أوراق بحثية

تمهيد

توضح هذه الورقة طبيعة المشهد السياسي والأمني والحوكمي قبيل سقوط الأسد؛ نظراً لما له من أثر على أي معادلة تنمية واستقرار من جهة وعلى طبيعة الملعب السياسي والمدني من جهة ثانية، ثم تنتقل لتقرأ الواقع الجديد وحيثياته ومسبباته الذاتية والموضوعية، وتقف على خارطة التحديات التي ستعترض مسير الدولة الجديدة نحو الاستقرار  وتفند في تلك المرتبطة بمرحلة تيسير الأعمال وآليات التعاطي معها، كما ترسم الورقة طيفاً من السيناريوهات والمؤشرات المرتبطة بها وفق محركات عدة، وتدلل على النمط الآمن للانتقال نحو سورية مستقرة وقادرة على التأسيس لسياسات معالجة تحديات التركة الصعبة وتحديات أسئلة المستقبل المركّبة.

التشظي واللاحل كعنوان للمشهد قبيل سقوط الأسد

عززت المتغيرات والتطورات التي شهدتها دول العالم وبشكل خاص دول الإقليم (وباء كورونا، الزلزال، الغزو الروسي لأوكرانيا، أحداث غزة)؛ من سيناريو "تمترس الجغرافيا" وشكلت "الطمأنينة المقبولة" للدول المتدخلة عاملاً مهماً في عدم مضيها قدماً في مسار التوافق السياسي، إلا أن ذلك لم يعنِ سيطرة "السكون السياسي والأمني" على المشهد العام، بل كان تأزيماً للاستحقاقات الدافعة للاستقرار وانتقالاً باتجاه ملفات محلياتية عنوانها الضبط والتحكم من قِبل قوى أمر الواقع، الأمر الذي كان له عدة تداعيات سلبية على معادلات الأمن والاستقرار المحلي والوطني والإقليمي وما يستلزمه من استحقاقات. وستفند الأسطر التالية ملامح الواقع السياسي والأمني والحوكمي والاقتصادي في سورية عشية سقوط الأسد.

سياسياً، بالنظر إلى واقع العملية السياسية وخارطة المصالح الإقليمية والدولية والمحلية، وما أفرزته من نتائج فإن الدلالات كانت ترمي باتجاه "موت الحل السياسي" والتكيف مع نتائج المشهد، كما هو موضح أدناه:

أولاً : اضمحلال الفرص الدافعة لتحريك العملية السياسية التي لم يتبق من مساراتها سوى اللجنة الدستورية التي شهدت تعطيلاً منذ بداية تشكيلها بسبب تعنت النظام، وعدم استجابته للمبادرة العربية وعدم إرادته تقديم أي تنازل خاصة بعد التقارب العربي معه الذي اعتبره دليلاً على انتصاره. إذ حُصر النقاش السياسي حول سورية في مسائل الاستجابة الإنسانية (التي شهدت انخفاضات حادة)، ومقاربات التعافي المبكر، وعودة اللاجئين، أي تجاوز فكرة وجود حل سياسي، مما أوحى بميول الفاعلين باتجاه تجاوز مسببات الصراع والاكتفاء بمعالجة بعض نتائجه.

ثانياً: قلق المصالح الإقليمية والدولية وتضاربها، إذ شكلت هذه الخارطة استعصاء معقداً في سورية وتماهياً مع مفرزات المشهد الميداني، حيث أرادت واشنطن إحراج روسيا واستنزافها في سورية وأوكرانيا ومراعاة أمن إسرائيل، أما موسكو فسعت لاستعادة دور الدولة العظمى في عالم متعدد القطبية ودعم نظام الأسد وعدم سقوط الدولة (تفادي سيناريو العراق 2003)، ومن جهته حاول الاتحاد الأوروبي التكيف مع النتائج وقد سار بركب تغيير منهجيته في التعاطي والتي حصرها بمقاربة عودة اللاجئين،([1]) في حين تجهد أنقرة لعدم قيام كيان يتبع لـPKK  في شمال سورية على غرار كوردستان العراق وإيجاد حل للاجئين السوريين وتحقيق توازن في العلاقة بين كل من روسيا والناتو، بينما أرادت طهران الاستثئار والاستحواذ على الجغرافيا والقرار السياسي في سورية واستثمار ذلك في لعبتها الإقليمية. أما الدول العربية فرغم تمايز مصالحها إلا أنها سعت إلى استقرار سورية وعدم جعل جغرافيتها محل تهديد إقليمي إضافة إلى عدم الاطمئنان للقوى السلفية الإسلامية.

ثالثاً: فواعل محلية تتماهى وتتكيف مع واقع مناطق النفوذ: فأجسام المعارضة الرسمية، ضاقت هوامش حركتها أكثر نتيجة تعثر العملية السياسية من جهة، وتقارب عدد من الدول مع النظام ليقتصر عملها على محاولات فتح آفاق سياسية، والتحرك الدبلوماسي عقب صدور تقرير إدانة النظام باستخدام الكيماوي في دوما 2018، وزيارات التحشيد لوقف التصعيد العسكري في إدلب، فيما شكل حراك السويداء فرصة مهمة لاستعادة زخم القضية. وفي شمال شرق سورية، اتسمت محاولات الإدارة الذاتية بالبراغماتية، فمن جهة أولى حاولت استمالة قوى معارضة كخطوة استباقية لاحتمال تطبيع تركي مع النظام على حسابها، ومن جهة ثانية أبدت إمكانية الحوار مع النظام والتعاون معه بشروطها مع احتمالية انضمام قواتها للجيش السوري بمحددات تناسبها. من جهة أخرى، خلال عامي 2022 و2023، زاد معدل المؤشرات الدافعة لتقارب النظام مع دول المنطقة وحتى استعادته الشرعية الدولية، وترافقت ديناميات التطبيع هذه مدفوعة باعتبارات داخلية وخارجية؛ مع وضع إقليمي على حافة الانفجار في ظل استمرارية الحرب على غزة وعلى حزب الله، وترافق ذلك مع مماطلة النظام وإجهاضه لجل المحاولات العربية والروسية.

أمنياً، كان المشهد السوري يواجه تهديدات أمنية عكست بنهاية المطاف أزمات نظام الأسد الأمنية والوظيفية، سواء التدخلات الإسرائيلية أو حركة داعش أو مؤشر الجريمة المنظمة، ويمكن الاتكاء على المعطيات أدناه:

أولاً: تدخل عسكري إسرائيلي متعدد الأوجه: كثَّفت إسرائيل ضرباتها على مواقع قوات النظام والميليشيات الإيرانية مركزة على مستويي البنية التحتية لا سيما المطارات، وعلى مستوى الشخصيات القيادية. إذ بلغ عدد الضربات الاسرائيلية لمواقع في سورية منذ بداية 2024 حتى أواخر أكتوبر 178 استهدافاً دمرت خلالها322  هدفاً تنوعت ما بين مستودعات ذخيرة وأسلحة ومقرات ومراكز وآليات عسكرية إضافة لمراكز تطوير صواريخ، وفي شهر نوفمبر سجل 17 هجوماً جوياً، ناهيك عن التوغلات البرية في المنطقة الجنوبية كالقنيطرة وجبل الشيخ.

ثانياً: بيئة غير آمنة: شهدت البنية الأمنية في عموم سورية تحديَّات أمنية متعددة شملت تفجيرات واغتيالات وتفجيرات، فخلال عام 2023 شهدت مناطق سيطرة النظام تنفيذ 198 عملية اغتيال و218 عملية إطلاق نار و286 تفجيراً، كان أبرزها هجوم الكلية الحربية بالطائرات المسيرة. بينما تعرضت مناطق المعارضة إلى 184 عملية إطلاق نار و31 عملية اغتيال و59 تفجيراً. وفي مناطق سيطرة قسد، نُفذت 274 عملية إطلاق نار و93 اغتيالاً و163 تفجيراً.

ثالثاً: مشهد فصائلي متنوع الوظائف في السويداء: لم تكن أدوار المجموعات المسلحة في السويداء ثابتة بين عامي 2015 و2024، إذ تحول عدد من الميليشيات إلى فصائل مقربة من المجتمع المحلي بسبب مساعي المرجعيات الدينية والوجهاء المحليين، في حين اختفت ميلشيات بسبب حملات من الفصائل المحلية استهدفت وجودها، بينما توسعت ميلشيات أخرى لتُصبح أكثر تمرساً في تجارة المخدرات أو الاغتيالات وجلها كانت مرتبطة بالنظام، وتُعتبر الميليشيات المرتبطة بحزب الله وإيران أكثر الميليشيات نفوذاً وأخطرها على السلم الأهلي في المحافظة، وبعد انتفاضة آب 2024؛ ازداد وضوح الاصطفاف المسلح في المحافظة بين ميليشيات واجهت الحراك واعتبرته مهدداً لها بسبب علاقتها مع الأفرع الأمنية ونشاطها في تجارة المخدرات، وبين فصائل التزمت بدعم الحراك المحلي وحماية المظاهرات السلمية.

رابعاً: المخدرات كأداة عبث بأمن سورية والإقليم: برز ملف المخدرات وتحول من قضية جريمة منظمة إلى قضية عبث بالأمن القومي، ولضبط السيولة الأمنية التي يفرزها ملف المخدرات، غيرت الأردن قواعد الاشتباك مع تنامي خطر شبكات تهريب المخدرات والأسلحة المدعومة من قبل النظام وإيران على حدوده الشمالية نظراً لعدد هذه المجموعات وقدراتها التكنولوجية والعسكرية وعدم فعالية التواصل الأردني مع النظام في تحقيق نتائج ملموسة. على المستوى الأمني، بدأت الأردن منذ أيار/مايو باستخدام القوة وتنفيذ غارات جوية داخل الحدود السورية، بالإضافة إلى تقديم طلب للولايات المتحدة بالحصول على منظومة باتريوت وتنفيذ تدريبات عسكرية على التعامل مع خطر الطائرات المسيرة.

خامساً: فعالية وانتعاشة داعش: خلال الفترة الواقعة بين 10/2022 و 12/2023، تبنى تنظيم "داعش" عبر معرفاته الرسمية تنفيذ 179 عملية، توزعت بين محافظات: دير الزور، الرقة، الحسكة، حلب، حماة، حمص، درعا، القنيطرة، ريف دمشق. وقد تركزت معظم العمليات في دير الزور التي شهدت تنفيذ 105 عمليات، تليها الرقة والحسكة بواقع 25 عملية في كل منهما، تليهما حلب حيث نفذ التنظيم فيها 6 عمليات، ثم حماة ودرعا بواقع 5 عمليات في كل منهما، تليهما حمص بواقع 3 عمليات، في حين شهدت محافظتا ريف دمشق والقنيطرة عمليتين في كل منهما.( [2](

أنماط حكم متباينة قبيل السقوط

انقسمت سورية عشية السقوط إلى سبع مناطق نفوذ وسيطرة بناءً على من يحتكر السلطة، ومن يقدم الخدمات، ومن يمول هذه المناطق. وكانت تلك الأنماط تتنامى طرداً مع سيناريو تمترس الجغرافيا واستعصاء الحل السياسي، كما هو موضح أدناه:

أولاً: المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد: كان النظام هو المحتكر الأساسي للعنف وإن قاسمه في ذلك غرف عمليات يتواجد فيها الروسي والإيراني وحزب الله اللبناني، وهو المزود الرئيسي للخدمات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال نفوذه على وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. وفيما يرتبط بالخدمات، وعلى الرغم من التدخل الإيراني، لا سيما في حلب ودير الزور، احتفظ النظام بسيطرة كبيرة على قطاع الخدمات، إذ كان معظم التمويل يتدفق عبر سلطة النظام وأموال المانحين التي تديرها الأمم المتحدة.

ثانياً: مناطق التسوية في محافظة درعا: هيمنت اللجنة المركزية واللواء الثامن على المشهد الأمني في الريف الغربي والشرقي على التوالي، فيما سيطر النظام على المدينة والمناطق الشمالية. ومارست إيران نفوذها عبر الأمن العسكري واللجنة المركزية في الريف الغربي، فيما لعبت روسيا دوراً في الريف الشرقي عبر اللواء الثامن.

ثالثاً: مناطق السويداء: احتكرت العنف فصائل محلية، يتبع معظمها للسلطات الدينية وبعضها مرتبط بالنظام، ولا يزال الزعيم السياسي الأكثر نفوذاً فيها هو الشيخ حكمت الهاجري. تعد حكومة النظام هي المزود الأساسي للخدمات، إضافة إلى تحويلات المغتربين ومنظمات المجتمع المدني التي يسيطر عليها النظام عبر "مقام عين الزمان" الذي يديره الشيخ الجربوع.

رابعاً: المناطق الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب: تحتكر الهيئة العنف، فيما توفر منظمات المجتمع المدني الممولة من الغرب الخدمات الرئيسية، إضافة إلى خدمات تقدمها حكومة الإنقاذ.

خامساً: المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري في شمال حلب: تتوزع السيطرة الأمنية على الفصائل العسكرية وليس هناك احتكار للعنف من قبل فصيل محدد، وتعتبر الحكومة التركية هي المزود الرئيسي للخدمات، إما مباشرة أو بشكل غير مباشر من خلال إشرافها على المنظمات السورية والتركية والدولية.

سادساً: "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" في المناطق ذات الغالبية الكردية: تحتكر "قوات سوريا الديمقراطية" استخدام العنف، إضافة إلى وجود كبير للشبيبة الثورية والمنظمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني. وتقدم الإدارة الذاتية وبتمويل غربي وأمريكي الخدمات من خلال منظمات سورية ودولية.

سابعاً: "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" في دير الزور والرقة ومنبج (المناطق ذات الغالبية العربية): تحتكر "قوات سوريا الديمقراطية" العنف، مع وجود فصائل عسكرية قوية مرتبطة بالعشائر المحلية تتبع لقسد، خاصة في دير الزور. وتُقدم الخدمات من قبل الإدارة الذاتية بتمويل غربي، خصوصاً من الشركات الأمريكية.

أدت نظم الحوكمة غير المتكافئة في سورية إلى عدم توازن كبير في ديناميات القوة بين مختلف الأطراف داخل البلاد، كما أدت هذه التجزئة إلى غياب السيطرة المركزية على العنف، مما خلق بيئة ملائمة لعسكرة المجتمع وصعود جهات فاعلة عنيفة من غير الدولة. وقد سهّل عدم وجود نظام حوكمة موحد ومتناظر الوصول إلى مستويات من تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود على نطاق غير مسبوق، مما يهدد أمن الأردن ودول الخليج على وجه الخصوص.

علاوة على ذلك، فإن تعطيل سلاسل التوريد بسبب عدم وجود نظم حوكمة متكافئة وإطار قانوني متماسك أدى إلى تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي في سورية والمناطق المجاورة لها. وتستغل المنظمات المتطرفة مثل "داعش" بنية الحوكمة المجزأة، مما يزيد من التهديد الذي تشكله على الدول المجاورة والمنطقة ككل. وهذا الاستغلال من قبل الجماعات المتطرفة لا يؤدي إلى زعزعة استقرار سورية فحسب، بل يشكل أيضاً خطراً أمنياً كبيراً على الدول المحيطة ويعقّد الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والسلام الإقليميين.

"ردع العدوان" وتحرير سورية: عوامل ذاتية حاسمة

تعد معركة "ردع العدوان" في ريف حلب الغربي والتي أعلنتها غرفة عمليات "الفتح المبين" وبعض فصائل المعارضة بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024،([3]) تحولاً استراتيجياً مفاجئاً لمجريات الصراع السوري وقواعد اللعبة، حيث أطلقت عملية متعددة الاتجاهات على مواقع قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية. مستغلة نقاط الضعف الواضحة في البنية الدفاعية للنظام، محققة تقدماً سريعاً نحو عدة مناطق استراتيجية أفضت لانهيارات كبرى في صفوف جيش النظام ساهمت بنهاية المطاف في فرار بشار الأسد وسيطرة "الإدارة العسكرية" على دمشق واستلامها مقاليد الإدارة.

وفيما يرتبط بالعوامل الذاتية لفصائل "غرفة عمليات ردع العدوان" وعلى رأسهم "هيئة تحرير الشام" فيمكن عنونتها بالانتقال من الفكر الفصائلي إلى "الفكر الدولتي" ويمكن تفنيدها وفق المحاور أدناه:

أولاً: معطى الانضباط المؤسسي عند "هيئة تحرير الشام": إذ برزت كلاعب رئيسي في شمال غرب سورية، حيث استطاعت رغم نشأتها من رحم تنظيم القاعدة، أن تبني نفسها بشكل تدريجي على الصعيدَين العسكري والسياسي. وتمكنت من إجراء تحولات استراتيجية جعلتها تفرض نفسها كقوة مهيمنة في المناطق التي تسيطر عليها. وقد كان أهم تحول هو تبني نهج براغماتي يعتمد على بناء دولة أو شبه دولة في مناطق سيطرتها، إذ أقدمت على إنشاء "حكومة الإنقاذ السورية" في عام 2017، التي عملت على تكوين إدارة مدنية منظمة تشمل: مؤسسات حكومية، محاكم، ونظاماً مالياً دقيقاً، بالإضافة إلى ضبط أمن داخلي عالي المستوى. رغم أن هذه الخطوة قد اعتُبرت رمزية في بعض الأحيان، إلا أنها منحت الهيئة درجة من الشرعية المحلية، وحسّنت قدرتها على ضبط الحياة المدنية والمجتمعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

ثانياً: معطى الانضباط العسكري لدى هيئة تحرير الشام" عززت الهيئة قدراتها من خلال تحديث قواتها، إذ قامت بإعادة هيكلة جيشها على أساس الانضباط العسكري الصارم. فقامت بإنشاء كلية عسكرية وكلية شرطة، وتبنت تقنيات حديثة، بما في ذلك الطائرات المسيَّرة التي أحدثت فارقاً كبيراً في موازين القوة العسكرية، وأدّت إلى تحسين تكتيكات الهيئة في المعارك مع قوات النظام وحلفائه. وقد مكّن هذا التطور العسكري الهيئة من فرض هيمنتها في بعض المناطق، وحسن أداءها كقوة ميدانية قادرة على تغيير مجريات الحرب لصالحها.

ثالثاً: معطى التمويل والموارد كعنصر مهم في الإنفاق العسكري: واجهت "هيئة تحرير الشام" تحديات كبيرة بسبب ندرة الموارد في المنطقة، لكنها استطاعت تخطي هذه العقبات عبر فرض السيطرة على المعبر الحدودي مع تركيا، وإحداث معبر مع مناطق غصن الزيتون لجباية الضرائب والرسوم الجمركية، بالإضافة إلى احتكارات واسعة، ما أعطاها إمكانية تمويل عملياتها العسكرية والإدارية بشكل مستقل، وعزز قوتها المالية ومكنها من ترسيخ سلطتها في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

رابعاً: معطى القدرة على الضبط الداخلي والمحلي: تمكن الجولاني من تعزيز قدرته على ضبط الواقع الداخلي للهيئة والمناطق الخاضعة لسيطرتها، من خلال إبعاد بعض الحرس القديم عن دوائر صنع القرار، وتحجيم أثر المقاتلين الأجانب، واتباعه نهج العزل تارة ونهج التحكم تارة أخرى. وقد شكّل مقتل القيادي "أبو ماريا القحطاني" (ذراع الجولاني الأقوى) نقطة تحول في تسوية بعض التوترات الداخلية داخل الهيئة، ما أتاح له تعزيز سلطته وزيادة قبضته الأمنية على المناطق التي كانت تشهد بعض الفوضى والاحتجاجات. واستطاع الجولاني استثمار هذه الفترة لزيادة تأثيره، من خلال اتخاذ إجراءات أمنية مشددة ضد أي تحركات معارضة داخل مناطق نفوذه. كما عززت الهيئة من عملياتها الاستخباراتية وعمليات المراقبة، مما صعّب تنظيم تظاهرات واسعة أو حركات احتجاجية ضد سياسات الهيئة، وبالتالي خفضت فرص تصاعد أي حراك معارض لها.

خامساً: القواعد العسكرية النوعية التي أديرت بها معركة "ردع العدوان": خاصة التنظيم والتنسيق، إذ جمعت تحت مظلتها العديد من الفصائل، مثل "حركة أحرار الشام" و"الجبهة الوطنية للتحرير"، مما ساهم في تجاوز الانقسامات التي كانت تعيق الفاعلية القتالية في الماضي. إضافة إلى الاستخدام المبتكر للطائرات المسيَّرة، التي أدارتها "كتيبة شاهين"، فهذه المسيَّرات لم تكن مجرد أدوات استطلاع، بل أصبحت وسيلة رئيسية لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف النظام، مكّنت الفصائل من تحقيق تفوق تكتيكي ملحوظ. كما اعتمدت القوات العسكرية على تقنيات متقدمة أخرى، مثل المناظير الليلية والأسلحة الموجهة لتوسيع قدراتها الميدانية، مما ساهم في تحسين أدائها في العمليات الليلية والصراعات الممتدة. علاوة على ذلك، لعب الانضباط العسكري دوراً محورياً في نجاح العملية، فالمقاتلون في صفوف الفصائل أظهروا انضباطاً عسكرياً عالياً خلال المعارك، حيث التزموا بالقوانين التنظيمية والتعليمات العسكرية.

سادساً: الخطوط الحمراء للمعركة: والتي تمثلت في توجيهات صارمة من إدارة غرفة العمليات لحسن التعامل مع الأسرى وفق المنظور الشرعي والقانون الدولي الإنساني، مما قد يساهم في إعادة تشكيل تصورات إيجابية حولها كفاعل عسكري منظم ومنضبط، وملتزم بالقواعد الإنسانية بما يمكنه من تحقيق غطاء سياسي للعمليات العسكرية، إضافة إلى عدم التعاطي السلبي مع المدن والبلدات التي تقطنها مكونات سورية غير إسلامية وغير عربية.

"ردع العدوان" وتحرير سورية: الظرف الموضوعي حاضر

أتت هذه المعركة في سياق تحولات كبرى بالإقليم وتطورات هامة في بنية "هيئة تحرير الشام" أدت بنهاية المطاف إلى تدحرج الأمور بالشكل الذي استقرت عليه.  إذ يمكن إرجاع الظروف الإقليمية المؤثرة إلى ثلاثة عوامل:

أولاً: تغيير عقلية إدارة الحرب الإسرائيلية وتغيير قواعد اللعبة الأمنية المتسيّدة وكسر محور إيران

 ففي لحظة "أمانٍ إسرائيلية" ومسارات "تطبيع متنامية" و"لامبالاة أمريكية بشرقٍ ملتهب" أتت عملية "طوفان الأقصى" العابرة للعمليات التقليدية، لتؤكد عجز الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وعودة طهران كطرفٍ رئيسي في طاولة التفاوض الإقليمية. الأمر الذي استوجب تغييراً في عقلية إدارة الحرب داخل إسرائيل التي استبعدت متغير الكلفة من الحسابات الأمنية الدقيقة، وهو ما تطلب نقل مستويات الصراع إلى مستويات عابرة للصراع التقليدي، كانت تشير إلى احتمالات الانزلاق إلى معارك خارج الحدود، بهدف إنهاء صلاحية كل أوراق الضغط عليها. وتجلى التطبيق العملي لذلك في تغيير الواقع العسكري والديموغرافي في غزة وإخراجها سياسياً وعسكرياً وإدارياً من معادلات التأثير، وضرب الهيكل القيادي لـ "حزب الله" وتدمير شبكة الاتصالات والتواصل، وتدمير شبكات النقل والتخزين، وإعادة حوالي 60 ألف نازح إلى شمال إسرائيل وإقامة منطقة آمنة خالية من "حزب الله" وصواريخه.

وقد اتضحت ملامح إعادة تشكل المعادلة الأمنية الناظمة للمنطقة من خلال حركية إسرائيل العسكرية والتي يمكن اعتبارها "إعادة تعريف" تنتج تغييراً في سلم أولويات تعاطيها مع الفواعل المناوئة لها، وبالتالي تحجيم دور إيران وتجفيف منابع التهديد التي تستخدمها من خلال استراتيجية "تأمين المحيط الحيوي" وتفكيك ترابط الجبهات والفواعل التي تتحالف مع طهران بالمنطقة، وكان أهمها اختبار الأسد -الذي يركز كل اهتماماته على إعادة انتعاش شبكات حكمه- عبر إجباره على "إدارة الظهر" لكافة العمليات التي تستهدف إيران والحزب في 214  موقعاً في الجغرافيا السورية.  

التقطت الإدارة العسكرية "لغرفة عمليات ردع العدوان" هذا التغيير وكانت لحظة اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بعد تلقي الحزب ضربة قاسية ستجبره على الدخول في مرحلة انتقالية يلملم فيها ما تبقى له من أوراق؛ لحظة مناسبة لساعة الصفر.

ثانياً: يأسٌ حيال مسارات الانفتاح على الأسد: خلال أعوام 2022 و2023 و2024 زاد معدل المؤشرات الدافعة لتقارب النظام مع دول المنطقة وحتى استعادته الشرعية الدولية، سواء مع تركيا ضمن المسار الثلاثي موسكو دمشق أنقرة الذي انضمت إليه طهران لاحقاً، وهو مسار لم يفضِ لتعزيز أي استقرار وإن ارتفع مستواه من التنسيق الأمني إلى الدبلوماسي على المستوى الوزاري، فساد الجمود في محاولات التطبيع بين النظام وتركيا بقيادة روسيا التي أرادت تشكيل حلف بين أنقرة ودمشق للحفاظ على المكتسبات الاستراتيجية لمسار أستانا في ظل أي تحولات، لا سيما في ظل انشغال روسيا بالحرب مع أوكرانيا. بالمقابل حظي مسار التقارب مع الدول العربية بتقدم بطيء، إذ تلاقت فيه مساعي حلفاء النظام مع التوجه الإقليمي القائم على احتواء الصراعات ضمن حدودها واستعادة الاستقرار على حساب إيجاد الحلول، خاصة مع وجود سياق إقليمي مواتٍ يتمثل في التقارب العربي التركي والتقارب السعودي الإيراني، إلا أن افتقار المبادرات العربية للمعرفة الكافية بتطورات الوضع السوري وفاعليه وعدم امتلاك الأدوات الملزمة والبدائل الناجعة في الضغط على النظام في حال عدم التزامه، قد ساهم في تحول الفعل العربي من التنسيق الجماعي إلى التنسيق الثنائي -وهو ما يفضله النظام كونه أكثر جدوى اقتصادياً وسياسياً ولا تترتب عليه التزامات حقيقية- ورغم ذلك لم يبادر النظام بأية خطوة جدية.

وعليه، عززت هذه المسارات أن صمت الأسد وعدم تقديمه أي تنازل، إنما هي إشارة أدركتها الإدارة العسكرية لغرفة ردع العدوان بأن النظام فاقد الرغبة والإدارة بفك الارتباط عن إيران العابثة بأمن واستقرار المنطقة، وبأنه لن ينخرط بشكل جدي بأي مسار ، وهو ماعزز من أهمية التوقيت الذي انطلقت به العملية.

ثالثاً: هشاشة جيش النظام وانحسار دعم الحلفاء: مع تقدم سني الصراع وحتى لحظة سقوط النظام، فقد الجيش مجموعة من المرتكزات التي حولته لميشيا كبرى وأفقدته القدرة التنظيمية، وجعلت فكرة بقائه مرتبطة بوهم تدخل روسي وإيراني وهو ما لم يتوافر في معركة ردع العدوان، كما هو موضح بالمعطيات أدناه:

  • فقدان القدرة البشرية: كانت دلالته المباشرة الاستنجاد بالميليشيات الإيرانية والأجنبية وتشكيل الميليشيات المحلية والذي توضح بنهاية 2012 وبداية عام2013، إضافة إلى النزيف البشري جراء الانشقاقات لا سيما في فئة الميدانيين، والقتل الذي تعرض له بسبب هجمات فصائل المعارضة، ناهيك عن عدم التحاق المكلفين بالسوق للخدمة الإلزامية.
  • فقدان القدرة النوعية: ودلالته المباشرة الاستنجاد بالقوة العسكرية الروسية عام 2015 ، إضافة إلى توظيف سلاح الحرب التقليدية في أتون حرب العصابات مما جعلها عرضة للاستهداف، ناهيك عن قِدم هذه الأسلحة وعدم نجاعتها.
  • فقدان القرار المركزي الضابط لتوجهات الجيش: تمثل بمشاركة القوات الروسية والإيرانية وحزب الله في قرارات غرف العمليات العسكرية، إضافة إلى الشكل الهجين الذي سار عليه قرار العمليات الميدانية، إذ ساهم تباين المصالح في اضطراب القرار بشكل عام وإخضاعه لشروط عابرة للجيش.
  • ترك الجيش بلا توجيه والمساهمة في فرط عقده: فمنذ معركة حلب في مطلع شهر ديسمبر 2024 عانى الجيش من عدم وجود خطة تعامل واضحة، مما جعل قرار القرار وتشكيل عقد دفاعية هو الأساس، وهو أمر استغلته الإدارة العسكرية لعملية "ردع العدوان" وصولاً إلى محيط دمشق حيث قرر حينها الأسد الفرار وعدم إعطاء أي أمر، تاركاً الأمور لتقديرات الوحدات العسكرية التي تكيفت مع المشهد الميداني وأعطت أمر الانسحاب الكيفي لكل العاملين بالجيش، وبهذا يكون الأسد قد ضرب عنصر التنظيم الذي كان عنصر القوة الوحيد المتبقي بالجيش.

مابعد التحرير: تحديات بالغة الأهمية  

منذ استلام الإدارة الجديدة مقاليد إدارة سورية في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهي تعمل على مقاربة تسيير الأعمال في سورية حتى مطلع آذار/ مارس 2025، وتستند على أربع دعامات رئيسية:

أولاً: الدعامة الدبلوماسية والسياسية: سورية دولة استقرار الإقليم وليست دولة نزاع إقليمي: منذ اليوم الأول لمعركة ردع العدوان حرصت الإدارة العسكرية على تصدير بيانات طمأنة واتباع لغة "الدولة" الدبلوماسية، وكانت هذه الرسالة هي المحتوى الرئيسي لجل الزيارات الدولية التي حطت بالقصر الرئاسي. إضافة لحرص الإدارة على التأكيد أن تحولاتها السابقة -وفق التصريحات- ستصب لصالح التأطير الوطني وصيانة الدولة السورية، لتأكيد عدم النظر إليها كمجموعة جهادية مصنفة.

ثانياً: الدعامة الإدارية: الاتكاء على نموذج إدلب كنموذج آمن للإدارة الجديدة: من اللحظة الأولى استندت الإدارة على "حكومة الإنقاذ" واعتبرتها حكومة تصريف إعمال لإطلاق عجلة الدولة، كما أن جل التعيينات التي تدير الشأن المدني والسياسي والاقتصادي والحوكمي مرتبطة بمعياري الثقة والخبرة في إطار حكومة الإنقاذ.

ثالثاً: الدعامة الأمنية: الضبط وأمن الدولة: يستند خطاب الإدارة الجديدة وسلوكياتها بالانتقال إلى عقلية أمن الدولة، ويتجلى ذلك في: تصدير فكرة حل الفصائل، وحصر السلاح بيد الدولة، وتشكيل قطاع الأمن والدفاع، وسياسات التسوية التي أطلقتها، ومحاولتها المستمرة لضبط الأمن المحلي، والحرص على السلم الأهلي.

رابعاً: الدعامة الاقتصادية والتنموية: تحسن مؤشرات سبل العيش: رغم التركة الصعبة التي ورثتها الدولة ومؤسساتها، إلا أن الإجراءات الأولية المتخذة من قبل الإدارة الجديدة كتحرير بعض الضرائب والتسهيلات في الاستيراد والتصدير وغيرها تفيد بتركيزها على مؤشرات سبل العيش، إضافة إلى سعيها لتحسين واقع الطاقة والأمن الغذائي ورواتب الموظفين (حيث وعدت بزيادة تقارب 400%).

ورغم المضي في هذه المقاربة إلا أن التحديات التي ترافق مرحلة ما بعد سقوط الأسد هي تحديات مركبة وبالغة، وهي مرتبطة بثلاثية الاستقرار والتشاركية والتأسيس للمرحلة الانتقالية. ويمكن تفنيد التحديات المباشرة بالآتي:

  • تحدي توفير الموارد الاقتصادية: يعتمد الاقتصاد السوري على تحويلات المغتربين، في ظل تدمير مقومات الاقتصاد السوري جراء العمليات العسكرية وسرقة الموارد من قبل عائلة الأسد وشبكات المحسوبية المرتبطة بهم، والعقوبات الأوروبية والأمريكية.
  • تحديات مرتبطة بهيئة تحرير الشام: سواء تلك المتعلقة ببنيتها البشرية كعدد غير قادر على تحمل العبء بمفرده من جهة، وكتيارات قد لا تنسجم مع طبيعة التحولات التي تقدم عليها الإدارة الجديدة من جهة ثانية، أو تلك المرتبطة بمؤشرات التفرد والإقصاء والتعامل مع المجتمع السوري كتمثيل مجتمعي لا كتمثيل سياسي.
  • العلاقة مع الفصائل: كمخاطر الاقتتال الداخلي، إضافة إلى قضايا الأمن الداخلي.
  • بقاء فلول النظام ومرتبكي الانتهاكات في أجهزة مؤسسات الدولة: في ظل عدم معرفة حكومة تصريف الأعمال للأشخاص الجيدين والأشخاص الفاسدين.
  • مخاطر إدامة حالة الفراغ السياسية والمدنية في سورية، إضافة إلى مخاطر تتمثل بمخاطر التركيز على دمشق وإهمال الأطراف (المحافظات)، بما يعطيها مؤشرات للبحث عن خيارات مناسبة لها.

أما فيما يرتبط بتحديات مرحلة تسيير الأعمال، فهناك أسئلة تتعلق بالمشروعية المحلية والإقليمية

إذ ينبغي أن تتبع هذه المرحلة منطق التشاركية لتعميم المسؤولية والواجبات على جل الشرائح السورية، وتبدأ بالتحدي الأمني والحفاظ على وحدة التراب السوري وما تستلزمه من سياسات، وتمر بتحدي التأطير الدستوري الناظم لهذه المرحلة ولا تنتهي بالتحدي الإداري والاستعصاءات المتوقع ظهورها جراء ترهل الدولة وتحكم شبكات الفساد والمحسوبيات. ويوضح التفنيد أدناه طبيعة بعض التحديات وآليات التعاطي معها:  

 

التشاركية والضبط الأمني :مدخل رئيسي لمعالجة أزمات مركبة

قبل سقوط نظام الأسد، عزز المشهد السوري وتطوراته من مقاربة التطبيع مع النتائج لا سيما في انسداد أقنية التواصل بين مراكز القوى الإقليمية والدولية بخصوص سورية وحصرها بمساحة المساعدات الإنسانية، الأمر الذي عزز أدوار إيران من جهة، وأدوار فواعل ما دون الدولة وحلفائها الإقليميين، إضافة لتنظيم "داعش" الذي يدخل مرحلة انتقال وتحوله لصيغة تفاعل شبكية.  وعلى الرغم من تغيير الملعب السياسي المحلي والإقليمي بعيد سقوط الأسد ؛إلا أن هناك أزمات مستمرة لايمكن إغفالها، وتدلل الديناميات الأمنية والاقتصادية والإنسانية في المشهد السوري على جملة من النتائج التي تسهم بمجموعها في استمرار الأزمات وتعقدها وترشح انفجارها بشكل أكبر، نذكر منها:

  1. تعاظم الاحتياجات الإنسانية سواء المرتبطة بالتعليم أو متطلبات اللجوء والمخيمات، وما يستلزمه ذلك من وجود مشاريع تضمن عودة نوعية وكريمة من جهة، وبرنامج وطني بدعامات مالية هائلة من جهة ثانية.
  2. هشاشة الوضع الأمني واحتمالية انزلاقه للعنف وبمستويات نوعية ولو بنسب ضئيلة، سواء تلك المرتبطة بالجريمة الجنائية أو المنظمة أو حتى المرتبطة بالسلم الأهلي.
  3. "ضعف المركز وسيولة الحدود" وتداعياته على الاستقرار الإقليمي، فوجود مركز ضعيف لا تتوافر لديه سياسات الترابط الجغرافي للتراب السوري سيسهم بمزيد من الانقسامات المجتمعية واحتمالية انتقالها وترشحها إلى مستويات تهدد الجغرافيا ككل.
  4. "انتعاشة داعش" إذ انعكَست الظروف الميدانية والقدرات الذاتية للتنظيم قبيل السقوط، بشكل تحوّلات في بُنيتهِ. فبات يعتمد على نشاط لامركزي يُشكّل العنصر المحلي حاملاً أساسياً له، ولم تعد الأيديولوجيا وحدها رافعته، خاصة مع تنوّع خلفيات العناصر التي يعتمد عليها، واتساع الخرق الأمني في صفوفه، والحاجة المالية التي دفعته إلى استحداث مصادر بديلة للتمويل.
  5. انتعاشة شبكات إيران وانخراط طيف جماعات ما دون الدولة المرتبطة بها في عمليات التفكيك المجتمعي من خلال الجريمة المنظمة كإنتاج وتسويق ونقل المخدرات من سورية للخارج، أو عبر العبث بملف الأقليات وتحريضها لتعزيز مؤشرات حرب أهلية.
  6. تآكل الدولة: ومن مؤشراته تراجع فرط عقد الجيش والأمن، وترهل العمل البيروقراطي وتعاظم شبكات الفساد، واهتراء البنية التحتية وعدم قدرتها على النهوض لأسباب قانونية ومالية وبنيوية.

أما فيما يرتبط بالاتجاهات المستقبلية، فعلى الرغم من أن المشهد المستقبلي في سورية محكوم بثنائية الاستقرار أو اللااستقرار، إلا أن هنالك العديد من العوامل المحركة لسيناريوهات ضمنية، والتي يمكن تأطيرها ضمن المجموعات التالية:

  • العوامل الأمنية: انتعاش تنظيم داعش، اندلاع اقتتال داخلي، ظهور نموذج قوى مناهضة، فشل الضبط الأمني والسيطرة.... إلخ
  • السياسية: عدم تقبل مشروع الإدارة الجديدة خارجياً، الإقصاء الداخلي وغياب المشاركة، استمرار العقوبات...إلخ
  • الخارجية: الموقف الإسرائيلي، الموقف الأمريكي، موقف دول الإقليم...إلخ
  • الاقتصادية: الانهيار الاقتصادي، توافر التمويل لدعم الاستقرار في سورية... إلخ

ويمكن ترتيب هذه المحركات وفق الأهمية القصوى  كما هو موضح بالجدول أدناه

نظراً لطبيعة المرحلة، وتعدد العوامل المحركة للسيناريوهات، وتباين وزنها وتأثيرها على مسار الأحداث في سورية، فضلاً عن سلوك "هيئة تحرير الشام" وزعيمها أحمد الشرع في التعاطي مع المطالب الداخلية والخارجية؛ يمكن رسم طيف من السيناريوهات قائم على محددين أساسيين هما: 1) مدى التشميل والتوافق/ الاستفراد بالسلطة، 2) مدى القدرة على تحقيق استقرار/ لااستقرار.  وهذه السيناريوهات هي:

  1. سيناريو التشاركية: ويفضي إلى الاستقرار والتشميل والتوافق الوطني، ويرتبط بمؤشرات: الفعالية الأمنية والعسكرية وفق قواعد العلاقات المدنية الأمنية، تأهيل المؤسسات، تفعيل دور مدني داعم لمسار التنمية، تحريك مسار التنمية وإعادة الإعمار، مشروعية سياسية محلية ودولية، قطاع خاص قوي، لامركزية إدارية ومالية متقدمة ولامركزية سياسية متوسطة، استقطاب رأس المال السوري، قواعد ضريبية عادلة.
  2. سيناريو الفردانية: يفضي للاستبداد والاستفراد في السلطة، وقد يسهم في تحقيق استقرار أمني فقط، ويرتبط بمؤشرات: الضبط الأمني والتشكل الأمني الصلب، حد مقبول من الخدمات، استقطاب قيادات مجتمعية محدود، مشروعية دولية ومحلية محدودة، منظومة شديدة المركزية، إهمال للمحليات.
  3. سيناريو التشظي: ويستند إلى تشاركية دون فعالية أمنية، وهو مرتبط بمؤشرات: مجتمع مدني هش، استثمارات غير منتجة، منظومات حوكمية غير قابلة للاندماج، دعم خارجي لمناطق دون أخرى، احتكار النفط والموارد، لامركزية سياسية وفوضى مالية وإدارية، تنافس دولي على دعم الفرقاء السوريين، قطاع خاص كوجه آخر للسلطة.
  4. سيناريو عودة العنف: ويستند إلى الفردانية في الحكم دون ضبط أمني، وهو مرتبط بمؤشرات: استمرار اقتصاد الحرب، عنف مجتمعي وإجرام، خطاب كراهية، خطاب طائفي، أنواع جديدة من العنف، تنافس صفري بين قيادات الفصائل، تدخلات وأحلاف دولية متباينة.

إذاً ينبغي لأي مقاربة حكم بعد سقوط النظام وتمرير مرحلة تسيير الأعمال أن تنطلق بتشكيل فهم مشترك لقضايا الاستقرار والأمن والتعافي مع مراعاة المعرفة المرتبطة بالديناميكيات المحلية ونتائجها ومقاطعتها مع السياق الدولي سواء المرتبط بالتعاطي مع المشهد السوري أو المتعلقة بأزمات المنطقة. وأن تستند على مبدأ التشاركية وأن تضع على سلم أولوياتها ما يلي:

  • الأمن ومكافحة الإرهاب: مكافحة الإرهاب، وعمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج وإصلاح قطاع الأمن، وتوحيد المناطق، والشرطة والمؤسسات الأمنية المحلية وتأثيراتها الإقليمية غير المباشرة. وسيتناول هذا الموضوع أيضًا موقع الدولة السورية المستقبلية ضمن البنية والمصالح الأمنية الإقليمية.
  • الحكم والنظام السياسي: النظام السياسي المستقبلي في سورية، طرق تقاسم السلطة، سيناريوهات اللامركزية/المركزية.
  • ج) التعافي الاقتصادي وشبكات الأعمال: الأوضاع الإنسانية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية، والتعافي المبكر، وإعادة الإعمار والاقتصاد السياسي، وبرامج تحقيق الاستقرار.
  • في ضوء ذلك، يمكن أن يأخذ حل تشارك السلطة في الاعتبار ما يلي:
  • حل تشارك السلطة لا يمكن أن يكون على أساس المحاصصة الطائفية أو العرقية.
  • يجب أن يكون حل تشارك السلطة متناظراً.
  • التفكير في النمط البرلماني الأنسب والذهاب باتجاه الغرفة الثانية.
  • تفعيل الحياة السياسية والمدنية من خلال تهيئة قانونية ودستورية لنمط فعال ومستقل.
  • تحييد قطاع الأمن والدفاع عن التجاذبات السياسية ودسترته وضمان حياديته.
  • فعالية المجتمعات المحلية ومشاركتها في آليات صنع القرار وتنفيذه ومراقبته.
  • التركيز على القطاع الخاص، إجراء حوارات بين رجال الأعمال ومناقشة الملفات الاقتصادية المشتركة التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق لتحسين الحوكمة الاقتصادية.
  • أولوية التعليم أن يكون بوابة للاستقرار والتماسك المجتمعي، وتحييده عن التجاذبات الأمنية والسياسية.

خاتمة

بسقوط نظام الأسد تنتهي حقبة سوداء انتكست فيها الدولة وتفتت الجغرافيا وضُرب التماسك المجتمعي، حقبة عظّمت من فكر نظام العصابة وتجيير القانون والدستور والمؤسسات لخدمته، فماتت السياسة والاجتماع وعُممت السجون والمقابر والخطف والتعذيب، وحوّل شبكاته إلى الفئة المتحكمة باقتصاد البلاد وموارده وكافة الميزات السياسية والإدارية، كما سبب إجرامه وتعنته تجاه الشعب السوري ومطالبه العديد من الانتكاسات التي طالت الدولة ومؤسساتها ومزقت البلاد وعظّمت تحدياتها الأمنية.

وعلى الرغم من أن ثورة آذار 2011 وما استخدمته من تنوع في أدوات المقاومة والصمود والتحمل ساهمت في تقويض تلك الشبكات وانتصرت على هذا النظام؛ إلا أن الحمل الوطني والتركة صعبة وبالغة الأهمية وتستوجب إدراكاً لتحديات سورية الجديدة بكل مراحلها المتوقعة. ورغم وجود طيف واسع من السيناريوهات المتوقعة إلا أن مقاربة "النجاعة الأمنية والتشاركية" هي الخيار الذي يعزز تحول سورية إلى دولة استقرار وبناء.  



 

([1]) ضمن سياق التطبيع وإعادة العلاقات مع النظام، أعلنت إيطاليا إعادة بعثتها الدبلوماسية وتعيين سفير لها في دمشق، وقد تزامنت هذه الخطوة مع تحرك إيطاليا وسبع دول من أعضاء الاتحاد الأوروبي للمطالبة بالتخلي عن "اللاءات الثلاث" التي تحدد موقف الاتحاد من القضية السورية.

([2])ساشا العلو؛ محمد أديب عبد الغني، "تنظيم الدولة" في سوريا بعد "التمكين"، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2024، ص: 9-12، للمزيد انظر:      https://bit.ly/3VmhdXC.

 

 

([3]) تتضمن بشكل أساسي الألوية العسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام، وبمشاركة كل من الجبهة الشامية وحركة نور الدين الزنكي، وبعض مقاتلي القوة المشتركة وجيش العزة وصقور الشمال الإضافة فصائل أخرى.

الأربعاء كانون1/ديسمبر 18
أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ومعهد السياسة و المجتمع، كتابه الجديد بعنوان: “حرب الشمال: شبكات المخدرات في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، ويحلل الكتاب ظاهرة شبكات تهريب المخدرات المنظمة في…
نُشرت في  الكتب 
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20