تمهيد

منذ أن أعلنت "الإدارة الذاتية" استعدادها لإجراء الانتخابات المحلية في مناطق سيطرتها لم تتوقف التهديدات التركية بشأن استهداف مشروعها، إذ ترى تركيا أن الانتخابات هي وسيلة لترسيخ الهياكل الحوكمية للإدارة بشكل يصعّب تقويضها في المستقبل. تزامناً مع ذلك، شهد مسار التقارب التركي مع نظام الأسد تطورات نوعية[1]، بمساعٍ حثيثة من موسكو لتسريع مسار التقارب بين الجانبين ورعاية لقاء ثنائي على المستوى الرئاسي يجمع أردوغان مع بشار الأسد، استعداداً لمرحلة ما بعد الانتخابات الأمريكية واحتمالية عودة ترامب للسلطة وتداعيات ذلك على المنطقة، إضافة إلى المخاوف الإقليمية المتعلقة باندلاع حرب جديدة في لبنان وامتداد تأثيراتها إلى الساحة السورية.

أثارت أجواء هذا التقارب مخاوف الإدارة، معتبرة ذلك "خطراً وجودياً" عليها واصفة هذا المسار بأنه "مؤامرة كبيرة ضد الشعب السوري"[2]. يتناول تقدير الموقف هذا دوافع تركيا للتقارب مع نظام الأسد، والسيناريوهات المتوقعة لكيفية تعاطي الإدارة الذاتية مع الواقع الجديد.

تحوّل تركي استراتيجي أم تكتيكي

مرَّت السياسة التركية تجاه سورية منذ 2011 بتحولات عديدة متأثرة بالمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، من دعم التحول الديمقراطي إلى استراتيجية أمنية-عسكرية تركز على حماية حدودها ومحاربة "الإرهاب" من خلال التدخل العسكري المباشر ودعم الجيش الوطني السوري.

وبعد دخول الملف السوري في حالة الاستعصاء السياسي وتجميد الصراع مما أدى إلى تثبيت الحدود الأمنية التي تفصل بين مناطق السيطرة، زاد العبء على تركيا من حيث استمرار وجود ملايين اللاجئين على أراضيها، واستمرار التهديد الأمني على حدودها، ووجود اتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة وروسيا تعيق أي عمل عسكري جديد. وفي هذا السياق تأتي المحاولات التركية للتقارب مع نظام الأسد بدعم روسي بحثاً عن مسارات بديلة لتحقيق مصالح تركيا وحفظ أمنها القومي.

ويمكن قراءة الحماس التركي للتقارب مع النظام في بعدين أساسيين، أولهما مرتبط بالتطورات الإقليمية-الدولية ويتجلى في ثلاثة دوافع رئيسية:

  • عودة ترامب إلى السلطة: تطمح تركيا لاستعادة علاقات وثيقة وأكثر ودية مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة جديدة يقودها ترامب، بناء على وجود تفاهمات خاصة بين الرئيسين حول عدد من القضايا الإقليمية خلال فترة رئاسة ترامب السابقة، حيث تتوقع أنقرة أن تكون سياسات ترامب الخارجية أكثر توافقاً مع مصالحها، بما في ذلك إمكانية إعادة النظر في وجود القوات الأمريكية في سورية وإدارة العلاقة مع روسيا والتعامل مع "قسد". ولذلك، تسعى تركيا للتقارب مع نظام الأسد استعداداً لأي تغييرات قد تأتي مع عودة ترامب.
  • تحسين العلاقة مع موسكو: في ظل التوترات مع الغرب، ترى تركيا علاقاتها مع روسيا استراتيجية تعزز موقفها الدولي وتوسع هامش المناورة في العديد من الملفات الإقليمية والدولية. وهنا يأتي التقارب مع نظام الأسد بدعم من موسكو، كجزء من جهود أنقرة لتعزيز علاقتها مع روسيا وتأمين مصالحها والتأكيد على استقلالية قرارها في القضايا الإقليمية.
  • الخوف من تطور الحرب في غزة إلى حرب إقليمية: تخشى تركيا من أن تؤدي حرب غزة المستمرة والعمليات العسكرية المتصاعدة في لبنان إلى حرب إقليمية شاملة قد تمتد إلى سورية. وفي هذا السياق، يعتبر التقارب مع دمشق وتعزيز العلاقة مع موسكو خطوة استراتيجية لتنسيق الجهود الإقليمية وضمان حماية مصالحها وأمنها القومي في حال تفاقم الأوضاع.

أما البعد الثاني فهو مرتبط بديناميات السياسة التركية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الملفات المطروحة على الطاولة معقدة وتفوق قدرات الجانبين على تحقيقها، حيث تتشابك مصالح الفواعل المحليين والإقليميين والدوليين في سورية، وليس من السهولة مناقشة كثير من الملفات بين تركيا ونظام الأسد بمعزل عن بقية الفاعلين. وهنا يمكن تحديد الدوافع التركية بأربع أولويات رئيسية:

  • قوننة الوجود العسكري التركي في سورية: تسعى تركيا لضمان استمرار "محاربة الإرهاب" حتى القضاء على مشروع "الإدارة الذاتية". وفي ظل فقدان الثقة بنظام الأسد والولايات المتحدة الأمريكية؛ تسعى لإبقاء جنودها على الأرض لتأمين حدودها وأمنها القومي. على المدى المتوسط والبعيد، تحتاج تركيا لشرعنة هذا الوجود من قبل النظام السياسي الحاكم في سورية، عبر اتفاق جديد يعطيها الحق بمحاربة "الإرهاب" داخل سورية أو تعديل اتفاق أضنة، وإن كان من غير المرجح أن يقبل النظام بشرعنة الوجود التركي دون الحصول على ضمانات كافية للانسحاب وتحقيق مكاسب في ملفات أخرى.
  • قطع الطريق أمام أي وجود مستقبلي للإدارة الذاتية على طاولة صناعة القرار في دمشق: تخشى تركيا من ترتيبات سياسية قد تفضي إلى إعطاء شرعية دستورية "للإدارة الذاتية" ووصول "حزب الاتحاد الديمقراطيPYD" إلى دوائر صنع القرار ضمن النظام السياسي المستقبلي في دمشق، مما سيزيد من تعقيد الملف ويهدد مستقبل العلاقة بين تركيا وسورية.
  • تخفيف عبء اللاجئين: تستقبل تركيا ما يزيد عن 5 مليون لاجئ سوري على أراضيها، كما تشرف على إدارة الخدمات لقرابة 5 ملايين بين نازح ومقيم في شمال غرب سورية. وفي السنوات الأخيرة، تم تحميل اللاجئين السوريين -من قبل بعض الأطراف السياسية التركية- مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد. ونتيجة الاستقطاب السياسي أُقحم ملف اللاجئين في دائرة التجاذبات السياسية الداخلية، الأمر الذي أثر في تحوّل مزاج الناخب التركي، وهو ما عكسته نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي أسفرت عن خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم لأهم معاقله في المدن الكبرى ومدن الأناضول[3]. وغدت قضية إعادة اللاجئين السوريين على رأس أولويات الحكومة، حيث ترغب تركيا بإعادة نسبة كبيرة من اللاجئين عبر "ضمانات روسية" بعدم تعرضهم للملاحقات الأمنية من قبل قوات النظام.
  • تشتيت قوة "قوات سوريا الديمقراطية": في ظل صعوبة القيام بعمليات عسكرية جديدة، تسعى تركيا لدفع النظام للعب دور أكبر في شرق سورية بمساعدة العشائر العربية، لإنهاء سيطرة قسد على المنطقة وتشتيت قوتها العسكرية والاقتصادية، من خلال حرمانها من الاستفادة من موارد النفط والغاز، إذ تعتقد تركيا أن جزءاً كبيراً من عائدات تلك الثروات تصل إلى حزب العمال الكردستاني PKK وتستخدم في تمويل صراعه مع الدولة التركية.

مخاوف الإدارة الذاتية وخياراتها المتاحة

لا شك أن مسار التقارب التركي مع النظام طويل الأمد، وقد يستغرق الكثير من الوقت لتحقيق النتائج التي يرجوها الطرفان، إلا أن "الإدارة الذاتية" لم تعد تملك رفاهية المناورة بين الأطراف الإقليمية والدولية، فهي تدرك أن تغير السياسة التركية استراتيجي وليس تكتيكياً، وأن هذا التقارب سيقلل من خياراتها المتاحة ويضعها في مواجهة تحديات صعبة، لا سيما أنه سيقطع الطريق أمام أي اتفاق مستقبلي بينها وبين النظام. وفي حال قررت الإدارة الأمريكية الجديدة سحب قواتها كلياً أو جزئياً من شرق سورية؛ فستكون "الإدارة الذاتية" أمام تهديد حقيقي لمستقبل وجودها على خارطة الفاعلين السوريين المحليين.

وتتراوح السيناريوهات المتوقعة لكيفية تعاطي الإدارة مع التطورات الجديدة بين السيناريوهات الثلاثة التالية:

  • السيناريو الأول: تقديم تنازلات للنظام وعقد اتفاق جديد معه، وقد تكون موسكو ضامناً لاتفاق كهذا إذا كان سيفضي إلى تقليص مساحة انتشار القوات الأمريكية في سورية، بحيث تسحب قوات قسد ثقلها العسكري من المدن الشمالية بعمق 30 كم مع استمرار وجودها في المناطق المحاذية للقواعد الأمريكية الرئيسية. إضافة إلى عودة النظام إدارياً وأمنياً إلى مراكز المدن، ودمج الهياكل الإدارية المدنية للإدارة الذاتية مع المؤسسات الحوكمية للنظام. ويُعتبر هذا السيناريو المرجَح في حال تقدُّم التقارب التركي مع النظام، وفي ظل استمرار الوجود الأمريكي الذي يمنع أي محاولة إنهاء كامل لتجربة "قسد" بالوسائل العسكرية، ومع ذلك فإن هناك معوقات كثيرة تحد من إمكانية تطبيق هذا السيناريو.
  • السيناريو الثاني: انفتاح "الإدارة الذاتية" على تركيا برعاية أمريكية، بحيث تسبقه مصالحة حقيقية مع الفواعل المحليين في شمال شرق سورية، والقيام بخطوات بناء ثقة قد يكون من بينها: تنفيذ اتفاق منبج كخطوة أولى من طرف قسد، وسحب قواتها العسكرية من الشريط الحدودي، والتوافق على نظام حوكمي جديد في المنطقة تُشرف عليه الولايات المتحدة وتركيا وروسيا، وقد تلعب قوات الأمن الداخلي "الأسايش" دوراً في تحقيق الأمن العام في المنطقة. تكمن روافع هذا السيناريو في غياب قدرة النظام على تحقيق المطالب التركية، مقابل رغبة تركية بتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، إضافة إلى قناعة لدى تيار واسع في الإدارة الذاتية بعدم واقعية العداء مع تركيا والحاجة لتقديم تنازلات كبيرة خشية انسحاب أمريكي مفاجئ قد يخلط أوراق جميع الفاعلين وتكون هي من أكبر الخاسرين. في حين أن سلوك الإدارة الذاتية خلال السنوات السابقة وغياب الحماسة التركية لتجارب جديدة مع فواعل دون دولتية قد تكون من معيقات هذا السيناريو.
  • السيناريو الثالث: تمترس قسد حول مواقفها ورفض تقديم أية تنازلات والمراهنة على استمرار الدعم الأمريكي، واحتمالات تنفيذ عمليات أمنية ضد تركيا بالتعاون مع مجموعات محلية في شمال غرب سورية رافضة لمسار التقارب التركي مع النظام. وتكمن خطورة هذا السيناريو على الإدارة في أنه قد يتسبب باندلاع معارك جديدة، ورفع الحماية الروسية عن "وحدات حماية الشعب YPG" في مناطق تل رفعت وكوباني، مما يعني خسارة السيطرة على مناطق جديدة وتقدم تركيا فيهما، إضافة إلى إمكانية عقد تفاهمات مشتركة بين تركيا والنظام للتعامل المشترك مع ملف شمال شرق سورية على المدى المتوسط والبعيد.

في الختام، ليس من المرجح أن يصل التقارب بين تركيا ونظام الأسد إلى مستويات متقدمة، إلا أن المسار الجديد الذي بدأته تركيا في تعاطيها مع الملف السوري سيكون له تداعيات كبيرة على المشهد العام وعلى مستقبل "الإدارة الذاتية" في شمال شرق سورية بشكل خاص. وتدرك الإدارة أن التطبيع التركي مع النظام سيقلل من فرص استمرارها كفاعل سوري محلي، وسيقطع الطريق أمام أي اتفاق مستقبلي مع النظام، لا سيما في حال وصول دونالد ترامب مجدداً إلى السلطة في الولايات المتحدة ورغبته في تحسين العلاقات مع تركيا وروسيا واحتمالات سحب قواته كلياً أو جزئياً من سورية.

 


 

[1] بعد تصريح رئيس الوزراء العراقي حول المبادرة العراقية الخاصة برعاية المفاوضات المباشرة بين الطرفين، توالت التصريحات التركية حول الخطوات التطبيعية القادمة، لا سيما مع الإشارة التي أرسلها النظام عبر وزير خارجيته فيصل المقداد الذي تحدث بإيجابية عن مسار التقارب مع تركيا بشرط "إعلان استعدادها للانسحاب" وتقديم تعهدات بذلك، الأمر الذي يشير الى تراجع النظام عن انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية كشرط مسبق لأي خطوات نحو تطبيع العلاقات بين الجانبين. فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن وقف القتال بين النظام والمعارضة لفترة طويلة أمر بالغ الأهمية يقتضي من النظام تقييم مرحلة الهدوء هذه بعقلانية لتحقيق السلام مع معارضيه، وإعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وتوحيد الجهود مع المعارضة لمكافحة "الإرهاب" وخاصة حزب العمال الكردستاني.

[2] إلى الرأي العام، الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا، 29.06.2024، https://2u.pw/55NOF4Lh

[3] أردوغان يقر بخسارة حزبه في الانتخابات البلدية، الجزيرة 01.04.2024، https://2u.pw/rKwXEDk6

التصنيف تقدير الموقف

ملخص تنفيذي

  • تشهد تركيا انتخابات جديدة على مستوى البلديات نهاية آذار 2024، ذات أهمية خاصة في سياق الحياة الحزبية التركية ومتغيراتها لبعدها الرمزي والسياسي الموازي لأهميتها البيروقراطية أي الخدمية، كما تعتبر ثالث انتخابات محلية يُستخدم الملف السوري فيها ضمن أجندة الأحزاب كملف مُختلف عليه.
  • مثّلت الفترة الزمنية ما بين 2014 و2019 بيئة تشكيل النفَس العام المعارض ضد اللاجئين السوريين، حيث برزت مجموعة من المطالب التمييزيّة أدت إلى وقوع حوادث ذات أبعاد عنصرية أو أمنية تركزت في المناطق المكتظة سكانياً باللاجئين السوريين.
  • تحرص أحزاب أقصى اليمين على استقطاب أكبر عدد من الناخبين خلال الانتخابات القادمة عبر التعبئة ضد اللاجئين السوريين والاستثمار بخطاب يرتكز على عنصرين أساسيين: اقتصادي يحمّل اللاجئين تبعات التضخم، وديموغرافي يتهم اللاجئين بتهديد الهوية السياسية للمواطن التركي.
  • يتمثّل التخوف الأساسي من نتائج الانتخابات المحلية القادمة في صعود أقصى اليمين بالبلديات الصغرى مما يشكل ضغطاً أكبر على اللاجئين، أو تعميم نموذج ولاية "بولو" في حال استطاع حزب النصر أو الجيد الفوز بولايات صغيرة.
  • ستساهم الانتخابات القادمة في توضيح ثقل تيار أقصى اليمين المتطرف ضمن دائرة الحياة السياسية التركية، إذ تشكّل اختباراً مهماً له من حيث الجانب البرامجي، بعد اعتماده لأكثر من عامين على عناصر خطاب تمييزية من أجل تحصيل مكاسب سياسية أو بيروقراطية.
  • ستُبرز الانتخابات القادمة الثقل الحقيقي لتيار أقصى اليمين في تركيا، وتقيس مدى تأثير تبنيه الخطاب العنصري عبر الصوت الانتخابي، وقد تظهر مدى استعداد الناخب التركي للتخلي عن الأحزاب البرامجية لحساب تلك العنصرية، فضلاً عن توضح أهمية استخدام ملف اللاجئين السوريين ضمن الحملة الانتخابية، كما قد تؤدي خسارة تيار اليمين المعادي للاجئين للانتخابات وعدم قدرته على الفوز في أي ولاية إلى تراجع دوره وتأثيره ضمن الحياة الحزبية التركية وعلى اللاجئين.

لقراءة وتحميل تقدير الموقف: https://bit.ly/4aljSG0

التصنيف تقدير الموقف

الملخص التنفيذي:

  • يأتي مسار التطبيع ضمن إطار البحث  عن صيغ تفاهم جديدة بشأن الملف السوري، متجاوزاً  "إزاحة الأسد" وتعلي من شأن دينامية "التواصل الإقليمي" ومتطلباته وتفصله عن مسار الحل السياسي، إلا أنه من الواضح أنّ انفتاح النظام تجاههما متباين، إذ يظهر حماسة تجاه مسار التقارب العربي بينما يناور في الانفتاح مع أنقرة.
  • لا يزال المسار في طور التشكل والاختبار، ولعلّ أهم معوّق في عدم تناميه يرتبط بغياب التصور وافتقاد أدوات التنفيذ  لا سيما أن ّ الاختلافات في الملفات التفصيلية أكبر من التوافق السياسي، كما إنّه من غير الواضح مدى تلمس حدود ومقومات وأهداف وآليات هذا التصور النهائي.
  • يمثّل التخوف التركي من تداعيات الانسحاب من شمال غرب سورية تحدياً أمنياً كبيراً خاصة في ظل استمرار الادارة الذاتية بامتلاك أدوات القوة في شمال شرق سورية، إضافة إلى أنّ الانسحاب سيسهم في عودة تدفق اللاجئين الرافضين للنظام إلى تركيا سيما في ظل الاستقطاب الحاد الذي تعيشه داخلياً، وعملياً، فإنّ عدم قدرة النظام على توفير بيئة مشجعة لعودة اللاجئين سيقوض من تلك الجهود.
  • إنّ مسار التطبيع وإن تم بالشكل الذي يأمله النظام، فإنّه من المتوقع أن يصطدم بعدة عراقيل في مقدمتها الموقف الغربي والأمريكي الذي لا يزال يراهن على بقاء "الغموض البنّاء"، إضافة إلى الانغماس الإيراني في الملف السوري، وانتشار التجارة غير الشرعية لا سيما تجارة المخدرات التي باتت تشكل أرقاً لأمن دول المنطقة.
  • يواصل نظام الأسد تمسكه بسياسة "الصبر الاستراتيجي" مراهناً على تبدل الظروف الإقليمية والدولية، وساعياً للاستثمار بالمتناقضات دون تقديم أي تنازلات موضوعية ضمن مؤشرات وازنة تُحقق تقدّماً ملموساً ضمن متطلبات الدول الساعية للتطبيع، وقد رسخ نتاج الفترة الماضية قناعة لدى الأسد بضرورة مواصلة التعنت بما أنّه يفي بالغرض ويجلب المكاسب وإن كانت شكلية لا تؤدي لاستعادة النظام وزنه لكنها تكفي لاستمراره في السلطة.

مدخل

شهد الحراك السياسي والدبلوماسي الإقليمي تجاه ملف التطبيع منذ العام 2018 تفاعلاً كبيراً عقب زلزال الذي ضرب سورية وتركيا في شباط/ فبراير 2023 ، إذ دفع لتعزيز مسارات سابقة وزيادة قابلية الدول المترددة للانفتاح على النظام، ويمكن بلورة هذا الحراك بمسارين؛ يرتبط الأول بحراك عربي تزداد وتيرته وتتمايز أدواره بين دافع ومنتظر ورافض، بينما تعود أسس المسار الثاني إلى توافقات سابقة بشأن "تجميد النزاع" في شمال غرب سورية بين كل من روسيا وإيران وتركيا، إضافة لتطورات نجمت عن تقلبات في المشهد الدولي تمظهرت في نزاعات نشبت في أذربيجان وأوكرانيا، أو في تحديات داخلية للدول كما في حالة تركيا التي غيّرت من سياساتها الخارجية لاعتبارات "تجاوز الإشكاليات" مع جيرانها، ولانتهاج مقاربة جديدة لملف السياسة الإقليمية. وفقاً لأعلاه سيركّز تقدير الموقف هذا على فهم حركيّة هذه المسارات ودورها في رسم مقاربات التطبيع، في ظل المواقف الإقليمية والدولية وخرائط المصلحة المتغيّرة، كما سيعمل على تبيان معوقات هذا المسار وآثاره على المشهد السوري.

توصيف السياق:حراك أمني - دبلوماسي واسع

حفّز الحراك الثنائي العربي والتركي ومؤشرات التقارب مع النظام باختلافات سياقاتها وظروفها على تهيئة بيئة سياسية-إقليمية جديدة للتعاطي مع المشهد السوري من منطلقات رفض الوضع القائم وضرورة إيجاد حل ينهي الاستعصاء.

فمن جهة أولى، ارتبطت دوافع المسار العربي بمحددات جيبولتيك الطاقة، حيث بدأت عمّان أول مبادرة فعلية لإعادة دمج النظام في محيطه الإقليمي، من خلال اللاورقة التي حملها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أواخر العام 2021، متضمنةً خمسة بنود شملت "صياغة نهج تدريجي نحو حل سياسي على أساس قرار مجلس الأمن رقم ((2254 وبناء الدعم للنهج الجديد بين الشركاء الإقليميين والدوليين والسعي لاتفاق مع روسيا على هذا النهج، كذلك الاتفاق على آلية لإشراك النظام ضمن نهج الخطوة بخطوة"([1])  ثم تلاها الاتصال الأول من نوعه بين الملك عبد الله وبشار الأسد لبحث المبادرة.

بالتزامن مع ذلك، سرعان ما برز حراك غير مسبوق بلقاءات على مستوى وزراء الطاقة ممثلين عن دول الأردن ولبنان ومصر والنظام، من أجل التشاور حول خط الغاز العربي الذي كانت الأطراف تعتبر إعادة تفعيله يمكن أن يعزز خارطة طريق مهمة لاستعادة النظام لحضوره الإقليمي وتشجيعه على الانخراط في المسار كجزء من أدوات بناء الثقة([2])، لكن عدم قدرة النظام على الإيفاء بالمطالب الأردنية بشأن ضبط الحدود أدى لتلكؤ الاندفاع الأردني. مع هذا التريث، سعت الإمارات لإعادة ترتيب الظروف الإقليمية مستفيدةً من الخطوات الممهدة التي قامت بها من خلال استئناف العمل الدبلوماسي في السفارات منذ أواخر العام 2018([3])، وبالفعل خلال المرحلتين أي التمهيد ومن ثم الانخراط غدت الإمارات وسيطاً أساسياً في توسيع قاعدة الدول المتفاعلة مع هذا المسار من خلال فك العزلة عن النظام، تعزيزاً لدور إقليمي أوسع تكون "سورية" إحدى مداخله.

 تزايدت وتيرة التطبيع أواخر العام 2021 بعد زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان ولقاء بشار الأسد، وهي الأولى من نوعها لوزير عربي يزور دمشق منذ انقطاع العلاقات، الخطوة على ما يبدو أتت عقب اختبار جدية الطرح الأمريكي بخصوص نية العقوبات على اعتبار أنّه بقي ضمن إطار التصريحات التحذيرية دون أن يأخذ بعداً إجرائياً([4]).

خلّفت هذه الزيارة أرضية مناسبة لتوسع المسار، فانخرطت تباعاً عدة دول ضمنه: كتونس ومصر، فيما وسّعت أخرى لم يسبق لها قطع علاقاتها مع النظام من حراكها الإقليمي مثل: الجزائر والعراق ولبنان والبحرين وسلطنة عمان -ثاني الدول التي زارها الأسد- أملاً بإعادة النظام إلى الجامعة العربية خلال قمّة الجزائر عام 2022، شاهدةً على أكبر حراك دبلوماسي إقليمي-عربي في المنطقة بخصوص الملف.  ثم تبع ذلك جهوٰد استثنائية من نافذة "دبلوماسية الكوارث" ضمن كارثة الزلزال الذي ضرب سورية([5])، لتعزيز مواقف الفاعلين أو الموقف العربي تجاه التطبيع وقد استطاع بالفعل استقطاب دول تقود جهوداً معرقلة أهمها السعودية التي أرسلت قافلة مساعدات إلى دمشق كانت الأولى من نوعها وفتحت باباً للتواصل مع الأسد([6])، لترتسم ملامح التوجّه الجديد في الخطاب السعودي بشكل أوضح بشأن الملف السوري بعدما نبّه وزير الخارجية فيصل بن فرحان لضرورة البحث عن آلية تواصل مع دمشق عقب الحدث وبعدها تم في 18 نيسان/ أبريل 2023، عقد لقاءات متعددة من خلال زيارة وزير خارجية النظام فيصل مقداد للرياض، ولقاء وزير الخارجية السعودي ببشار الأسد في دمشق. بكافة الأحوال، فإنّ التغيير في الموقف السعودي قد يتبعه تحولات في المواقف الإقليمية العربية ولا سيما من الجانبين اليمني والمصري، الأخير الذي عزز من طبيعة تواصله السياسي والدبلوماسي مع النظام إثر اتصال جرى هو الأول من نوعه على مستوى الرئاسة بين بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، وتبعه زيارة وزير الخارجية المصرية لدمشق، مما أشار لتوفر أرضية إقليمية لصياغة توافقات أولية تجلت بزيارة ممثلين عن مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي لسورية، وسبقها بيان للاتحاد يؤكد على "ضرورة عودة سورية إلى محيطها الإقليمي".

من جهة ثانية، فقدت تركيا أوائل العام 2020 الرغبة بالاعتماد على ذات المنهجية في سياساتها الخارجية تجاه النظام، بعد تهاون حلف شمال الأطلسي بدعم العمليات العسكرية التركية شمال غرب سورية إثر انزلاق العلاقات مع الجانب الروسي بشأن تطبيق اتفاقية سوتشي ((2018 ووصولها إلى حد المواجهة المباشرة بين تركيا والنظام؛ مما دفع أنقرة بانتهاج  مقاربة " إعادة التوازن في العلاقة مع روسيا"،  والتي مهدت للقاء تركي غير مباشر مع النظام على شكل وساطة روسية بعد قمة موسكو في 10 آذار/ مارس 2020، أكدت فيه على "احترامها لسيادة الأراضي السورية والاتفاقيات الثنائية مع النظام"، بما فيها اتفاقية أضنة ((1998، التي تعتبر أبرز المبررات القانونية لخوض تركيا عملياتها العسكرية في سورية، كما أنّ محدد ضمان وحدة الأراضي السورية كان مشجعاً لدى الأطراف للخوض في مسار اختبار التطبيع، وقد بات ذلك واضحاً بتسارع العلاقات بين الجانبين التركي والنظام، من خلال لقاءات على مستوى الاستخبارات جرت على مدار أعوام 2019-2021 بررها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ضمن التعاون "لمحاربة التنظيمات الإرهابية".

ثمّ تطور المسار لدى انعقاد قمة طهران في 19 تموز/ يوليو 2022، التي كشفت وجود ملامح تعاون أولي بين تركيا وروسيا وعودة الحضور الإيراني ضد السياسات الأمريكية في سورية، كما شجعت الوعود الأمنية والاقتصادية من قبل الجانبين الإيراني والروسي الجانب التركي للتفكير برفع مستوى الانخراط بمسار اختبار التطبيع مع النظام، الذي توضحت أولى خطواته بعد ثلاثة أشهر، بكشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن لقاء جمعه بفيصل المقداد وزير خارجية النظام على هامش قمة عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلغراد. وتصاعد الحراك ليصبح علنياً ضمن "خارطة طريق" تجسدت بلقاء جمع وزراء الدفاع التركي والنظام في موسكو نهاية العام 2022، ووصل لحدود إشارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في نهاية شهر كانون الثاني/ أكتوبر 2023، بإمكانية رفع مستوى الحوار السياسي للرئاسي في إطار "عملية سلام" كما سمّاها في المنطقة، كما دفعت القابلية التركية تجاه هذا المسار، نحو خطوات سياسية أخرى تجلّت بعقد جولة في 10 أيار/ مايو2023، على مستوى وزراء خارجية تركيا وإيران وروسيا والنظام.

بالمجمل، يأتي المساران ضمن إطار البحث عن صيغ تفاهم جديدة بشأن الملف السوري من منطلقات تجاوزت معادلة "إزاحة الأسد" وتنظر إلى المشتركات والمصالح الإقليمية وتعلي من شأن دينامية "التواصل الإقليمي" ومتطلباته وتفصله عن مسار الحل السياسي، لكن من الواضح أنّ انفتاح النظام تجاههما متباين، فيما يبدو أنّه متحمس أكثر  تجاه المسار العربي، بينما يناور  في الانفتاح التركي وذلك يعود لصعوبة ثقته بالموقف التركي رغم الوساطة الروسية، إضافة لإدراكه لصعوبة تقديم أنقرة لتنازلات يريدها تحسم المعركة السورية لصالحه، على عكس الموقف العربي الذي يرفع من حظوظه الإقليمية والاقتصادية([7])، ما يمكن قوله إنّ المسارين انتقلا إلى مستويات جديدة سياسية ما بعد أمنية على الأقل التركي بعد لقاء على مستوى الوزراء، أو "استعادة النظام لمقعد سورية في الجامعة العربية".

التطبيع وثنائية الدوافع والمتطلبات الموضوعية

يرجع الإجماع لإعادة النظام إلى محيطه الإقليمي لإدراك "عبثية إبقاء الوضع القائم" بعد تراجع دعم المعارضة السورية وحظوظها في معركتها الصفرية مع النظام، وضرورة إعادة تعريف مواقفها من النظام انطلاقاً من مصالح أمنية أو تحديات داخلية أو تفاعلات إقليمية (انظر الشكل رقم 1)، ففي الحالة التركية فإنّها تتلخص  بتظافر هذه المنطلقات بدءاً من الاستحقاق الانتخابي في 14 أيار/ مايو 2023 والذي يرتبط بملف اللاجئين كونه أضحى ميداناً للاستثمار والتوظيف الحزبي، مروراً بضرورة محاصرة الإدارة الذاتية وما تحدثه من " تهديدات لأمن تركيا القومي"، وصولاً إلى الاستجابة للمتغيرات الدولية والاقليمية حيث تطمح أنقرة في "تعزيز فرص التكامل الإقليمي" ضمن تفاعلات الانفتاح العربي على النظام سيما تعزيز علاقاتها مع الجانب الروسي وإدارة علاقتها مع  الجانب الغربي والأمريكي ضمن سياسة "الحياد الإيجابي".

بينما ترى السعودية في تطبيع العلاقات، فرصة لأجل دفع العملية التفاوضية والتعامل مع عملية تهريب المخدرات  باعتبارها مهدد أمن مجتمعي ولإنهاء التوترات الإقليمية في المنطقة خاصة لدى دول الطوق ناهيك عن طموح استعادة الحضور الإقليمي العربي في قضايا المنطقة والتي تتسق مع رؤية 2030 التي تتبعها المملكة،  حيث دفعت بضرورة انطلاق مسار عربي جديد يحرك جمود المشهد السياسي ([8]) ويعيد تعريف ثقلها فيه من جهة، ويؤمن لها مساحة مناورة مع الفاعل الأمريكي بجانب رفض التكيف مع الأدوات التقليدية ومحاولة استخدام أدوات نوعية منسجمة مع المتطلبات الراهنة من جهة ثانية. في حين تعمل الإمارات على الملف من بوابة تعزيز حضورها الإقليمي النوعي([9]) واستعادة العلاقات الاقتصادية، إلا أنّها ما زالت تحاول منح النظام طوق نجاة دون إنعاشه بشكل كامل ريثما تنضج المعادلة الإقليمية ([10]).

أمّا على صعيد الأردن، فإنّها تندفع بتطبيع علاقاتها مكللةً بآمال تقليص قدرة الميليشيات المدعومة إيرانيا وشبكاتها العابرة للحدود ومنح النظام فرصة لمكافحة التجارة بالمخدرات، ويشكّل العامل الاقتصادي أهمية لدى الجانب الأردني على اعتبار أنّ سورية تمثل متنفساً لها، وتولي دول الطوق بما فيها الأردن اهتماماً بحل ملف اللاجئين السوريين من خلال استئناف العلاقات مع النظام وتعزيز التفاهمات مع الجانب الروسي بعد اليأس من إمكانية إيجاد حل دولي([11]) بينما ترغب مصر  (المنضمة لمجموعة 5+2) ([12])،استعادة دورها الجيوستراتيجي بالمنطقة رغم حفاظها على توزان علاقاتها مع النظام وتأطير التطبيع معه ضمن هوامش تعزيز التفاوض والدفع لأجل التوصل لحل سياسي([13]).

 

بالمقابل يحتاج مسار التطبيع العربي لتبلور مجموعة من العوامل الأساسية لتحقيق شروط إنجازه (انظر الشكل رقم 2)، فهو لايزال ضمن طور الاختبار العام، باعتباره خطوة ( كما يوضح الفاعلون) باتجاه التوصل لصيغ تفاهم جديدة في الملف السوري، وهذا ما سبق واستندت عليه السعودية في تحديد موقفها إذ ربطت تواصلها السياسي الأخير بأهمية إيجاد حل ورفض الوضع القائم في سورية([14])، ٰكما  يفتقر مسار التطبيع الإقليمي مع النظام، لعنصر التوافق، فما زال الموقف القطري والكويتي والمغربي بالتحديد رافضين لخطوة التطبيع على اعتبار أنّ نهج الأسد لم يتغير ليكون مشجعاً للمضي نحو ذلك ولا يوجد أي تقدم في ملفات المعتقلين والبيئة الملائمة لعودة المهجرين والعملية السياسية، ومع ذلك لم يعطلوا استعادة الأسد للمعقد "تماهياً مع الاجماع العربي".

كما يبدو أنّ الأردن متشجعة لمسار ثنائي أو إقليمي بشرط تذليل العقبات وإنهاء هواجسها بالتعاون معها بخصوص ملف المخدرات ([15])، مقابل ذلك صحيح أنّ خطوات الانفتاح المصري كانت متسارعة أثناء كارثة الزلزال، لكنها متسقة مع تطور الموقف السعودي، الذي يشهد تغيراً في التعاطي مع الملف، وقد تجلى بلقاء على مستوى الخارجية مع النظام، والحراك ضمن أروقة الجامعة العربية لمناقشة عودة مقعد سورية للنظام. في حين، لا تقل التحديات الأمنية صعوبةً، فما زالت الأردن ترى في انتشار الميليشيات المدعومة إيرانياً على طول حدودها تهديداً كبيراً لأمنها القومي وتحدياً للتطبيع، ولا سيما وأنّها تحوّلت إلى دولة عبور مهمة لتجارة المخدرات ولطالما أكّد الملك عبد الله عن الاستياء من تهديد أمن البلاد القومي ولعلّ إفراط شبكات النظام العسكرية خاصة الفرقة الرابعة -المتورطة مع القوات الإيرانية بتجارة المخدرات- بالاعتماد على سوق الحرب يقلل من حظوظ وفرص التطبيع ([16]).

 

 

إضافة لذلك، يمكن إضافة الموقف الغربي والأمريكي الرافض لهذا المسار كأحد أبرز العوامل المؤثرة في مسار التطبيع لا سيما ببعده الاقتصادي واستمرارية أداة العقوبات ([17]) إذ لا يزال الاعتبار الأوربي-الأمريكي حاضراً في تحديد الموقف العربي.

اتجاهات التطبيع: مسار تفاوضي تقني طويل 

لعلّ أهم معوّق في هذا السياق يرتبط بعدم تبلور التصور وافتقار الدول العربية لأدوات تنفيذ مبادرة عمّان وهو ما انعكس بصيغ "اللجان المعنية" مما يؤكد أنّ الاختلافات في الملفات التفصيلية أكبر من التوافق السياسي، كما  إنّه من غير الواضح مدى تلمس حدود ومقومات وأهداف وآليات هذا التصور النهائي، مما ينذر بغياب البديل عن إطار القرارات الدولية في مجلس الأمن، وقد أثبتت التجربة الأردنية مدى صعوبة تحويل الاختبار إلى خارطة طريق رغم الحوافز التي قدمتها للأسد بعد الاستعصاء الذي شهده مسار الخطوة بخطوة خلال عامي 2021-2023، وبالفعل انطلقت قطر من ذات التبرير لتؤكّد أنّ القرار الأممي (2254) هو الخيار الأمثل للحل السوري)[18](.

أمّا فيما يتعلق بالمعوقات التركية؛ وهي الاكثر تأثيراً على تغيير خارطة النفوذ العسكرية المتجمدة (انظر الشكل رقم 3) فإنّ حجم الملفات التقنية المرتبطة بأنماط الحكم في سورية، يسهم في تشكيل موقف ثابت معوّق للتطبيع  برفض انسحاب الجيش التركي من شمال غرب سورية، خاصةً وأنّ النظام يطالب بجدولة الانسحاب قبل الخوض في إمكانية إجراء المحادثات الثنائية على المستوى السياسي، الخطوة التي ترفضها تركيا بشدّة معتبرةً وجودها ضمانة لحفظ أمنها القومي، ورغم الحراك الدبلوماسي لا يبدو بأنّ الجانب التركي سيتراجع عن الموقف، خاصةً بعدما علل ذلك بمخاطر أمنية مرتبطة بملف اللجوء خلال توكيد الخارجية التزامهم بموقف إبقاء القوات عقب لقاء ثانٍ جمع وزراء الدفاع في العاصمة الروسية موسكو([19]).

في حين، يمثّل التخوف التركي من تداعيات الانسحاب من شمال غرب سورية تحدياً أمنياً كبيراً خاصة في ظل استمرار الادارة الذاتية بامتلاك أدوات القوة في شمال شرق سورية، إضافة إلى أنّ الانسحاب سيسهم في عودة تدفق اللاجئين الرافضين للنظام إلى تركيا سيما في ظل الاستقطاب الحاد الذي تعيشه داخلياً، وعملياً، فإنّ عدم قدرة النظام على توفير بيئة مشجعة لعودة اللاجئين سيقوض من تلك الجهود التي ترمي من خلالها تركيا وتحالف حزب العدالة والتنمية إلى تقليل حجم الاستثمار فيه ضمن الحياة السياسية الداخلية.

من جهة أخرى، يعتبر الموقف الغربي والأمريكي معرقلاً لتلك المساعي بكونه رافضاً للتطبيع ككل، بينما تركيا حريصة على توزان علاقاتها، لهذا فإنّ إحداث تغيير واضح في سياسة الحياد الإيجابي لم تظهر مؤشرات وازنة له بعد، والأكثر تعقيداً في هذا السياق هو صعوبة معالجة روسيا وإيران والنظام لملف الإدارة الذاتية بشأن إنهاء تواجدها عبر العلميات العسكرية التي تطمح أنقرة لتنفيذها فلا تزال كلمة الفصل هنا مرتبطة بالتموضع الأمريكي ونوعيته.

 

 

كما يتحدد الموقف التركي بمكان في سياق التقارب بالعملية السياسية باعتبارها تحفظ التزاماتها تجاه المعارضة السورية، حيث تدفع لإيجاد صيغة توافقية لإشراكها ضمن المعادلة السورية وفي أطر حلولها وهو أمرٌ مرفوض لدى النظام لإصراره على الحل الصفري العسكري من خلال الإطاحة بخصومه واستعادة سيطرته على كافة الأراضي السورية.

ولأسباب ذاتية متسقة مع بنية النظام وفلسفته الداخلية والخارجية (انظر الشكل رقم 4)؛ فإنّه يصعب عليه تذليل مجموعة من العقبات أمام مسار التطبيع، فما عدا التحديات الإقليمية لكل مسار ولكل دولة على حدة، فإنّه يتحمل مسؤولية التعامل مع ملف المخدرات والكبتاغون على اعتباره من الملفات الساخنة التي تطالب دول كالأردن باتخاذ خطوات عملية لحله.  كما ليس من اليسير عليه العمل الجدي على حل ملف التموضع الإيراني في سورية لكونه جزءاً أساسياً من تشكيله العام، وداعماً له خلال سنوات صراعه مع المجتمع السوري، أمّا بخصوص اللاجئين فيحتاج النظام إلى أرضية آمنة لا يستطيع توفيرها لاعتبارات اقتصادية وأمنية وسياسية، هذا ما عدا الاعتبارات السياسية لدى اللاجئين أنفسهم الذين يربطون العودة بالتحول السياسي والبيئة الآمنة التي توفر عودة كريمة.

وتشكّل قدرة النظام على تغيير طبيعته وسلوكه ونهجه عاملاً بارزاً، فأي تنازل يمكن أن يقدّمه سيعتبر خرقاً غير مسبوق سيما وأنّ طبيعته ذات النمط الثابت والصفري في التعامل مع الملفات تشير لمدى أهمية هذا التحدي، مما يغلب البعد الشكلاني في أي تنازل؛ كما أنّ التغيير لا يشمل فقط التعاطي مع الملفات الداخلية وإنما نهجه الخارجي وعدم العبث في معادلات أمن المنطقة.

 

 

في المجمل، يواصل الأسد تمسكه بسياسة "الصبر الاستراتيجي" بالمراهنة على تبدل الظروف الإقليمية والدولية، ساعياً للاستثمار بالمتناقضات دون تقديم أي تنازلات موضوعية ضمن مؤشرات وازنة تُحقق تقدّماً ملموساً ضمن متطلبات الدول الساعية للتطبيع، وقد رسخ نتاج الفترة الماضية قناعة لدى الأسد بضرورة مواصلة التعنت بما أنّه يفي بالغرض ويجلب المكاسب وإن كانت شكلية لا تؤدي لاستعادة النظام وزنه لكنها تكفي لاستمراره في السلطة.

ختاماً

 يمكن قراءة "مسارات التقارب" واستعادة النظام لمقعد سورية في الجامعة العربية أنّها تندرج ضمن إطار منحه فرصة لتحسين سلوكه وتغيير منهجه في التعامل مع الملفات الأمنية المطلوبة منه أكثر منها السياسية، ولا سيما بشأن التنسيق على المستوى السيادي في ملف المخدرات. مع ذلك فالعودة لا تعني استعادة حضوره في المنطقة بشكل كامل وهذا ما أكّد عليه بيان الجامعة العربية، من خلال الإشارة إلى ضرورة عدم ربط العودة بحل "الأزمة" السورية، كما أنّ الدور العربي محصور بالعلاقات السياسية دون إحداث قدرة في تغيير واقع "تمترس الجغرافيا" على عكس التركي الذي سيواجه صعوبات في مسار التفاوض التقني مع النظام.

إنّ مسار التطبيع وإن تم بالشكل الذي يأمله النظام، فإنه من المتوقع أن يصطدم بعدة عراقيل في مقدمتها الموقف الغربي والأمريكي الذي لا يزال يراهن على بقاء "الغموض البنّاء"، والانغماس الإيراني في الملف السوري، وانتشار التجارة غير الشرعية لا سيما تجارة المخدرات التي باتت تشكل أرقاً لأمن دول المنطقة، ناهيك عن صعوبة تجاهل القرارات الدولية أو تجاوز الملف الحقوقي الخاص بالانتهاكات والجرائم التي قام بها النظام.

إذاً: تخلق الحركيّة الجارية في الإقليم مساحات للنظام من أجل المناورة وأحياناً تكون غير مشروطة ولا تحتاج لتقديم تنازلات، لهذا يفضّل الأسد العلاقات الثنائية وبدرجة أقل تعزيز الإقليمية فمهما تطورت الأخيرة ستبقى أقل خطورة على بنيته ولا تتطلب تنازلات غير قادر على تقديمها، ربما لهواجسه بخصوص ما يترتب على نسج التوافق الإقليمي خلال المراحل القادمة بما فيها التماهي مع المسارات واستيفاء نهج الخطوة بخطوة الذي اعتبره العرب متمماً للقرارات الدولية.

 


([1]) فرنجية : "العربي الجديد ينشر مضمون "اللاورقة" الأردنية للحل في سورية"، العربي الجديد، 12 تشرين الأول 2021، الرابط: https://cutt.us/5WbeD

([2]) هشام حاج محمد: "خط عربي عبر سوريا"، الجمهورية، 23 تشرين الثاني 2021، الرابط: https://cutt.us/BBWVu

([3]) "الإمارات تعيد فتح سفارتها في العاصمة السورية دمشق"، عربي BBC، 27 كانون الأول2018 ، الرابط: https://cutt.us/8jrju

(5) Joseph Daher, The UAE and Damascus: The Normalisation of the Syrian Regime, 15 November 2021, Link: https://cutt.us/qoHt3

([5]) فاضل خانجي: "دبلوماسية الكوارث: سياسات التطبيع مع النظام في سورية"، 9 آذار2023 ، مركز عمران للدراسات، الرابط: https://cutt.us/OnEDk

([6]) "فرق بحث ومساعدات سعودية رسمية لسوريا.. ومصدر يكشف وجهتها"، الحرة، 10 شباط 2023، الرابط: https://cutt.us/qd0oK

([7])"سياسات التطبيع مع النظام السوري: انقسام إقليمي ودولي"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 6 شباط 2023،الرابط: https://cutt.us/7NcXm

([8]) "صدور بيان مشترك في ختام زيارة وزير الخارجية السوري للمملكة"، وكالة الأنباء السعودية، 12 نيسان 2023، الرابط: https://cutt.us/9gwvX

([9]) "التطبيع الإماراتي مع النظام السوري: خلفياته وأهدافه"، المركز العربي للأبحاث، 16 تشرين الثاني 2021، الرابط: https://cutt.us/o333X

([10]) "مجلس الأعمال السوري الإماراتي التجارة بين البلدين في المرتبة الأولى عربياً"، تلفزيون سوريا، 28 آب 2022، الرابط: https://cutt.us/tEtjZ

([11])  أرميناك توكماجيان: "تجارب الأردن تسلط الضوء على حدود العلاقات المتجددة مع سورية"، 6 آذار 2023، الرابط: https://cutt.us/RjIoP

([12])  وهي مجموعة تشكّلت العام 2018 مؤلفة من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والسعودية ومصر والأردن بهدف زيادة التنسيق والتواصل بخصوص الملف السوري ودفع العملية السياسية.

([13]) "معوقات في طريق تطبيع علاقات مصر مع النظام السوري"، العربي الجديد، 11 نيسان 2023، الرابط: https://cutt.us/6POMP

([14]) في 12 نيسان التقى وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان، بوزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في الرياض بزيارة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة.

([15]) "رويترز "الأردن سيقترح في قمة جدة خطة سلام لإنهاء الأزمة السورية"، تلفزيون سوريا، 14 نيسان 2023، الرابط: https://cutt.us/EQO5o

([16])  أرميناك توكماجيان: "الأردن يتلمس طريقه بحذر نحو التقارب مع سورية"، مركز مالكوم كير-كارنيغي، 24 أيار 2022، الرابط: https://cutt.us/S4cLz

([17])  فرض الاتحاد الأوربي عقوبات بحق 25 فرداً و8 كيانات منهم منحدرون من عائلة الأسد، في توقيت مهم يشهد خلاله مسار التطبيع تقدماً ملحوظاً، لتحمل تلك الخطوة رسائل موجّهة بثبات الموقف الغربي رغم التبدلات الإقليمية.

([18])  "قطر: القرار الدولي2254 هو الطريق الوحيد لحل مستدام في سوريا"، المدن، 26 نيسان 2023، الرابط: https://cutt.us/7nx11

([19]) " تركيا تجدد رفضها الانسحاب من سوريا"، الشرق الأوسط، 25 نيسان 2023، الرابط: https://cutt.us/OBOIl

 

التصنيف تقدير الموقف

قدم الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية محمد العبدالله تصريحاً لجريدة عنب بلدي ضمن تقرير معمق بعنوان " على وقع خطاب الكراهية المتنامي - #الاقتصاد_التركي.. ماذا لو رحل السوريون؟". بيّن فيه الباحث التداعيات المحتملة لمغادرة #السوريين على الاقتصاد التركي، والدور الذي يلعبه السوريين في هذا الاقتصاد.

للمزيد: https://bit.ly/3Ssmfhd

بتاريخ 18 أيلول 2022؛ قدم الزميل في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية نادر الخليل تصريحاً لـ جريدة عنب بلدي، ضمن تقرير صحفي بعنوان: ما الذي يطمئن المعارضة السورية للخطوات التركية نحو #دمشق"
تضمن توصيفاً لواقع ومأزق #المعارضة_السورية بسبب اخبار التقارب التركية مع نظام الأسد، وكيف عليها التصرف إزاء ذلك ضمن الخيارات الواقعية المتاحة بعيداً عن الخطابات الشعبوية.
 

 

فاضل خانجي

إثر موافقة مجلس بلدية بولو على مقترح رئيس البلدية، تانجو أوزجان، القاضي بمضاعفة الرسوم على الأشخاص من الجنسيات الأجنبية بما يتعلق بالخدمات العامة كالمياه والزواج، تُثار مخاوف من تحول خطاب الكراهية إلى سياسات ممنهجة تُنفذ على أرض الواقع، لا سيما مع كون ملف اللاجئين والمهاجرين بشكل عام، والسوريون منهم بشكل خاص، أحد القضايا الأساسية التي تُطرح على المستويين السياسي والاجتماعي، بالتزامن مع تصاعد خطاب الكراهية بمختلف مستوياته تجاههم.

حيث يتأثر هذا الخطاب بتوازنات السياسة الداخلية التركية وطبيعة التنافس السياسي بين الشخصيات والتشكيلات السياسة التركية من جهة، بالإضافة إلى التطورات المرتبطة بملف اللاجئين، كـ “موجة هجرة “الأفغان” أو التطورات السياسية والعسكرية المرتبطة بـ ” الملف السوري” من جهة أخرى.

ويأتي اقتراح القرار ومن بعده إقراره من قبل مجلس بلدية بولو والذي يقف خلفه رئيس البلدية، تانجو أوزجان المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، في الوقت الذي يسعى فيه الحزب بقيادة كمال كليشدار أوغلو، لتقديم خطاب “مقبول” تجاه السوريين، مستهدفاً به القاعدة الشعبية الانتخابية الرافضة لوجود السوريين عن طريق تركيزه على “إعادة السوريين لبلادهم خلال سنتين” وتحميل الحزب الحاكم مسؤولية قدومهم لتركيا نتيجة “السياسة الخارجية الخاطئة” التي اتبعها، بالتزامن مع التأكيد على أن تلك العودة ستكون بعد تأسيس السلام والأمن في سورية وأنه سيودع السوريين بـ”الطبل والزمر” بسلام وآمان وبشكل طوعي، في سعيه لإرضاء القاعدة الشعبية “اليسارية/الديمقراطية الاجتماعية” والمتنفذين منها داخل الحزب، والتي ترفض المواقف “الكمالية” و ”الوطنية” التقليدية للحزب بشكل عام، وخطاب الكراهية على أسس دينية، إثنية، عرقية أو جندرية من منطلق حقوقي إنساني.

ومع ذلك، وعلى الرغم من تقديم الحزب لخطاب “مقبول” نسبياً تجاه السوريين بالمقارنة مع خطابه سابقاً، إلا أنه لم يقم بتقديم خطاب متماسك من منظور “الديمقراطية الاجتماعية” التي يدعي تبنيها. إذ مازال الحزب يرى بأن طريق الحل في سورية بما يتضمن عودة اللاجئين، يكمن في إعادة العلاقات مع النظام السوري الذي انتهك جميع مواثيق حقوق الإنسان العالمية، وتعنت على مدار خمسين عاماً من تقديم أي تنازل سياسي لتمهيد الطريق لتأسيس ديمقراطية سورية.

بالمقابل، وبالاستناد للخطاب الحالي للحزب الرافض لـ ” العنصرية”، لم يقم الحزب – حتى الآن – باتخاذ إجراء حازم تجاه أوزجان، واكتفى بنفي تمثيل خطاب أوزجان للحزب. إذ يُشير ذلك إلى أن خطابات ومواقف الحزب ما زالت معنية بأثر الأخيرة على توازنات الحزب الداخلية والحسابات الانتخابية أكثر من تقديم خطاب أيديولوجي متماسك في سياق “الديمقراطية الاجتماعية”، مع الإبقاء على خطوط عامة لضبط وتقنين مستوى خطاب الكراهية وليس مكافحته.

بالمقابل، وعلى الرغم من استخدام قيادات في حزب الشعب الجمهوري لخطاب الكراهية بمستويات وسياقات عدة، إلا أن أوزجان قدم خطاباً عنصرياً بمستوى مرتفع، وحوله رسمياً إلى سياسات تتمحور حول “فوبيا الأجانب”، بشكل لا يتناسق مع الخط العام للخطاب الذي يقدمه الحزب بقيادة كمال كلشدار أوغلو، بل يجتاز الحدود الهشة الذي رسمها الحزب في هذا الصدد.

لهذا، فإن الخطاب الذي يستخدمه أوزجان، يبقى أقرب لحزب “الظفر” منه لحزب الشعب الجمهوري، وهو ما تُرجم بمباركة البرلماني عن حزب “الظفر”، اسماعيل كونجك، لأوزجان على مواقفه الأخيرة عبر تغريدة له على تويتر، والزيارة السابقة لذلك، التي قام بها رئيس الحزب، أوميت أوزداغ، لأوزجان والتي عبر فيها عن مساندته للأخير “لموقفه المعادي للإمبريالية بما يخص قضية النازحين”، في آب/أغسطس 2021. إذ يُعتبر خطاب الكراهية الذي يستعمله حزب “الظفر”، الأكثر حدةً تجاه السوريين والمهاجرين بشكل عام.

وفي هذا السياق، قامت وزارة الداخلية بفتح تحقيق بشأن القرارات التميزية التي اتخذها مجلس بلدية بولو، كما صرح وزير العدل التركي، عبد الحميد غول، بأن “الجميع متساوون في الاستفادة من الخدمات العامة”. وأن “من يحاولون زرع الكراهية والحقد في هذه الأرض سيبيؤون بالفشل”.

في حين انتقدت شخصيات معارض، حزب “الشعب الجمهوري”، لعدم اتخاذه إجراءً حازماً بحق أوزجان، إذ طالب عمر فاروق غارغارلي أوغلو، النائب البرلماني والقيادي في حزب الشعوب الديمقراطي، الشعب الجمهوري بإخراج أوزجان، واصفاً إياه بالعنصري. وذلك، إلى جانب انتقادات من نشطاء وإعلاميين ومناصرين لحقوق الإنسان للقرارات التمييزية، الأمر الذي يشكل عاملاً ضاغطاً إلى حد ما، على الشعب الجمهوري، باعتباره يتبنى “الديمقراطية الاجتماعية”، ويحرج الحزب بخصوص خطابه الجديد “المقبول” تجاه اللاجئين، والذي يدعي تناسقه مع “الديمقراطية الاجتماعية”.

أما بالنسبة لأوزجان؛ فلا يُعير الأخير اهتماماً بالخط العام للحزب، كونه رفع من حدة خطابه على الرغم من رفض حزبه لذلك، كما لا يتعلق خطابه بوجود إشكالية متعلقة باللاجئين يريد بالفعل حلَّها، خصوصاً وأن مدينة بولو لا تحوي عدداً كبيراً من الأجانب، وإنما تَرجع دوافعه إلى حافز سياسي شخصي، بحيث يسعى أوزجان للتحول من شخصية محلية على مستوى مدينة بولو إلى شخصية سياسية على مستوى تركيا ككل، وهو ما يتضح في إبداء رأيه في قضية مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية، ورفضه لترشح رؤساء الأحزاب في رسالة غير مباشرة لرئيس حزبه، كلشدار أوغلو، الذي يكثر الحديث عن احتمالية ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

مع ذلك، لا يبدو حزب الشعب الجمهوري  قد اتخذ قراراً حاسماً بشأن أوزجان بعد، وهو ما تجلَّى بتأجيل مجلس الانضباط في الحزب لقرار البت بحقه حتى كانون الثاني/يناير 2022، وكون القضية البارزة التي يتناولها مجلس الانضباط هي جمل مهينة وغير لائقة صرح بها أوزجان بحق  إحدى النساء التي طلبت مساعدة منه بخصوص إنجاب “طفل أنبوب”؛ الأمر الذي يعكس عدم وجود موقف صلب للحزب حالياً بخصوص خطاب الكراهية تجاه اللاجئين، لأسباب عديدة أبرزها التكلفة السياسية الانتخابية المحتملة لذلك، في ظل احتقان اجتماعي متصاعد تجاه اللاجئين والمترافق مع أزمة اقتصادية، ومحاولة حزب “الظفر” الذي أُسس حديثاً استثمار “ملف اللاجئين” عبر استخدام خطاب عنصري شديد الحدة وسعيه لسحب “ورقة اللاجئين” من يد الشعب الجمهوري، وحزب الجيد في الانتخابات المقبلة.

 لهذا، تبقى السيناريوهات مفتوحة بهذا الخصوص، لا سيما وأن الإجراءات التي يُمكن لمجلس الانضباط اتخاذها متعددة، بدءاً من “التنبيه”، مروراً بـ” الإدانة” و” الإخراج المؤقت”، وانتهاءً بـ” الإخراج النهائي”، ناهيك عن وجود ذرائع متعددة يُمكن لمجلس الانضباط استخدامها في اتخاذ إجراء معين بحق أوزجان، نظراً لوجود مواقف متعددة له تتناقض مع الخط العام للحزب في قضايا عدة.

 

المصدر: السورية نت

https://bit.ly/3ofy0uE

التصنيف مقالات الرأي

أثار الإعلان السياسي الأخير الذي طرحه حزب “الجيد” التركي بعنوان “طريق عمر”، جدلاً واسعاً في الوسط السياسي التركي، إذ اختلفت الآراء بين مؤيد للإعلان ينظر له كوسيلة جيدة للانفتاح على القاعدة الانتخابية المحافظة والمتدينة أو ما يطلق عليها اصطلاحاً “يمين-الوسط”، وبين معارض للإعلان ينظر له كخطاب يميني يبعد الحزب عن “سياسة المركز” الذي يدعي تبنيها.

وركز الإعلان المرئي في بدايته، على شعار العدالة لدى الخليفة عمر بن الخطاب، ومحمد الفاتح، في صيانتهما لحقوق غير المسلمين في زمانهما، وشعار العدالة لدى مصطفى كمال أتاتورك وقيادته لحرب الاستقلال وتأسيسه الجمهورية، ومن ثم استعرض أبرز الانجازات والصفات التي عُرف بها عدة سياسيون تُرك منهم من يُمثل خط “يمين-الوسط” مثل: سليمان دميرال وتورغت أوزال، ومنهم من يُمثل خط اليسار-القومي مثل: بولنت أجاويد، في حين يمثِّل نجم الدين أربكان خط “الملي غورش (الإسلاموي)”، وألبرسلان توركش الخط القومي التركي. ويُضاف إلى ذلك، إلحاق شخصيات يمينية أخرى في الإعلانات الملصقة في شوارع المدن التركية، كعدنان مندريس ومحسن يازجي أوغلوا؛ عدا عن كون الشخصية اليسارية الأبرز في الإعلان، بولنت أجاويد، تمتلك رصيداً شعبياً في الوسط اليميني أيضاً، نظراً لقيادته العملية العسكرية في قبرص في منصف سبعينيات القرن الماضي.

وفي هذا السياق، تثُار تساؤلات عدة حول جمع رمزية شخصيات سياسية قادمة من خلفيات أيديولوجية مختلفة – غالبها يمينية –  في خطاب حزب “الجيد”، وهو حزب ذو خلفية قومية تركية تأسس على يد شخصيات سياسية انشقت عن الحركة القومية.

 ومع ذلك، يبدو هذا طبيعياً من الناحية الأيديولوجية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحياة السياسة لرئيسة الحزب، ميرال أكشينار، والتي بدأت حياتها السياسية في حزب الطريق القويم اليميني، وأصبحت وزيرة للداخلية في الحكومة التي أسسها نجم الدين أربكان رئيس حزب الرفاه آنذاك بالتحالف مع حزب الطريق القويم في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم، وذلك قبل انضمامها للحركة القومية عام 2001.

بالمقابل، يبقى استخدام الرمزية الاسلامية التاريخية لشخصية عمر بن الخطاب في الإعلان السياسي، هي  النقطة الاستثنائية التي يجدر الوقوف عندها، كونها شخصية إسلامية وعربية في آن واحد، وكون حزب الجيد حزباً قومي النشأة ويشكل القوميون الترك النسبة الأكبر من شريحة ناخبيه في الاستحقاقات الانتخابية السابقة؛ لا سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحساسية الموجودة لدى شريحة واسعة من القوميين الترك تجاه العرب والمنطقة العربية، لأسباب عديدة تغلب عليها الذاتية أكثر من الموضوعية. يُضاف إلى ذلك الحساسية الموجودة لدى “العلمانيين/اللائكيين” من هذه الفئة تجاه الرموز الدينية، خصوصاً عند استعمالها في الخطاب السياسي، نظراً للقلق التاريخي الموجود لديهم من أن يشكل هذا الخطاب خطراً على علمانية الدولة.

وعليه، قام الإعلان بجمع رمزيتي عمر بن الخطاب ومصطفى كمال أتاتورك تحت شعار “لن نحيد عن طريق عمر وأثر أتاتورك”، في سعيه للتخفيف من حدة  الحساسية لدى شريحته الأصلية، بالتوازي مع سعيه لجذب شرائح انتخابية مختلفة. وفي ذات السياق، يُشير فاروق أجار – أحد خبراء الاتصال السياسي الذي ترك العمل مع حزب العدالة والتنمية مؤخراً لينتقل للعمل مع حزب الجيد – والذي يُعتبر “مهندس” حملة الإعلان السياسي الأخيرة لحزب الجيد؛ إلى أن حزب “الجيد” أُسس بهدف التموضع كحزب “مركز”، إلا أنه حتى الآن لاقى دعماً من قاعدة “علمانية” بشكل أكبر، وأن هدف حملة “طريق عمر” هو إنشاء خطاب متكامل مستند على سياسة المركز.

وفي تعليقه على الانتقادات التي  وجِّهت للحملة من قبل العديد من الشخصيات البارزة في الوسط العام، أشار أجار إلى أنهم “لم يقوموا بتصميم الحملة بحسب ما يريد خبراء التواصل وقادة الرأي سماعه، وإنما بحسب ما يريد المواطن والجمهور سماعه”. كما يعتبر أجار بأن الانتقادات التي وُجهت للحملة طبيعية، مؤكداً أن “هدف الحملة ليس فقط تويتر، بل أي قرية موجودة في ساحل البحر الأسود أو مرتفعات البحر المتوسط، أو أي مطعم موجود شرق تركيا، باختصار هي حملة تُرسل رسائل يسهل فهمها في جميع أنحاء تركيا”.

لذلك، وبالأخذ بعين الإعتبار تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، واتساع شريحة “المترددين” من الناخبين في استطلاعات الرأي الحالية، إلى جانب حقيقة أن السياسة التركية غالباً ما هيمنت عليها الأحزاب اليمينية على مستوى الاستحاقاقات الانتخابية؛ يُمكن القول بأن حزب الجيد يَسعى – حالياً –  إلى كسب شريحة المترددين على المدى القريب، ومن ثم التحول إلى حزب “يمين-الوسط” الأكبر على المدى المتوسط والبعيد. ومع ذلك، تبقى تلك المهمة صعبة، لا سيما مع التنافسية العالية بوجود عدة أحزاب تتموضع في “يمين-الوسط”، أبرزها حزب العدالة والتنمية الذي ما زال يحتفظ بقاعدة انتخابية صلبة رغم تراجعها، وكل من حزبي المستقبل بقيادة أحمد داوود أوغلو، والديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان، المنشقان عن العدالة والتنمية.

 

المصدر: السورية نت https://bit.ly/3l13hiZ 

التصنيف مقالات الرأي

ملخص تنفيذي

  • يسعى تقدير الموقف للإجابة عن سؤال دوافع وحيثيات ودلالات الموقف الرسمي التركي ومواقف الأحزاب المختلفة في سياق عوامل الأمن القومي، وملف اللاجئين وديناميكيات السياسة الداخلية، والسردية التي يقدمها كل حزب للمشهد السوري.
  • يختلف تعاطي الأحزاب السياسية التركية مع "الملف السوري"، بحسب الخلفية الأيديولوجية والقاعدة الشعبية الانتخابية من جهة، والتموضع السياسي لكل منها بين تحالف حاكم وأحزاب معارضة من جهة أخرى.
  • تتباين مواقف الأحزاب التركية تجاه الفواعل العسكرية المتواجدة في الجغرافية السورية والتواجد العسكري التركي هناك من جهة، وتجاه ملف اللاجئين من جهة أخرى؛ وتمتلك مواقف مختلفة بشكل جزئي أو كلِّي بخصوص "الملف السوري" في هذا السياق.
  • على الرغم من تلاقيها في انتقاد السياسة الخارجية للحكومة، لا تمتلك أحزاب المعارضة موقفاً واحداً أو سرديةً واحدةً تجاه المشهد السوري، لا على مستوى الفواعل العسكرية المتواجدة في الجغرافية السورية، ولا على مستوى ملف اللاجئين أو أطروحة الحل لـ "الملف السوري".

 

 

مدخل

بعد مصادقة البرلمان التركي على مذكرة/قرار رئاسة الجمهورية في أواخر أيلول/سبتمبر 2021،([1]) والتي تم بموجبها تمديد صلاحية إرسال قوات خارج البلاد، إلى سورية والعراق، وإثر انقسام الأحزاب التركية بين مؤيد ومعارض للمذكرة؛ تُثار تساؤلات حول حيثيات ودلالات مواقف هذه الأحزاب لا سيما مع تصاعد حدة الاستقطاب في المشهد السياسي الداخلي التركي مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقرر في حزيران/يونيو 2023، خصوصاً وأن "الملف السوري" يُشكل أحد أهم الملفات "المثيرة للجدل" بالداخل التركي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وذلك بكل ما يتضمنه من إشكاليات معقدة أبرزها: التشكيلات دون الدولتية  والمتمثلة بشكل رئيسي بـ"قوات سورية الديمقراطية – قسد" و"هيئة تحرير الشام – هتش" وانعكاساتها على الأمن القومي التركي، والعلاقة مع الفواعل الإقليمية والدولية، وإشكالية اللاجئين وموجات الهجرة المحتملة. يُضاف إلى ذلك إثارة مسألة إعادة العلاقات مع النظام السوري من قبل أطياف عدة في المعارضة التركية.

 في هذا السياق، تتباين مواقف الأحزاب التركية المختلفة تجاه "الملف السوري" بشكل عام، وتجاه التدخل العسكري التركي في سورية بشكل خاص، سواء من ناحية السردية التي تقدمها للمشهد السوري، أو من ناحية الدوافع الكامنة وراء اتخاذها لقرار تأييدها لـ "المذكرة" ومستوى هذا التأييد، لا سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخلفيات الأيديولوجية المختلفة، والتموضع السياسي لكل منها بين: تحالف حاكم، وأحزاب معارضة. وهو ما تجلى بشكل واضح في جلسة التصويت على المذكرة؛ إذ صوت كل من حزب العدالة والتنمية (AK Parti)، وحزب الحركة القومية (MHP)، والحزب الجيد (İYİ Parti)، لصالح المذكرة؛ بينما صوت ضدها كل من حزب الشعب الجمهوري (CHP)، وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP)([2]).

وعليه يسعى تقدير الموقف هذا إلى استعراض محددات الأحزاب التركية المختلفة تجاه القرار، وحيثيات مواقفها ودلالاتها المختلفة، إضافة إلى تقديم خطوط عامة لاتجاهات هذه المواقف والعوامل التي تحكم ثباتها أو تحولها.

محددات الموقف الرسمي... (تهديدات أمنية وموجات هجرة محتملة)

تستند المذكرة التي قدمتها رئاسة الجمهورية، والتي تمت المصادقة عليها كقرار من البرلمان التركي، على "اتخاذ جميع التدابير اللازمة في إطار القانون الدولي ضد الحركات الانفصالية والتهديدات الإرهابية وجميع المخاطر الأمنية التي تهدد الأمن القومي لتركيا، والقضاء على أي هجمات أخرى من جميع المنظمات الإرهابية في العراق وسورية، وضمان الحفاظ على الأمن الوطني ضد المخاطر المحتملة الأخرى، مثل الهجرة الجماعية"، بالإضافة إلى إشارة القرار إلى "المخاطر والتهديدات المستمرة التي تستهدف فعاليات إنشاء الأمن والاستقرار، في إدلب، في إطار عملية أستانا"([3]).

لذلك؛ يُمكن القول بأن الأولوية الحالية للسياسة الخارجية التركية تتمثل في منع تشكُّل أي كيان حوكمي إثني في سورية، وإبعاد "قسد" والتشكيلات المرتبطة بها عن الحدود التركية، وصولاً إلى الحد من نشاط "حزب العمال الكردستاني" والمجموعات المرتبطة به في المنطقة، بالتوازي مع الحفاظ على الحد الضروري من الاستقرار النسبي في إدلب بشكل يمنع حدوث موجة هجرة جديدة تجاه الحدود التركية، وتراعي هذه الأولوية حساسية ملف الإرهاب للأمن القومي التركي على مدى العقود الأربعة السابقة، إضافة إلى الحساسية الكبيرة على المستوى التركي الداخلي تجاه أي موجة لجوء محتملة، في حال شنَّ النظام السوري عملية عسكرية واسعة في إدلب، الأمر الذي سيثير ردة فعل غاضبة على المستويين الاجتماعي والسياسي، خصوصاً مع التصاعد المتزايد للاحتقان الاجتماعي وخطاب الكراهية تجاه اللاجئين والمهاجرين بشكل عام، والسوريين منهم بشكل خاص([4]).

 وفي ذات السياق، يُلاحظ إيلاء الحزب الحاكم أهمية لمسألة الاستقطاب السياسي وتفاعله مع "الملف السوري"، وذلك من خلال تمديده المذكرة لعامين مقبلين، حتى تشرين الأول من العام 2023، أي لما بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة والمقرر عقدها في حزيران من العام ذاته، وهي المرة الأولى التي تتم فيها المصادقة على المذكرة لمدة سنتين، بعد أن كانت المصادقة تتم لمدة عام واحد فقط في السنوات السابقة، وهو ما يمكن تفسيره بتجنب أن تكون المذكرة في مركز الحسابات الانتخابية العام المقبل، خصوصاً مع تصاعد الاستقطاب السياسي كلما اقتربت البلاد من موعد الاستحقاق الانتخابي.

وعلى الرغم من تصدر حزب العدالة والتنمية (AK Parti) واجهة الاستقطاب السياسي بما يتعلق بـ "الملف السوري" والتدخل العسكري خارج البلاد، إلا أنه لا يمكن إهمال موقف حزب الحركة القومية (MHP) المؤيد للموقف الرسمي التركي، كونه حزباً حليفاً للأول في تحالف "الجمهور"، ويُعتبر بشكل أو بآخر فاعلاً سياسياً يُسهم في صياغة موقف التحالف، وبالتالي الموقف الرسمي للحكومة. علاوةً على كونه حزباً "قومياً-يمينياً"، يمتلك تقليداً سياسياً صلباً تجاه القضايا الأمنية بشكل عام، ومسألة "الإرهاب" و"حزب العمال الكردستاني" بشكل خاص.

أحزاب المعارضة... (مواقف متباينة ودلالات مختلفة)

يجتمع كل من حزب الشعب الجمهوري (CHP)، وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) بالتصويت ضد القرار، إلا أنهما يختلفان في الدوافع التي تقف وراء موقفهما. فقد اعتاد حزب الشعب الجمهوي (CHP) أن يصوت لصالح القرار في السنوات السابقة، إذ صوت بنعم لصالح القرار في العام 2020 تحت حجة حماية حياة الجنود الأتراك هناك ومكافحة الإرهاب([5])، وهو ما يمثل الموقف التقليدي الحازم للشعب الجمهوري (CHP) في القضايا الأمنية، في حين أن الشعوب الديمقراطي (HDP) كان وما يزال يرفض التدخل العسكري التركي في سورية، وذلك كون التدخل يستهدف بشكل أساسي المجموعات المسلحة التابعة لـ"الإدارة الذاتية"، والتي ينظر إليها الحزب كـ"مبادرة قيّمة" في برنامج الحزب الرسمي، في حين تنظر لها الأحزاب التركية الأخرى بشكل عام ككيان "إرهابي"، الأمر الذي يشكل أحد العوامل التي تجعل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) موصوماً بتهمة "الإرهاب" وعدم فكه الارتباط بـ"حزب العمال الكردستاني".

وفي الوقت الذي يصف فيه الشعوب الديمقراطي (HDP) المذكرة على أنها "تذكرة عداء الكرد... وتقدم يد العون للجيش السوري الحر، وتنظيم الدولة، والنصرة " مصنفاً "الجيش السوري الحر" في خانة "التنظيمات الإرهابية"، ويصرح بأن "شمال وشرق سورية ممر للسلام بين الشعوب، وممر للاستقرار والديمقراطية"([6])، إضافة إلى رفضه لإعادة اللاجئين وخطاب الكراهية المتصاعد تجاههم([7])؛ فإن الشعب الجمهوري (CHP) يرى بأن الحل يكمن في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، وفي "تسهيل إمكانية تأسيس الأسد لوحدة الأرض، والسيادة والوحدة السياسية في بلاده"، مع تأكيده على إمكانية القيام بمكافحة الإرهاب بالتعاون مع النظام السوري، وبوجود إمكانية لإيقاف "الحرب الأهلية" في سورية وتأسيس السلام وإعادة السوريين إلى بلادهم بـ"سلام"([8]).

 لذلك، نجد بأن الدوافع وراء اتخاذ الحزبين قرار التصويت ضد القرار مختلفة، فالشعوب الديمقراطي (HDP) يمتلك موقفاً كان وما زال صلباً وثابتاً ضد التدخل العسكري التركي خارج البلاد، وذلك لدوافع أيديولوجية – إن صح التعبير – تتجلى في خطابه المؤيد لـ"الإدارة الذاتية" في سورية؛ في حين يمكن تقييم موقف الشعب الجمهوري (CHP)، كخطوة تكتيكية لزيادة الضغط على الحزب الحاكم بشأن "الملف السوري"، وكسب أصوات الشعوب الديمقراطي (HDP) في الانتخابات الرئاسية المقبلة على غرار ما حدث في الانتخابات المحلية (انتخابات البلدية) في كل من اسطنبول وأنقرة والتي لم يرشح فيها الأخير مرشحاً عنه، إذ يعمل الشعب الجمهوري (CHP) بذلك على محاولة حفاظه على تموضع سياسي يمكنه من التنسيق بين أطياف المعارضة المختلفة بغض النظر عن خلفيتها الأيديولوجية أو أسباب معارضتها للحزب الحاكم.

على الجانب الآخر، وعلى الرغم من كون الحزب الجيد (İYİ Parti) حزباً حليفاً للشعب الجمهوري (CHP) في تحالف "الملةMillet/"، إلا أنه صوّت لصالح المذكرة/القرار، تحت ذريعة حماية الأمن القومي. وبالتوازي مع ذلك، انتقد الحزب سياسة الحكومة التركية تجاه "الملف السوري"، متبنياً سردية "أن طريق الحل في سورية، لا يمر فقط من موسكو وواشطن، وإنما من دمشق أيضاً"([9])، فلطالما طالب قياديون في الحزب الجيد (İYİ Parti) بإعادة فتح القنوات الدبلوماسية مع النظام السوري، كخطوة لحل المعضلة السورية، بما يتضمن إعادة اللاجئين. لذلك، يُمكن تفسير موقف الحزب، برغبته بالتمايز عن الحزب الحاكم من جهة، وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) من جهة أخرى.

 

خاتمة

بالاستناد إلى ما سبق، نلاحظ اختلاف تعاطي الأحزاب السياسية التركية مع "الملف السوري"، بحسب الخلفية الأيديولوجية والقاعدة الشعبية الانتخابية والتموضع السياسي لكل منها بين تحالف حاكم وأحزاب معارضة، إذ يختلف بالضرورة موقف الحزب المتموضع في موقع المسؤولية في الحكم عن المعارض، الذي يسعى لرفع أسهمه في الانتخابات المقبلة أو المحافظة على تقليده السياسي في هذا الصدد.

لذلك، لا تبدو أحزاب المعارضة إلى الآن مؤثرة في صياغة التصور العام للسياسات تجاه سورية في الوقت الراهن، على الرغم من تأثير أطروحاتها على المستوى الإعلامي والاجتماعي، إذ تُعنى مواقفها وأطروحاتها بديناميكيات السياسة الداخلية وتموضعها السياسي وقاعدتها الشعبية، أكثر من واقع الجغرافية السورية وديناميكيات السياسة الدولية ذات الصلة.

لهذا، يبدو بأن الحزب الحاكم سيبقى الموجِّه الرئيسي لبوصلة السياسات تجاه "الملف السوري"، وفق محددات الأمن القومي و"خطر" موجات الهجرة المحتملة وطبيعة علاقته مع حليفه الحركة القومية (MHP) بالدرجة الأولى، وديناميات السياسة الداخلية بالدرجة الثانية؛ وذلك حتى موعد الاستحقاق الانتخابي المقرر عقده في حزيران/يونيو 2023.

بالمقابل، تبقى كل هذه المواقف؛ سواء تجاه الفواعل على الجغرافية السورية، أو ملف اللاجئين السوريين عرضة للتبدل والتغير، الجزئي أو الكلي، بحسب التغيرات التي قد تطرأ على التموضع السياسي للأحزاب وديناميكيات السياسة الداخلية، أو ما قد يفرضه طول أمد "الأزمة" والعوامل المركبة والمعقدة، والمرتبطة بالفواعل الإقليمية والدولية وطبيعة مواقفها تجاه "الملف السوري"، والتطورات الميدانية في الجغرافية السورية.

 


 

([1]) Karar No. 1310, Türkiye Büyük Millet Meclisi Resmi İnternet Sitesi, 26.10.2021,  Link: https://cutt.us/MsRTG

([2])  TBMM Genel Kurulunda, Irak ve Suriye tezkeresinin süresi 2 yıl daha uzatıldı, Anadolu Ajansı, 26.10.2021, Link: https://cutt.us/ehJCn   

([3])  Karar No. 1310, Türkiye Büyük Millet Meclisi Resmi İnternet Sitesi, 26.10.2021, A.G.K.

([4])  السوريون في تركيا وحكاية “الملف المؤجل”..أيُ حلول وخيارات مستقبلية؟، السورية نت، 17 ايلول/سبتمبر 2021، انظر الرابط: https://cutt.us/mYutV

([5]) Yıldız Yazıcıoğlu, Irak ve Suriye Tezkeresi TBMM'de Kabul Edildi, VOA Türkçe, 08.10.2020, Link: https://cutt.us/Bp621   

([6]) Buldan: Bu tezkere iktidarın gidiş tezkeresidir, HDP Sitesi, 26.10.2021, Link: https://cutt.us/NJWwX

([7])  حمزة خضر، "قضية الموز".. أحزاب معارضة وحقوقيون أتراك يستنكرون قرار ترحيل سوريين، تلفزيون سورية، 29 تشرين الأول/أكتوبر 2021، انظر الرابط: https://cutt.us/uxcQv

([8]) CHP’li Çeviköz: “Tezkerelerin süresini uzatmakla ömrünüzü uzatmaya mı çalışıyorsunuz?”, 26.10.2021, Link: https://cutt.us/HnC5d 

([9])  Tezkere Meclis’ten geçti, Tele1, 26.10.2021, Link: https://cutt.us/cKRXN

التصنيف تقدير الموقف

بتاريخ 13 تشرين الأول 2020، وخلال مقابلته مع جريدة القدس العربي، رأى الباحث لدى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية محمد منير الفقير، أن تجزئة الخلافات بين موسكو وأنقرة لا تتم بين الطرفين عمودياً بل أفقياً، بمعنى أن ساحة الخلافات التكتيكية على المستويين الأمني والعسكري ممتدة من أذربيجان إلى ليبيا مروراً بسورية، وهذا منفصل عن ملفات التعاون والتنسيق الأخرى بين البلدين كالاقتصادية وغيرها، معتقداً الفقير أن الخيارات في إدلب ومحطيها مفتوحة للتصعيد وليس للحسم على أي صعيد في الفترة المقبلة وصولاً إلى لحظة الانتخابات الأمريكية.

المصدر القدس العربي: https://bit.ly/3kdIplY 

في تموز 2020 أَعلَن المجلس العربي للجزيرة والفرات، وتيار الغد السوري، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، والمجلس الوطني الكُردي تشكيل جبهة السلام والحرية في مدينة القامشلي. ووفقاً لبيان التأسيس فقد أتت الجبهة نتيجة رؤى سياسية متقاربة، وعمل مشترك في المرحلة المنصرمة، مما أدى للتوافق على تشكيلها.

تزامن هذا الإعلان مع تفاعلات سياسية تشهدها المنطقة سواء من حيث زيادة النشاط التنافسي بين روسيا وأمريكا في المنطقة أو من حيث التفاعلات المحلية الدافعة أو الممانعة للعملية التفاوضية بين المجلس الوطني الكُردي وحزب الاتحاد الديمقراطي. وعليه سيحاول تقدير الموقف هذا تسليط الضوء على مدلولات هذا الاعلان واختبار التماسك البنيوي بين الكيانات الموقعة على الاتفاق بالإضافة إلى محاولة الإحاطة بسياق التشكل وتحدياته ومآلاته.

توافق رؤى أم ضرورة آنية؟

شهدت منطقة "شرق الفرات" عدة محاولات للتحالف والائتلاف بين القوى السياسية، لاسيما تلك المحاولات التي سعت إليها بعض القوى السياسية الكردية للوصول إلى اتفاقٍ سياسي لتوحيد القوى السياسية والعسكرية. أما المحاولات التي سعت إليها بعض القوى العربية، فإنها اتخذت شكلين: أحدها عشائري تمظهر في تشكيل عدة جبهات وتحالفات عشائرية عربية بالأخص في تركيا، وترافقت إما مع العمليات التركية العسكرية داخل سورية، أو كردة فعل على التفاعلات لبعض القوى السياسية الكردية. والشكل الآخر تمحور في تنظيم فعل مجتمعي ضد "الاستئثار الكُردي" بالقرار العسكري والسياسي في المنطقة. ولم يستطع الطرفان لا العربي ولا الكُردي إلى الآن تشكيل جبهاتٍ وتحالفاتٍ بينية أو مشتركة قوية ومتماسكة خلال سنوات الصراع.

يطرح هذا التشكيل الجديد عدة بنود متعلقة بالمفاهيم والمبادئ العامة للوطنية واعتبارها إطاراً جامعاً للسوريين، وأساساً لبناء الدولة السورية. أما البنود المتعلقة بشكل الدولة وطبيعة نظامها فقد تم التوافق على "اللامركزية" دون تحديد أبعادها السياسية أو الإدارية، وهي نقطة استطاع المجلس الوطني الكُردي والمجلس العربي في الجزيرة والفرات من ردم بعض المسافة بين طرحيهما. فالأول يطالب بفدرالية/ أو لامركزية سياسية موسعة، بينما يرى المجلس العربي أفضلية تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة، مع التطرق لضرورة أن يكون النظام السياسي في سورية متمثلاً ببرلمان ذي غرفتين: تخصص الأولى لممثلي الشعب المنتخبين، والثانية لممثلي المناطق والقوميات والأديان.([1])

وتكمُن النقطة المهمة في هذا التشكيل هو تعريفه كجزءٍ من المعارضة السورية ملتزمة بالقرار 2254 كأساسٍ للحل في سورية، تحت رعاية الأمم المتحدة، مع ضمان تحقيق العدالة الانتقالية([2]). وهذا حسمٌ مهم من حيث الابتعاد عن "وسطية غير موضوعية" في المواقف الوطنية، والابتعاد عن الاصطفاف تحت شعار "الطرف الثالث، أي لا إلى جهة المعارضة ولا إلى جهة النظام"، بشكلٍ يخرجه من دوائر التفاعل السياسي في منطقة تسيطر عليها قوة سياسية تعرف نفسها كطرف ثالث – حزب الاتحاد الديمقراطي -ضمن واقع الصراع والثورة السورية.

يتضح من ورقة الرؤية السياسية لجبهة الحرية والسلام بأن المجلس الوطني الكُردي لم يصر على ضرورة ذكر اللامركزية السياسية بشكلها المتمثل في فدرالية قومية، وهو ما تؤكد عليه وثائق المجلس الوطني الكُردي ورؤيته السياسية، في حين تم تجزئة مطالب المجلس الوطني الكُردي إلى بنودٍ توافقية لا تكون حصراً بالأكراد إلا البند السادس المتعلق بالاعتراف الدستوري بهوية الشعب الكردي. من جهة أخرى تتفق بنود الرؤية مع جزء مهم من الرؤية السياسية للمجلس العربي، في طرحه للامركزية الإدارية الموسعة، مع ضمان حق تعليم اللغة الأم لمكونات المنطقة الشرقية، وتطرقه لموضوع التوزيع العادل للثروات الباطنية.

أما فيما يخص الرؤية السياسية الخاصة بتيار الغد السوري، فهي رؤية سورية عامة لا تتقاطع بشكلٍ كبير في التفاصيل مع رؤية المجلس الوطني الكُردي، إلا في طرح اللامركزية الخاصة بالمحافظات فيما يخص انتخاب المحافظ وبقية السلطات المحلي، والتأكيد على ضرورة تقليص سلطات رئيس الدولة([3]).

تتوافق الأطراف الثلاثة المكونة لهذا التشكيل فيما يخص إدارة المنطقة ورؤية اللامركزية الإدارية الموسعة كحدٍ أدنى للشكل الإداري المحلي، وضرورة الاعتراف الرسمي بالهويات واللغات السورية جميعها.

الجبهة والسياق المحلي

بالنسبة لعامل التوقيت؛ فإنه يمكن تبيان أن الأطراف الموقعة على الرؤية السياسية لم تصل إلى مرحلة الإشهار إلا بعد عدة أشهرٍ من الحوارات والمفاوضات البعيدة عن الأضواء والإعلام. وتزامنت بدايتها مع بدء الحوارات الكُردية البينية، ومع تطور الأخيرة لتتجاوز مرحلة الاتفاق على المبادئ السياسية العامة في 17/06/2020،([4]) والانتقال للمرحلة الثانية في 02/08/2020،([5]) بين الطرفين الكرديين، تعالت الأصوات داخل شرق الفرات وخارجه لبحث مصير مكونات المنطقة، وموقعها ضمن الحوارات الكردية والمرحلة اللاحقة لها في حالة انتهت بنجاح. وشهدت المنطقة تفاعلاتٍ باتجاه تشكيل تحالفات وهيئات جديدة، منها ما أقدم عليه حزب الاتحاد الديمقراطي ومجموعة من الأحزاب المنضوية في الإدارة الذاتية والمقربة منه عبر إعلان تحالف أحزاب الوحدة الوطنية الكُردية في 19/05/2020.

أيضاً اُعلن في 11/07/2020 في ريف دير الزور تشكيل "الهيئة السياسية لدير الزور" تحت أنظار قوات سوريا الديمقراطية مع رفع شعار لا للتبعية، لا للوصاية، لا للتهميش([6]). وهي جزء من التوجهات التي تحاول التفاعل ضمن المشهد السياسي بشكلٍ يقلل من سلطة العناصر المقربة من حزب الاتحاد في المنطقة، وتمنع عودة النظام، وتوسع إيران في المنطقة.

كما تم تشكيل العديد من الهيئات والتجمعات العشائرية السياسية في تركيا من قبل شخصيات وتنظيمات من شرق الفرات بشكلٍ رئيسي. وتقوم بتبني تمثيل أهالي المنطقة من جهتها وترفض الحوارات الكُردية البينية، وإبقاء المناطق العربية ضمن سيطرة قسد. ولم تتمكن معظم الأطراف إلى الآن القيام بتشكيل تحالفٍ متنوع مبني على رؤى سياسية متوافقة بعيدة عن التوترات التي تحكم المنطقة، ولا تكون مبنية على ردات فعل. ويمكن اعتبار جبهة السلام والحرية التحالف الأول بين مكونات عدة من أبناء المنطقة تتمتع بوجود جزء مهم من قيادتها في الداخل، ولها حضور بارز في الملف السوري خارجياً مما يشكل اختباراً جدياً لها بالتماهي والاتساق البيني حيال التعاطي مع تطورات المشهد.

أما فيما يخص المتغيرات في الداخل، فيمكن اعتبار قدرة الحوارات الكُردية البينية -برعاية أمريكية-على الاستمرار حتى الآن هي العامل الأهم. وفي حال نجاح الحوار بين المجلس الوطني الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية، ستكون خطوة نقل الحوار إلى منصة أوسع تشمل بقية المكونات على اختلاف اصطفافها المحلي العقبة الأهم أمام المتفقين.

ومن التطورات المحلية إعلان عقد اتفاقية لبيع النفط بين قيادة قوات سوريا الديمقراطية، وشركة أمريكية. وقد يؤشر هذا العقد إلى استقرار مرحلي لسلطة قسد، وبالتالي حزب الاتحاد الديمقراطي PYD المحرك الفعلي لها وللإدارة الذاتية، إلا أنه يمثل عاملاً للتنازع أيضاً نتيجة وجود رفضٍ شعبي ووطني سوري لإدارة وتصرف طرف محلي في مصير ثروة وطنية ولانعدام الشفافية المالية لدى الإدارة الذاتية وقوات قسد.([7])

أيضاً ترافق هذا التشكيل مع حراك شعبي واسع في دير الزور ضد المناهج التعليمية التي فرضتها الإدارة الذاتية على مدارس المنطقة. وتصاعدت الاحتجاجات المجتمعية ضد ما تحتويه هذه المناهج من مواد وأقسام لا تتوافق مع جملة من الأخلاق المجتمعية والمبادئ الدينية لسكان المنطقة، مما صعد من توتر في المنطقة كان في الكثير من الاحيان يُوجه ضد "الكُرد" باعتبارهم القيادة الفعلية للإدارة الذاتية. وفي حال تطورت حركية "جبهة السلام والحرية" فيمكنها التأثير في هذا الاتجاه من ناحية توحيد الضغط المجتمعي على الإدارة الذاتية، كون الاطراف الأربعة المجتمعة ضمنها تتبنى مواقف متقاربة من العملية التربوية في مناطق الإدارة الذاتية.

أما خارج سورية فقد كان تصريح المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون بالتوافق على عقد اجتماعات اللجنة الدستورية نهاية شهر آب، حدثاً سورياً مهماً فيما يخص الأطراف المتفقة داخل جبهة السلام والحرية، فاتفاقهم على رؤية سياسية موحدة هي تقوية لمواقف هذه الأطراف بشكلٍ مستقل ضمن اللجنة الدستورية، كما هو عاملٌ مهم لتقوية الجبهة السياسية لهم على الأرض شرق الفرات.([8])

فاعلية محتملة وتحديات صعبة

تتمتع الجبهة المشكلة حديثاً بنقاط قوة تحتمل التطور النوعي والفاعلية السياسية، وتنقسم هذه النقاط باتجاه الداخل والخارج. فالجبهة المشكلة حديثاً تضم كياناتٍ متواجدة على الأرض، وشعبية واسعة ضمن حواضنها الاجتماعية على اختلاف أحجام الكتل البشرية لكل طرف، كما أنها تتوزع على جزءٍ جغرافيٍ مهم من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية.

كما يمتلك طرفين من الأطراف المشكلة للجبهة قوات عسكرية ربما تكون طرفاً في التفاوض المحلي حيال ملف إعادة التشكل العسكري في المنطقة، كقوات النخبة التابعة لتيار الغد والتي شاركت بمعركة الرقة ضد تنظيم الدولة وقوات "بيشمركة روج" التي يتبناها المجلس الوطني الكُردي والتي يمثل مصيرها أحد أهم محاور الحوار الكردي البيني، كما سيكون لها دور محوري في عملية الحل النهائي بين الأطراف الكُردية لما ستمثله من تغييرٍ في طبيعة قوات قسد التي تعتمد على وحدات حماية الشعب YPG. كما أن احتمالية تشكيل الجبهة لقوة موازنة أمام حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه ضمن الإدارة الذاتية يعطيها فرصة لزيادة التفاعل الشعبي معها.

خارجياً تمتلك الجبهة جملة من العلاقات الدولية الفاعلة كالعلاقة مع إقليم كردستان العراق، الذي شهدت عاصمته جولة من الاجتماعات الأولية بداية العام 2020 لتشكيل الجبهة، وكالعلاقة مع تركيا التي يتواجد للأطراف الثلاثة المشكلة للجبهة مكاتب فيها وهي فاعلة ضمن الائتلاف السوري لقوى المعارضة. بالإضافة إلى العلاقات الإقليمية لا سيما الخليج العربي والقاهرة عبر العلاقات التي تربط تيار الغد بهذه الدول، فقد أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية ترحيباً غير معلن وفق شخصيات منخرطة ضمن الاجتماعات التحضيرية لإعلان التحالف، كما استقبلت روسيا الاتحادية وفوداً عدة بالأخص من المجلس الوطني الكُردي ورئيس تيار الغد.

أما من جهة سياسية، فيعطي تواجد أعضاء من الجبهة ضمن هيئات المعارضة من هيئة المفاوضات واللجنة الدستورية فرصة كبيرة للتفاعل خلال اجتماعات اللجنة الدستورية وفي العديد من المحافل والعلاقات الدولية، فللجبهة سبعة ممثلين مباشرين ضمن اللجنة الدستورية الموسعة، ويزيد العدد في حال احتساب الأطراف المقربة من المجلس الوطني الكُردي أو من منصة القاهرة بقيادة تيار الغد ليزيد عن اثني عشر شخصاً.

يواجه هذا التشكيل جملة من التحديات لعل أهمها فيما يخص اللامركزية؛ فقد طرحت جبهة الحرية والسلام هذا المفهوم في إطاره العريض دون التطرق لشكلٍ محددٍ لها، وهو أمرٌ يُعيد للمشهد غياب مشروعٍ شامل من قبل الأطراف المعلنة عن كيفية إدارة شرق الفرات في حال دخلت لعملية تفاوضية مع "أحزاب الإدارة الذاتية". كما أن جزءاً من علاقات تيار الغد المتوترة سابقاً مع تركيا بالرغم من تراجع حدتها أثناء عملية نبع السلام ومحاولة رئيس التيار تقديم خطة سلام للمنطقة، يمكن أن تطفوا مستقبلاً على السطح من جديد، وتؤثر في علاقات بقية أطراف الجبهة مع تركيا والائتلاف السوري.

من جهة ثانية؛ فإن التحدي يظهر في تباين الأثر العسكري للقوات العسكرية التابعة لبعض أعضاء الجبهة، فقوات بيشمركة روج تتواجد في إقليم كردستان العراق، ناهيك عن تضاؤل القوة الفعلية والتنظيمية لقوات النخبة التي يتبناها تيار الغد والمجلس العربي في الجزيرة والفرات، كما يُنادي المجلس العربي لتوحيد الفصائل العربية شرق الفرات تحت قيادة موحدة، بينما تفتقر المنظمة الآثورية الديمقراطية لقوى عسكرية تتبعها بشكلٍ مباشر. وسيشكل موضوع كيفية دمج القوات العسكرية ضمن منظومة قسد أو تشكيل منظومة عسكرية جديدة في شرق الفرات في حال الوصول لاتفاق حول إعادة التشكيل تحدياً كبيراً.

ويُعد تحدي التمثيل العربي تحدياً حاضراً في حركية أي تحالف، فمن جهة لا يمكن اختصاره بالمكون العشائري الذي يُعاني من الانقسام الذي جعله ضمن أجندة جذب واستقطاب لقوى محلية وإقليمية ودولية متباينة بالرؤى والمصالح السياسية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر تُعاني عشيرة الشمر من انقسام بين قوات الصناديد وحزب المحافظين الديمقراطي، وتيار الغد وقوات النخبة، ناهيك عن مشاريع عدة يتبناها النظام وروسيا والإدارة الذاتية مدعومة بالتحالف لجذب العشائر لتحالفاتهم. وفي الخارج تنشط بعض القوى في تركيا بشكلٍ رئيسي في دعم تشكيل مجالس عشائرية سواء في مناطق سيطرة المعارضة داخل سورية أو على الأراضي التركية لمواجهة الإدارة الذاتية في الخارج. ومن خلال كل ذلك يتضح أيضاً استمرار تغييب فاعلية المكون العربي ضمن الجبهة في مناطق دير الزور والرقة.

أما داخلياً فمن المتوقع أن يعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية تشكيل الجبهة الجديدة بمثابة خطوة في اتجاه إضعاف تمثيلها ضمن سلطة الإدارة والحكم شرق الفرات. وهذا ما يدور على المنصات الإعلامية التابعة والمقربة من الإدارة الذاتية، وهو ما سيعرضها لحملات تضييق في حال تأخر تفعيل الجبهة ضمن عملية الحوارات القائمة الآن شرق الفرات. كما كان حزب الاتحاد الديمقراطي يعلق الآمال على مشاركته في مؤتمر القاهرة 3 في حال انعقاده والدخول عبره لمنصة القاهرة وبالتالي للجنة التفاوض. ومن شأن خطوة إعلان جبهة السلام والحرية إضعاف هذا الاحتمال بالشكل الذي كان يرغب به حزب الاتحاد الديمقراطي.

الخاتمة

يتميز المشهد السياسي والميداني في منطقة شرق الفرات بسيره الدقيق نحو إعادة التشكل الحذر، مما يُصعِّب من استقراء مآلات ومصير التحالفات المُشكلة نتيجة كثرة الفواعل الدوليين والمحليين وتغير الخارطة العامة وما تحمله من احتمالية إنهاء مصير تحالفات قديمة والدفع باتجاه ظهور تحالفات أخرى جديدة.

جاء إعلان جبهة السلام والحرية في وقتٍ لم تنجح الإدارة الذاتية بعملية إدارة المنطقة وطمأنة الحاضنة الاجتماعية وهو ما يتوضح في عدة مواضيع آخرها موضوع اختيار قادة عسكريين لهم إشكاليات محلية تتسبب في توتير العلاقة بين سكان المنطقة، وفرض مناهج لا تتوافق مع توجهات الأهالي.

يأتي الإعلان عن الجبهة والمنطقة تشهد حركية سياسية وأمنية مكثفة، فمن جهة انخرطت الأحزاب الكردية في عملية تحاورية بينية لم تصل إلى الآن لمرحلة اتفاقٍ صلب يوضح شكل العلاقة والإدارة مستقبلاً. ومن جهة أخرى تشهد بعض مناطق سيطرة الإدارة الذاتية وبالأخص دير الزور توترات أمنية مستمرة كان آخرها اغتيال أحد شيوخ القبائل النافذين في المنطقة، وما تلاه من مظاهرات أدت لسيطرة الأهالي على بعض مقرات قسد. ومن شأن هذا التوتر الأمني أن يلقي بظلاله على كافة التحالفات والاتفاقيات الحاصلة في شرق الفرات، وهو ما يعتبر فرصة لـجبهة السلام والحرية لكسر احتكار حزب الاتحاد الديمقراطي لتمثيل مكونات المنطقة عبر مؤسسات حكمه من إدارة ذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية، وغيرها. إلا أنها تعتبر أيضاً منفذاً لحزب الاتحاد لتوجيه الاتهامات لها واعتبارها جبهة مشكلة لمنافسته على "إنجازاته المحلية" التي حققها خلال السنوات الماضية.

ضمن هذا الواقع؛ تتمتع جبهة الحرية والسلام بعدة نقاط قوة تمنحها حظوظاً وافرة للتفاعل ضمن المشهد السياسي سواء من تواجدٍ فعلي على الأرض وعدم انخراط أطرافها في إشكاليات مجتمعية وعسكرية محلية أو إقليمية، أو تمتعها بعلاقات إيجابية مع العديد من الأطراف الدولية، وتواجدها ضمن أطر المعارضة الرسمية مما يمنحها حضوراً على المشهد الدولي. بالمقابل يواجه التحالف عوائق عدة تتمثل أهمها في انخراط أطراف الجبهة في تحالفاتٍ وهيئاتٍ متباينة، كما سيكون لمدى نجاح الجبهة في خلق توازن بين سياسة المحاور في المنطقة والمؤثرة بالملف السوري بشكلٍ مباشر دورٌ كبير في نجاحها أو فشلها.


 

([1])وتضمنت الرؤية السياسية توافقاً بين أطرافها حول مبدئ فصل الدين عن الدولة وضرورة تأكيد حيادية الدولة في موقفها اتجاه القوميات والاديان والاعتراف بكافة الأديان الموجودة في سورية. وتوقف الإعلان على حقوق القومية مؤكداً اتفاق اطرافه حول الإقرار الدستوري بتعدد قوميات الشعب السوري، وثقافاتهم وأديانهم ولغاتهم، وخصصت الرؤية السياسية بنداً في تأكيد الاعتراف الدستوري " بهوية الشعب الكردي القومية واعتبار القضية الكردية جزءا اساسيا من القضية الوطنية والديمقراطية العامة في البلاد والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار وحدة سوريا ارضا وشعبا. وتعمل الجبهة على الغاء جميع السياسات والمراسيم والاجراءات التمييزية المطبقة بحق الكرد ومعالجة اثارها وتداعياتها، وإعادة الجنسية الى المجردين والمكتومين منهم وتعويض المتضررين واعادة الحقوق لأصحابها".

([2]) (بيان) إعلان تأسيس جبهة السلام والحرية، المصدر: صفحة المجلس العربي في الجزيرة والفرات، التاريخ: 28/07/2020، https://bit.ly/2XBUvvX

([3]) الرؤية السياسية لتيار الغد السوري، المصدر: موقع تيار الغد، تاريخ النشر: 12/3/2016، الرابط: https://bit.ly/3gCBOQj

([4]) المفاوضات الكردية في سورية، عودة إلى اتفاق "دهوك"، المصدر: العربي الجديد، التاريخ: 17/06/2020، الرابط: https://bit.ly/2Pw6mY9

([5]) بدء المرحلة الثانية من مفاوضات المجلس الوطني الكوردي وأحزاب الوحدة الوطنية، المصدر: شبكة روداو، التاريخ: 02/08/2020، الرابط: https://bit.ly/31vZwYj

([6]) من دير الزور إلى الحسكة. تنافس محموم بين الرياض وأنقرة، المصدر: المدن، التاريخ: 14/07/2020، الرابط: https://bit.ly/3gCyeps

([7]) ورغم ما يعتري الاتفاق من ضبابية من حيث الجهة الموقعة للاتفاق من الطرفين، وبنوده ودور الادارة الامريكية رسمياً في تحقيقه، الا أنه يعتبر خطوة متقدمة من قبل الادارة الامريكية في حال استمرارها بمباركته لقطع توريد النفط للنظام السوري، وتوجيهه أكثر لمناطق غرب الفرات الواقعة تحت سيطرة المعارضة، او لإقليم كردستان العراق وتصديره للعالم الخارجي. ويحتاج الاتفاق المعلن إلى مدة لا بأس بها لإدراك المدى الذي ستنخرط فيه واشنطن في الملف، فلا يمكن البناء بشكلٍ متماسك على شهادة وزير الخارجية الامريكي اثناء جلسة استماع من الكونغرس والتي تمحورت حول معرفتهم ودعمهم للاتفاق، وتم معارضة جزء مهم من حديثه من خلال بيانٍ لوزارته، عبر انكار وجود فعلي لها وتدخل في قرار بيع النفط، ونفيها لوجود مشاركة في القرارات التجارية مع شركائهم المحليين، وانكار سيطرة أو ادارة الحكومة الامريكية للموارد النفطية في سورية.

([8]) هل يتمكن بيدرسون من إنجاح الجولة الثالثة من أعمال الدستورية بسورية؟، المصدر: المرصد السوري لحقوق الانسان، التاريخ: 03/07/2020، الرابط: https://bit.ly/2C9ZcG0

التصنيف تقدير الموقف