جدول أعمال تلك الجلسة. من الهام هنا أن نذكر أن اللجنة، وبحسب محاضر اجتماعات مجلس الشعب المؤقت لم تجتمع حتى تاريخ 18 كانون الأول 1972 لتعد النص المطلوب منها. إذاً لم تجتمع اللجنة خلال فترة تسعة أشهر. تذكر اللجنة في تقريرها استنادها إلى دساتير مصر ولبنان وجمهورية ألمانيا الديموقراطية، والاتحاد السوفييتي، ودستور سورية 1950 إضافة إلى تأكيدها على عدم تعارض مشروع الدستور مع مشروع دستور اتحاد الجمهوريات العربية.

لم يكن مفاجئاً تجاهل تقرير لجنة الدستور ذكر المادة الثالثة، ليتركز التقرير على التوجه العروبي والاشتراكي للدولة، دون التطرق إلى علاقة الدين بالدولة. غير أنه كان لافتاً ذكر المادتين 44 و45 المرتبطتان بالأسرة والمرأة. يقول التقرير: "ونصت المادة (44) على أن الأسرة هي خلية المجتمع وأوجبت على الدولة التشجيع على الزواج وحمايته وحماية الأمومة والطفولة ورعاية النشء والشباب. وقد أعطى المشروع للمرأة لفتة خاصة عندما ساواها بالرجل في جميع الحقوق ومنحها حق الترشيح والانتخاب دون أي قيد خاص، وأوجب المشروع بنص المادة (45) على الدولة أن تكفل للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة بكل المجالات وأوجب على الدولة أن تعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع".

تركزت المداخلات بعد التقرير على القضية الأساسية التي كانت تهم الأحزاب المشكلة للجبهة الوطنية، وهي دور الجبهة وعلاقتها بحزب البعث وبالمادة الثامنة التي تضع حزب البعث العربي الاشتراكي في قيادة الدولة والمجتمع. أي إن هذه الأحزاب لم تكن تعترض على ما ورد في المادة الثالثة والمادة الخامسة والثلاثين، على الرغم من التوجه الليبرالي (بمعنى فصل الدين عن الدولة) لهذه الأحزاب، لتقتصر المداخلات، القليلة بطبيعة الحال، على قضايا شكلية في المادة الثالثة، وعلى وجوب توافق نص الدستور مع ما ورد في مشروع دستور اتحاد الجمهوريات العربية. فمداخلة موريس صليبي، عضو مجلس الشعب عن الحزب الشيوعي السوري، تركزت على قضية الاشتراكية والجبهة الوطنية التقدمية، مع إشارة إلى ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة.

وكانت مداخلة سليم عقيل، وهي الأولى التي تطرقت إلى المادة الثالثة، لتدافع عن النص الوارد. يقول عقيل: "فقد جاءت المادة بالرغم من الإشارة في تقرير اللجنة أن دستور عام 1950 كان أحد المصادر التي استقت منه اللجنة مشروع الدستور المقدم إلى هذا المجلس، ودستور عام 1950 نص فيه على أن دين رئيس الدولة الإسلام وعلى أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع وعلى احترام الأديان وحفظ حقوق الأحوال الشخصية بالنسبة للطوائف المسيحية أو الطوائف الأخرى، وحتماً سيقال بأن مثل هذا النص يتعارض مع الاتجاه التقدمي ويتعارض مع التطور الذي يسير عليه بلدنا، وأنا أقول أنه (إنه) لا يتعارض إطلاقاً لأن الأكثرية الساحقة في هذا البلد مسلمة، وإذا ما نص على دين رئيس الدولة الإسلام فليست في هذا حركة رجعية أو انعطاف إلى الخلف، بل تقرير لمبدأ ديمقراطي في أن يكون رئيس الدولة هو رئيس الغالبية من هذا الشعب، وأن يكون التشريع الإسلامي  مصدراً من مصادر التشريع ، فمؤتمر لاهاي وهو مؤتمر دولي عالمي اعتبر التشريع الإسلامي أحد مصادر التشريع في العالم فهو يكرمه، لا لأنه إسلامي فقط وإنما يكرمه؛ لأنه تشريع من نتاج الفكر العربي الإسلامي وهو موضع التقدير والاحترام من مختلف الأمم في مجال التشريع". اللافت هنا، هو ذكر مؤتمر لاهاي الذي اعتبر التشريع الإسلامي مصدراً من مصادر التشريع في العالم. اعترض عز الدين ناصر، القيادي في حزب البعث،  واعتبر مداخلة عقيل طائفية، معتبراً ان إرادة التشريع والحكم هي الإرادة الطبقية. يقول ناصر في مداخلته: "لقد تعرض الأخ سليم إلى مواضيع دينية وطائفية وإننا كعمال نفهم أن إرادة التشريع وإرادة الحكم هي الإرادة الطبقية التي نعتبرها هي منبع العمل منبع العطاء ومنبع الإنتاج، ولا يمكن أن تكون الإرادة الطائفية التي هي نبع التفرقة ومنبع عدم الإنتاج، إننا نرجو من زملائنا بأننا سنناقش مجمل ما ورد في مشروع الدستور ونحن كطبقة عاملة لن نبخل مطلقاً لإبداء كل ملاحظة نعتقد أنها تخدم واقع شعبنا، وقد شعرت من كلام زميلي أننا في مجتمع متخلف ولسنا في بلد يسير في خط الاشتراكية."([95])  

لم تكن هذه المداخلة هجوماً على المادة الثالثة بحد ذاتها، وإن كانت المداخلة الوحيدة التي هاجمت فكرة ربط مصادر التشريع بالدين بطريقة غير مباشرة، ناهيك عن ربط التخلف بما ذكره عقيل، وإنما كانت هجوماً على عقيل نفسه الذي انتقد هيمنة حزب البعث على الدولة وانتقد فكرة الجبهة الوطنية وانتقد كذلك الصلاحيات التشريعية لرئيس الجمهورية([96]) . أما عبد الله الأحمر، فلم تكن مداخلته لرفض المادة أو قبولها أو تعديلها، بل على ما يبدو كانت لتأكيد موقف الحزب من الدين والمجتمع مهاجماً خصومه من المحافظين، خارج المجلس وليس داخله، والذين اتهموا البعث بالابتعاد عن الدين. يقول الأحمر: "لست في حاجة إلى التأكيد أن كل من في المجلس يحترمون الأديان ويعتبرون الإسلام (جزءاً من التراث العربي ومصدراً من المناهل الأساسية التي نعتمد عليها في كل التشريعات، ولكن هذا شيء وما نقوم به من إقرار دستور دائم هو شيء آخر. إن الانتماء لأبناء الشعب في هذا القطر ولأبناء الأمة العربية جميعاً هو الانتماء العربي أصلاً، والإسلام جاء موجهاً للعرب قبل غيرهم، وأنا ألتقي مع الأخ سليم بأن الدين للأفراد وليس للدولة، وأن كل فرد له دينه وله معتقده. ونحن نحترم لكل فرد دينه ومعتقده، وتكون له الحرية الكاملة في إقامة الشعائر الدينية، ولم يعكر هذا الأمر إلا المستعمرون عندما كانوا هنا إبان الانتداب، وإذا كانت هناك من رواسب لإثارة النعرات فهي ليست من باب الحرص على الدين، لا على دين رئيس الدولة ولا على دين الدولة؛ لأن الأكثرية هي التي تنتخب رئيسها وتراعي كل الاعتبارات واقعياً ولم نر في يوم من الأيام أن رئيس الجمهورية لم يكن على دين الأكثرية. هذه الأمور كانت تراعى في الواقع إنما كانت تثار ولا نقول عندما تثار وإن كل من يثيرها معني أنه كان مدفوعاً ولكن كان من يريد أن يضع شعبنا في زاوية هو أن يكرس واقعاً قائماً تجاوزه شعبنا منذ أكثر من ربع قرن لأنه عندما تجاوزه لا نقول إنه تجاوز الدين وإنما أن نقول إنه تجاوز الأساليب التي كان الدين من خلالها مصدراً للتجارة سواء عندما كانت تناقش مثل هذه الأمور لتوضع في الدستور أو في شكل آخر ، فأنا حسب تقديري لسنا الآن في صدد مناقشة موضوع الدين ومركز الدين في نفوسنا وإصرارنا على احترام كل الأديان وكل المعتقدات وإنما نثبت في هذا الدستور مبادئ لشعب له انتماء عربي كمجموع، أما الأفراد كأديان فهذا أمر يهم الفرد وهذا ما تؤكده القوانين، ولذلك أرى أن الفقرة كما وردت منسجمة مع دستور دولة اتحاد الجمهوريات العربية أو مع مرحلة التطور التي وصل إليها شعبنا، وأرجو أن يقرها المجلس كما وردت".

إذاً لم يطلب عقيل ولا الأحمر ولا عز الدين تعديلات على المادة. كانت الشخصية الوحيدة التي طلبت التعديل هي فتح الله علوش الذي طالب بتبني النص الوارد في دستور اتحاد الجمهوريات العربية، غير أن التصويت ذهب بسرعة وبشكل واضح باتجاه النص الوارد في المشروع بشكل يوحي بقبول النص قبل عرضه على الأعضاء.


 

نستطيع أن نسلط الضوء على الملاحظتين الآتيتين في مداولات دستور 1973:

أولاً، على عكس دستور 1950، لم تحظ المادة الثالثة بقدر هام من النقاش داخل قبة البرلمان، ويعود هذا برأينا إلى أن جميع الأحزاب قد تعلمت من درس دستور 1950 من جهة، ومن جهة ثانية كانت هذه الأحزاب متفقة على قيادة البعث للعملية على ما يبدو، وأخيراً كان من الواضح أن كل التفاوضات قد جرت خارج المجلس والكل كان جاهزاً على التوقيع على النص المقترح، والأهم هو عدم وجود أحد من التيار المحافظ للدخول معها في تفاوضات!

ثانياً، لم تتقدم الشخصيات المسيحية بأي خطوة تجاه مناقشة المادة الثالثة على عكس فعلها في دستور 1950 ودستور 1920. ربما يعود هذا إلى أن هذه الشخصيات كانت منتمية لأحزاب كجورج صدقني المنتمي لحزب البعث أو موريس صليبي المنتمي للحزب الشيوعي، والذي استدعاها للالتزام بمواقف أحزابها، أو للأسباب نفسها التي دفعت الأحزاب إلى الصمت تجاه هذه المسألة.

ثالثاً، كان لافتاً أن التيار المحافظ ممثلاً بالشيخ أحمد كفتارو ومحمد الحكيم قد تغيب عن مناقشة مواد الدستور. لا يتضح لنا سبب تغيبهم، والذي قد يكون مصادفة، أو لتفادي الدخول في مناقشات هم في غنى عنها وخصوصاً بعد تثبيت المادة بنصها النهائي قبل الدخول إلى القاعة على ما يبدو.

رابعاً: التفاوضات خارج مجلس الشعب

كانت التفاوضات خارج قبة البرلمان أشد بوضوح من تلك التي حدثت داخل البرلمان، ومن تلك التي حدثت في جميع الدساتير السابقة. ففي هذه المرة لم يكن الإخوان المسلمون ممثلين في المجلس، وبالتالي كان تفاوضهم يحدث خارج البرلمان، كما انكفأت الكنيسة عن أي دور بارز تاركة الدور الأساسي للأسد والبعث من ورائه على ما يبدو، إذ إننا لم نصل إلى أدبيات تذكر أي بيان أو دور واضح لها. أما أحزاب المعارضة والتي لم تكن منضمة للجبهة الوطنية، فقد آثرت هي الأخرى الاختباء وراء الطرفين الأساسيين: البعث من جهة، ورابطة علماء الشام ممثلة بالشيخ حسن حبنكة الميداني وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى. والهام هنا أيضاً أن قضية الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد قد لعبت دوراً في تعاطي الأطراف مع المادة الثالثة.

يبدو أن حركة الإخوان المسلمين كانت ترى في مشروع الدستور، الخالي من ذكر دين رئيس الجمهورية، فرصة لمهاجمة نظام الحكم بشكل حاسم. يقول سعيد حوى: "عندما قرأت نص الدستور وجدت أنه لا بد من عمل، وأن هذا العمل يجب أن يكون باسم علماء سورية، ورأيت أن طوائف كثيرة ستتجاوب مع هذا التحرك، فالناصريون والاشتراكيون، وحتى جماعة صلاح جديد سيلتقون حول هذا التحرك، وما دام التحرك بقيادة العلماء، فستظهر الحركة كلها بالمظهر الإسلامي، وهذا سيجبر حافظ الأسد على تنازلات وسيعطيه درساً للمستقبل في وجوب مراعاة الإسلام، ورأيت أن علينا نحن الإخوان المسلمين أن نوصل الناس من وراء ستار إلى وضع يندفعون فيه دون أن يكون هنالك ممسك علينا، وعلى هذا الأساس تحركت وأنا أداوم على تدريسي في المعرة، وقد سارت الأمور على ما يرام وبالشكل المخطط له، ولكن لله مراداً." ([97])

بدأ العلماء بالتحرك في دمشق وحلب وحمص وحماة. وكان واضحاً الدور البارز الذي لعبه الشيخ حسن حبنكة الميداني، والذي كان على ما يبدو القائد الفعلي للتيار المحافظ آنذاك والشيوخ عبد الكريم الرفاعي في دمشق، وخالد الشقفة في حماة ومحمد الشامي في حلب (والذي كان مقرباً من السلطة بحسب سعيد حوى) ([98]). من الواضح أن تحرك الشيوخ والاحتجاجات التي رافقت تحركهم في حماة تحديداً والتي هتفت مطالبة بإسلام الرئيس وبمهاجمته كعلوي، قد أحرجت الأسد كثيراً دافعة إياه إلى إصدار بيان يطالب فيه بوضع دين رئيس الدولة هو الإسلام، و"وأصر في الوقت ذاته على رفض "كل تفسير متخلف للإسلام يكشف عن تزمت بغيض وتعصب مقيت. فالإسلام دين المحبة والتقدم والعدالة الاجتماعية. دين المساواة بين الناس جميعاً"([99]).

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كانت هتافات حماة بحسب سعيد حوى "لا دراسة ولا تدريس حتى يسلم الرئيس"([100])، وشارك الاشتراكيون والناصريون بالدعوة إلى الإضرابات ([101]). دفع كل ذلك حافظ الأسد إلى التحرك ضمن الأوساط العلوية والشيعية كي يبعد شبهة البدع عن الطائفة العلوية. يقول حنا بطاطو: "ولمواجهة التهمة التي يلقيها المتعصبون في وجهه بأنه ينتمي إلى طائفة من أصحاب البدع أصدر ثمانون من رجال الدين العلويين بياناً رسمياً في شأن هذه النقطة يؤكدون فيه على نحو قاطع أن كتابهم هو القرآن وأنهم مسلمون شيعة، وأنهم مثل أغلبية الشيعة اثنا عشرية أي من أتباع الأئمة الاثني عشر. وصادق على بيانهم المفتي الجعفري الممتاز في لبنان عبد الأمير قبلان وأكد الإمام موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان في رأي مرجعي "الوحدة المذهبية" للعلويين مع الشيعة. ([102])

غير أن التفاوض الأبرز كان بشكل مباشر بين الأسد والشيخ حسن حبنكة الميداني الذي عده سعيد حوى وحنا بطاطو القائد الديني الأبرز في تلك الفترة. ينقل عبد الرحمن حبنكة الميداني عن والده قصة لقائه بالأسد الأب في معرض التفاوضات التي رافقت كتابة الدستور: "أراد مجلس الشعب في إحدى دورات حكم الرئيس (حافظ الأسد) وضع دستور للدولة السورية، وكان اتجاه الدولة والحزب أن يكون دستوراً علمانياً، وفق مبادئهم المعلنة، فنهض جميع علماء المسلمين ورجال الحركات الإسلامية يطالبون بأن يوضع في الدستور مادة (دين الدولة الإسلام). وكتبوا في ذلك عرائض وقعها كثيرون، وكان الوالد في مقدمة الموقعين، ووجهوا برقيات لرئيس الدولة ولرئيس مجلس الشعب. وحضر جمع منهم إلى الوالد الإمام، يستحثونه للقيام بالمطالبة بهذا الأمر، فاتّصل بمقر الرئاسة، وطلب موعداً للاجتماع بالرئيس، وحُدد له وقتٌ لذلك. فذهب إليه، وقدر الرئيس (حافظ الأسد) في نفسه أن الغرض من الاجتماع المطالبة بوضع مادة (دين الدولة الإسلام) في الدستور، فأعد نفسه ببعض الأجوبة التي عرضها عليه مستشاروه القانونيون من قيادات حزب البعث. وحصل الاجتماع بينهما في قصر الرئاسة فطالبه الوالد الإمام بوضع مادة (دين الدولة الإسلام) في الدستور، وأبان له مطلب علماء المسلمين والجماهير العريضة الواسعة من الشعب الذي هو مسلم بأكثريته الساحقة. فأجاب الرئيس ببعض الأجوبة تعتمد على المغالطة، فكان من أجوبته المغالطيّة: أن الدولة إنما هي أرض ومبانٍ ودوائر ومؤسسات إدارية وعسكرية، وهي أمور لا تتصف بأنها ذات دين أو غير ذات دين، فلا معنى لذكر مثل هذه المادة في الدستور. فأجابه الوالد فوراً: إن القانونيين الذّين أفهموك هذا يتجاهلون الحقّ، ويبينون لك خلافه ويغالطونك. فقال الرئيس (حافظ الأسد) وكيف ذلك؟ فقال له الوالد الإمام: إنّ الدولة جهاز من أفراد الشعب وهم نائبون عن الشعب في تحقيق مطالبه، ويمثّلون في التعبير عن إرادته، وتحقيق مصالحه، وللشعب الذي تمثله الدولة في الإدارة أرض ومؤسسات وممتلكات. ولو كان الأمر كما زعموا لك، لما كان معنى لأن تقولوا: نحن دولة اشتراكية، ولأن تُعلن كلّ الدول في دساتيرها المبدأ الاعتقادي الذي تؤمن بهو وتعمل بموجبه أحكامها (علماني – ماركسي – اشتراكي – كاثوليكي – بروتستانتي -يهودي) ونحو ذلك. أفكلُّ هؤلاء لا يفهمون القانون، فهم عن جهل يضعون في دساتيرهم ما لا يتلاءم منطقياً مع مفهوم الدولة؟ لقد ظن الذين أملوا على الرئيس هذه المغالطة أن الوالد عالم ديني، رّبما انطلت عليه هذه الحيلة المغالطيّة، وجهلوا أنّ فقهاء المسلمين هم أساتذة رجال القانون في العالم، وأنّ فرنسا أم القانون المدني قد استمدت قانونها أساساً من الفقه الإسلامي، واستفادت أبنيتها القانونية النظرية من تحليلات فقهاء المسلمين. قال الرئيس (حافظ الأسد): لقد مرت على البلاد حكومات كان فيها جماعة من علماء المسلمين ممثلين عن الشعب، وكان فيهم عدد من الإخوان المسلمين، ووضعوا دستوراً ولم يضعوا فيه مادة (دين الدولة الإسلام) واقتصروا على أن يكون الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع. فكيف تطالبوننا بما لم تفعلوه أنتم؟"([103])

عادت بعد هذه التفاوضات المادة إلى النص الذي وضعه السباعي قبل اثنين وعشرين عاماً ليستمر حتى يومنا هذا. وهنا يمكننا أن نلفت الانتباه إلى الملاحظات التالية:

أولاً، كان لافتاً أن حوار التيار المحافظ مع السلطة انحصر في المادة الثالثة ولم يكن هنالك أي نص يذكر أي حوار حول المادة الثامنة، الأمر الذي يدفع إلى الظن أن المادة الثامنة قد كانت ثمن تمرير الأسد للمادة الثالثة. واعتبر التيار المحافظ أنه انتصر بمجرد أن أعاد المادة إلى الدستور، متناسياً المادة الثامنة والصلاحيات المطلقة التي أعطيت لمنصب الرئيس، وجميع مكامن الضعف في الدستور.

ثانياً، كان لافتاً أيضاً غياب التيار المحافظ المؤيد للسلطة ممثلاً بالشيخ أحمد كفتارو عن الحوارات خارج البرلمان، كما كان غائباً عن الحوارات داخله، ولم يكن سوى الشيخ محمد الشامي موجوداً للوساطة بين التيار المحافظ والسلطة. مما يدل على رغبة هذا التيار بالابتعاد عن المواجهة مع الشارع أو مع السلطة تاركاً الأمر بيد المشايخ المناوئين للسلطة وللأسد شخصياً القيام بهذا التفاوض. ليس لدينا ما يشير إلى أن هذا الغياب كان بطلب من الأسد لكفتارو، إلا أن هذه الحوادث قربت بين المؤسسة الدينية الرسمية والسلطة الحاكمة، مما جعل الأسد يضاعف من ميزانية الأوقاف ويوطد العلاقة مع تيار كفتارو حتى وفاته.

ثالثاً، كان غياب التيار الليبرالي، والمطالب بفصل الدين عن الدولة شبه كامل. فلا ذكر لأي دور للحزب الشيوعي ولا الحزب السوري القومي الاجتماعي أو غيرهما من الأحزاب في المطالبة بإلغاء المادة. بل على العكس، فبحسب سعيد حوى ربما وجدت بعض الأحزاب الفرصة سانحة لمهاجمة السلطة من بوابة محاولة الأخيرة إلغاء المادة الثالثة، أي إنها على العكس، طالبت بإعادة المادة الثالثة بغرض إضعاف السلطة الحاكمة.

رابعاً، على عكس تفاوضات دستور 1950، غاب دور الكنيسة تماماً عن التفاوض ولا ذكر لأي بيان أو موقف لها، لا خلال الحوارات داخل مجلس الشعب ولا خلال حراك الشارع، الأمر الذي يمكن عزوه إلى اختبائه خلف الأسد، ورضاه عن النص الموجود في دستور 1950 كونه رآه حلاً وسطاً وصل إليه مع التيار المحافظ.

خامساً، يجب ألا ننسى أن مصر وسورية كانتا تتحضران لخوض معركة تشرين الأول ضد إسرائيل، الأمر الذي قد يكون سبباً وراء تراجع الأسد لحاجته لدعم شعبي في معركته المقبلة من جهة، ووراء استعجاله كتابة الدستور من جهة أخرى.

سادساً، كان لافتاً في هذا الدستور غياب البعد الدولي عن التفاوض على خلاف مقاربات 1920 و1950، والتي إما نادت بمثال الغرب أو بالابتعاد عنه كأداة للتفاوض، خلت كل تفاوضات هذا الدستور من أي مقارنة حول المادة الثالثة مع الدساتير الغربية.

مرة أخرى فشلت النخب السورية في إنتاج حوار حقيقي حول هذه المادة، ولم تستند مقارباتهم دفاعاً عنها أو رفضاً لها إلى أسس علمية تشرح الفرق بين النصوص المتفرقة من جهة، ومن جهة أخرى تفتح الباب على الحوار الهادف الذي يتيح المجال أمام فهم عمومي مشترك للمعاني المختلفة، الأمر الذي أدى إلى انفجارات العام 1979-1982، وربما كان أحد عوامل انفجارات العام 2011.

خامساً: الدين والدستور في الدستور المقبل: أين سيصل الحوار بين المحافظين والليبراليين؟

في بحثنا حول علاقة الدين بالدستور نرى أن هنالك دساتير عربية وغير عربية نصت على دين الدولة، ودساتير عربية وسورية تحديداً نصت على أن مصدر التشريع هو الإسلام، لكننا لم نر أي مرجع يشرح الفرق القانوني بين النصين. فدستور تونس ينص على أن: "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها."([104]) . في حين ينص دستور مصر على أن: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع." ([105]) علماً أن لدى تونس قانون أحوال شخصية يمنع تعدد الزوجات، والذي تتيحه قوانين مصر وسورية، فأين الأثر الفعلي للنص؟ كما أن مرام التيار المحافظ في سورية خلال العام 1973 و1950 كان دين الدولة وليس مصدر التشريع! وخلو دساتير 1920، 1930، 1958 من تحديد مصدر التشريع أو دين الدولة، لم يؤثر بتاتاً على القوانين التي سنت استناداً إلى هذه الدساتير سواء المدنية أم الجزائية أم غيرها. فباعتقادنا أن الخلاف بين التيار المحافظ والتيار الليبرالي حول النص هو خلاف سياسي لا يستند حقيقة إلى جوهر قانوني لمعنى النصين، كما يؤكد الفيلسوف الدستوري الألماني كارل شميدت أن مثل هذه الاتفاقات حول مشاكل الهوية والتموضع للفرقاء السياسيين توليفات لفظية آنية لتجيير الخلاف من اللحظة الدستورية إلى العمل السياسي اللاحق ([106]).

إن إدراك التيارين لمثل هذه الحقيقة، قد يفتح الباب أمام توافقات محتملة في اللجنة الدستورية التي تعمل على كتابة دستور سورية المقبل.

ومن التجارب المفيدة للحالة السورية تمكن الجمعية التأسيسية التونسية من الحفاظ على الهوية الإسلامية لتونس، مستخدمة لغة تماشي لغة العالم. فالنص الدستوري لا يمنع المرأة من شغل مناصب عليا وصولاً إلى منصب رئيس الجمهورية إذ ينص الدستور التونسي في فصل الرابع والسبعين على أن: "الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام." وبالتأكيد سيحتج الليبراليون على فكرة حصر رئاسة الدولة بالمسلمين وحرمان المسيحيين منها، وهذا ينافي حق المواطنة الكاملة لكل سوري وسورية. غير أن الوصول إلى دستور يعطي حق المواطنة لكل المواطنين بغض النظر عن دينهم، يبدو غير ممكن، آخذين بعين الاعتبار التوجه العام لغالبية أعضاء اللجنة من جهة، وتاريخية هذه المسألة من جهة أخرى. زد على ذلك أن دين الرئيس سيكون هاماً في حالة نظام رئاسي، لكن ذلك سيكون أقل أهمية في نظام حكم برلماني يحظى الرئيس بصفة اعتبارية ويكون لرئيس الوزراء الصفة التنفيذية الفعلية. وحتى في نظام شبه رئاسي، سيكون منصب رئيس الحكومة منصباً في غاية الأهمية، وخصوصاً في نظام شبه رئاسي يحظى فيه رئيس الحكومة بصلاحيات واسعة.

أما لجهة قانون الأحوال الشخصية، فمهما كان نص الدستور، سيكون القول الفصل في البرلمانات المنتخبة. فإذا كان الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع فهذا يعني أنه ليس المصدر الوحيد، وسيبقى على التيارات السياسية المختلفة التفكير بلعبة الأغلبية السياسية لتمرير مشاريعها عبر اللعبة الانتخابية.

ناهيك عن وجود تيارات محافظة بدأت تتناول قضية المواطنة والدولة المدنية بشكل جذري ([107]) . فشخصيات مثل فهمي هويدي ومحمد عمارة وسليم العوا، ومحمد مهدي شمس الدين، والقرضاوي لها نصوص متقدمة في المواطنة تتيح ببعض مناحيها شغل المرأة لمنصب الرئيس، ورفض قتل المرتد، والمواطنة الكاملة للمسيحيين وسواها من المسائل التي تشغل التيار الليبرالي ([108]).

قد يكون الأمر هيناً بما يخص المسلمين من الطوائف المختلفة أو الأديان السماوية، أما لجهة أديان مثل الإيزيدية فالأمر بالتأكيد أكثر تعقيداً، وقد يكون هنالك حاجة لنصوص دستورية تحمي مثل هذه الجماعات. وسيصبح الأمر أكثر تعقيداً فيما يخص حرية عدم الاعتقاد بدين محدد وقضية الزواج المدني.

 سيكون برأينا النص المختار للمادة الثالثة دور هام في الحوارات بين المحافظين والليبراليين، ولا نرى الأمر محسوماً تجاه النص المقترح، ولذلك نقترح هنا طيف النصوص المحتملة لها، من النص الأكثر علمانية إلى النص الأكثر محافظة:

  • سورية دولة علمانية: نعتقد أن مثل هذا الخيار ضعيف الحظ، لغياب تيار قوي داخل اللجنة لفرض مثل هذا النص من جهة، ولعدم وجود مثل هذا النص في أي دستور سوري أو عربي أو دساتير الدول ذات الغالبية الإسلامية.
  • عدم ذكر مصدر التشريع: قد يكون هذا حلاً وسطاً، كون الغالبية الكبرى من الدساتير غير العربية والإسلامية، مثل إندونيسيا وماليزيا، لا تذكر أي نص حول مصدر التشريع. لقد كان هذا النص هو نص السباعي الذي استقته منه باقي الدول العربية، عندما تنازل عن نص دين الدولة هو الإسلام كما رأينا.
  • القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية مصدر رئيسي للتشريع: نعتقد أن مثل هذا الخيار ضعيف الحظ أيضاً، لغياب تيار قوي داخل اللجنة لفرض مثل هذا النص من جهة، ولعدم وجود مثل هذا النص في أي دستور سوري أو عربي أو إسلامي، ولكون إخضاع الدستور السوري للمواثيق الدولية قد يكون إشكالياً عند الكثيرين لأسباب لا تتعلق بموضوع الدين وحقوق الإنسان والمواطنة، وإنما بعلاقة الدولة بالنظام العالمي ككل.
  • الإسلام دين الدولة: قد يحظى هذا النص برضى التيارين على غرار ما تم في تونس مثلاً.
  • القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية مصدر رئيسي للتشريع، على ألا يتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية: وهذا أيضاً نص قد يحظى ببعض التوافق كونه يضع لأول مرة القانون الدولي والمعاهدات كمصدر للتشريع، رغم تقييده بحدود الشريعة الإسلامية.
  • مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع: إن ذكر مبادئ الشريعة، أو الشريعة هو نص مخفف ربما من وجهة نظر التيار الليبرالي من الفقه الإسلامي.
  • الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع، سواء مرفقة بدين الدولة أم لا، وسواء بألـ التعريف أم دونها: هذا النص، كحال النص السابق، سيكون إشكالياً لدى تيار معقول داخل اللجنة، وإن كنا نرى أن الغالبية قد تكون معه، إلا أنها لن تكون غالبية كافية لفرضه، وبالتالي سيكون ربما من المتعذر القبول به كنص نهائي.
  • الفقه الإسلامي المصدر الوحيد للتشريع، سواء مرفقة بدين الدولة أم لا: هذا النص، سيكون إشكالياً بشكل أكبر من سابقه لدى تيار كبير داخل اللجنة، وبالتالي سيكون مستبعداً جداً القبول به كنص نهائي.
  • مقاصد التشريع هي المرجع الأساسي للتشريع وهذا اقتراح يمكن مناقشته لأن المقاصد يمكن أن تكون مقاصد إنسانية وخصوصًا إذا طورت، وهي قابلة لذلك وثمة محاولات داخل الفكر الإسلامي المعاصر لتطويرها وجعلها أكثر مواكبة للمفاهيم المعاصرة.

سادساً: خلاصة وخاتمة

 لقد كانت علاقة الدين بالدولة قضية مفصلية في الدساتير السورية الثلاثة التي درسناها في هذا البحث، تفوقت في كثير من الأحيان على مواد مهمة ترتبط بصلاحيات السلطة التنفيذية وفصل السلطات وتشكيل الأحزاب والجمعيات، واللامركزية وسواها من القضايا الهامة التي يحددها الدستور عادة. نعتقد أن هذا الأمر كان دوماً بالنظر إلى الدستور من وجهة نظر الهوية والحقوق لا من وجهة نظر البرامج والسياسات العامة كما يشرحها حسن طارق ([109]).

لم تنحصر التفاوضات حول هذه المادة داخل البرلمان فقط، ولم تكن بين التيارات ذاتها في كل مرة تم التفاوض عليها، كما لم تكن القضية دوماً واضحة في تناول هذه المادة كما رأينا في دستور 1920 فقد تركزت المسألة حول حقوق النساء أكثر منها حول علاقة الدين بالدولة.

وعلى الرغم من ظهور التيار المحافظ كطرف مفاوض دائم يدافع عن دين الدولة، كان الطرف الآخر إما تياراً ليبرالياً أو شخصيات مسيحية كما هو الحال في دستوري 1920 و1950. وفي حين كان حضور التيار الليبرالي في الدفاع واضحاً في مداولات دستور 1920 ولكنه كان ضعيفاً في مناداته بفصل الدين عن الدولة في دساتير 1950 و1973 ربما لأسباب تتعلق بقواعده الشعبية التي لا توافق على دستور ليبرالي كما ذكرنا.

ارتكز التيار الليبرالي في مناداته بفصل الدين عن الدولة على مسألتين أساسيتين: الأولى، كانت المسألة الحقوقية، والتي تركزت على حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة، ومبدأ المواطنة بين أفراد الوطن بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الطائفة. أما المسألة الثانية، فقد كانت العلاقة مع الغرب إما تشبهاً بالغرب المتقدم، أو درءاً لتدخل الغرب تحت ذريعة حماية الأقليات أو حاجة المجتمع السوري "المتخلف" لوصاية أجنبية.

أما التيار المحافظ، فقد استند بشكل أساسي إلى ثلاث مرتكزات: الأولى، هي أن غالبية المجتمع هي من المسلمين، دون ذكر الأقليات الطائفية فيه كالعلويين والدروز والإسماعيليين، وبالتالي فمن حق الغالبية أن تطبع دستورها بالطابع الإسلامي، استناداً إلى مفهوم الديموقراطية كما يرونه. الثاني، كان يرتكز إلى العلاقة مع الغرب أيضاً، من كون الغرب يطبعه الطابع المسيحي وهذا حقه كما هو حق المجتمع ذي الطابع المسلم. القضية الثالثة، كانت ترتكز إلى أن العلمانية منتج مسيحي، ينطلق من أن المسيحية كانت عقيدة وليست شريعة كما هو الحال في الدين الإسلامي، وبأن الإسلام جاء بمنهج شامل للإصلاح وفيه خصائص مرونة وتطور، وأن الإسلام ينهج النهج العلمي والعلم التجريبي، وأن الإسلام في مجال التشريع مدني علماني، وأن الإصرار على الإسلام كدين للدولة هو لتأصيل المفردات وربطها بتاريخ الأمة، وكانت هذه هي مدخل الشيخ مصطفى السباعي بشكل أساسي.

أخيراً، لا بد لنا من ملاحظة انخفاض تأثير العامل الغربي على الدساتير السورية من العام 1920 والذي كان طاغياً خلاله، حتى دستور العام 1973 الذي كان مغيباً تقريباً عن المداولات.

يعود السوريون اليوم مرة أخرى للتداول الكثيف حول هذه المادة، طرف يريد المواطنة بمفهومها الغربي باعتبارها لغة العصر، وطرف يريد المرجعية الإسلامية باعتبارها العلامة المميزة للمجتمع، وطرف ثالث صوته ضعيف هذه المرة، يسعى إلى خطاب يقارب لغة العصر ولغة المجتمع، واللافت هنا أن هذه "الأطراف" عابرة للأطراف السياسية التقليدية، أي إنها عابرة لكتل المعارضة والسلطة والمجتمع المدني.


([1]) زيدون الزعبي، مصادر التشريع بين التيارين المحافظ والليبرالي، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 23-5-2020، الرابط: https://bit.ly/34GEngL

([2]) Elisabeth Thompson, How the west stole democracy from the Arabs: The Syrian Arab Congress of 1920 and the destruction of its historic Liberal-Alliance, Atlantic Monthly Press, New York, 2020.

([3])  ندوة بعنوان "مئوية الدستور السوري الأول 1919/1920: إشكالية العَلمنة" المركز العربي لأبحاث ودراسات السياسات، 2-9-2020، رابط: https://bit.ly/3kONjGs

([4])Rim Turkmani and Ibrahim Draji (2019) the question of religion in the Syrian Constitutions: historical and comparative review. Conflict Research Programme, London School of Economics and Political Science, London, UK, 05-2020. https://bit.ly/384zccC

([5]) حسن طارق، "دستورانية ما بعد انفجارات 2011 قراءات في تجارب المغرب وتونس ومصر"، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدوحة 2016، ص 209-213.

([6]) ريم تركماني وإبراهيم الدراجي، " المسألة الدينية في الدساتير السورية مسح تاريخي مقارن"، كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)، 2019، ص 1-3، https://bit.ly/2JuSf5F

([7]) رغداء زيدان، "فلسفة الدستور والمسألة الدينية"، مركز حبر للدراسات، 2020، ص 1-2، https://bit.ly/2HNduzi

([8]) خلت هذه الأسباب من أي إشارة دينية.

([9]) محمد جمال باروت، المؤتمر السوري العام (1919-1920 ) الدستور السوري الأول: السياق، الطبيعة والوظائف، المراحل والقضايا، مجلة تبين، العدد 3، 2013، ص 43-45.

([10]) وهو التعريف الفرنسي للعلمانية، والذي يعدُّ عادة واحداً من التعريفات الأشد تطرفاً للعلمانية. على سبيل المثال، العلمانية البريطانية، تقبل بدين رئيس الدولة، أي الملكة، كما أن الدستور الأمريكي لا يذكر العلمانية ولا خلافها، أما الفرنسي فيذكر العلمانية تسع مرات.

([11]) المرجع نفسه، ص43.

([12]) اللافت هنا أن سعد الله الجابري كان يصلي ويصوم، ولم يفهم العلمانية كإلحاد وكفر. يقول الشيخ معروف الدواليبي في مذكراته الصفحة 110. "لقد كان سعد الله الجابري "شخصاً نقياً، وكان يصلي ويصوم، وهذا ثابت عنه في أيام النضال، وكان يدعوني للإفطار في على مائدته في رمضان دوماً."

([13]) محمد حرب فرزات، " دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها 1908-1955"، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدوحة، 2019، ص 88-90.

([14]) Elisabeth Thompson, How the west stole democracy from the Arabs: The Syrian Arab Congress of 1920 and the destruction of its historic Liberal-Alliance, pp 238-239. 

([15]) المرجع نفسه، ص: 238-239.

([16]) المرجع نفسه، ص 162

([17]) المرجع نفسه، ص 211

([18]) المرجع نفسه ص 162.

([19])جمال باروت، محاضرة، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، بيروت، 2 أيلول 2020.

([20]) ربما كان الدستور العثماني لذلك بجعل كل المواطنين متساوين أمام القانون.

([21]) ماري ألماظ شهرستان، "المؤتمر السوري العام 1919-"1920، دار أمواج، بيروت 2000، ص 194-207.

([22]) المرجع نفسه، ص 194-207.

([23]) مذكرات محمد عزة دروزة: سجل حافل بمسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمن، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993، المجلد الأول، ص 390 ـ 391.

([24])  ماري ألماظ شهرستان، "المؤتمر السوري العام 1919-"1920، مرجع سابق، ص206.

([25])  يوسف الحكيم، "سوريا والعهد الفيصلي"، دار النهار، بيروت 1986، ص 94-96.

([26]) ماري ألماظ شهرستان، "المؤتمر السوري العام 1919-1920”، مرجع سابق، ص 165.

([27]) Elisabeth Thompson, How the west stole democracy from the Arabs: The Syrian Arab Congress of 1920 and the destruction of its historic Liberal-Alliance, pp 207 – 208.

([28]) يوسف الحكيم، "سوريا والعهد الفيصلي"، مرجع سابق، ص 96.

([30]) محمد حرب فرزات، "الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، ص 235.

([31]) عبد الله حنا، "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،" بيروت، 2018، ص88-91.

([32]) المرجع السابق، ص88-91.

([33]) المرجع السابق، ص88-91.

([34]) خلود الزغير، سورية الدولة والهوية قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963) –، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2020، ص 73.

([35]) الجريد الرسمية. محاضر جلسات الهيئة التأسيسية، 24 تموز 1950.

([36])  Thomas Pierret, Religion and State in Syria, the Sunni Ulama from Coup to Revolution, pp 65-66.

([37]) محمد حرب فرزات "الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق ص 234-235.

([38])  نشوان الأتاسي، "تطور المجتمع السوري بين العامين 1831-2011"، دار أطلس، بيروت 2015، ص 188-191.

([39]) خلود الزغير، سورية الدولة والهوية قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963) مرجع سابق، ص 156-158.

([40]) لا يذكر عبد الله حنا ولا محمد حرب فرزات ما يخالف هذا الزعم، فكلا المؤلفين أكدا على التوجه العروبي والسياسات الاقتصادية والمالية دون الحديث عن علاقة الدولة بالدين.

([41]) وجيه الحفار، "الدستور والحكم"، مطبعة الإنشاء، دمشق 1948، ص 113-118.

([42]) عبد الله حنا، "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية"، مرجع سابق، ص: 113-114.

([43]) سعاد جروس، "سورية زمان نجيب الريس: 1898-1952: من الانتداب إلى الانقلاب". رياض الريس للكتب والنشر، بيروت،2015، ص: 447-470.

([44]) محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق، ص 262-263.

([45])  موضوع الدستور القديم هو نقطة الخلاف الأساسية التي أدت إلى الحرب الشعواء بين حزب الشعب والحزب الوطني. فبحسب الحزب الوطني فإن الدستور القديم الذي عدل في عام 1947 ليسمح للقوتلي بأن يصبح رئيساً للمرة الثانية كان يجب أن يعاد العمل به بعد أن سقط انقلاب الزعيم وكان من المفروض أن يرجع القوتلي رئيساً ليشرف على عملية إنتاج الدستور الجديد. غير أن التفاف حزب الشعب على الموضوع وبالتعاون مع الحناوي واستقطاب هاشم الأتاسي ليشرف على العملية الانتقالية أزعجا الكتلة الوطنية مما تسبب بمقاطعتها للانتخابات عام 1949 ودخول أعضائها في الانتخابات فرادى.

([46]) كان أغلب أعضاء الكتلة قد ترشحوا عن دمشق. ونقل العديد من أعضائها سجلاتهم ليجمعوا أصواتهم في العاصمة في استراتيجية لمسك أصوات العاصمة لصالحهم. وتحالفوا انتخابياً مع عدد من القيادات المسيحية المحافظة.

([47])  عبد الله حنا، "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، مرجع سابق، ص 139-142.

([48])  محمد سرور زين العابدين، مذكراتي، الجزء الثاني، دار الأصول العلمية، إسطنبول،2020، ص 293.

([49])  خلود الزغير، سورية الدولة والهوية قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963) مرجع سابق، ص155-156.

([50]) المرجع السابق، ص 156.

([51])  المرجع السابق، ص 157-158.

([52])  محمد جمال باروت،" يثرب الجديدة -الحركات الإسلامية الراهنة"، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 1994.

([53])  محمد سرور زين العابدين، مذكراتي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 303-310.

([54]) محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، ملحق الجلسة الحادية والعشرين، 15 نيسان 1950.

([55]) عبد الله حنا، "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية"، مرجع سابق، ص175.

([56]) المرجع السابق، ص 156.

([57])  المرجع السابق، ص 158.

([58]) خلود الزغير، سورية الدولة والهوية قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري، مرجع سابق، ص 25.

([59]) عبد الله حنا، "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية"، مرجع سابق، ص 171-172.

([60]) المرجع نفسه، ص 158.

([61]) محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق، ص 244.

([62])  عبد الله حنا، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، مرجع سابق، ص 173-174.

([63])  محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق، ص 271.

([64])  أنطون سعادة، المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة، بيروت، 7-3-1948، https://bit.ly/2HSNPF0

([65])   محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق، ص 272.

([66])  محضر اجتماع الجمعية التأسيسية لدستور 1950، تاريخ 29 كانون الأول 1949، ص 80.

([67]) محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، تاريخ 15 نيسان 1950، الجلسة الحادية والعشرون، ص352-355.

([68]) المرجع السابق، ص352-355.

([69]) مذاكرات الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، تاريخ 25 تموز 1950، ص 629-644.

(70) مذاكرات الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، تاريخ 25 تموز 1950، ص 629 -644.

([71]) محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، تاريخ 28 تموز1950، الجلسة الأربعون، ص 657-690.

([72])  محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، المرجع نفسه، ص 657-690.

([73])  محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، مرجع سابق، ص 283.

([74]) محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، تاريخ 28 تموز، الجلسة الأربعون، ص 657-690.

([75]) سعاد جروس، سورية زمان نجيب الريس: 1898-1952: من الانتداب إلى الانقلاب،" مرجع سابق، ص 447.

([76])  المرجع نفسه، ص 450.

([77])  المرجع نفسه، ص 449.

([78]) خلود الزغير، سورية الدولة والهوية قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري 1946-1963، مرجع سابق، ص 164.

([79])  المرجع نفسه، ص 30.

([80])  المرجع نفسه، ص31.

([81])  سعاد جروس،" سورية زمان نجيب الريس: 1898-1952: من الانتداب إلى الانقلاب،" مرجع سابق، ص: 451-455.

([82])  محمد سرور زين العابدين، مذكراتي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 279.

([83]) المرجع نفسه، ص: 309

([84]) سعاد جروس، سورية زمان نجيب الريس: 1898-1952: من الانتداب إلى الانقلاب،" المرجع السابق، ص:455.

([85]) Thomas Pierret, Religion and State in Syria, The Sunni Ulama from Coup to Revolution اpp. 189-190

([86]) محمد سرور زين العابدين، مذكراتي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 313.

([87]) المرسوم التشريعي رقم 466 الخاص بتشكيل مجلس الشعب وتعيين أعضائه،16-2-1971، الرابط: https://bit.ly/3eaduoq /

([88])  حنا بطاطو، " فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم،" المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسيات، بيروت 2014، ص: 84.

([89]) سعيد حوى، "هذه تجربتي وهذه شهادتي"، القاهرة، مكتبة وهبة، 1987، ص: 104-115.

([90])  حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم،" مرجع سابق، ص: 479.

([91])  المرجع نفسه، ص: 335.

([92]) مازن يوسف الصباغ، سجل الدستور السوري، دمشق، دار الشرق للطباعة والنشر، 2010، ص: 647.

([93])  المرجع نفسه، ص: 599.

([94])  مذاكرات مجلس الشعب، 8 كانون الثاني 1973، ص: 32.

([95])  مذاكرات مجلس الشعب، الجلسة الثالثة، تاريخ 9 كانون الثاني 1973، ص 79-81.

([96])  عرف عقيل بمعارضته للسلطة مما أدى لاعتقاله في الثمانينيات على خلفية إضراب المحامين ليمضي تسع سنوات في السجن.

([97])  سعيد حوى، هذه تجربتي وهذه شهادتي، مرجع سابق، ص 105-106.

([98])  المرجع نفسه، ص 110.

([99]) حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، مرجع سابق، ص 480.

([100]) سعيد حوى، هذه تجربتي وهذه شهادتي، مرجع سابق، ص 111.

([101])  المرجع نفسه، ص 109-110.

([102]) حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم،" مرجع سابق، ص 480.

([103]) عبد الرحمن حبنكة الميداني، الوالد الداعية المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني قصة عالم مجاهد حكيم شجاع، جدة 2004، ص101.

([104])  دستور تونس 2014.

([105]) دستور مصر2014.

([106]) An Introduction to Carl Schmitt’s Constitutional Theory: Issues and Context, translated and edited by Jeffrey Seitzer and Christopher Thornhill, Duke University Press, 2008,

([107])  مناف الحمد، الدولة المدنية في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الدوحة، 2016، ص11-18.

([108])  المرجع نفسه، ص 25.

([109]) حسن طارق، دستورانية ما بعد انفجارات 2011 قراءات في تجارب المغرب وتونس ومصر، مرجع سابق، ص25-56.


المراجع باللغة العربية:

  1. أمين إسبر، تطور النظم السياسية والدستورية في سورية بين العامين 1946 و1973، دار النهار للنشر، بيروت 197.
  2. أنطون سعادة، المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة، بيروت 1948.
  3. حسن طارق، دستورانية ما بعد انفجارات 2011 قراءات في تجارب المغرب وتونس ومصر، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدوحة 2016.
  4. حنا بطاطو، فلاحو سورية، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسيات، بيروت، 2014.
  5. خلود الزغير، سورية الدولة والهوية، قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963)، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، بيروت، 2020.
  6. دستور تونس 2014.
  7. دستور مصر 2014.
  8. رغداء زيدان، "فلسفة الدستور والمسألة الدينية"، مركز حبر للدراسات، 2020.
  9. ريم تركماني وإبراهيم دراجي، " المسألة الدينية في الدساتير السورية مسح تاريخي مقارن"، كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)، 2019.
  10. زيدون الزعبي، "مصادر التشريع في الدستور السوري بين التيارات المحافظة والتيارات الليبرالية"، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 2019.
  11. سعاد جروس، سورية زمان نجيب الريس: 1898-1952: من الانتداب إلى الانقلاب، دار رياض الريس، بيروت، 2015.
  12. سعيد حوى، هذه تجربتي وهذه شهادتي، مكتبة وهبة، القاهرة، 1987.
  13. عبد الرحمن حبنكة الميداني، الوالد الداعية المربي الشيخ حسن حبنكة الميدانية قصة عالم مجاهد حكيم شجاع، جدة 2002.
  14. عبد القدوس أبو صالح، "مذكرات الدكتور معروف الدواليبي"، مكتبة العبيكان، السعودية، الطبعة الأولى، 2005.
  15. عبد الله حنا، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018.
  16. ماري شهرستان، "المؤتمر السوري العام 1919-1920”، دار أمواج، سورية، 2000.
  17. مازن يوسف الصباغ، سجل الدستور السوري، دار الشرق للطباعة والنشر، ص 647.
  18. محاضر جلسات الجمعية التأسيسية لدستور 1950.
  19. محمد جمال باروت، المؤتمر السوري العام (1919-1920) الدستور السوري الأول: السياق، الطبيعة والوظائف، المراحل والقضايا، مجلة تبين، العدد 3، شتاء 2013.
  20. محمد جمال باروت، محاضرة 2 أيلول 2020 في المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات.
  21. محمد جمال باروت، يثرب الجديدة -الحركات الإسلامية الراهنة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 1994.
  22. محمد حرب فرزات، الحياة الحزبية في سورية: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها بين العامين 1908 و1955، المركز العربي للدراسات والنشر، بيروت، 2019.
  23. محمد سرور زين العابدين، مذكراتي، الجزء الثاني، دار الأصول العلمية، 2020.
  24. مذاكرات مجلس الشعب، 8 كانون الثاني 1973.
  25. مذكرات محمد عزة سعيد دروزة، المجلد الأول، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993.
  26. المرسوم التشريعي رقم 466 تاريخ 16 شباط 1971.
  27. مناف الحمد، الدولة المدنية في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الدوحة، 2016.
  28. نشوان الأتاسي، تطور المجتمع السوري بين العامين 1831-2011، دار أطلس للنشر والترجمة والإنتاج الثقافي، سورية، 2015.
  29. وجيه الحفار، الدستور والحكم، مطبعة الإنشاء، دمشق 1948، ص 113-118.
  30. يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصلي، دار النهار، ط3، بيروت 1986.

المراجع باللغة الإنجليزية:

  1. Seitzer Jeffrey and Thornhill Christopher An Introduction to Carl Schmitt’s Constitutional Theory: Issues and Context, translated and edited by Jeffrey Seitzer and Christopher Thornhill, Duke University Press, 2008.
  2. Thomas Pierret, Religion and State in Syria, the Sunni Ulama from Coup to Revolution, Cambridge University Press, 2013.
  3. Thompson Elisabeth, How the west stole democracy from the Arabs: The Syrian Arab Congress of 1920 and the destruction of its historic Liberal-Alliance, Atlantic Monthly Press, New York, 2020.

 

التصنيف الدراسات