مدخل

مع سقوط نظام الأسد كُسِرَت حلقة الاستعصاء السوري، وتغيّرت معادلة الفواعل المحلية التي بقيت سائدة طيلة السنوات الأخيرة. ورغم هذا التغيير الجذري والدراماتيكي؛ إلا أن إعادة توحيد البلاد تحت سُلطة حكومة دمشق الجديدة ما يزال إشكالياً، خاصة مع بقاء مناطق شمال شرق سورية الخاضعة لقوات "سوريا الديمقراطية"/"قسد" خارج تلك السُلطة، وسط مفاوضات جارية بين الطرفين سترسم نتائجها مستقبل الشمال الشرقي وسورية بشكل عام.

حاولت قيادة قوات "قسد" خلال عقد من عمر الثورة السورية هندسة تموضعها (السياسي، العسكري، الأمني) على خارطة الفاعلين السوريين، محاولة الابتعاد عن ثنائية النظام والمعارضة، ساعدها في ذلك دورها الوظيفي الذي حُصر بمحاربة تنظيم "داعش"، والذي استغلت "قسد" خصوصيته وانعكاساته لتتمترس ضمن الحدود الأمنية لمناطق سيطرتها، وتطرح نموذجاً حوكمياً (الإدارة الذاتية) متمايزاً عن البيئة السياسية - الإدارية السورية السائدة، مستندة في ذلك إلى الدعم العسكري للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وحالة التنازع على الشرعية بين النظام والمعارضة.

ورغم كل الجهود التي بذلتها "قسد"، إلا أن محاولات كسب الشرعية السياسية لنموذج "الإدارة الذاتية" لم تفلح منذ تأسيسها، فلا اعتراف بكيانها السياسي من طرف النظام السابق، ولا دخول تحت مظلة المعارضة المعترف بها غربياً، ولا شرعية دولية أو اعتراف سياسي من أقرب داعميها الغربيين.

واليوم، وبعد سقوط نظام الأسد وحدوث توافق نسبي من الأطراف المحلية السورية، عسكرية وسياسية، على ضرورات وأوليات دعم الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية، إضافة إلى بروز مؤشرات إيجابية أوليّة للقبول الدولي والإقليمي بحكومة دمشق وقيادتها السياسية؛ تقف "قسد" أمام استحقاقات مصيرية ستحدد مستقبل قواتها في الشمال الشرقي وسورية بشكل عام، وكذلك مستقبل نموذج "الإدارة الذاتية"، إضافة إلى رسم الملامح الأساسية للتعاطي مع المسألة الكردية في سورية.

تواجه قيادة "قسد" تلك الاستحقاقات في سياق مفاوضات مباشرة بينها وبين حكومة دمشق، وسط ضغوط إقليمية وأخرى دولية لا تبدو بصالحها، خاصة ما يتعلق بالموقف التركي من قواتها، إلى جانب مسار المصالحة المرتقبة الذي تقوده أنقرة مع زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، وانعكاساته المحتملة في سورية، ناهيك عن ضبابية الموقف الأمريكي، حتى الآن، فيما يتعلق بسحب القوات والقواعد الأمريكية من سورية.

وعليه، تسعى هذه الورقة إلى قراءة ديناميات المشهد الأمني والسياسي في مناطق سيطرة "قسد" بعد سقوط الأسد، وتحليل مواقف اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين الفاعلين في مسار المفاوضات الجارية بين الإدارة السورية الجديدة و"قوات سوريا الديمقراطية"، ومحاولة استشراف "السيناريوهات" المحتملة للمنطقة في ظل تلك المواقف.

"قسد" بعد سقوط الأسد..المشهد الميداني

مع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بسطت إدارة العمليات العسكرية سيطرتها على معظم الجغرافية السورية من إدلب إلى درعا، إلا أنها تجنّبت المواجهة العسكرية مع قوات "قسد" في أي من مناطق سيطرتها، خاصة في حلب بداية. بالمقابل، استغلت "قسد" الانهيار العسكري السريع لقوات الأسد، فتقدمت لملء بعض الفراغات الأمنية التي خلفها انسحاب تلك القوات في مناطق عدة، فضمن الحسكة والقامشلي سيطرت على المربعات الأمنية وأغلب المواقع العسكرية، وفي دير الزور عبرت نهر الفرات وسيطرت على المطار العسكري والمدينة لعدة أيام، قبل انسحابها إلى نقاطها السابقة إثر وصول أرتال عسكرية بقيادة إدارة العمليات التابعة للإدارة الجديدة وسيطرتها على مدينة دير الزور وقرى وبلدات خط الشامية.

أما ضمن مناطق نفوذها في محافظة حلب، بدت "قسد" متخبّطة، فقد حاولت بدايةً التقدم وربط مناطق سيطرتها في مدينة حلب بريفها، ثم انسحبت بعد مواجهات عنيفة مع "الجيش الوطني" على جبهات عدة، منها دير حافر التي قطعت الطريق أمام ربط مناطق سيطرتها في الريف بالمدينة، وكذلك خلال المواجهات على جبهة منبج، التي أسفرت عن فقدان "قسد" للمدينة الاستراتيجية التي سيطرت عليها منذ2016 ، وناورت للتهرب من خارطة الطريق الأمريكية - التركية عام 2018، والتي كانت تقضي بانسحاب وحدات "حماية الشعب"/YPG"" من المدينة وتسيير دوريات أميركية - تركية، وإنشاء إدارة محلية جديدة.

من جهة أخرى، تزامنت الاشتباكات العسكرية المحدودة مع احتقان شعبي أوسع في مناطق عدة. فقد شهدت مدن الرقة والحسكة مظاهرات واحتجاجات متقطعة رفعت شعارات مناهضة لـ"قسد"، بينما بدا الوضع أكثر تصعيداً في ريف دير الزور، حيث نشطت مجدداً المجموعات العشائرية التابعة لشيخ قبيلة العكيدات، إبراهيم الهفل، في بعض بلدات الريف الشرقي، وجرت مواجهات وهجمات مُسلّحة على حواجز ومقرات قوات "قسد"، قبل أن تبادر الأخيرة بفرض حظر تجول في مناطق عدة، وإعادة انتشارها العسكري. وقد سبق تلك الأحداث في دير الزور أيضاً، انشقاقات لبعض القيادات العربية ضمن المجالس العسكرية التابعة لـ"قسد"، في البصيرة وهجين ومناطق أخرى.

وقد قابل هذا الاحتقان الشعبي والمعارك العسكرية المحدودة، استنفار شديد من قبل القوات العسكرية والأمنية التابعة لـ "قسد" في مختلف مناطق سيطرتها، سواء على مستوى انتشار الحواجز الأمنية والتدقيق غير المسبوق على المدنيين، كذلك الأمر بالنسبة لفرض حظر التجول في بعض المناطق، إضافة إلى إفراغ بعض المؤسسات الحكومية أو المستودعات الاستراتيجية ونقلها إلى أماكن غير معروفة.

أما على المستوى الاقتصادي، ورغم اعتماد مناطق "الإدارة الذاتية" بشكل كبير على موارد النفط والزراعة والمساعدات الخارجية، إلا أنها تعاني أيضاً من تبعات الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة على سورية، رغم أن المنطقة شملتها الإعفاءات الأمريكية من العقوبات في بعض القطاعات. كما أن تهالك البُنية التحتية، إلى جانب الفساد المستشري في مؤسسات الإدارة؛ ساهم وما يزال في عرقلة أي خطط تنموية داعمة لاقتصاد المنطقة المتردي، والذي من المحتمل أن يزداد تدهوراً خلال الفترة الحالية، نتيجة للظروف الأمنية - العسكرية من جهة، إضافة إلى قرارات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المتعلقة بوقف برنامج المنح الخارجية، والذي كانت تعتمد عليه أغلب المنظمات الإنسانية المحلية والدولية الناشطة في سورية بشكل عام وشمال شرق بشكل خاص.

وبالتوازي مع هذا الواقع الميداني وارتداداته المحتملة، انطلقت جولات مفاوضات مباشرة بين القيادة الجديدة في دمشق وقيادة "قوات سوريا الديمقراطية"، وصفت في خطوطها العامة بالإيجابية، وقد أكد مظلوم عبدي، قائد "قسد"، أنه تم الاتفاق مع السُلطة الجديدة في دمشق على وحدة وسلامة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تقسيم([1]). وتدور المفاوضات بين الطرفين حول قضايا رئيسة عدة، منها: إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية السورية، وكيفية اندماج قوات "قسد" ضمنها، وما يستتبعها من إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني/PKK الأجنبية. إضافة إلى إدارة الثروات الطبيعية في المنطقة، وصيغ الإدارة المحلية المقترحة فيها، ناهيك عن المسألة الكردية وتجلّياتها القانونية والدستورية.

وبينما تصر "الإدارة الذاتية" على الاحتفاظ بقواتها العسكرية ككتلة، وضمان مكتسباتها الميدانية في إطار دولة سورية لا مركزية، تُركّز دمشق على استعادة سُلطتها المركزية، وبسط سيطرتها على كامل الجغرافية السورية. وما تزال هذه التباينات عائقاً أمام تحقيق أي اختراق حقيقي في المفاوضات، فرغم الزخم الذي يحيط بمسار التفاوض وعدم حصول مواجهات مباشرة بين الإدارة الجديدة وقوات "قسد" حتى الآن([2])، إلا أن غياب الثقة بين الأطراف يشكل عقبة رئيسة، كما أن التباينات في الرؤى حول شكل الحكم المستقبلي، فضلاً عن الخلافات حول إدارة الملف الأمني، تُعقّد عملية الوصول إلى اتفاق شامل، لا سيما بالنظر إلى حجم الملفات الشائكة والمتشابكة، وتداخل المصلحة الوطنية مع هواجس القوى الإقليمية.

بالمقابل، فإن فشل مسار المفاوضات يعد أكبر التحديات الأمنية والعسكرية التي قد تواجها "الإدارة الذاتية" خلال الفترة القادمة، خاصة مع تزايد الضغوط التركية التي قد تدفع باتجاه شن عملية عسكرية واسعة على مناطق سيطرة "قسد"، إذ ترى أنقرة أن أي تسوية لا تراعي مصالحها/هواجسها الأمنية حول استمرار "قسد" بشكلها الحالي، تشكل تهديداً لأمنها القومي. كما أنها لا ترغب برؤية قيادات مُقرَّبة من حزب العمال الكردستاني/ PKK ضمن دوائر صنع القرار في دمشق مستقبلاً، أو ضمن هيكلية الجيش السوري الجديد. وأمام تلك التحديات، تسعى قيادة "قسد" إلى الحفاظ على قدر نسبي من الاستقرار الأمني في مناطقها، إضافة إلى تعزيز موقفها التفاوضي بناءً على رهانات عدة، على رأسها استمرار الدعم الأمريكي، والذي يبقى هشاً وقابلاً للتغيير بناءً على أولويات واشنطن.

مسار المفاوضات..تداخل فاعلين وتضارب مصالح

رغم سخونة جبهات ريف حلب، واشتعال خطوط التماس بين فصائل "الجيش الوطني" وقوات "سوريا الديمقراطية"، إلا أن المفاوضات السياسية بين الإدارة السورية الجديدة وقوات "قسد" تسير بهدوء أكبر، وسط تدخلات أطراف إقليمية ودولية ساعية للتأثير في رسم المستقبل السياسي والعسكري للمنطقة، وفقاً لمصالح كل طرف.

الإدارة الجديدة (وفرة خيارات)

أكّدت الإدارة السورية الجديدة بقيادة رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، رفضها وجود أي كيانات مُسلحة خارج إطار الجيش السوري، مما يعني حلّ قوات "قسد" ككتلة عسكرية ودمجهم كأفراد في الجيش الجديد([3])، وخروج جميع العناصر الأجنبية/PKK من الأراضي السورية، إضافة إلى تسليم السيطرة الأمنية والإدارية في دير الزور والرقة والحسكة وما تبقى من ريف حلب إلى الحكومة السورية الجديدة، بما فيها من ملفات عالقة: معتقلات عناصر "تنظيم الدولة"/"داعش"، موارد الطاقة (نفط، غاز)، النقاط والمعابر الحدودية.

بالمقابل، يبدو أن الإدارة الجديدة تبدي مرونة فيما يتعلق بالحقوق الثقافية والسياسية للمكوّن الكردي في سورية، تحت قاعدة المواطنة، دون توضيح تفصيلي عن كيفية ترجمتها قانونياً، خاصة مع مطالبة "قسد" بتثبيتها دستورياً. كما تبدي حكومة دمشق الجديدة أيضاً مرونة فيما يتعلق بتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية بما دون اللامركزية السياسية، وكذلك فتح المجال أمام الكُرد للانضمام إلى مؤسستي الأمن والجيش، مع إمكانية منح رتب عسكرية لعدد من القيادات السورية في "قسد".

تُدرك الإدارة السورية جيداً أهمية شمال شرق سورية في استكمال معادلة السُلطة الجديدة، سواء لناحية الموارد الاقتصادية وأهميتها في هذه المرحلة الحرجة، إضافة إلى الأهمية السياسية في استرجاع السيادة على كامل الأراضي السورية، واستكمال ضبط الحدود الجغرافية للدولة، إلى جانب الانعكاسات السياسية لمستقبل إدارة المنطقة بتركيبتها المتنوّعة على ملف السلم الأهلي والهوية الإدارية والسياسية للبلاد، ناهيك عن حساسية وأثر المستقبل السياسي للمنطقة على العلاقات الإقليمية والدولية، خاصة مع اشتباك ملفاتها مع قضايا الأمن القومي لتركيا من جهة، ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل وجود قواتها في سورية من جهة أخرى، خاصة وأن الإدارة الجديدة لا تبدو مستعجلة للمطالبة بخروج القواعد الأمريكية من سورية، بل ربما تنظر إلى هذا الوجود كداعم للاستقرار، على الأقل خلال المرحلة الحالية، ولكن بالتنسيق معها وليس مع قوات "قسد".

 وفي هذا الإطار، تبدو جميع الخيارات مفتوحة أمام حكومة دمشق، مع إعطاء الأولوية للحلّ التفاوضي، خاصة مع إداراكها لما قد يترتب على المواجهة العسكرية الشاملة من إشكاليات مركّبة (أمنية، سياسية، اجتماعية، إدارية)، لذلك يبدو أنها تُغلِّب الحلول التفاوضية في المدى القريب والمتوسط لتحقيق ما تريد، معوِّلة في ذلك على معطيات عدة، ومُتغيرات محتملة:

  • الموقف التركي كظهير عسكري - سياسي داعم في هذه المفاوضات، التي تتداخل فيها أولويات الأمن القومي التركي مع المصالح الوطنية السورية.
  • احتمالية تغيّر موقف الولايات المتحدة وانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، سواء عبر التوصل إلى تفاهمات تركية - أمريكية، أو عبر ضمان مصالح الولايات المتحدة من قبل الإدارة الجديدة، أو كلا الخيارين معاً.
  • الواقع الديموغرافي لأغلب مناطق سيطرة "قسد"، وغلبة المكوِّن العربي فيها، وما قد يترتب على ذلك خلال الفترة الحالية من توسع دائرة الاحتجاجات، أو المواجهات المسلحة/الشعبية، أو ربما تغذيتها لاحقاً.
  • نقص الخيارات السياسية والعسكرية أمام قيادة "قسد"، وعدم وحدة الموقف الكردي السياسي خلفها.
  • عزل "قسد" سياسياً وعسكرياً ووضعها في مواجهة الدولة، مقابل تغليب الحل التفاوضي، والذي في حال فشله سيكون لدى الحكومة الجديدة/الدولة الشرعية الكافية لاستخدام الخيار العسكري، سواء كان محدوداً أو شاملاً.
  • نجاح الوساطات الإقليمية والدولية، خلال المفاوضات، في الدفع بحلول مرضية لحكومة دمشق.

قيادة "قسد" (خيارات محدودة)

من جهتها، ترفض قيادة قوات "سوريا الديمقراطية"، حتى الآن، حلّ قواتها، وتطالب بدخولها ككتلة عسكرية تحت مظلة وزارة الدفاع، وبقاء انتشارها في مناطق سيطرتها الحالية، مع الإبقاء على المؤسسات الإدارية والمدنية لـ"لإدارة الذاتية". ولا تمانع من مغادرة مقاتلي "حزب العمال الكردستاني"/PKK الأجانب خارج سورية، والتفاوض على تسليم ملف النفط والمعابر الحدودية للحكومة السورية الجديدة، مقابل تسوية المسألة الكردية في سورية، وإعادة النظر بالشكل الإداري للدولة. إذ أبدى قائد "قسد" مظلوم عبدي، في تصريحات عدة، استعداد قواته للاندماج في الجيش السوري الجديد، شرط ضمان حقوق الكرد دستورياً، كالاعتراف بالهوية الكردية واللامركزية الإدارية، مؤكداً أن "قسد" لا تسعى إلى التقسيم، بل إلى سورية موحدة تعكس تنوعها([4]).

وضمن إطار مطالبها، يبدو أن "قسد" تسعى إلى إطالة أمد المفاوضات، وكسب المزيد من الوقت، ريثما تتوضح توجهات الإدارة السورية الجديدة أكثر، وعلى أمل حدوث متغيرات جديدة تزيد من قوة موقفها التفاوضي. ويبدو أنها تراهن في هذا السياق على معطيات عدة ومُتغيرات محتملة، على رأسها:

  • استمرار التواجد الأمريكي شمال شرق سورية، بشكل داعم لـ"قسد" خلال المفاوضات مع حكومة دمشق.
  • دعم محتمل من أطراف إقليمية ودولية متوجّسة من الإدارة السورية الجديدة.
  • توحيد الصف الكردي سياسياً تعزيزاً للموقف التفاوضي.
  • الإصرار على ربط المسألة الكردية بمستقبل "الإدارة الذاتية"، لما قد يترتب على ذلك من تداعيات أمنية - اجتماعية في حال انهيار الإدارة الذاتية.
  • انتظار نتائج المفاوضات التركية مع قائد حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، والتي ستنعكس بشكل أو بآخر على مسار التفاوض السوري، وشكل الحل في شمال شرق البلاد.
  • محاولة توسيع دائرة التنسيق مع جهات سورية - سياسية، لدعم مطالبها في اللامركزية الإدارية الموسّعة.
  • الخيار العسكري كوسيلة دفاعية لتحسين شروط التفاوض.

من الناحية النظرية، لا ترغب "قسد" ولا حكومة دمشق بالدخول في مواجهات عسكرية شاملة، إلا أن هناك الكثير من العراقيل أمام مسار المفاوضات المتعثّر. وفي ظل هذا الواقع المُعقَّد، تُدرك دمشق التداخل بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية والإقليمية، ويبدو أنها تعوّل في هذا الإطار على تفاهمات ثنائية بينها وبين الولايات المتحدة من جهة، وبين الأخيرة وتركيا من جهة أخرى، بما يؤدي إلى اتفاق مع "قسد" يضمن في النهاية حلولاً سلمية تحقق وحدة الأراضي السورية.

بالمقابل، تُدرك قيادة "قسد" أهمية المرحلة الحالية في رسم مستقبل وجودها ضمن الخارطة الجديدة للفاعلين السوريين، ونظراً للتأثير الكبير لحزب العمال الكرستاني/PKK على قرار "قسد"، يبدو أن الأخيرة  تعوّل على نتائج محادثات السلام بين أوجلان والحكومة التركية من جهة، والتفاهمات بين الولايات المتحدة وتركيا من جهة أخرى، لتؤدي في النهاية إلى حلول تدفع شبح الحرب عن المنطقة، وتحافظ على جزء من مكاسبها، وتضمن وجودها ضمن دوائر صنع القرار في دمشق، لا سيما مع دخول أطراف أخرى على خط الوساطة، مثل ألمانيا وفرنسا وإقليم كردستان العراق، لتذليل العقبات أمام مسار المفاوضات وخلق حلول سلميّة.

الولايات المتحدة (ضمان المصالح)

دعمت القوات الأمريكية "وحدات حماية الشعب"/YPG"" بداية، ثم دعمت منذ عام 2015 تأسيس مظلة قوات "قسد" كشريك محلي على الأرض ضمن إطار عمليات التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب، وصعود تنظيم الدولة "داعش" في سورية، بينما تمحور الوجود العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة حول أهداف عدة، أبرزها: القضاء على تنظيم "داعش" ومنع عودته، والضغط سياسياً واقتصادياً على نظام الأسد للانخراط بالعملية السياسية، عبر السيطرة على ما يقارب ثلث الأراضي السورية الغنية بالثروات، ناهيك عن منع إيران وروسيا من توسيع نفوذهما في المنطقة، وخنق الـ "كوريدور" الإيراني الذي كان يمتد من العراق إلى لبنان مروراً بدير الزور. إضافة إلى حماية أمن حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، عبر التواجد العسكري المباشر للقواعد الأمريكية.

ومع سقوط نظام الأسد، وإضعاف أذرع إيران في المنطقة، يبدو أن معظم المصالح الأمريكية السابقة قد تحققت بالفعل، ليبقى ضمان تلك المصالح وغيرها قريناً بالتفاهمات التركية - الأمريكية من جهة، والتفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق من جهة أخرى، ناهيك عن عدم إلزام الولايات المتحدة نفسها بأي وعود قطعية لـ"قسد" فيما يتعلق بمستقبل "الإدارة الذاتية"، وتموضعها السياسي والعسكري في سورية، وتأكيدها المستمر على أن دعمها لقوات "سوريا الديمقراطية" ينحصر في الإطار العسكري وجهود مكافحة تنظيم "داعش".

وضمن هذا السياق، يبدو أن موقف الإدارة الأمريكية سيركّز مبدئياً على تشجيع "قسد" على التفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق، كما شجعتها سابقاً على محاولة التفاهم مع الأسد، وربما قد تزداد الضغوط الأمريكية على "قسد" لإنجاح مسار المفاوضات، وذلك بفعل عوامل عدة، على رأسها؛ احتمالية توصل الجانب التركي إلى تفاهم معين مع الولايات المتحدة في المنطقة على حساب "الإدارة الذاتية"، إضافة إلى طبيعة الموقف الأمريكي ذاته، خاصة في إدارة الرئيس ترامب، الذي بدأ عهده بتصريحات عدة حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سورية، ثم اتخذ إجراء إيقاف برامج المساعدات الخارجية، الأمر الذي تسبب بتعليق عمل المنظمات الإنسانية وتقديم الخدمات في مخيمي الهول وروج التي تضم عوائل وعناصر متهمين بالانتماء لتنظيم "داعش"([5]).

ناهيك عن بروز الإدارة السورية الجديدة كشريك محتمل وبديل عن قوات "قسد"، في أغلب الملفات والمهام التي كانت تضطلع بها، إذ تزداد مؤشرات التعاون بين واشنطن والإدارة السورية الجديدة على مستويات عدة، خاصة في ملف مكافحة الإرهاب/"داعش"، فقد أكّدت صحف أمريكية مشاركة معلومات استخباراتية سرية مع الحكومة السورية الجديدة، ساعدت في إحباط محاولة تنظيم "داعش" مهاجمة "مقام السيدة زينب" في محيط دمشق([6]). كما أصدرت وزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً، يستمر 6 أشهر، يجيز بعض المعاملات مع الحكومة السورية، ومن بينها بعض مبيعات الطاقة، وتوفير الخدمات العامة، والمساعدة الإنسانية([7])، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتمثل بانزياح سلس لكتلة "جيش سورية الحرة" العاملة تحت مظلة القوات الأمريكية في قاعدة التنف، وانضمامها إلى وزارة الدفاع الجديدة للانخراط في إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد.

تركيا (أولويات الأمن القومي)

من جهتها تُصر أنقرة على حلّ قوات "قسد" نهائياً([8])، وترفض مقترحات الحكم الذاتي، أو أن يكون لقيادات مقربة من "PKK" أي دور في صناعة القرار ضمن سورية وهيكلية الجيش السوري مستقبلاً، في الوقت الذي تواصل فيه عملياتها ضد مواقع عسكرية وأمنية لقوات "قسد"، وتدعم فصائل "الجيش الوطني" في المواجهات العسكرية المحدودة الجارية ضمن مناطق سد تشرين وأطراف منبج في ريف حلب. بالمقابل، تدرك أنقرة عدم رغبة/قدرة دمشق بقيادة عملية عسكرية واسعة في هذه المرحلة، وترغب بمنح مزيد من الوقت لجهود الوسطاء، على رأسهم الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإقليم كردستان العراق([9])، معوّلة في ذلك على معطيات دولية وإقليمية ومحلية عدة:

فمن جهة، هناك مسار آخر يتم العمل عليه في تركيا قد يكون له تأثير على ملف شمال شرق سورية، وهو المفاوضات الجارية بين الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، والتي وصلت لمراحل متقدمة، فمن المتوقع أن يوجِّه أوجلان خلال أيام خطاباً يحمل دعوة لحلّ جميع التنظيمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، في تركيا وخارجها، ومنها في قنديل وسورية وأوروبا، الأمر الذي سيكون له تأثير كبير على شمال شرق سورية، نظراً إلى أن فك ارتباط قوات "قسد" بالحزب المذكور ما تزال أحد المطالب الأساسية، سواء لدمشق أو أنقرة وأطراف أخرى([10]). ناهيك عن أن طبيعة ردود الأفعال المتوقعة لحزب الاتحاد الديمقراطي/PYD"" وباقي أجنحة حزب العمال في المنطقة إزاء دعوة أوجلان المحتملة للحزب بإلقاء السلاح؛ ستسهم بشكل كبير في رسم مستقبل الحزب والمناطق المنتشر فيها، منها سورية، إذ إن قبول تلك الدعوات والاستجابة لها سيكون له أثر كبير، في حين لن يقل الأثر في حال رفضها، خاصة وأن ذلك قد يؤمّن شرعية لتركيا في استهداف أجنحة الحزب الرافضة لأي اتفاق محتمل.  

من جهة أخرى، تعوّل أنقرة على تغيُّر معطيات البيئة الاستراتيجية بعد سقوط الأسد، بمعنى الهامش الأوسع الذي أتيح لها في الشمال السوري، وإمكانية استئناف علاقات ثنائية قوية مع الحكومة الجديدة في دمشق على مختلف المستويات، بشكل يساهم في إعادة نقاش وجودها العسكري في سورية بشكل أكثر مرونة، وربما إدخال تعديلات على بعض الاتفاقيات والبروتوكولات الثنائية (السياسية، الأمنية، العسكرية) على رأسها اتفاق أضنة. إضافة إلى توجّه أغلب الفاعلين الغربيين إلى حكومة دمشق لضمان مصالحهم أو التعاون، وبالتالي تراجع الدعم لـ"قسد"، ناهيك عن الانفتاح العربي - الخليجي على الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وسط مناخ توافق نسبي في إدارة الملف السوري، وليس مناخ تنافسي كما كان الحال في الأزمة الخليجية والخليجية - التركية سابقاً، وذلك بالرغم من المواقف المتحفظة والمترددة لبعض الدول العربية، والتي تبدو عاجزة حتى الآن وسط المناخ الدولي العام.

ووسط تغييرات البيئة الاستراتيجية، يبدو أن أنقرة تراهن أيضاً خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على الوصول إلى صفقة وتفاهمات مرضية تحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة، وتساعد على حماية الأمن القومي التركي، وفي هذا السياق، تحدثت بعض الصحف حول عرض أمريكي لتركيا يدور حول إعادة وتطبيع علاقات أنقرة مع إسرائيل، مقابل انسحاب القوات الأمريكية من سورية ([11]).

وما بين تلك الخيارات، تبقى الأدوات العسكرية التركية حاضرة لتشكيل ضغط إضافي، وتسريع احتمالية الوصول إلى حلول مرضية لأنقرة، إذ لم تنقطع العمليات الأمنية خلال الفترة الماضية، واستهداف المسيّرات لقيادات "قسد"، ناهيك عن الاشتباكات المحدودة مع فصائل "الجيش الوطني"، والذي يبدو أن أنقرة تعوّل عليه أكثر خلال المرحلة الحالية، خاصة مع إدراكها لصعوبة وحساسية دخول حكومة دمشق وتصدّرِها لمواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة خلال هذه الفترة الحرجة.

مستقبل شمال شرق سورية.."سيناريوهات" محتملة

وفقاً للمعطيات المتاحة والمتوافرة حتى الآن، يبدو من الصعب رسم "سيناريوهات" تفصيلية للمسار المحتمل للأحداث، لكن ليس من المستحيل استشرف الاتجاهات التي قد تتخذها، والتي تبقى محكومة بمُتغيرات عدة وعوامل محلية وإقليمية ودولية من شأنها أن ترجّح سيناريو على آخر، وتسهم في رسم مستقبل المنطقة.

نجاح المفاوضات (إعادة الدمج)

بالرغم من أن المفاوضات كانت الخيار الأول لمختلف الأطراف، وكذلك تضمنت في بداية انطلاقها رسائل إيجابية عامة من الطرفين؛ إلا أن تفاصيل التفاوض تبقى المجال الأكبر لبروز التباينات والخلافات، خاصة وأن مواضيع التفاوض لا ترتبط فقط بمصالح الأطراف المحلية، وإنما أيضاً بمصالح إقليمية ودولية، خاصة مع دخول حزب العمال الكردستاني على خط المفاوضات كمرجعية غير مباشرة لقيادة "قسد" في سورية، مقابل مصالح الأمن القومي التركي الذي تسعى أنقرة لتحقيقه في سورية، بالتوازي مع مسار آخر في تركيا يتمثل بالمصالحة المحتملة مع قيادة حزب العمال. ناهيك عن أهداف ومصالح الولايات المتحدة وأمن حلفائها في المنطقة، إضافة إلى تدخلات ووساطات أطراف إقليمية ودولية أخرى.

وبقدر ما يبدو هذا السيناريو شاقاً ومُعقداً؛ غير أنه قد يكون المَخرَج الأمثل لمختلف الأطراف، وذلك لما قد يؤمّنه من تجنيب المنطقة سيناريوهات أسوأ، على رأسها المواجهة العسكرية، وما قد يتلوها من ارتدادات أمنية، سياسية، اجتماعية، إنسانية، تبدو الأطراف المحلية بغنى عنها خلال الظروف الحالية.

وفي حال نجاح هذا السيناريو، فمن المتوقع أن يتضمن اتفاقاً أولياً حول مسائل عدة: انسحاب قوات "قسد" من المناطق والمحافظات ذات الغالبية العربية (دير الزور، الرقة)، وانتشار قوات إدارة العمليات العسكرية مكانها، دمج قوات "قسد" من المحليين السوريين عرباً وكرداً ضمن صفوف وزارة الدفاع وفق آليات متفق عليها من الطرفين، ومنح بعض القيادات رتباً عسكرية في الجيش، خروج القيادات الأجنبية في صفوف "قسد" ومغادرتهم سورية، إعادة هيكلة القوات الأمنية التابعة لـ"قسد" كقوى أمن محلية بإشراف حكومة دمشق، تسليم المعابر والنقاط الحدودية لحكومة دمشق، خلق آلية مشتركة لتسليم إدارة السجون التي تضم عناصر سابقين من "داعش" إلى الإدارة السورية الجديدة.

كما قد يتضمن هذا النوع من الاتفاق، تسليم "قسد" موارد الطاقة في المنطقة (آبار وحقول النفط والغاز)، وذلك ربما بعد التفاهم على تخصيص نسبة معينة في إطار تنمية المنطقة، وليس تحت تصرف قيادة "قسد". وهذا بالضرورة سيشمل النقاش حول شكل وصلاحيات الإدارات المحلية في سورية بشكل عام وشمال شرق بشكل خاص، إذ من المتوقع أن تبدي حكومة دمشق مرونة فيما يتعلق بتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية في المنطقة، ولكن ما دون اللامركزية السياسية، وبالتالي ضمان تمثيل وإدارة المكوّن الكردي لمناطق الكثافة الكردية. كما سيتضمن هذا الاتفاق بالضرورة النقاش حول مصير "الإدارة الذاتية" كجسم حوكمي، والذي من المحتمل أن يكون مستقبلها الحل ضمن هذا السيناريو، خاصة مع رفض حكومة دمشق الإبقاء على أي كيانات سياسية أو حوكمية أو عسكرية خارج إطار الدولة. وفي هذا السياق، يمكن أن يتم الاستفادة من بعض الخبرات التي تراكمت وتطورت في المنطقة، لكن من المستبعد أيضاً أن يتم دمج مؤسسات "الإدارة الذاتية" بمؤسسات ووزارات الدولة، خاصة فيما يتعلق ببعض المؤسسات التي تستند في مرجعيتها وبنائها وممارساتها إلى أيديولوجيا حزب العمال الكردستاني، كالقضاء والتعليم وغيرها.

كما أن جوهر هذا الاتفاق سينصب حول كيفية ضمان الحقوق الثقافية والسياسية للمكوّن الكردي في سورية، فبين قاعدة المواطنة المتساوية التي تطرحها حكومة دمشق، وتثبيت الحقوق دستورياً كما تطالب "قسد"، هناك ضمانات قانونية عدة قد تُقدَم في هذا المسار، والذي شكل عقبة تفاوضية تاريخية بين المعارضة من جهة والمظلات السياسية الكردية من جهة أخرى، سواء خلال فترة "المجلس الوطني السوري"، أو لاحقاً خلال بدايات "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة". ناهيك أن نتائج التفاوض حول هذا المسار قد تتأثر أيضاً بالنموذج التركي، وشكل الحلّ الذي قد يطرح في تركيا بعد المصالحة مع حزب العمال، إن نجحت.

وبالنظر إلى حجم التفاصيل والملفات التي يتضمنها هذا السيناريو، سنجد أن احتمالية النجاح قد توازي احتمالية الفشل، نتيجة التعقيدات التي قد تواجه هذا المسار، والذي يبقى نجاحه أو فشله رهناً بمعطيات ومُتغيرات عدة، أبرزها؛

  • إرادة الأطراف المحلية في تجنّب الخيار العسكري والتوصل إلى اتفاق يضمن مصالحها.
  • احتمالية تغيُّر الموقف الأمريكي، سواء عبر قرار محتمل بسحب القوات، ما قد يجبر "قسد" على السير في المفاوضات وفق تنازلات. أو العكس، بقاء القوات الأمريكية ودعم "قسد" في هذا المسار، وبالتالي سقف أعلى للمفاوضات.
  • مستوى الضغط التركي، سياسياً وعسكرياً، والذي سيرتبط بشكل أو بآخر بالموقف الأمريكي.
  • نقص الخيارات السياسية والعسكرية المتاحة أمام "قسد"، والذي قد يدفعها مجبرة إلى خيار التفاوض، الذي قد تصل إليه بطرق أخرى غير المفاوضات.
  • مستقبل مسار المصالحة مع حزب العمال في تركيا، ومستوى استجابة قيادة "قسد" وأذرع حزب العمال في المنطقة إلى دعوات حلَ الحزب وإلقاء السلاح، التي من المحتمل أن يتوجه بها زعيمه، عبد الله أوجلان، في 15 شباط الجاري.
  • نجاح الوساطات الإقليمية والدولية في هذا المسار، والحد من التدخلات الساعية لإفشاله.

الخيار العسكري (مخاطر مركّبة)

بقدر ما ينطوي عليه الخيار العسكري من مخاطر جمّة؛ إلا أنه يبدو أيضاً أحد الخيارات المطروحة في حال فشل المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود. وبالنظر إلى المعطيات ذاتها والنقاط أعلاه، التي قد تقود إلى نجاح مسار التفاوض، فإنها ذاتها قد تؤدي إلى فشله في حال تعطّلها أو سيرها بعكس الاتجاهات المذكورة، وبالتالي الذهاب إلى الخيار الأسوأ المتمثل بالمواجهة العسكرية.

وبالرغم من غياب أية مؤشرات ميدانية واضحة لانسحاب أمريكي وشيك([12])، إلا أن سقوط نظام الأسد، وانسحاب إيران، وتراجع النفوذ الروسي لأدنى مستوياته، قد حقق معظم أهداف الوجود الأمريكي في سورية، باستثناء مخاوف صعود مفاجئ لتنظيم "داعش"، والذي أدى بروز حكومة دمشق إلى تأمين بديل عن "قسد" في التعاطي معه. كما أن وصول ترامب "رجل الصفقات" مجدداً للسُلطة، وتركيزه على الداخل الأمريكي، يعيد إلى الأذهان قراره المفاجئ بالانسحاب عام 2019. وفي حال قررت الولايات المتحدة إنهاء وجودها في سورية؛ قد تجد "الإدارة الذاتية" نفسها مضطرة لقبول سيطرة دمشق، وتقديم تنازلات كبيرة منعاً لخسائر أكبر، في حال قررت مواجهة عملية عسكرية واسعة تقودها الإدارة السورية الجديدة مدعومة من أنقرة.

ولا تنفي دمشق استعدادها للمواجهة في حال فشل المفاوضات، فاستمرار الوضع القائم سيفتح الباب أمام تمظهرات وحالات مشابهة في مواقع أخرى على الجغرافية السورية، كما سيؤخِّر عملية دمج وحلّ فصائل "الجيش الوطني"([13])، ناهيك عن عدم رغبة الإدارة السورية الجديدة بافتتاح العهد الجديد بمعارك واسعة، وذلك لما قد يترتب عليها من زيادة في الهشاشة الأمنية، وفتح المزيد من الثغرات التي قد تستثمرها جهات معادية، ناهيك عن ارتداداتها السياسية والإنسانية والاقتصادية والأمنية في سورية والداخل التركي. فتحقق هذا السيناريو، وبقدر ما قد يدفع "قسد" إلى تقديم تنازلات كبيرة؛ إلا أنه قد يؤدي إلى موجة عنف جديدة في البلاد، خاصة مع سعي قيادات "قسد" لربط مستقبلها ومستقبل "الإدارة الذاتية" بالمسألة الكردية في سورية، وما سيرافق ذلك من عمليات تحشيد إعلامي – قومي، يدفع للمزيد من الاحتقان واحتمالية امتدادات المواجهات إلى أبعد من شمال شرق سورية.

لا شك أن قرار المواجهة العسكرية الشاملة ليس محبذاً من أي طرف، إلا أنه يبقى أحد السيناريوهات المطروحة، سيما مع تعقيدات الوضع القائم، والتحديات الكبرى أمام مسار المفاوضات المتعثّر، إلى جانب الحوادث الأمنية المتكررة في منبج وحلب والتي تلقي بظلالها على المشهد السوري، وقد تدفع إلى الانزلاق نحو دوامة عنف أكبر، خاصة وأن اندلاع مواجهة عسكرية في المنطقة على نطاق واسع سيدفع "حزب العمال"، الذي قد يكون من أكبر الخاسرين في هكذا سيناريو، نحو التصعيد الأمني والعسكري في مناطق تواجده المختلفة في سورية والعراق وتركيا، الأمر الذي قد يؤثر سلباً على مباحثات السلام الجارية في تركيا، وقد يؤدي لانهيارها مجدداً، بشكل يسهم في دفع الإقليم نحو موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار.

إن احتمالية حدوث هذا السيناريو، وتطور الموقف باتجاه التصعيد العسكري؛ تبقى رهناً بمُتغيرات وعوامل عدة، من الممكن أن تُحفِّز هذا الخيار وتغذي أسبابه، ولعل أبرزها:

  • قرار انسحاب مفاجئ للقوات الأمريكية ورفع غطاء الحماية عن "قسد" قبل نهاية المفاوضات.
  • تفاهم أمريكي- تركي محتمل على حساب "قسد" و"الإدارة الذاتية".
  • فشل مسار المصالحة الذي تقوده تركيا مع حزب العمال، أو رفض أجنحة محددة لنتائجه ومُخرجاتِه.
  • تدخُلات دولية أو إقليمية لإفشال مسار المفاوضات، سواء من جانب إيران أو غيرها من القوى.
  • تعنُّت قيادة "قسد" وحزب العمال في سورية وعدم إبداء مرونة، وبالتالي انهيار المفاوضات.
  • فشل الوساطات الدولية والإقليمية في إنجاح المفاوضات.
  • توصل المفاوضات بين الأطراف المحلية إلى مُخرجات لا تراعي المصالح والهواجس التركية.

 ترتبط أغلب المُتغيرات السابقة ببعضها البعض، ويؤثّر بعضها بالآخر، ولكن ما يبدو ثابتاً أن معركة شاملة ضد قوات "قسد" في سورية تحتاج إلى غطاء سياسي قبل الفعل العسكري، الغطاء المرتبط بشكل أو بآخر بالموقف الأمريكي ومصالحه في المنطقة.

إضعاف "قسد" تدريجياً (خفض سقف التفاوض)

بالنظر إلى الموقف الحالي، واحتماليات تعثُّر المفاوضات أمام تعنُّت قيادة "قسد"، وضبابية الموقف الأمريكي، ومستوى الضغط التركي، وحجم التبايانات بين الأطراف المحلية؛ فإن الحديث عن سيناريوهات مغلقة (إما، أو) لا يبدو مُنسجماً مع حجم التعقيدات القائمة، وما تتطلبه من استخدام أدوات مختلفة ومتعددة، خاصة مع وفرة الخيارات بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، والتي بقدر ما تبدو أنها تتجنب الحلّ العسكري، إلا أنها بالوقت نفسه لا تستبعده كأداة لتحسين شروط التفاوض وإعادة فرض أولوياته، أو تسريع العملية وخفض سقف التوقعات للطرف الآخر.

وفي هذا الإطار، قد يبرز سيناريو مختلف يعتمد على خليط من أدوات السيناريوهين السابقين، بمعنى استخدام الخيار العسكري - الأمني بشكل محدود وغير شامل كأداة للضغط، وإعادة تشكيل بيئة التفاوض وأولوياته وسقفه، بشكل يؤدي إلى إضعاف "قسد" تدريجياً، وإجبار قياداتها على المزيد من التنازلات. وفي هذا السياق، قد تلجأ الإدارة السورية الجديدة بالتعاون مع تركيا إلى خيارات سياسية عسكرية أمنية عدة، ربما أبرزها:

  • كسر احتكار "قسد" للتمثيل السياسي للكُرد، عبر دفع وتصدير أفراد أو تيارات سياسية كردية أخرى إلى واجهة التفاوض أو التعبير السياسي العام، كـ"المجلس الوطني الكردي"، أو ربما تيارات إسلامية كردية لاحقاً. وكذلك الأمر كسر احتكار "قسد" للتمثيل السياسي للمكوّنات الاجتماعية في مناطق سيطرتها (عرب، سريان، إلخ)، عبر الدفع بتيارات أو مجموعات من أهالي تلك المناطق للتعبير عن مصالحهم وتطلعاتهم خلال تلك المفاوضات، خاصة وأن "قسد" تحتفظ ببعض المناطق العربية كورقة تفاوض على مصالح حزبية ليس لسكان تلك المناطق أي علاقة أو مصلحة بها. وفي هذا الإطار، من الممكن أن تتجاوز عمليات الحشد والدعاية السياسية الفضاء السوري، إذ يمكن تفعيل "اللوبيات" السياسية السورية-الأمريكية في الولايات المتحدة أو غيرها في أوروبا، خاصة وأن "قسد" ستقوم بتفعيل "لوبياتها" في إطار الحشد غربياً.
  • تغذية وتوسيع دائرة الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة لـ"قسد"، سواء في المناطق المسيطرة عليها أو المناطق الخارجة عن سيطرتها، وتحويلها إلى مطلب شعبي جماهيري لا يقتصر على سكان الجزيرة، وإنما قضية وطنية سورية.
  • تشجيع انشقاقات قيادات وعناصر المجالس العسكري العربية في بُنية "قسد"، وذلك من خلال توسيع دائرة التواصل معهم، عبر شبكات أهلية - عشائرية أو أمنية - عسكرية، والسعي لضمان مصالحهم أو مراعاة تخوفاتهم، مع التسليم بأن تلك المجالس وقياداتها غير أيديولوجين، ولا يعنيهم فكر "حزب العمال الكردستاني"، بقدر ما يعنيهم ضمان مصالحهم ومكتسباتهم.
  • تصعيد العمل العسكري المحدود، وتركيز أهدافه على مناطق الغالبية العربية ضمن سيطرة "الإدارة الذاتية" (دير الزور، الرقة، ريف حلب)، سواء عبر التعاون بين إدارة العمليات العسكرية وأنقرة، أو عبر تغذية الانتفاضات الشعبية والعشائرية في تلك المناطق المحتقنة. إذ إن تبعات وارتدادات تلك المعارك (سياسياً، حقوقياً، إعلامياً، اجتماعياً) أقل تكلفة من المعارك في مناطق الكثافة الكردية، كما أنها قد تُستخدَم كأداة لحصر التفاوض ضمن مناطق الغالبية الكردية في الحسكة.
  • تصعيد العمل الأمني، منذ سقوط الأسد وانطلاق المفاوضات مع قياداة "قسد" لم تتوقف العمليات الأمنية التركية في المنطقة، سواء عبر استهداف قيادات "قسد" بالمسيّرات، أو قصف مواقع عسكرية محددة. وضمن هذا السيناريو، فمن المتوقع أن تتوسع دائرة العمل الأمني باتجاه "قسد" في المنطقة بشكل يربكها على المستوى التفاوضي والعسكري.
  • تبادل الأدوار، بقدر ما تبدو أهداف الإدارة السورية الجديدة منسجمة مع أهداف أنقرة الاستراتيجية تجاه "الإدارة الذاتية"؛ إلا أن الخلاف في الأولويات سيفرض نفسه على المشهد، خاصة وأن الإدارة السورية الجديدة تتجنب افتتاح عهدها الجديد بمزيد من الهشاشة الأمنية، والخوض في عمليات عسكرية قد يكون لها ارتدادات سياسية اجتماعية أبعد من المرحلة الحالية، لذلك، فمن المحتمل في ضوء هذا السيناريو أن تقوم الإدارة السورية الجديدة وأنقرة بتوازع أدوار الضغط والتفاوض (The good cop - bad cop scenario).
  • تقديم نموذج مطمئن، خلال دخول إدارة العمليات العسكرية إلى مدينة حلب في بداية معركة "ردع العدوان"، عمدت إلى تصدير السيطرة على مدينة حلب كنموذج/PILOT مطمئن نسبياً للحالة الشعبية حول طبيعة السيطرة الأمنية والعسكرية المتوقعة. وفي إطار هذا السيناريو، فإن هواجس ومخاوف الحالة الشعبية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتحديداً المناطق الكردية، يمكن محاكاتها عبر نموذج حي لطبيعة السيطرة والتعامل الأمني والعسكري والقانوني المتوقع. وفي هذا الإطار، تبرز عفرين كأكثر النماذج القابلة للطرح خلال هذه الفترة، خاصة بعد دخول دخول إدارة الأمن العام إليها، وذلك عبر تكثيف زيارات المسؤوليين الحكومين إليها، وتسليط الإعلام على قضاياها وتصدير خطاب متوازن اتجاه مكوناتها، وربما اتخاذ قرارات حكومية بخصوص عودة مهجّريها، وتسوية أوضاع العاملين سابقاً مع الحزب، وإعادة الملكيّات الزراعية والعقارية لأصحابها.

بقدر ما تبدو معطيات هذا السيناريو أقل كلفة من المواجهة العسكرية الشاملة، وخياراً موازياً لاستعصاء المفاوضات؛ إلا أن ذلك لا يعني أبداً أنه لا ينضوي على مخاطر، على رأسها استمرار دورة العنف، وتفاقم الأزمة الإنسانية، خاصة وأن حزب العمال من المتوقع أن يصعِّد عملياته الأمنية المضادة في ضوء هذا السيناريو. ناهيك عما قد يترتب عليه من تأخر خطط حكومة دمشق بإتمام هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية، إضافة إلى مخاطر دخول أطراف أخرى لتصعيد النزاع ودعم انتشار الفوضى.

خاتمة

إن تشابك المصالح الإقليمية والدولية في ملف شمال شرق سورية، يجعل الفعل المحلي أقل تأثيراً في رسم المستقبل السياسي والعسكري للمنطقة، والذي يبقى رهناً بتفاهمات سياسية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المؤثّرين، الأمر الذي قد يبقيها عرضة لتحولات دراماتيكية، تتطلب رؤية استراتيجية وطنية لتجنب الأسوأ.

بالمقابل، تشير وقائع التجربة والأدبيات النظرية في دراسة "الإدارة الذاتية" منذ نشأتها، إلى أن طبيعة القرار ليست بيد حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD"، وإنما ترتبط بشكل مباشر بحزب العمالPKK""، والذي بات يرى في شمال شرق سورية زاوية جديدة لنشاطاته ودوره في المنطقة، وخزاناً بشرياً ومادياً كبيراً لتفعيل هذا الدور. لذلك، فإن التخلي عن هذا الدور وفك الارتباط لن يكون أمراً بتلك السهولة، وهو مرتبط بالدرجة الأولى بقرار حزب العمال وليس الاتحاد الديمقراطي. كما أن التحركات باتجاه الإيحاء بالانفصال التنظيمي من الطرفين، حتى الآن، عبارة عن محاولات تكتيكية للإيحاء بالبعد المحلي الوطني، خاصة تحت ضغط مطالب القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سورية. ليبقى السؤال أيضاً حول كيفية إخراج العناصر والكوادر الأجنبية المسيطرة على مفاصل "الإدارة الذاتية"، وما الأدوات التي ستستخدم في ذلك، خاصة وأنه لم يُسجّل أي نجاح للدبلوماسية مع PKK"" طوال أربعة عقود من وجوده في المنطقة، ولم تنجح أي محاولة إخراج سلميّة، إلا تلك التي قام بها نظام الأسد عام 2002. السؤال الذي تبقى إجابته رهناً بالظروف السياسية والعسكرية وطبيعة الحل الذي ينتظر المنطقة، لكنه بالتأكيد يرسم مستقبلاً غامضاً لها([14]).

 


([1]) عبدي: متفقون على وحدة وسلامة الأراضي السورية ونرفض أي مشاريع تقسيم، تلفزيون سوريا، 09.01.2025، https://2u.pw/DXSfnUpS   

([2]) تدور اشتباكات متواصلة بين فصائل "الجيش الوطني" و"قسد" على خطوط التماس في ريف حلب تُرافقها تهديدات مستمرة من جانب تركيا.

([3]) مصادر للجزيرة نت: قسد رفضت عرضاً من الإدارة السورية الجديدة، الجزيرة نت، 26.01.2025، https://2u.pw/tVzdnK5g

([4]) مظلوم عبدي: موارد البلاد للشعب السوري ومستعدون للاندماج في الجيش الجديد، تلفزيون سوريا، 27.12.2025، https://2u.pw/V2jZ8jGL

([5]) بعد ساعات من قرار ترمب.. منظمات دولية تعلق مشاريعها في مخيم الهول والحسكة، تلفزيون سوريا، 26.01.2025، https://2u.pw/FZatObOq  

([6]) واشنطن بوست: أميركا تشارك معلومات سرية مع الحكومة السورية الجديدة، الجزيرة نت، 25.01.2025، https://2u.pw/wpxguoeo

([7])  واشنطن تخفف القيود المفروضة على سورية وتبقي على العقوبات، العربية نت، 07.01.2025، https://2u.pw/PB4oJjCJ

([8]) تركيا تعتبر "قسد" امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) المدرج على لوائح الإرهاب في تركيا والولايات المتحدة ودول غربية عديدة.

([9]) تركيا: سنفعل كل ما يلزم إذا لم تحل حكومة سورية مشكلة المسلحين الأكراد، العربية نت، 22.12.2024، https://2u.pw/Pud1rZAu

([10]) أوجلان يتجه لحلّ حزبه منتصف شباط.. مصير "قسد" مرتبط به، المدن، 01.02.2025، https://2u.pw/bond0sa0

([11]) شرط أمريكي لأردوغان مقابل سحب القوات الأمريكية من سورية، العربي 21، 30.01.2025، https://2u.pw/zuuddgFX

([12]) الدفاع الأميركية: نحتاج إلى البقاء في سورية لمنع عودة داعش بعد سقوط الأسد، نورث بريس، 09-01-2025، https://2u.pw/F6btmMtx

([13]) وزير الدفاع السوري لا يستبعد استخدام "القوة" مع الأكراد، وهجمات قاتلة لـ"فلول النظام"، BBC news عربي، 22-01-2025، https://2u.pw/Ns0iT7dV

  ([14])مجموعة مؤلفين، الإدارة الذاتية في سورية...مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص: 140.

التصنيف أوراق بحثية

الملخص التنفيذي

  • في ظل المعادلة المعقدة التي تحكم الملف السوري في الوقت الحاضر، تبرز أسئلة الاستقرار الأمني في سورية كأحد المرتكزات الهامة والممَّكِنة لكل من التعافي المبكر والعودة الآمنة للاجئين والنازحين. وعليه يحاول هذا التقرير الإحاطة بالأرقام التقديرية الدالة على الاستقرار الأمني عبر تسليطه الضوء على أربعة مؤشرات بالغة الأهمية على مستوى الأمن الفردي والمجتمعي، باعتبار الفرد والمجتمع دعامة أي سياسة ترتجي النهوض والتعافي، والمؤشرات الأمنية الأربعة المدروسة في هذا التقرير هي: الاغتيالات والتفجيرات والاعتقالات والاختطاف، متبعاً "منهجية النماذج النوعية".
  • بتتبع مؤشري الاغتيال والتفجيرات في محافظات (الحسكة، دير الزور، درعا) خلال الفترة المدروسة تم حصر 380 عملية، مقسمة ما بين 308 عملية تفجير و72 عملية اغتيال. وتعددت الأدوات المستخدمة في تنفيذ هذه العمليات، ما بين إطلاق النار في 213 عملية، والعبوة الناسفة في 94 عملية، والآلية المفخخة في 39 عملية، واللغم في 25 عملية، والقنبلة اليدوية في 9 عمليات إضافة إلى أنواع أخرى من الأدوات. وبلغ العدد الإجمالي للضحايا 1008، موزعاً ما بين 490 عسكرياً و518 مدنياً. وكشفت النماذج المختارة في هذا التقرير والتي ضمت كلاً من (درعا – دير الزور – الحسكة) فشلاً واضح المعالم للنظام من جهة، وللإدارة الذاتية من جهة أقل. فقد جاءت أرقام التفجيرات والاغتيالات عالية بسبب الفوضى الأمنية التي تعيشها هذه المحافظات، جراء تعدد الفواعل وتوزعها ما بين محلي وأجنبي وميليشاوي، وتضارب الأجندة الخاصة بها وتباينها. الأمر الذي انعكس سلباً على مؤشر العودة الآمنة.
  • يبين كل من مؤشري الاغتيال والتفجيرات في مناطق سيطرة المعارضة السورية خلال الفترة المدروسة، أن وصول العدد الإجمالي لها إلى 266 حادثة، مُخلفة 1209 ضحية (890 مدنياً مقابل 319 عسكرياً)، إلى جانب تنفيذ 93 حادثة عن طريق العبوات الناسفة. بينما تم استخدام المفخخة في 69 حادثة. ويشير تحليل البيانات الخاص بمنطقتي "درع الفرات" وعفرين، إلى نشاط غرفة عمليات "غضب الزيتون"التي تصدرت تبني تنفيذ عمليات الاغتيال في هاتين المنطقتين. إلى جانب ذلك، فقد سُجلت نسبة مرتفعة من حوادث الاعتقال والاختطاف في هذه المناطق. وبشكل عام، تؤشر النسب السابقة إلى إخفاق الجهات الأمنية في تحصين بيئاتها المحلية من عمليات الاختراق، وعدم نجاحها في التعامل مع طرق ووسائل الاستهداف المتجددة التي تلجأ لها الجهات المنفذة للاغتيالات. وفي ظل هذه الهشاشة الأمنية التي تشهدها هذه المناطق، واستمرار عمليات غرفة غضب الزيتون، فإن الحديث عن العودة الآمنة للاجئين إلى هذه المناطق هو مثار شك لمن ينوي العودة إليها.
  • بتتبع مؤشريّ الاعتقالات والاختطاف في مدن جاسم ودوما والبوكمال والرقة خلال فترة إعداد هذا التقرير، تبين الإحصاءات حصول 73 عملية في هذه المدن وفق الآتي: جاسم: 15، دوما: 20 البوكمال: 20، الرقة: 18. إلى جانب 23 عملية نفذتها فواعل أجنبية استهدافوا 182 شخصاً، و19 عملية نفذتها فواعل محلية راح ضحيتها 117 شخصاً. فيما بقيت 31 عملية مجهولة المصدر، أدت إلى استهداف 89 شخصاً. كما بلغ عدد ضحايا العمليات 388 ضحية، متوزعة ما بين188 مدنياً، و 109من المصالحات، و 56عسكرياً، و12 من قوات الحماية الشعبية، و20 من الدفاع المحلي، و2 من الإدارة الذاتية، وعنصراً واحداً من مرتبات فرع الأمن العسكري. وتبين النتائج أعلاه وجود نسبة مرتفعة من التدهور في مؤشر الاستقرار الأمني، لا سيما في ظل تعدد الجهات المنفذة، والتي تنوعت ما بين جهات رسمية ودولية وميليشيات محلية، ناهيك عن العمليات التي بقيت مجهولة المصدر، الأمر الذي يؤكد عدم استقرار مؤشر العودة في ظل تدهور عوامل الحماية، وتعدد المرجعيات، وعدم كفاءة الفواعل الأمنية.
  • فيما يتعلق بمؤشري الاعتقال والاختطاف في كل من مدينتي عفرين وجرابلس. فقد بلغ عددها 169 حادثة. موزعة ما بين 37 حادثة في جرابلس، و132حادثة في مدينة عفرين، مخلفة 355 ضحية. وقد تبنت غرفة عمليات غضب الزيتون تنفيذ 17 عملية من مجموع هذه العمليات. فقد استهدفت جميع هذه العمليات عناصر تابعة للجيش الوطني عبر استدراجهم للتحقيق معهم ومن ثم القيام بتصفيتهم. وبحسب البيانات المرصودة، فإن النسبة الأكبر من العمليات وقعت في شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2020. وقد تم التعرف إلى الجهات الفاعلة المنفذة لعمليات الاعتقال لـ 141 عملية، بينما بقيت 28 عملية مجهولة الفاعل. ويؤشر التباين في الأرقام المسجلة والذي يميل بشكل كبير إلى مدينة عفرين، إلى إخفاق الفواعل الأمنية في التصدي لمنفذي هذه العمليات، وضعف الإجراءات المتعلقة بالحوكمة الأمنية، مما يعزز بالتالي من تفاقم الاضطربات والمخاوف الأمنية، في ظل تعدد المرجعيات الأمنية، وتعدد موجبات الاعتقال.
  • يوصي التقرير بجملة سياسات، أهمها: تحفيز صناع القرار في الدول التي تستضيف لاجئين سوريين من أجل عدم التساهل في سياسات العودة. إذ تؤكد المعطيات وكما بين التقرير على تدهور مؤشر العودة الآمنة، وبالتالي ضرورة قيام حكومات هذه الدول بوضع حزم من الشروط القانونية والإدارية والسياسية التي تكفل توفير البيئة الآمنة، وفرضها على النظام.

مقدمة

تتسم العلاقة بين الاستقرار الأمني والتعافي المبكر بأنها علاقة عضوية في دول ما بعد النزاع، وعلاقة تبادلية في حالات الانتقال والتحول السياسي، إلا أن الثابت في معادلة تحقيق الأمن والاستقرار يتمثل بضرورة وجود مناخ سياسي جديد يجفف منابع ومسببات الصراع، والحالة السورية ليست استثناءً في هذا الأمر، فمن جهة أولى بات سؤال الاستقرار الأمني هاجساً وطنياً لكن بالوقت ذاته تعددت الأسباب الدافعة لحالات الفوضى والتشظي في المرجعيات، سواء المحلية أم الإقليمية والدولية، ومن جهة ثانية فإن الاستعصاء الذي يعتري حركة العملية السياسية وما رافقه من تحوير لجوهرها (من انتقال سياسي إلى لجنة دستورية غير واضحة المسار والمخرجات) فإنه يغيب في المدى المنظور أي انفراج متوقع من شأنه نقل البلاد إلى مناخات سياسية جديدة. وبالتالي بقاء مؤشرات الاستقرار بقيمها السالبة.

ومع اتجاه الملف السوري نحو سيناريو "التجميد القلق" معززاً احتمالية تصلب  الحدود الأمنية الفاصلة بين مناطق النفوذ الثلاثة في سورية: (منطقة النفوذ التركي وحلفيته المعارضة السورية في شمال غرب الفرات، ومنطقة النفوذ الأمريكي وحليفته الإدارة الذاتية شمال شرق الفرات، ومنطقة النفوذ الروسي والإيراني وحليفهما النظام)، فإن معدلات الاستقرار الأمني سترتبط بالتعافي المبكر والاستقرار الاجتماعي، سواء ما تعلق منها بالمقيمين في مناطقهم داخل سورية، أم أولئك النازحين من مناطق أخرى، واللاجئين في الخارج الذين يرتجون عودة كريمة وآمنة لمناطقهم، وهو محور اهتمام هذا التقرير، الذي يحاول رصد وتحليل أربعة مؤشرات بالغة الأهمية على مستوى الأمن الفردي والمجتمعي، وهي: الاغتيالات والتفجيرات والاعتقالات والاختطاف . وذلك من خلال عينة مختارة من المدن التي تمثل مختلف الجغرافية السورية.

من أجل الوصول إلى تقديرات صحيحة تم اختيار نماذج بإمكانها تقديم صورة قابلة للتعميم على باقي المناطق بارتياب مقبول. وعليه آثر التقرير، في قسميه الأول والثاني، تتبع مؤشري التفجيرات والاغتيالات خلال سنة كاملة، تبدأ من بداية شهر تموز/ يوليو 2019 وحتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2020، في مناطق النفوذ الثلاثة. ففي مناطق سيطرة النظام السوري تم اختيار المناطق التي يسيطر عليها النظام في محافظة دير الزور ومحافظة درعا باعتبارهما مناطق استعاد النظام السيطرة عليها، ويعد السؤال الأمني فيها الأكثر إلحاحاً.

 وبالنسبة لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية، تم اختيار المناطق التي تسيطر عليها في دير الزور إلى جانب محافظة الحسكة التي تعدُّ مركزاً حيوياً هاماً لها. أما بالنسبة لمناطق سيطرة المعارضة السورية فتم تتبع كافة هذه المناطق في كل من محافظات إدلب وحلب والرقة والحسكة.

ولقياس هذين المؤشريّن تم تصميم نموذج خاص لرصد تلك العمليات، وتحليل البيانات الخاصة بها، كمؤشرات للعودة الآمنة، فقد شمل النموذج الخاص بالاغتيالات والتفجيرات كلاً من: (التاريخ - المكان - نوع الحادثة - المستهدف - أداة الاستهداف - صفة المستهدف - الجهة الفاعلة للعملية). وتم الإشارة إلى نتائج تلك العمليات وما أسفرت عنه. كما سعى التقرير كذلك إلى تحليل تلك البيانات ومقاطعتها بين مختلف المناطق، في محاولة لرسم الملامح العامة للوضع الأمني وقياس أولي لمؤشرات الاستقرار والعودة الآمنة.

في حين اعتمد التقرير على المصادر التالية:

  1. المُعرّفات على مواقع التواصل الاجتماعي للناشطين في مناطق الرصد أو المتابعين للعمليات الأمنية.
  2. المُعرّفات والمواقع الرسمية للوكالات ووسائل الإعلام المحليّة التي تقوم بتغطية الأحداث في تلك المحافظات.

وشمل المؤشران الثالث والرابع كلاً من الاعتقالات والاختطاف وهما مؤشران بالغا الأهمية، نظراً لما يشكلانه من محددات مهمة للعودة الآمنة للاجئ والنازح على حد سواء. وهنا تم اختيار ثلاثة نماذج من مناطق سيطرة النظام، وهي مدن تم السيطرة عليها منذ عام 2018، وهي مدينة جاسم في درعا، ودوما في ريف دمشق، والبوكمال في ريف دير الزور. أما بالنسبة لمناطق المعارضة فقد تم اختيار مدينة جرابلس باعتبارها مدينة تم السيطرة عليها منذ حوالي العامين ضمن إطار ما عرف باسم عملية "درع الفرات". وبالتالي تعد اختباراً موضوعياً لمؤشرات الاستقرار الأمني فيها، كما تم اختيار مدينة عفرين لحساسيتها من جهة لحداثة السيطرة (منذ مطلع 2018). إلى جانب كونها توفر معطيات أولية تتيح للتقرير مقارنتها مع النموذج الأول ومدى مطابقته أو الاختلاف عنه.

 من أجل ذلك تم تصميم نموذجٍ خاصٍ لرصد تلك العمليات، وتحليل البيانات الخاصة بها كمؤشرات للاستقرار والعودة الآمنة خلال نصف سنة تبدأ من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى نهاية آذار/ مارس 2020. فقد تم تصميم النموذج في ملف الاعتقال والاختطاف وفق الشكل التالي: (التاريخ - المكان - نوع العملية - صفة المستهدف - عدد المستهدفين - الجهات المسيطرة - أماكن الرصد - الجهة المستهدِفة - جنس المستهدف). فيما يتعلق بمصادر التقرير فقد تم الاعتماد على المقابلات الخاصة مع أشخاص مطلعين على تفاصيل الأحداث في المناطق المرصودة.  بالإضافة إلى الاعتماد على:

  1. نقاط الرصد الخاصة لوحدة المعلومات في مركز عمران في الشمال السوري.
  2. التقرير الأمني الخاص الصادر عن مكاتب منظمة إحسان للإغاثة والتنمية داخل سورية.
  3. المُعرّفات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي للجهات التي تم استهدافها.

لقراءة المادة انقر هنا

التصنيف الكتب
الثلاثاء, 15 تشرين2/نوفمبر 2016 14:45

الواقع التعليمي في مناطق "الإدارة الذاتية"

يرتبط مستوى الأداء التعليمي ونوعيته في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية" بمستويات ونتائج الصراع المتعددة، وبأجندات تخدم المشروع السياسي وأيديولوجياته، ويعتري هذه العملية إشكالات تقنية وفنية عدة، ويلحظ فيها عدم وضوح الرؤية وآليات تنفيذ واضحة، وفي ظل استمرار تلك العوائق سيبقى "الأطفال والطلبة" هم الأكثر تضرراً.

مدخل

أفرزت سياسة العنف الممنهج الممارس من قبل النظام الحاكم في سورية مجموعة من الاختلالات والانتكاسات التي استهدفت بنية الدولة ووظائفها وجغرافيتها، لاسيما على صعيد الخدمات الإدارية والاجتماعية، إذ كانت المعادلة التي يتبناها النظام في تعامله مع الحراك الثوري مستندة على عدة عناصر تُمليها المؤسسة العسكرية والأمنية، غير آبهة بنتائج هذه المعادلة على ثنائية الوطن والمواطن. وتعطلت بموجب هذه السياسة العديد من وظائف الدولة وعلى رأسها وأشدها حساسية هي التربية والتعليم، تلك الوظيفة التي تماهَت مع الصراع في مناطق سيطرة النظام ولاتزال تتعثر في مناطق سيطرة المعارضة وخطفت كلياً وتأدلجت في مناطق نفوذ تنظيم "الدولة الإسلامية"، بينما باتت حالة خاصة في المناطق التي تُسيطر عليها "الإدارة الذاتية". تتجلى خصوصية وظائف الدولة بما فيها التربية والتعليم في مناطق الإدارة الذاتية كوننا أمام بنى ووظائف دولة مزدوجة تربط بينها علاقة تتراوح ما بين التنافس والاستحواذ المطلق، إذ ارتأت تلك الإدارة بأنه ليس من الضرورةً بأن تقطع التراتبية الإدارية مع حكومة النظام. في المقابل قامت بتشكيل مؤسسات موازية لتلك العائدة للدولة، بدءً من أصغر خدمات البلديات حتى تشكيل "حكومة كاملة الحقائب"، وعملت بذات السياق على إضعاف مؤسسات النظام، وهذا الأمر يشمل مؤسسات التربية والتعليم أيضاً. وتنمو هذه العلاقة الخاصة على حساب العملية بحد ذاتها لتغدو إشكالية تستوجب التفكيك ومعرفة مفاصلها الرئيسية.

سيعمل هذا التقرير على وصف وتحليل واقع التعليم في هذه المناطق وتحديد نوع وطبيعة هذه الإشكالات المتأتية من العلاقات الخاصة مع الفاعلين في تلك المناطق، وقياس مدى التوظيف السياسي لقطاع التعليم وأثره على أهداف العملية التعليمية من جهة ثانية.

المؤسسات التعليمية: أرقام وحقائق

تُعتبر محافظة الحسكة من المناطق التي تم إهمالها بشكل كامل في المجال التعليمي منذ عقود، فإذا نظرنا لمؤشر انتشار المؤسسات التعليمية لا سيما الجامعية في المحافظة فإننا نلحظ بداية دخول الحياة الجامعية للمحافظة متأخرة كثيراً في عام 2006 مع افتتاح فرعٍ لجامعة الفرات/ دير الزور. ولم يكن الافتتاح بخطوات يمكن وصفها بالجدية، فالجامعة عانت قبل الثورة من نقص الكادر التدريسي ومن استعمال مدارس بصفوفٍ ضيقة لأقسامٍ تحتاج إلى مدرجاتٍ ضخمة، وضعفٍ شديد فيما يخص تجهيزات الأفرع العلمية. وعقب الثورة ازدادت المشاكل والمصاعب التي تُواجه الطلبة في المحافظة نتيجة الفوضى الإدارية والتغيرات في الوضع العسكري في المدينة. وفي هذا الاتجاه وبالإضافة إلى الصعوبات الأمنية وتعدد القوى المتصارعة فإنه يمكن تلخيص المشاكل والصعوبات التي تواجه الطلاب والجامعة الحكومية في المحافظة والواقعة ضمن أماكن سيطرة الإدارة الذاتية بما يلي:

أولاً: تعثر العملية التعليمية جراء الصراع العسكري المتعدد الأطراف، كما حصل في كليتي الهندسة المدنية والاقتصاد نتيجة المواجهات التي حصلت بين النظام وبين عناصر كتيبة أحرار غويران في 08/09/2014([1])، وفي كليتي التربية والآداب في 25/06/2015 نتيجة سيطرة تنظيم "الدولة" على حي النشوة الشرقي في مدينة الحسكة([2])، كما توقف التعليم نتيجة الاشتباكات المتكررة بين عناصر وحدات الحماية الشعبية وجيش النظام([3]).

ثانياً: تغليب المصلحة الإدارية على العملية التعليمية فقد توقف التعليم وأحياناً الامتحانات نتيجة مناسبات خاصة بجهة سياسية، فمثلاً تم حرمان الطلبة من امتحاناتهم نتيجة الإحصاء السكاني من قبل الإدارة الذاتية([4]).

ثالثاً: صعوبات فنية وإدارية كتعثر المعاملات الإدارية، وعدم توفر الكادر التدريسي، وانعدام مدرسين من درجة الدكتوراه في أغلب أقسام الجامعة وقيام أساتذة التعليم الثانوي بتدريس طلبة الجامعة([5])، والعدد الهائل من المنظمات الطلابية الكردية والناتجة في أغلبها عن خلافات سياسية بين الطلاب([6])، وتسرب الطلبة الذكور نتيجة سحبهم للتجنيد الإجباري من قبل الإدارة الذاتية([7]).

رابعاً: تفشي التقصير والفساد كانتشار تجارة بيع المواد والأسئلة، وصعوبة الأسئلة وسلم التصحيح، وإتمام المقررات في مدة زمنية قصيرة، والتركيز على الجانب النظري دون التطرق للجانب العملي لبعض الفروع العلمية([8]).

وفيما يخص الجامعات التي أعلنتها الإدارة الذاتية وهي جامعتا عفرين وروچ آڨا فلا تزال تعاني علمياً من عدة إشكالات علمية وبنيوية أهمها:

  • عدم استحواذها على اعتراف مؤسسات الدولة السورية أو اعتراف هيئة الأمم المتحدة أو أي دولة إقليمية أو عالمية.
  • عدم مناقشة خطة افتتاح الجامعة مع الأكاديميين والمختصين بالرغم من تواجد ثلاثة عمداء كليات لدى الجامعات السورية ونواب عمداء ورؤساء أقسام.
  • قيام القائمين على افتتاح الجامعة بتهميش الكوادر الأكاديمية الموجودة في المحافظة.
  • افتقار الجامعة لمن يملأ منصب الرئاسة ويكون من حملة الدكتوراه بدرجة أستاذ مساعد على الأقل.
  • نقص الكادر التدريسي وغياب من يمكنه أن يحل محل وزير التربية والتعليم لتوقيع الشهادات.
  • افتقار كبير للمستلزمات التعليمية كعدم توفر قاعات تدريس في كلية الطب توافق متطلبات القسم، أو مخابر ومشرح ومشفى جامعي تابع لها. كما تفتقر الكليات الأخرى لقاعات ومدرجات من الممكن أن تستوعب الأعداد الضخمة من الطلاب، إضافة لانعدام وجود مكاتب للكتب تكون خاصة بكل كلية، ومكتبة مركزية للجامعة كلها([9]).

يوضح الجدول أدناه توزع الجامعات والكليات وتعداد الطلاب في مناطق أخضعتها الإدارة الذاتية لنفوذها([10]):

ويوضح الجدول أدناه أهم المؤسسات التعليمية وأعدادها وحجم الكادر التدريسي والطلاب ضمنها والتي تديرها الإدارة الذاتية في المناطق التي تسيطر عليها:([11])

محاولات الاستحواذ على العملية التعليمية

تتبع الإدارة الذاتية عدة أساليب في إدارة القطاع التربوي والتعليمي في مناطقها وذلك تبعاً لحجم سيطرتها التي تبدو مطلقة في عفرين وعين العرب/كوباني، بينما هي متفاوتة في محافظة الحسكة، وهو ما جعل عملية التحكم في مفاصل هذا القطاع وهوامشه متفاوتة أيضاً. ففي مدينة عفرين برزت سياسة الإدارة في هذا القطاع بشكل واضح، إذ ربطت كافة المؤسسات التعليمية -التي كانت تُدار من قبل مؤسسة اللغة الكردية واتحاد "معلمي غربي كردستان" من العام الدراس 2012-2013 حتى منتصف العام 2013- 2014  بالجهاز التنظيمي للإدارة الذاتية وأتبعتها لهيئة التربية والتعليم([14]).

استندت أركان العملية التعليمية على ثلاثة قواعد رئيسية، أولها المتطلبات الأيديولوجية، وثانيها اعتماد اللغة الكردية، والقاعدة الثالثة مرتبطة بضرورات التغيير وإعادة تأهيل البنى التعليمية، إذ أوصى المؤتمر الثاني لمؤسسة مؤسّسة اللّغة الكرديّة «SZK» الذي عقد في مدينة عفرين بتاريخ 18/ كانون على ضرورة " ترسيخ النظام التعليمي وفق مبادئ الأمة الديمقراطية استناداً إلى فلسفة قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان"، وضرورة تأهيل الكادر التدريسي لنفسه بجهود ذاتية، بالإضافة إلى وجوب خضوع جميع الأعضاء للتدريب الإيديولوجي، الثقافي والمسلكي، وضرورة عمل الهيئة على البدء بالتعليم بشكل رسمي باللغة الكردية خلال العام الدراسي 2015- 2016([15]). من جهة أخرى يتم توجيه الاتهام للإدارة الذاتية بأدلجة المواد التعليمية نتيجة فرضها مادة تسمى "الأمة الديمقراطية" والتي تنبع من فكر ونظرية عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكُردستاني المعتقل في تركيا([16]).

كما بدأت عملية اعتماد مناهج التعليم باللغة الكُردية في المناطق ذات الكثافة الكُردية والواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية في مدينة عفرين بتاريخ 17/11/2014، وقررت هيئة عفرين تغيير المناهج للعام الدراسي 2014-2015 وللصفوف الثلاثة الأولى باللغة الكُردية.

إلا أن العملية التعليمية في هذه المدينة لا تزال تواجه صعوبات جمة، فبالإضافة إلى عدم توافر الدعم اللوجستي والفني للعملية وعدم تزويد المدينة وريفها بالكتب المدرسية لما يقارب أربع سنوات، تبرز إشكاليتان تهدد هذه العملية برمتها، ترتبط الإشكالية الأولى بمسألة الاعتراف بمخرجات مؤسسات التعليم سواء كخطط العمل أو شهادات طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية، رغم تجاوز أعدادهم آنذاك 1500 طالب من حملة الشهادة الثانوية و2500 طالب في مرحلة التعليم الأساسي وبلغ عدد الطلاب في المعاهد التابعة للإدارة الذاتية 170 طالباً وطالبة، ناهيك عن أعداد النازحين من المناطق السورية والتي حسب إحصاءات غير رسمية قارب عددهم 500 ألف([17]). وتتعلق الإشكالية الثانية بعدم القدرة على تأهيل الموارد البشرية المختصة التي ستتولى تنفيذ الخطط التعليمية، وهذا ما ناقشه ذات المؤتمر وكان أحد أهم أسباب انعقاده، إذ أن أغلب المدرسين غير حاصلين على شهادات جامعية "ناهيك عن امتناع المدرّسين الاختصاصيين عن التعاون مع مؤسسة اللغة"، وعلى الرغم من أن المؤسسة قد أهلت خلال عام واحد قرابة 1000 مدرس للتعليم باللغة الكُردية خلال عامٍ واحد، إلا أنها تتعرض للنقد الشديد فيما يخص سوية المدرسين لديها، حيث إن الكثير منهم هم من غير الحاصلين على شهادات معاهد أو جامعات([18]).

وفيما يتعلق بحدود العلاقة مع المؤسسات الرسمية التابعة للنظام فقد توجهت هيئة التعليم باللغة الكُردية نحو تحجيم وتقويض دور المجمع التربوي الحكومي بدءً من الشهر الثامن من ذات العام. وتم تعميم المناهج الكُردية على كافة الصفوف في المرحلة الابتدائية (من الصفّ الأول إلى السادس) مع إدخال مادتي اللغة العربية للصفّ الرابع والإنكليزية للصفّ الخامس. وفيما يخص المخاوف التي رافقت عملية قطع العلاقة بالمجمع التربوي وما يمكن أن تنتجه من تغييب لدور الآلاف من المدرسين المعينين من قبل الدولة في مدارس عفرين وريفها، صرحت رئيسة هيئة التربية والتعليم في مقاطعة عفرين بأن الباب مفتوحٌ أمامهم لينضموا للنظام التدريسي التابع للإدارة الذاتية. ويقدر عدد المدرسين من ملاك الدولة في المنطقة بحوالي 5000 معلم ومعلمة، وترى رئيسة الهيئة بأن "مقاطعة عفرين تحتاج إلى 1500 مدرّس فقط لتغطية كافة المدارس الموجودة في المدينة والريف من إداريين ومدرسين، إضافة لـ 300 مدرّس اختصاصي للمرحلة الثانوية"([19]).

أما في محافظة الحسكة فقد شهدت خلافات أشد من تلك الحاصلة في مدينة عفرين وكوباني/عين العرب نتيجة وجود الدوائر الحكومية ومزاولتها لواجباتها الإدارية خصوصاً في مجال التعليم، الأمر الذي أدى إلى حدوث صراع بين حكومة النظام من جهة وبين الإدارة الذاتية من جهة أخرى على الأحقية في إدارة المؤسسات التربوية. وفي هذا الصراع لاتزال المؤسسات التربوية التابعة للنظام تمتلك قوة "الشرعية" المؤسساتية في منح الشهادات والرواتب بشكل خاص. وفي المقابل تحاول الإدارة الذاتية إجبار هذه المؤسسات على الاعتراف بها كجهة شرعية لإدارة الملف التربوي عبر السيطرة على البُنية التحتية الرئيسية لقطاع التعليم "المدارس" وعلى المحرك البشري المتمثل بالطلاب والكادر التدريسي.

وضمن هذه السياقات قامت الإدارة الذاتية بتشكيل معاهد لتعليم اللغات: الكردية والسريانية والآشورية، وهي الجهة الوحيدة التي تستطيع إعداد المدرسين وتعيينهم لاحقاً، تحت إشراف هيئة التربية للإدارة الذاتية([20]). والجدير بالذكر أن التوجه نحو التعليم باللغات الأُم كان مطلباً للكُرد بشكل خاص إلى جانب كونه مطلباً للأرمن والآشوريين والسريان بدرجة أقل نتيجة تمتعهم ببعض الحرية في تعلم لغتهم في عهد " النظام". وفي هذا الاتجاه كان مجلس غرب كُردستان المعلن من قبل الإدارة الذاتية قد أعلن مشروع دستورٍ في تموز 2013 تضمن في مادته الخامسة "اللغة الكردية والعربية هما اللغتان الرسميتان لمناطق الادارة الذاتية مع ضمان التعليم لأبناء المكونات الأخرى للتعليم بلغتهم الأم ([21])"، ليدخل التدريس بمناهج وفق اللغات القومية في محافظة الحسكة حيز التنفيذ مع بداية العام الدراسي في 28/09/2015([22]).

والجدير بالذكر أن خطوة الإدارة الذاتية بالتعليم باللغة الكُردية لاقت اعتراضاً من قبل المجلس الوطني الكُردي وأنصاره، ونظم المجلس عدة مظاهراتٍ رافضة للمنهاج المفروض من قبل الإدارة الذاتية واستمر المجلس الوطني في المظاهرات الرافضة للمناهج مع كل خطوة كانت تخطوها الإدارة الذاتية في هذا الاتجاه كما حدث في مدينة ديريك. ورفع المجلس سقف خطر المناهج على الكُرد أنفسهم عبر الشعار "هذه المناهج هي الخطوة الثانية لإفراغ المناطق الكردية ممن تبقى فيها من مواطنين أكراد"([23]).

وخلال الفترة الممتدة بين 2015-2016 أعلنت الإدارة الذاتية أنها أتمّت تدريب ما يقارب 2600 مدرس ومُدرسة على أسس التدريس بمناهجها للصفوف الدراسية الثلاثة الأولى وطبعت أكثر من 40 ألف كتاب لتغطية احتياجات المدارس التي تم الإقرار بإعطاء الدروس فيها([24]). كما أعلنت الإدارة الذاتية في بداية العام الدراسي لعام 2016 استكمال استعداداتها لتطبيق مناهجها في كافة المدارس([25]). وفيما يخص الدورات التدريبية فتمتد الواحدة منها ثلاثة أشهر، وتتركز حول تقوية المنضمين إلها في مجال التعليم باللغة التي من المقرر أن يقوم/تقوم بتدريس الطلاب من مقررات هيئة التعليم في الإدارة الذاتية([26]).

محاولات توزيع ومحاصصة العملية التعليمية

شجعت الخلافات المستمرة بين مديرية التربية التابعة للنظام، وهيئة التربية التابعة الإدارة الذاتية نتيجة سعي الطرفين للسيطرة على كامل القطاع التعليمي في المحافظة، على تنامي مناخات الفوضى التي تهدد متطلبات الطلبة ومصيرهم([27])، وأمام هذا الواقع وردت تقارير عن اجتماع في مدينة الحسكة ضم ممثلين عن هيئات الطرفين في محاولة للوصول إلى صيغة تفاهم بشكل رئيسي حول المناهج التعليمية. ووفق بعض المنتسبين للكادر التدريسي في المحافظة توصل الطرفان لصيغة تفاهم، والتي تمحورت حول وضع خطة تعليمية للمرحلة الإعدادية، تتضمن القيام بتدريس خمس ساعات لغة كردية أسبوعياً للصف السابع والثامن، وثلاث ساعات لغة كردية للصف التاسع، على أن يتم اقتطاع هذه الساعات من نصاب اللغة العربية والاجتماعيات والمعلوماتية والعلوم والديانة، مقابل أن يتم السماح لها بالاستمرار في التعليم وفق منهاج الدولة.

أما بالنسبة لمرحلة التعليم الأساسي فقد تضاربت التصريحات حول عدم الوصول لأي اتفاق مع إصرار الإدارة الذاتية على أن يكون التعليم في كافة الصفوف باللغة الكردية في المناطق ذو الكثافة السكانية الكُردية ووفق منهاجها. وعرضت مديرية التربية من جهتها المناصفة([28])، في حين أكدت جهات إعلامية محلية على حدوث اتفاق تتخلى الدولة بموجبه عن شرطها بتعليم المنهاج التربوي الخاص بها في المرحلة الابتدائية وتسليمها بشكل كامل للإدارة الذاتية([29]). وظهرت الخلافات بشكل واضح مع قيام مديرية التربية في الحسكة بإعلان قرار يقضي بإغلاق كافة المدارس الابتدائية التي تعتمد منهاج الإدارة الذاتية([30]). ونفت مديرة التربية بالحسكة إلهام صورخان "ما تناقلته "التسريبات" الصادرة عن بعض وسائل التواصل الاجتماعي "بخصوص الاتفاق مع الإدارة الذاتية([31]). وأعلنت مديرية التربية في المحافظة عملها على إسقاط أكثر من 600 مدرسة من سجلاتها وهي المدارس الخاضعة تحت سيطرة الإدارة. وستؤدي خطوة كهذه إلى حرمان أكثر من 90 ألف طالب من شهادات مديرية التربية، ومن خدمات الدولة ومنظمة اليونسكو([32])، التي لم تعترف هي أيضاً بالنظام التدريسي المطبق من قبل الإدارة الذاتية، ويجدر بالذكر أن مديرية التربية التابعة لحكومة النظام اتجهت لإخضاع طلاب المرحلة الأساسية الأولى المنتقلين إلى المرحلة الثانية (الابتدائي إلى الإعدادي) لامتحان خاص تحت مسمى سبر المعلومات، حتى يتم قبولهم ضمن صفوف الطلبة في مدارسها([33]).

وقد تطورت التنافسية لدرجة الاشتباك العسكري فقد شهدت جامعة الفرات اشتباكات متفرقة بين الأطراف العسكرية الحاكمة للمدينة، أدت إلى سيطرة قوات الحماية الشعبية والأسايش على أبنية الجامعة مؤخراً، فقام النظام بالرد عبر إيقاف التدريس فيها، مشترطاً قيام الإدارة الذاتية بسحب عناصر الأسايش وتسليم الجامعة للحرس الجامعي الجامعة([34]). من جهتها نفذت الإدارة الذاتية هذا الشرط لتُعلن لاحقاً رئاسة الجامعة استئناف دوام الطلاب والعاملين فيها والاستعداد لتنفيذ امتحانات الدورة الإضافية لطلاب التعليم النظامي في 26/09([35]).

أما فيما يتعلق بالعلاقة مع المدارس المسيحية، فلم تكن المدارس العائدة للكنائس في المحافظة بعيدةً عن الصراع على مناهج التعليم وتبعيتها المؤسساتية، فالكنائس والتجمعات السياسية والمدنية المسيحية أطلقت في أيلول 2015 بياناً تشير فيه إلى عدم ضرورة فرض هذه المناهج على مدارسهم، لأن المناهج وفقاً لرؤيتهم تعرقل سير العملية التربوية، وهي خطوة مرفوضة بناءً على الخصوصية الإدارية والتربوية في المحافظة([36]). واتجهت مدارس الكنيسة للإضراب لمدة أسبوعين وعلى إثرها تم التراجع من قبل الإدارة الذاتية عن الخطوة، وتم الاتفاق على ألا تستقبل هذه المدارس الطلبة الكُرد، على أن تستمر بتدريس المناهج الحكومية. ولا تتفق الأطراف المسيحية كلها على رفض سياسة الإدارة الذاتية حيث يرى سنحاريب برصوم نائب رئيس حزب الاتحاد السرياني المنضم لصفوف الإدارة الذاتية، أن القرارات الصادرة من الإدارة كقوانين يجب أن تطبق على جميع المكونات دون استثناء، وأكد التزامهم بكافة القرارات([37]). وتتداول مصادر من المنطقة أنباء عن وجود اتفاق شفهي غير معلن بين المدارس المسيحية الخاصة وبين الإدارة تنص على عدم استقبال الطلاب الكرد كشرط للسماح لها باستمرار التدريس بمناهج وزارة التربية، ولا يشمل هذا المنع الطلاب العرب([38]). ويُقدر عدد الطلاب المنتسبين للمدارس العائدة للكنسية أو الخاصة العائدة للمسيحيين بحدود 5000 طالب في المحافظة، بينهم نسبة جيدة من العرب والكُرد. وكان مسموحاً للمدارس الكنسية من قبل النظام بـــ 4 حصص أسبوعية للغتين السريانية والأرمنية باعتبارها لغات طقس كنسي/ديني([39]).

وضمن هذا السياق تقوم "الإدارة الذاتية" وبناءً على "اعتبارها" كافة لغات مكونات المحافظة "لغاتٍ رسمية" بدورات تأهيلية لكوادر مسيحية ليتم تعيينها لاحقاً في كافة المدارس الواقعة تحت سيطرتها. ولتحقيق هذه الغاية طلبت "الإدارة الذاتية" نحو 50 معلم ومعلمة ليتم تدريبهم على تعليم اللغة السريانية ليتم توزيعهم على مدارس المحافظة للعام الدراسي 2016-2017، لمرحلة التعليم الأساسية الأولى. ويتم تحضير هذه الكوادر في معهد "أورهي" بمدينة القامشلي والذي تأسس في آذار 2016 ويختص بتعليم اللغة السريانية.

عموماً تدل العلاقة المضطربة بين الطرفين (النظام – "الإدارة الذاتية") على توافر عنصر التوظيف السياسي لكليهما، فالاستحواذ على أحد أهم وظائف الدولة ستبقى ملعباً للتجاذب والاشتباك طالما أن البوصلة المتحكمة في هذا السياق مرتبطة بمشروع سياسي لا يستقم دون تطبيق فكره وخططه على المجتمع. وفي ظل هذا تستمر الفجوة التعليمية بالتوسع وتنذر (كما هو الشأن في كافة الجغرافية السورية) بتعاظم مستطرد لانهيار وتآكل متنامي للعملية التربوية والتعليمية وهو ما سيعزز عوامل الأمية وانتشار الجهل.

مهددات مستمرة ومتنامية

تُواجه عملية تغيير المناهج في مناطق "الإدارة الذاتية" صعوبات متباينة تبعاً للمنطقة، ففي محافظة الحسكة (كانتون الجزيرة) يفرض التنوع الديمغرافي مناخات صد وجذب لهذه العملية، لاسيما في محافظة الحسكة، القامشلي القحطانية/تربي سبي، ورأس العين/سريه كانيه. وفي هذه المدن هناك أحياء يمكن وصفها "بالصافية" عرقياً أو دينياً، وبالمقابل هناك أحياء أخرى مشكلةٌ من خليط عرقي مختلف ومن أديان مختلفة كالحي الغربي في مدينة القامشلي، وحي المحطة في مدينة الحسكة على سبيل المثال.

أما فيما يخص مدينة عين العرب / كوباني، فتعاني من تدمر البنية التحتية لمديرية التربية نتيجة المعارك التي حدثت داخلها نهاية العام 2014 وبداية عام2015 بعد أن اقترب تنظيم "الدولة" من السيطرة عليها تماماً. وبالنسبة لمدينة عفرين فقد أدت المعارك المستمرة في ريف حلب الشمالي إلى انقطاع طرق المواصلات بينها وبين مدن عموم سورية وبشكل خاص مع مدينة حلب وجامعتها لعدة سنوات، وهذا ما أدى لتجمع أعداد هائلة من المنقطعين عن إكمال حياتهم الجامعية، وظهر في عموم هذه المناطق حالة الانقطاع والتهرب من المدارس نتيجة عدم وجود قوة ضابطة للعملية بشكل صارم. وعموماً يمكن تلخيص مهددات العملية التعليمية وفق التسلسل الآتي:

  1. مهددات ناجمة عن مفرزات الصراع: كانخفاض أعداد الطلاب نتيجة التحاق أو سوق الكثير منهم للجبهات. وانخفاض أعداد الطلبة نتيجة الهجرة المتزايدة، وتوجه الكثير من الطلبة للعمل لإعانة عوائلهم نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة.
  2. مهددات تتعلق بعدم اتساق الخطة التعليمية مع ثنائية الحاجات وبطبيعة المناهج المفروضة، إذ يعاني التلاميذ في الصف الأول الابتدائي من عدم توازن المنهاج وحجمه الكبير، إضافة إلى رغبة الكثير من الأهالي التركيز على اللغتين العربية والكُردية، ناهيك عن اقتصار عملية التدريب للكادر التدريسي على فترة 3 أشهر فقط، وافتقار العديد من أفراد الكادر التدريسي للمؤهلات العلمية.
  3. مهددات السعي لأدلجة المناهج وفق أيديولوجية سياسية، حيث يرد في مجمل كتب المرحلة الأساسية أكثر من 12 حالة ذات دلالة لفكر حزب العمال الكُردستاني.

أحدثت عملية تغيير المناهج من قبل “الإدارة الذاتية” شرخاً في البيت السياسي الكُردي في هذا الخصوص، فمع أن التعليم باللغة الأم هو مطلبٌ كرديٌ شعبي منذ أمد بعيد إلا أن الحالة السياسية الحاكمة للمناطق الكُردية أدت إلى رفض البعض وخصوصاً المجلس الوطني الكُردي الذي رفض العملية جملةً وتفصيلاً، وطرح حلولاً بشكل غير مباشر أو مباشر عبر المظاهرات كانت تتمحور بشكل رئيسي حول العودة للمناهج "الحكومية" بناءً على أنها المعترف بها رسمياً وبالتالي لن يتضرر الطلبة في مستقبلهم. من جهة أخرى يرى المجلس إمكانية لحل هذه المعضلة ضمن اتفاق بين الأطراف الكُردية نفسها من خلال اتفاقٍ شامل حول كافة الملفات السياسية، العسكرية والإدارية.

ولردم هذا الشرخ الحاصل في البيت السياسي الكُردي وتأمين مستقبل الأطفال اقترح الباحث "إبراهيم خليل" في بحثه "مناهج التعليم الكردية في الإدارة الذاتية" حلاً لهذا الإشكال بضرورة "عدم التضحية بهذه الخطوة لمجرد الاختلافات السياسية"، والبدء بالعمل على توفير الاعتراف القانوني للمؤسسة التعليمية"، و"قبول مبدأ الشراكة مع الحركة السياسية الكردية في جزئية تعديل المحتوى وتنقية المناهج من جميع الأخطاء والنقاط محل الاختلاف"([40])، إلا أن الإشكال لايزال قائماً وتتراكم فوقه مجموعة من الصعوبات والمهددات المتزايدة التي تجعل العملية التعليمية ومستقبلها في مواجهة خطر النسف والإلغاء.

خاتمة

 لا يمكن القول بأن العملية التعليمية في مناطق “الإدارة الذاتية” تسير باتساق وفق أهداف العمل التعليمي عموماً، وذلك عائد لأسباب موضوعية شأنها شأن باقي المدن والقرى السورية، ومرتبطة بمستويات ونتائج الصراع المتعددة من جهة، ولارتباط هذه العملية في هذه المناطق بأجندات سياسية تخدم المشروع السياسي وأيديولوجياته دون تدعيم العملية تقنياً وفنياً وبرؤية وآليات تنفيذ واضحة من جهة ثانية، ونظراً لخصوصية هذه المناطق الديمغرافية وصعوبة إدارة التنوع في ظل تعثر الاعتراف القانوني في هذه المؤسسة من جهة أخيرة. ناهيك عن الصعوبات الإدارية واللوجستية المرتبطة ببيئة الوظيفة التعليمية التي تشهد واقعاً أمنياً وإنسانياً مركباً.

إن التداخل الإداري والخدمي بين مؤسسات "الإدارة الذاتية" ومؤسسات تابعة للنظام أفرزت اضطراباً في بوصلة عمل البنى المعنية بالعملية التعليمية، انعكس بشكل مباشر على تدهور الواقع التعليمي في هذه المناطق. ومما ساهم في تسارع عملية التدهور هو رغبة "الإدارة الذاتية" لفرض سلطتها كأمر واقع بشكل ارتجالي غير مدروس على وظائف تهم المواطن بشكل مباشر خاصة مع عدم وجود خطة تربوية تعليمية تفصيلية واضحة مدعمة بكوادر مؤهلة لقيادة وتنفيذ هذه العملية، مقابل فقط امتلاكها لخطوط عامة مرتبطة بالمستند الأيديولوجي، وضرورات المنافسة والاستحواذ. وهو ما يعزز من عوامل اتساع الفجوة التعليمية وتفشي الأمية والجهل.


([1]) تأجيل امتحانات كليتي الهندسة المدنية والاقتصاد في الحسكة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 08/09/2016، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-2Sn

([2]) تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على كليتي التربية والآداب في مدينة الحسكة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 25/06/2015، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-9qX

([3]) مجلس العشائر الكردية يتوسط لإعادة العمل بمؤسسات الدولة في الحسكة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 09/09/2016، الرابط: https://goo.gl/Bj5QBR

([4]) الإدارة الذاتية تجري إحصاء سكاني في مدينة الحسكة وسط فرض "الآسايش" حظراً للتجوال، الموقع: روداو، التاريخ: 14/10/2016، الرابط: https://goo.gl/VAYdMi

([5]) المواصلات مشكلة تضاف إلى يوميات الطلاب الجامعيين في الحسكة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 24/12/2014، الرابط: https://goo.gl/tIIvEF

([6]) ندوة حوارية مفتوحة حول مشاكل الطلبة الكرد، الموقع: آراينوز، التاريخ: 27/11/2014، الرابط: https://goo.gl/pnvjZ6

([7]) الطلاب الجامعيون في الحسكة بين واقع الملاحقات الأمنية والفساد الإداري التعليمي، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 10/22/2014، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-3Wf

([8]) اتهامات بالفساد، وأوضاع امتحانية صعبة يعاني منها طلاب جامعة الفرات بالحسكة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 03/07/2016، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-i4J

([9]) جامعة روج آفا.. هل تحقق المأمول ؟، الموقع: حزب الاتحاد، الرابط: https://goo.gl/3tQufc

([10]) الأرقام والمعلومات الواردة تم استخلاصها من المصادر التالية:

  • جامعة الفرات في الحسكة: الامتحانات ستبدأ في 22 الشهر الحالي، الموقع: تحت المجهر، التاريخ: 03/06/2014، الرابط: https://goo.gl/rOZ3tT
  • نحو 30 ألف طالب يبدؤون امتحانات الفصل الثاني في كليات الحسكة، الموقع: وكالة سانا، التاريخ: 18/06/2015، الرابط: https://goo.gl/WUz6Zr
  • الامتحانات في موعدها بـ 17 الجاري. والجامعة بصدد إصدار قرارات التخرج، الموقع: جريدة الوطن، التاريخ: 04/01/2016، الرابط: https://goo.gl/vab9Dp
  • 300 متقدم إلى اختبار المقدرة اللغوية للقيد في درجة الماجستير بجامعة الفرات في الحسكة، الموقع: سانا، التاريخ: 20/09/2015، الرابط: https://goo.gl/1G1R4S
  • نداء استغاثة من طلاب جامعة المأمون: أنقذونا من مخالب وأنياب، الموقع: مشتى الحلو، التاريخ: 09/09/2007، الرابط: https://goo.gl/Ha97q6
  • جامعة روج آفا هل تحقق المأمول ؟، الموقع: حزب الاتحاد، الرابط: https://goo.gl/3tQufc

([11]) انظر المراجع التالية:

  • التعليم في روج آفا يدخل مرحلته الثورية الثالثة، الموقع: وكالة آن ف ا، التاريخ: 08/07/2016، الرابط: https://goo.gl/6xUCdV
  • 4 ملايين طالب وتلميذ في 15 ألف مدرسة، الموقع: أيام سورية، التاريخ: 17/09/2016، الرابط: https://goo.gl/SZqsWx
  • التحضيرات لبدء العام الدراسي في مقاطعة كوباني، الموقع: مقاطعة كوباني، التاريخ: 17/09/2016، الرابط: https://goo.gl/v0kqDF
  • عداد 250 مدرساً في صرين لتدريس المنهاج الجديد، الموقع: وكالة آنها، التاريخ:17/09/2016، الرابط: https://goo.gl/UgcAyd

([12]) المجلس المدني في منبج يعيد افتتاح مدارس المدينة وريفها، الموقع، آرانيوز، التاريخ: 10/10/2016، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-kPi

([13]) أطفال سوريون يتذوقون متعة العودة الى المدارس في منبج، الموقع: وكالة هوار، التاريخ: 29/09/2016، الرابط: https://goo.gl/UjsrGG

([14]) الإدارة المحلية في مناطق كُرد سورية "عفرين نموذجاً"، الموقع: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، التاريخ: 03/07/2015، الرابط: https://goo.gl/KzcDgV

([15]) كونفرانس الثاني لمؤسسة اللغة الكردية: تحديد نظام التعليم في مقاطعة عفرين، الموقع: مقاطعة عفرين، التا ريخ: 18/01/2015، الرابط: https://goo.gl/m5pfQF

([16]) أكراد سوريا يغامرون بافتتاح جامعة عفرين ويتأمّلون باعتراف دوليّ مستقبلاً، الموقع: المونيتور، التاريخ: 18/05/2016، الرابط: https://goo.gl/vGWTMp

([17]) الإدارة الذاتية في عفرين تقرر تدريس المناهج بالكردية حتى الصف الثالث الابتدائي، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 17/11/2014، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-44g

([18]) مؤسّسة اللّغة الكرديّة «SZK» تعقد مؤتمرها الثّاني في عفرين، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 18/01/2015، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-57o

([19]) تغيّرات جوهرية في النظام التربوي بمقاطعة عفرين والمدرّسون يتساءلون عن مصيرهم؟، الموقع: حزب الإتحاد، الرابط: https://goo.gl/y72VLX

([20]) مناهج التعليم الكردية في الإدارة الذاتية، الموقع: مدارات كُرد، المؤلف: إبراهيم خليل، التاريخ: 08/12/2015، الرابط: https://goo.gl/IoitWm

تم تأليف كتب الصفوف الثلاث الأولى من مرحلة التعليم الأساسي على يد أحد عشر أستاذاً من كرد تركيا كمؤلفين أساسيين، ويشتمل المنهاج الجديد على الكتب الرئيسية الثلاث (القراءة والرياضيات والعلوم) باللغة الكردية (اللهجة الكرمانجية)، وكتب بالأحرف اللاتينية على الغلاف الداخلي من جميع الكتب عبارة ترجمتها "تم إعداد هذا للكتاب من قبل لجنة الكتاب في غرب كردستان بالاستفادة من كتب ” مخمور" ومخمور هي مدينة صغيرة ضمن إقليم كردستان العراق.

([21]) مسودة دستور الحكومة المؤقتة لغربي كوردستان، الموقع: بيو كي ميديا، التاريخ: 20/07/2013، الرابط: https://goo.gl/LqnY9I

([22]) افتتاح المدارس في مدينة قامشلو مع المنهاج الكردي الجديد، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 28/09/2015، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-bvA

([23])المسيحيون يحذرون من «تغير ديموغرافي وفتنة طائفية، الموقع: القدس العربي، التاريخ:28/09/2016، الرابط: https://goo.gl/gX9XuR

([24]) الأسايش تفض مظاهرة منددة بالمناهج الدراسية الجديدة، الموقع: أخبار سورية، التاريخ:09/11/2015، الموقع: https://goo.gl/kZkCGI

([25]) الإدارة الكردية تنتهي من إعداد مناهج "الأمة الديمقراطية"، الموقع: عربي21، التاريخ: 11/07/2016، الرابط: https://goo.gl/OfG1q9

([26]) إدراج المناهج الجديدة في الصفوف الست الأولى في الجزيرة، الموقع: ولات اف إم، التاريخ: 23/09/2016، الرابط: https://goo.gl/y9lB0I

([27]) مديرية التربية تنقل امتحانات الشهادة الثانوية إلى مدينة الحسكة، الموقع: يكيتي ميديا، التاريخ: 22/05/2016، الرابط: https://goo.gl/eT2yvl  

([28]) بدأ العام الدراسي في شمال سوريا بتفاهمات بين الإدارة الذاتية والدولة ومنهاج كردي متطور في المدراس، الموقع: صدى الواقع السوري، التاريخ: 28/09/2016، الرابط: https://goo.gl/bS8fy2

([29]) النظام والديمقراطي يتسببان في حرمان أطفال الحسكة من التعليم، الموقع: أنا برس، التاريخ: 01/10/2016، الرابط: https://goo.gl/TUfbDg

([30]) المناهج الكردية الجديدة تتسبب باغلاق المدارس في الحسكة، الموقع: مدار اليوم، التاريخ: 23/09/2015، الرابط: https://goo.gl/GOGAeJ

([31]) مديرة التربية: الاتفاق مع الإدارة الذاتية الكردية بشأن التعليم في الحسكة ليس صحيحاً، الموقع: سورية تجمعنا، التاريخ: 18/08/2016، الرابط: https://goo.gl/chrych

([32]) مصير أسود ينتظر الطلاب السوريين في مناطق الميليشيات الكردية، الموقع: بلدي: التاريخ: 16/09/2016، الرابط: https://goo.gl/ZSzrzC

([33]) قررت مديرية التربية السورية إجراء امتحانات استثنائية (سبر معلومات)، الموقع: صفحة الدكتور فريد سعدون، التاريخ: 09/10/2016، الرابط: https://goo.gl/IggNV6

([34]) النظام يوقف التعليم في فروع جامعة الفرات بالحسكة بعد سيطرة الوحدات الكردية عليها، الموقع: يوتيوب، التاريخ: 23/09/2016، الرابط: https://goo.gl/805QXw

([35]) رئاسة جامعة الفرات في الحسكة تعلن استئناف الدوام تمهيداً للامتحانات التكميليلة، الموقع: آرانيوز، التاريخ: 26/09/2016، الرابط: http://wp.me/p4OhLR-ksU

([36]) المسيحيون يحذرون من «تغير ديموغرافي وفتنة طائفية، الموقع: القدس العربي، التاريخ:28/09/2016، الرابط: https://goo.gl/gX9XuR

([37]) قوانين الادارة الذاتية تقسم المسيحيين ما بين مؤيد ورافض، الموقع: قناة عشتار، التاريخ: 04/10/2016، الرابط: https://goo.gl/8hC3JA

([38]) اللغة السريانية تقتحم مناهج التعليم بالحسكة وطرد وفد النظام من "الشدادي"، الموقع: زمان الوصل: التاريخ: 28/09/2016، الرابط: https://goo.gl/cLMjWZ

([39]) المدارس السريانية والأرمنية بين “المطرقة “الكردية و “السندان” العربي، الموقع: مفكر حر، التاريخ: 11/09/2016، الرابط: https://goo.gl/nHGVkt

([40]) مناهج التعليم الكردية في الإدارة الذاتية، الموقع: مدارات كُرد، المؤلف: إبراهيم خليل، التاريخ: 08/12/2015، الرابط: https://goo.gl/IoitWm

التصنيف أوراق بحثية