ملخص: يستعرض تقدير الموقف هذا سياق العمل السياسي الدولي في الملف السوري منذ بيان جنيف وصولاً إلى بيان فيينا الأخير الذي يطرح نفسه كإطار تطبيقي للحل ويسعى لأن يكون ذو صيغة إلزامية لجميع الدول، كما يحدد تقدير الموقف هذا قواعد اللعبة الجديدة، وهوامش التحرك المتاحة للمحور الثلاثي، ويقترح بعض أطر التحرك الوطنية لقوى الثورة التي وضعت أمام خيارين إمّا الرفض وتحمل الأعباء الدولية لإجهاض الثورة، أو القبول والعمل بالتوازي على استراتيجية متكاملة لا تستثني العمل العسكري النوعي.
اجتماعات فيينا: السياق والمخرجات المثبتة
لطالما وقفت تفسيرات بيان جنيف المتضاربة عائقاً موضوعياً أمام تحقيق تغيير سياسي حقيقي في سورية، وعلى الرغم من خلو هذا البيان من أي بند يُحتم بشكل صريح خروج رأس النظام من السلطة، إلّا أنه تضمن بنوداً أخرى مردُّ تطبيقاتها سيؤدي بالإطاحة بنظام الاستبداد الذي ثار ضده الجمع السوري على الأقل، إلا أن سير العملية السياسية التي تفترض إيجاد مناخات تلجُ في عمليات التفكير لبناء الأطر التنفيذية لهذا البيان، اعترضه الكثير من العقبات والتحديات، منها ما يتعلق بمنطق إدارة الأزمة التي مارست ضغطاً واضحاً على قوى المعارضة عبر الالتفاف على جوهر الأزمة في سورية، سواء على صعيد تكريس نموذج الهدن المحلية، أو من خلال تعويم برامج ومسارات موازية تركز جميعها على المشترك مع النظام عوض إيجاد حلول حقيقة ومديدة للمشكلة السياسية التي سببها استمراره في الحكم طيلة العقود الخمسة الماضية، كما أن جزءً أساسياً من هذه العقبات فرضته مفرزات الصراع والعنف الممنهج للنظام الذي أضاف على معادلة الأزمة إرهاب الجماعات العابرة للحدود، الأمر الذي ساهم في ظهور التململ الدولي مع تعزز حالة المراوحة في المكان دون تحقيق أي تقدم يذكر على المشهد السياسي.
ومع محاولات دي مستورا المتعددة لإيجاد تفسير روسي أمريكي مشترك حول النقاط الخلافية لبيان جنيف، نجح في نهاية المطاف بأن يُساهم في استصدار بيان رئاسي لمجلس الأمن في 17 آب/أغسطس 2015 يؤيد فيه خطته في مفاوضات متعددة المسارات والمجموعات الأربعة التي دعا إليها، رسّخت يقيناً الرغبة من خروج عقدة جنيف رويداً، رويداً، حتى الوصول إلى صيغة تُرضي النظام أولاً، وتلزمُ داعمي الثورة إقليمياً لاحقاً. كما وتضمنت هذه الخطة أيضاً الدعوة لتشكيل مجموعة دعم دولية مكونة من الولايات المتحدة وروسيا بالإضافة إلى مجموع الدول الإقليمية ذات التأثير المباشر على المشهد العسكري والسياسي في سورية، وهو ما تم تحقيقه مؤخراً في فيينا.
لقد جاء التصعيد الروسي الأخير في سورية واشتراك سلاحه الجوي في ضرب المعارضة السورية كمتغير جديد في المعادلة السورية لينسف مجموعة من الثوابت في التفاعلات الدولية والإقليمية التي ترسخت أثناء سنوات الأزمة، ونجح في إرساء قواعد جديدة للعبة وثَبّتَ عدة معطيات نذكر أهمها:
وبناءً على ما تقدم، وبعد أقل من شهر على تدخلها العسكري عزمت موسكو على دعوة مجموعة الدعم الدولية (ISSG) للتباحث في سُبل إطلاق العملية السياسية والتي صدر عن هذه المجموعة خلال مناقشاتها حول كيفية وضع حد يسّرع بإنهاء "النزاع السوري" بياناً ثبَّت المعطيات التالية:
المحور الثلاثي وأطر تحركه
يطرح بيان فيينا نفسه كإطار دولي لحل الأزمة السورية وفق مبادئ جنيف 1 ويسعى لأن يكون ذو صيغة إلزامية لجميع الدول المدعوة عبر الدفع لتبني مجلس الأمن لقرار يُؤكد على مخرجات هذا البيان، ويضيق الهوامش المتاحة لتلك الدول (التي لم تكن موقعة على بيان جنيف)، والجديد في اجتماعات "مجموعة الدعم الدولية"، ظهور ملامح الوفاق بين الولايات المتحدة روسيا في الخطوط العريضة خصوصاً حول قضايا الإرهاب وما يترتب عليها من تصنيفات جديدة قد تطال بعض فصائل المعارضة في لوائح الإرهاب الدولية، كما أنه يمكن تسجيل الاتفاق الأولي في مواقف الدول المشاركة في الاجتماعات مع ما تصبو إليه روسيا، ليبقى في آخر المطاف المحور الثلاثي (السعودية وقطر وتركيا) دون غيره فقط في مناوأة التوجه الروسي وبدعم أمريكي مبطن لا يعول على استمراريته، الأمر الذي يحتم عليهم تغير قواعد تعاطيهم مع إدارة الملف السوري بحكم الانعكاسات المتوقعة لنتائج عدم المعالجة الحقيقية لجذور الصراع ومسببات الإرهاب في سورية على بُناهم وأمنهم الداخلي.
وفي هذا السياق وبأدوات سياسية باتت قليلة، يضطلع الثلاثي السابق ذكره (السعودية وقطر وتركيا) للعب "دور محامي الدفاع" في محفل دولي حدد أطر عمله بثلاثة أهداف عريضة: إعلان وقف إطلاق نار وطني شامل، وتصنيف كتائب المعارضة بين معتدل وإرهابي وإلزام الدول الحاضرة فيه، وإطلاق عملية التغيير الدستورية لتأسيس مرحلة حكم جديدة في البلاد، فيما يؤجل البت في عدة قضايا جوهرية لاتزال تُشكل مُهددات موضوعية لعملية التغيير وديمومتها (كمصير نظام الأسد والوضع القانوني لكافة المقاتلين الأجانب خاصة تلك التي تدور في فلك النظام كحزب الله وأبي الفضل العباس وغيرهما، والعدالة الانتقالية وصلاحيات الحكم الانتقالي وأهدافه ومهامه...إلخ) لحين يتم الاتفاق على تفاصيل تحقيق الأهداف السابقة والتي غالباً ما تؤدي إلى تغييرات طفيفة (بما فيها رحيل رأس النظام مع بقاء نظامه) كترضية رمزية لشعب مكلوم شرد ثلثه، وفقد قرابة نصف المليون من أبنائه بين شهيد ومفقود.
كما أن أطر التحرك السياسي لهذه الدول وحلفائها المحليين نظرياً ستبقى رهينة هذا المخرج الذي اتفق الفاعلان الروسي والأمريكي على أنه "إطار تطبيقي لجنيف"، أما عملياً فتؤكد مؤشرات اللاثقة التي يتسم بها السلوك السياسي للدول الحاضرة على أن سبل التعطيل لاتزال واردة خاصة في ظل عدم وجود ضمانات حقيقة للإلزام، وفي ظل استمرار ترشح مسببات عدم نضوج المناخ السياسي الملائم سيكون على جل الفواعل التباحث في سبل تعزيز التموضع لتحسين موقعها وأدواتها التفاوضية. وفي ضوء ذلك وريثما تستقيم وتتضح أبعاد وغايات العملية أكثر، ينبغي أن يدفع المحور الثلاثي باتجاه ثلاثة أمور:
أطر التحرك الوطني الأمثل
آن لشعارات امتلاك زمام المبادرة وطنياً أن ترى طريقها التنفيذي، فالواقعية السياسية والقراءة الموضوعية لجل الغايات الإقليمية والدولية تستوجب ارتقاء العمل الوطني ليندمج الأثر العسكري مع السياسي، ويتكامل معه ضمن استراتيجية وطنية خالصة، وإدراك حقيقة أن نجاح المساعي الدولية في إجراء تسوية سياسية شاملة مناط بدرجة الشرخ الذي تعاني منه البُنية السياسية والعسكرية لقوى المعارضة. وفي هذا الصدد نُقدم كمقترح مجموع الإجراءات التالية:
أولاً: إدراك حقيقة تكاد تكون مطلقة وهي أن معظم القوى الإسلامية ستجدُ نفسها في موقع المتهم، وأن عزوفها عن مواجهة تحدي التصنيف لا يضعها في مواجهة العالم بأجمعه فحسب بل تدفع المشهد العسكري إلى المزيد من التشظي والاقتتال الداخلي أولاً، وإلى تقويض العمل الوطني برُمته لاحقاً. حيث أن إدراجها على لوائح الإرهاب يعني إدراج جميع من يتعامل معهم لاحقاً، بالإضافة لمن تعامل معهم سابقاً مع أثر القرار الرجعي على نفس اللوائح، مُشرعنة بالتالي أداة ابتزاز دولية لن يُوفروا جهداً في استخدامها كلما استدعت الحاجة.
ثانياً: تشكيل قيادة سياسية موحدة تضم الطيف الكامل لقوى المقاومة الوطنية لقوى الاحتلال الإيراني والروسي والاستبداد، من كتائب إسلامية وجيش حر، وجبهة جنوبية وأحزاب وكافة الفعاليات السياسية والمدنية والمحلية. وتلبية أي دعوة من المحور الثلاثي في هذا السياق.
ثالثاً: ربط وتوظيف مصير برامج المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب وعلى رأسها برنامج تدريب وتسليح المعارضة ربطاً عضوياً بالمشروع الوطني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال عقد شراكة مباشرة مع الكتائب المنضوية في هذه البرامج وإلزامها باستراتيجية العمل العسكري الوطني دون المساس بأوليتها في محاربة تنظيم الدولة. فمجموع القوى الوطنية تحتاج لمن يتصدر مهمة حماية أظهرهم من هجمات التنظيم أثناء مواجهة النظام وهذه القوى رغم الشكوك الدائرة حول درجة وعيها للمخطط الدولي تحتاج لمن يؤمن سلامتها أثناء تواجدها على الأرض. كما أن العزوف عن التعامل معها يدفعها لشراكة مع الفصائل غير المنضبطة بمبادئ الثورة.
رابعاً: استغلال الهوامش المتاحة (سواء على صعيد الزمن أو دعم موقف المحور الثلاثي الداعم) في تطبيق الرؤية الوطنية للحل السياسي وفق بيان جنيف مع التمسك بمطلب رحيل بشار الأسد. وعليه يجب أن تجيب هذه الرؤية بشكل واضح على إشكالية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وما يترتب على ذلك من تحديد شخصيات الدولة الممكن التعامل معهم في المرحلة المقبلة، وهذا الأمر عبر الدعوة المستعجلة للفواعل المحلية الوطنية لفعاليّة يتم التباحث في هذه الرؤية وتصديرها كمخرج وطني مشترك.
عموماً يمكن القول بأن القوى الوطنية تجد نفسها أمام خيارين حيال ما تقدم، إمّا الرفض وتحمُل الأعباء الدولية لإجهاض الثورة، أو القبول والعمل بالتوازي على استراتيجية متكاملة يتحسن بموجبها تموضع قوى الثورة عبر انتهاج أفعال عسكرية نوعية تعزز مواقع التفاوض، وتتكامل مع أداء القيادة السياسية الموحدة التي ينبغي تشكيلها خلال المرحلة القادمة.
تعتمد الاستراتيجية الروسية بشكل رئيس على إرضاخ كتلة حرجة من قوى الثورة لمشروعها، ولإتمام هذا المخطط وجدت في الولايات المتحدة الشريك المناسب في تبني فكرة تصنيف الكتائب إلى معتدل وإرهابي، وهو تصنيف ستنجح بموجبه عاجلاً أم آجلاً إلى خلق شرخ يمكّنها من القضاء على الفضاء الثوري. إن الخطوة الأولى للحول دون تحقق هذا السيناريو هي تشكيل قيادة سياسية موحدة تحمي بشموليتها الكتائب الإسلامية الفاعلة وتلزمهم في ذات الوقت لتبني مشروع سياسي وطني موحد. إن سياسة الإمساك بالعصاة من الوسط أضحت اليوم المدخل الدولي لتفكيك قوى الثورة ولتعطيلها أولاً وشلّها بشكل كامل لاحقاً، ولذا على مجموع القوى الوطنية التحلي بالكثير من الشجاعة والجراءة والتحول هذه المرة بشكل كامل لأداء الدولة.