تمهيد
منذ إقرار تفويض مجلس الأمن لوكالات الأمم المتحدة وشركائها بتقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود، دون اشتراط الحصول على موافقة النظام، وفق قرار مجلس الأمن 2165 لعام 2014 وما تلاه من تمديد أو تعديل خلال القرارات اللاحقة([1])؛ لم تكفّ روسيا عن الاعتراض على مضمون الآلية باعتبار أنها "تجاوز لسيادة الدولة السورية" وفق تعبيرها. وقد صعّدت موسكو موقفها الضاغط وفقاً للتغييرات العسكرية التي فرضتها على الجغرافيا، فهددت أو استعملت الفيتو لتحصيل مكتسبات معينة مقابل عدم عرقلتها الآلية قبيل كل جلسة تصويت، الأمر الذي مكّنها من تقليص عدد المعابر الحدودية المستخدمة ضمن الآلية من أربعة لتقتصر على واحد فقط، ثم تقليص مدة العمل بالآلية من عام إلى ستة أشهر.
في تموز/ يوليو 2022، استخدمت موسكو حق النقض حيال مشروع تمديد قرار مجلس الأمن 2585، وقدمت مشروع قرار لم يحصل إلا على تأييدها والصين، وبعد جولة مفاوضات بين روسيا وبقية دول مجلس الأمن صدر القرار رقم 2642 بموافقة 12 دولة وامتناع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا عن التصويت، ونصّ على تمديد تفويض الآلية لستة أشهر قابلة للتمديد ستة أشهر أخرى شريطة استصدار قرار جديد من قبل مجلس الأمن في يناير/كانون الثاني 2023، بناء على تقرير خاص من الأمين العام حول الاحتياجات الإنسانية في سورية وشفافية توزيع المساعدات، ما يعني بالضرورة جولة جديدة من المفاوضات تحاول فيها الدول إيجاد التوازن بين إبقاء الآلية مستمرة ضمن نطاق معين وتحصيل المكاسب التي تراها أولوية.
وعليه؛ يحاول تقدير الموقف هذا تلمس السيناريوهات المحتملة قبيل جلسة التصويت القادمة، بناء على تحليل مصالح الأطراف الدولية الفاعلة في ضوء تطورات الغزو الروسي لأوكرانيا والأزمات السياسية والاقتصادية التي تلته ومدى تأثيرها على الملف السوري عامة وعلى المساعدات الإنسانية خاصة، محاولاً الإجابة عن تساؤل ما الذي يمكن فعله آنياً واستراتيجياً على الصعيدين الدولي والمحلي لتفادي تسييس الملف الإنساني وتجنّب الكارثة الإنسانية المتوقعة.
أولاً: المصالح الدولية... خارطة متناقضة
يتفاوت هامش المصالح والقدرة على الفعل ومستوى التأثر بين اللاعبين الدوليين فيما يخص ملف المساعدات، لا سيما ما بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من جهة وما بينها وبين الفواعل الإقليمية والمحلية من جهة أخرى.
رغم اشتراك موقفي موسكو وبكين في الرؤية العامة لملف المساعدات المتمثل بتمسكهما بضرورة إيصالها عبر حكومة النظام؛ إلا أن موقف موسكو يعدّ أكثر تصلباً، حيث تستخدم الملف كساحة "للغزو الدبلوماسي"([2]) خلال التفاوض مع القوى الغربية بهدف تحصيل مكتسبات معينة، يزيد من هذا التصلب تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا وما أفرزه من عقوبات صارمة على روسيا -وإن كان موقفها ثابتاً من قبل الأزمة الأوكرانية- مما قد يدفع موسكو لاستثمار موقفها الرافض لتيسير تفويض الآلية دون تعطيلها بالكامل حالياً عبر فرض شروطها المرحلية([3]). أما الصين فيبدو موقفها أقل تشدداً حيث لم تستخدم الفيتو منفردة، كما أنها ليست متبرعاً أممياً أساسياً، إذ تركّز على الاستثمارات مع حكومة النظام أو تقديم الدعم المباشر لها أكثر من تركيزها على تخصيص مبالغ كبيرة ضمن المساعدات الأممية.
تقتضي مصلحة هذه الدول إبقاء المساعدات الإنسانية كآخر ورقة متفق عليها دولياً ضمن عملية التجميد التي تسم المشهد السوري، فهي "المبرر" الذي يمكن به مواجهة الرأي العام عن التقاعس في إيجاد حلول للقضية السورية، فضلاً عن التخوف من موجات لجوء جديدة قد تصل تلك الدول في حال استمرار تدهور الأوضاع المعيشية، أو انتشار أوبئة جديدة من سورية إلى خارجها عند توقف المساعدات الصحية، لذلك من المتوقع أن يبقى الموقف الغربي داعماً لبقاء هذه المساعدات قائمة سواء عبر الآلية الأممية أو خارجها، وإن كان حجم تلك المساعدات قابلاً للانخفاض المتزايد بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسات التقشفية التي أعلنتها الدول الأوروبية بعد جائحة كورونا وتبعات الغزو الروسي لأوكرانيا وما رافقه من تضعضع بقطاع الطاقة.
تعتبر تركيا صاحبة الامتياز الأكبر بقضية المساعدات، إذ يتم إدخال المساعدات عبر المعبر الحدودي "باب الهوى" في ظل القرار الدولي الحالي أو في حال قيام الدول بإيصال المساعدات منفردة خارج نطاق الأمم المتحدة، مما يوفر فوائد اقتصادية مادية، إضافة لحركة المنظمات الإنسانية وتمركزها قرب الحدود السورية، في حين أن هذا الامتياز غائب عن بقية دول الجوار في الوقت الراهن بسبب عدم استخدام المعابر الحدودية الأخرى ضمن الآلية الحالية. كما أن هذه الدول -بخلاف تركيا- ذات أدوار ثانوية في التأثير على العملية السياسية، وجلّ ما يمكنها تحقيقه بعض الفوائد الاقتصادية إذا ما استُخدمت المعابر المشتركة معها سواء بتغيير طارئ على الآلية الحالية أو في حال تم العمل خارجها.
بالمقابل، سيشكل تقليل المساعدات أو إيقافها تهديداً لأمن السكان المحليين الغذائي والمائي والصحي إلى ما دون الحد الأدنى([4])، مما سيزيد من احتمال موجات هجرة جديدة، وهو ما تخشى دول الجوار مواجهته خاصة تركيا (ومن خلفها أوروبا)، فالكتلة السكانية الأكثر تضرراً تتمركز قرب حدودها([5])، في ظل الأوضاع الاقتصادية و/أو الداخلية غير المستقرة التي تواجهها تلك البلدان. وبالتالي؛ فإن مصلحة دول الجوار تقتضي المحافظة على الوضع الحالي على الأقل للحيلولة دون مزيد من موجات اللجوء.
من جهة أولى وفيما يرتبط بالنظام؛ غير القادر على فرض رؤاه إلا عبر حلفائه الدوليين وعلى رأسهم روسيا، فإنه يدفع نحو استبدال آلية توزيع المساعدات عبر الحدود والمعبر الخارج عن سيطرته بآلية التوزيع عبر الخطوط، التي تمكنه من التحكم بتوزيع المساعدات وحصصها وتوفر له القطع الأجنبي؛ غير أنه مدرك لعدم قدرته على الاستغناء عن حصته من المساعدات عبر الحدود بعد، وأن الظرف الدولي غير مهيأ حتى اللحظة لإعادة فرض "سيادته" على هذا الملف وفقاً للسياقات الراهنة، وإن كان وروسيا يطمحان لحصول ذلك على المدى المتوسط، لكن خشيتهما من إخراج الآلية عن نطاق مجلس الأمن وتقليص دائرة التأثير الروسي تخفف من وتيرة الضغط بهذا الاتجاه.
أما عن الشمال السوري؛ الذي يضم كتلة بشرية كبيرة في مناطق جغرافية محدودة، جلّها من النازحين والفئات الأكثر احتياجاً؛ فقاطنوه سيكونون الأشد تضرراً من قرارات تخفيض المساعدات أو إيقافها ومن تسييس الملف عموماً، خاصة إذا ما استُبدلت آلية التفويض عبر الحدود بتوزيعها عبر الخطوط، حيث ستتناقص المساعدات إلى أدنى حدودها نتيجة العقبات التي سيضعها النظام لمنع وصول المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرته.
وفيما يتصل بالإدارة الذاتية، فمنذ إغلاق معبر اليعربية وشمال شرق سورية خارج الآلية الحالية، لذلك لن تتأثر المنطقة بإيقاف المساعدات عبر باب الهوى أكثر مما تأثرت بإغلاق معبرها، باستثناء انعكاسات الأزمة الإنسانية أو الهجرة المعاكسة إلى مناطقها. وفي حال أعيد افتتاح المعبر أو تم إقرار العمل خارج الآلية الحالية فقد يواجَه ذلك باعتراض تركي، إذ تعتبر أنقرة أي دعم لتلك المناطق تهديداً لأمنها القومي.
بناء على خارطة المصالح الدولية المبيّنة أعلاه؛ فإن نتائج المفاوضات القادمة ستتراوح بين أربعة احتمالات وفقاً لما يلي:
وفقاً لما سبق؛ من المرجح أن يتم استصدار قرار جديد لمدة 6 أشهر، بدءاً من كانون الثاني/يناير حتى تموز/ يوليو القادم 2023، لكن مع تحقيق تقدم في تحصيل استثناءات معينة لمناطق النظام وفق ما تطالب به روسيا، وذلك للأسباب التالية:
ثالثاً: هوامش الحركة (أجندة إنسانية وطنية)
رغم ما تفرضه تعقيدات الملف الإنساني خاصة في ظروف الحرب والنزوح والاحتياجات الإنسانية المتزايدة من استجابة تفوق قدرات الفاعلين المحليين؛ إلا أن ذلك لا يعني الرضوخ لبقاء الملف تحت سقف مجلس الأمن والابتزاز الروسي المتكرر دونما حراك، وإن كانت هوامش الفعل السوري فيما يخص القرارات الدولية محدودة لكنها ليست معدومة بالطبع.
إذ تتبلور أمام الفاعلين في المجال الإنساني فرصة لإعادة التفكير على المستوى الاستراتيجي والتحرك المبكّر بدل انتظار مخرجات جلسات التصويت واحتمال توقف دخول المساعدات وما سينجم عنه من كارثة إنسانية، وذلك عبر توحيد مطالبهم وفقاً "لبوصلة إنسانية وطنية" ترفض تسييس الملف الإنساني وتشكّل مجموعات ضغط ذات كوادر متخصصة بالعلاقات الدولية والدبلوماسية مدعومة من جلّ المنظمات الإنسانية، للقيام بحملات مناصرة مستمرة في أروقة الأمم المتحدة؛ للدفع باتجاه استمرار إدخال المساعدات عبر الحدود عن طريق الأمم المتحدة ودون ولاية مجلس الأمن وقرارته محدودة المدة، بالاستناد إلى الحجج القانونية التي تشرّع هذا التحرك وتدحض الفرضية الروسية التي تصنف إدخال المساعدات كخرق للسيادة، وهي عديدة وفقاً لدراسة قانونية معمقة أجريت في هذا الإطار([7])، أبرزها: عدم مصادقة سورية على البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف الأربع والذي يشترط موافقة الحكومة الرسمية، مما يعني أن إدخال المساعدات سيكون قانونياً حسب المادة الثالثة من اتفاقيات جنيف والتي تشرع إدخال المساعدات الإنسانية بموافقة أطراف النزاع. إضافة للاستناد إلى سوابق قانونية قضت فيها محكمة العدل الدولية -بصفتها السلطة الأعلى في تفسير القانون الدولي الإنساني- كقضية نيكاراغوا ذات السياق المشابه للسياق السوري من حيث تصنيف النزاع ووجود سلطات الأمر الواقع وآلية عمل المنظمات الإنسانية في إدخال المساعدات.
وفيما عدا ذلك؛ سيكون أمام الدول والمنظمات الدولية العمل منفردة خارج الإطار الأممي، ومحاولة إنشاء صندوق إنساني خاص بسورية مماثل للصندوق الإنساني التابع للأمم المتحدة "The Syria Cross-border Humanitarian Fund (SCHF)" القائم حالياً ، بحيث تتولى إدراته لجنة من المنظمات الإغاثية السورية وممثلون عن الدول المانحة، مع إدراك ما سيعنيه العمل خارج عباءة الأمم المتحدة من عوائق تتمثل في: تقليل كم المساعدات المقدّمة بشكل كبير، وعدم انتظام الحصول على التمويل، وزيادة معوقات التمويل غير المباشر لكوادر محلية دون تواجد فيزيائي للمنظمات الدولية، وصعوبات المراقبة والمساءلة، والعوائق القانونية التي قد تشترطها كل دولة حدودية على حدة.
وفي هذا السياق؛ ينبغي على المنظمات الإنسانية العاملة في سورية تهيئة نفسها للتعامل مع أي سيناريو مهما كان انعكاسه على الأوضاع الإنسانية كارثياً، وذلك عبر العمل على تكامل الجهود والتنسيق عالي المستوى لبناء خطة الاستجابة الإنسانية الشاملة لكل مناطق سورية بناء على مسح الاحتياجات، والاعتماد على الموارد المحلية في التوزيع لخلق حركة اقتصادية في الداخل السوري أو اعتماد التدخلات النقدية كبديل عن المساعدات العينية، فضلاً عن تبني مشاريع تنموية تقلل شيئاً فشيئاً الاعتماد الكلي على المساعدات الإنسانية.
ختاماً؛ لقد أدى تفاقم الاحتياجات الإنسانية في سورية نتيجة القصف والدمار والنزوح والعيش بظروف لا إنسانية في المخيمات خاصة؛ إلى الاعتماد على ما يصل من مساعدات أممية في توفير الحد الأدنى من الاكتفاء، إلا أن تسييس الملف حولّه من "إنساني" إلى ورقة ابتزاز سياسي تحقق عبرها الدول مصالحها، الأمر الذي يفرض على السوريين وشركائهم من الفاعلين الإنسانيين البحث عن بدائل قانونية لإخراج الملف عن هيمنة مجلس الأمن والفيتو الروسي، عن طريق تحشيد الدول المتضامنة لإقرار قانونية إدخال المساعدات عبر الأمم المتحدة، والقيام بحملات مناصرة لجمع جهود المنظمات المعنية من أجل العمل على المستويين؛ الآني عبر إيصال مساعدات طارئة للفئات الأكثر احتياجاً، والاستراتيجي عبر تكامل الجهود في وضع خطط استجابة تنموية بعيدة المدى، تُفعّل الطاقات السورية في العمل والإنتاج، بدل تحويلها إلى قوى مستهلكة تصارع من أجل البقاء على حد الكفاف.
([1]) تمديدات وتعديلات القرار 2165 الصادر عام 2014: القرار 2191 عام 2014، القرار 2258 عام 2015، القرار 2332 عام 2016، القرار 2393 عام 2017، القرار 2449 عام 2018، القرار 2504 والقرار 2533 عام 2020، القرار 2585 الصادر عام 2021.
([2])وفقاً لتعبير محمد خليفة، مؤلف كتاب "الغزو الروسي لسوريا".
([3]) ويمكن تلخيصها في النقاط التالية: استثناءات لمشاريع التعافي المبكر في مناطق النظام خاصة ما يتعلق بملف الكهرباء والمياه (وقد بدأت أولى تمظهرات هذا الضغط خلال زيارة بعثة الاتحاد الأوروبي ومنسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة إلى مناطق النظام لأول مرة منذ 2011 لتفقد مشاريع المياه)، إضافة إلى تخصيص نسب أكبر للمساعدات عبر خطوط التماس، وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام، وعدم إيصال المساعدات لمن تسميهم روسيا "إرهابيين" متذرعة بذلك للاحتجاج على إيصال المساعدات إلى شمال غرب سورية.
([4]) تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن ما يزيد عن 12 مليون سوري مهددون بفقدان أمنهم الغذائي وذلك في ظل وجود المساعدات، والرقم مرجح للزيادة في حال توقفها.
([5]) يبلغ عدد المخيمات السورية في شمال غرب سورية 1633 مخيماً يقطنها 1811578 نسمة، وهذه الفئة هي الأشد تضرراً من توقف المساعدات أو تناقصها، دون أن يقلل ذلك من تأثيرها الذي يتجاوز سكان المخيمات ليشمل شمال وشمال غرب سورية كاملاً. الإحصائية مبنية على مسح قام به "منسقو الاستجابة"، 26/8/2022، https://bit.ly/3E2kTDN.
([6]) شكلت أول 5 قوافل عابرة لخطوط التماس ما نسبته 0.75% فقط من المساعدات العابرة للحدود، تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 16/06/2021، https://bit.ly/3fJpKBy
([7]) أصدر تحالف الإغاثة الأمريكي من أجل سوريا ARCS دراسة تتحدث عن قانونية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها دون الحاجة لقرار من مجلس الأمن الدولي. للاطلاع على التقرير انظر الرابط: http://bit.ly/3Ejbx6I