تمهيد
لا شك أن نجاح القيادة العسكرية في إسقاط نظام الأسد اعتمد على عوامل عديدة ليس أقلها الإعداد والتدريب العسكريَين. ولكن هناك عوامل موضوعية أساسية قد لا تقل أهمية، وإن لم تكن ظاهرة للعيان بشكل مباشر. أحد تلك العوامل تراجع وتهافت الخدمات والإدارة العامة، وانتشار الفساد في مناطق سيطرة النظام، مقابل الوضع العام في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ، من ناحية توفير الخدمات وإحقاق العدالة السريعة، بطريقة تلبي قيم المجتمع المحلي، مما أعطى لتلك المنطقة قوة تنافسية متقدمة. ويمكن إرجاع عوامل النجاح الحوكمي النسبي لحكومة الإنقاذ ما قبل سقوط النظام إلى العوامل التالية:
- الانضباط والمرجعية الأخلاقية للكوادر: قد يبدو هذا العامل ضمن أدبيات الحوكمة التقليدية عاملاً ضعيفاً، ولكن له الدور الأكبر في حالة الحصار والحرب التي تعرضت لها المنطقة، فتجانس المنظومة الأخلاقية يساعد على ضبط الفوضى.
- تقليص مستويات الحكم: من خلال ممارسة السلطات على مقربة مباشرة من السكان. وهذا يتطلب توفير وصول مباشر للمواطنين إلى مستويات اتخاذ القرار بدون المرور بالعديد من المستويات الإدارية، خاصة في مجالات القضاء.
- تركيز الحكومة على التنظيم وترك تقديم الخدمات للمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص: وهذا وفر على الحكومة موارد أساسية، وأتاح استخدام مواردها في مجالات تنموية حتى ضمن ظروف الحرب والحصار. علماً أن العديد من الوظائف الحوكمية الأساسية بقيت معلقة كونها ذات أولوية ثانوية (أدوات الإحصاء والتخطيط مثلاً).
- توافق عال بين الإطار القيمي للحكومة مع المرجعيات الدينية والأخلاقية للسكان: والقدرة على احتواء الخلافات المجتمعية والمصالح المختلفة بالتنسيق مع القيادات والبنى المجتمعية القائمة.
- سهولة التحكم النقدي باقتصاد محاصر ومحدود في منطقة جغرافية يمكن الإشراف عليها ومراقبتها مباشرة مما ضمن لجم التضخم إلى حد ما.
تراكمت نتيجة ذلك خبرات ضرورية وأساسية قد تكون مفيدة في العديد من مجالات إدارة الدولة مستقبلاً، ولكن للأسف، لا يمكن نقلها بشكل مباشر عند توسيع الإطار الحوكمي من إدلب إلى باقي الأراضي السورية بدون إعادة النظر بعدد من المعطيات الأساسية وتعديل الفرضيات.
تحديات أساسية في توسيع آليات عمل الحكومة
ستواجه الحكومة في المرحلة القادمة تحديات آنية وأخرى متوسطة وبعيدة المدى، لا يمكن إدارتها باستقراء مباشر لتجربة إدلب، وتتطلب البحث بالعمق عن الأسباب البنيوية لنجاح تجربة إدلب وليس تقنياتها الحرفية. وذلك للأسباب التالية:
- لن تتوفر المنظومة القيمية والرقابة الذاتية والتجانس في أجسام حوكمة نخرها الإهمال والفساد والمحسوبيات، أضف إلى ذلك أن العناصر الجيدة فيها ما زالت بحاجة إلى آليات رقابة غير مباشرة لن توفرها منظومة الرقابة المباشرة التي اعتادت حكومة الإنقاذ استخدامها في الرقابة على الفساد. ستحتاج الهيكلية الإدارية في سورية إلى قرابة ألفي مدير من المستويات العليا، وحوالي عشرة آلاف مدير من المستويات المتوسطة. لن يستطيع المركز المتمثل بالحكومة المؤقتة الرقابة عليها بشكل مباشر. وستقع الحكومة الجديدة في تحديات اختيار وتأهيل ومراقبة ومحاسبة كوادرها عبر مستويات رقابية وسيطة. هذه المنظومات الرقابية كالجهاز المركزي للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية كانت في عهد النظام البائد عقدة من عقد الفساد الأساسية، فكلما وضع مستوى حوكمي وسيط توجب الرقابة عليه، وإلا أصبح بدوره جزءاً من منظومة الفساد.
- لا شك أن منظومة الإدارة المحلية بشكلها التقليدي في سورية تحتاج لإعادة نظر في مستوياتها وحجم وشكل التقسيمات الإدارية فيها. في إدلب قامت حكومة الإنقاذ بإلغاء مستوى المحافظة في الإدارة، وأدارت بلديات كبرى (حجم كل واحدة منها يعادل حجم ناحية تقريباً). هذا الأمر لن يكون قابلاً للتكرار في محافظات أخرى، ويجب العمل على توحيد مستويات الإدارة المحلية لتصبح متجانسة. لن تستطيع الحكومة من دمشق التدخل المركزي، ولن يمكن تجميع البلديات الصغرى في كل المحافظات ضمن بلديات كبرى (خاصة في ظل النزاعات التي خلفتها سنوات النزاع بين المجتمعات المحلية). كما لا يمكن للبلد أن يُدار بشكل غير متناظر.
- استطاعت المنظمات غير الحكومية توفير الخدمات الأساسية الأكثر تكلفة كالصحة وبعض أطر التعليم من خلال موارد الجاليات السورية والمانحين. لا يمكن توسيع هذا المورد بشكل كبير، وإلى أن تستطيع الحكومة المركزية توفير تلك الموارد بشكل مستدام إلى المحليات سيكون هناك تحدٍ أساسي في توزيع الموارد القادمة إلى سورية بشكل عادل وشفاف. توفير الخدمات سيحدد إلى درجة كبيرة مقبولية الحكومة الجديدة على المدى غير البعيد. تحتاج الحكومة لتوفير قرابة 10 مليار دولار سنوياً لإصحاح البنى التحتية الأساسية بالحد الأدنى وتوفير الخدمات بشكل مقبول. لن تتوفر تمويلات من المانحين بهذا الحجم، ولن تكفي التمويلات الأولية التي قدمتها قطر وتركيا للوفاء بتلك الاحتياجات على المدى البعيد.
- إدارة التوافقات المجتمعية ستشكل تحدياً كبيراً في مناطق لا تتوافق قيمياً وثقافياً مع المنطلقات الأخلاقية للحكومة. المجتمعات السورية لا تدار بمنطق المكونات الدينية والعرقية. فلكل مكون من المكونات تنظيمات اجتماعية وأعراف متناقضة، تمثل مصالح متنافسة وزعامات محلية متناحرة (جزء أساسي منها عابر للمكونات). ولن يضمن التفاهم مع بعض القيادات المجتمعية رضا باقي تلك القيادات. التفكير بمنطق المكونات سيضع الحكومة الجديدة في إشكالات لم تعتد التعامل معها في إدلب، التي بقيت مكوناتها الدينية والثقافية محدودة جغرافياً ومكانياً. ستستهلك المنازعات والتنافس ضمن المجتمعات المحلية وقت الإدارات، وستتسبب في إحراجها إذا لم يُترك للمجتمع المحلي مساحة مقبولة للحوار والتفاوض على تمثيل أصواته المتناقضة والمتعارضة مستقبلاً.
- تعافي الاقتصاد السوري: الاقتصاد السوري اقتصاد كبير لا يمكن إدارته بأدوات التحكم بالتضخم التي أديرت بها إدلب. سيكون هناك طلب على أغلب المواد الاستهلاكية في المرحلة القادمة، وسيتنافس القطاعان التجاري والصناعي على كيفية تلبية تلك الاحتياجات (الأول سيريد رفع القيود الجمركية والآخر سيريد حماية جمركية في البداية). وهذا بدوره سيوجد طلباً على أنواع مختلفة من العمليات المالية، والتي سيتعين على الحكومة الموازنة بينها ضمن آليات رقابية مركزية. وحتى إن كانت العمليات المالية ستدار من قبل القطاع الخاص ضمن آليات السوق الحر، فإن إدارة القطع الأجنبي وموازنة الحسابات القومية ستكون مطلوبة للتحكم بالتضخم. حالياً أدى الطلب السريع على الليرة السورية فور عودة اللاجئين والمغتربين إلى دعم لليرة السورية. ولكن ما أن تبدأ عمليات البناء والاستثمار فإن حجم الكتلة المالية المتوفرة في الأسواق سيتسبب في نمو متسارع للأسواق وتضخم كبير (حتى وإن ثبت سعر الصرف). ورغم أن هذا النمو سيوفر في آخر المطاف فرص عمل وإمكانات للأسر السورية لاستعادة مقدراتها الاقتصادية إلا أن تغلغل منافع وعائدات النمو الاقتصادية سيكون بطيئاً بالمقارنة مع تزايد التضخم المتوقع. هذا يعني أن قرابة 60% من السكان سيكونون عرضة لخطر انعدام الأمن الغذائي على المدى القصير والمتوسط. ولابد من توفير شبكة أمان بشكل سريع، وإلا انقلبت مقبولية الحكومة الحالية سخطاً خلال أسابيع قليلة.
- إعادة الإعمار ستحتاج لموارد غير متوفرة، ومن غير المتوقع توفيرها من خلال أعطيات المانحين، خاصة في ضوء استمرار العقوبات (واستمرار الامتثال المفرط للعقوبات بما هو أبعد بكثير من النص الحرفي للعقوبات). تقديرات تراجع الناتج المحلي اليوم هي من مرتبة 58 مليار دولار عام 2011 إلى 20 ـ 22 مليار اليوم (باعتبار جزء من الناتج اليوم عائد إلى اقتصاد الحرب، بينما اقتصاد السلم قد لا يتعدى 18 مليار). الاقتصاد القائم اليوم منكمش بدرجة قصوى، وستؤدي عملية الاستثمار في إعادة البناء إلى فرص كبيرة للنمو المتسارع، ومخاطر متعلقة بالاستثمار على حساب الفئات الهشة كما تم لحظه أعلاه. لكي تستطيع سورية استرجاع الفاقد من الناتج المحلي فستحتاج إلى نمو سنوي من مقدار 6 ـ 7% سنوياً، وهو أمر ليس صعباً بداية، في ظل اقتصاد منكمش انفتح فجأة على الاستثمارات الجديدة (مع كل ما يستدعي ذلك من مخاطر التضخم). ولكن هذا التسارع في النمو سيتراجع لاحقاً، ولا يمكن الاعتماد عليه للاستمرار بأكثر من 4 ـ 5% في السنوات اللاحقة بأحسن الأحوال، أي إن عملية استرجاع خسارة الناتج المحلي لن تتحقق قبل 2040، حتى مع انفتاح أسواق الاستثمار.
ويمكن تقسيم خسائر الاقتصاد السوري إلى ثلاث مكونات:
- الخسائر المادية المباشرة: وتقدر بحدود 125 ـ 150 مليار، وهي قيمة الأصول المهدمة من سكن ومنشآت وبنى تحتية ومعامل وغيرها.
- الخسائر الاقتصادية غير المباشرة: وتقدر قيمتها بحدود 200 ـ 300 مليار، وهي خسائر الإنتاج الذي لم يتم إنتاجه بسبب الخسائر المادية المباشرة.
- خسائر الفرصة الضائعة: وتقدر بحدود 400 مليار، وهي قيمة النمو الذي كان سيتحقق لو أُعيد استثمار عائدات الخسائر الاقتصادية في الاقتصاد السوري.
في أحسن الأحوال يمكن للاقتصاد السوري أن يستعيد المكونين الأول والثاني في غضون 15 ـ 20 عاماً. ولكن هذا التصور يتطلب موازنة دقيقة بين متطلبات النمو ومتطلبات الحماية الاجتماعية. معدلات الضرائب يجب أن تُحتسب بدقة لتشجع على الاستثمار من جهة، ولتوفير متطلبات الخدمات العامة لحماية رفاه المجتمع وتوفير نمو محابي للفقراء من جهة أخرى. إعلان الحكومة الجديدة عن سوق حرة وحد أدنى من الضرائب سيطمئن المستثمرين، ولكنه سيخلق ثورة جياع إذا لم تتوفر أطر مقبولة اجتماعياً وقانونياً للتكافل الاجتماعي ولضمان حماية الفئات الأكثر هشاشة.
الموازنة بين الاستقرار والمشروعية
نالت حكومة الإنقاذ شرعية إدارة الحكومة المؤقتة ضمن ما يسمى في الأدبيات الدستورية بالشرعية الثورية. وهي شرعية تتيح لها قيادة المرحلة تحت عنوان الحفاظ على الاستقرار. ولكن للشرعية وجهاً آخر هو المشروعية، والمتأتية من قبول المجتمع، ومن تماسك المنظومة الحوكمية، بدءاً من الدستور إلى القوانين، وانتهاءً بالتنفيذ والمشاركة المجتمعية. بدون شرعية لا معنى للإطار القانوني، وبدون مشروعية لا معنى للشرعية (سياسياً على الأقل). ستكون هناك قضايا أساسية يجب العمل عليها لتوفير آليات بناء المشروعية تباعاً للتعامل مع التحديات البنيوية التي ستواجهها الحكومة الجديدة في المرحلة القادمة. وتشمل:
- بناء الشرعية الدستورية والحوار الوطني: ضمن إطار تشاركي وتشميلي. وهي عملية قد تحتاج إلى وقت لتنضج رغم أنه بحاجة للانطلاق سريعاً.
- التعافي الاقتصادي وعودة الخدمات: وهو التحدي الأكبر، ويشمل توفير الرواتب والأجور ليس فقط لموظفي القطاع العام، فرفع رواتب القطاع العام سيولد تضخماً في باقي القطاعات لا يمكن احتوائه على المدى القصير.
- الإصلاحات المطلوبة لمنظومة الإدارة المحلية وتنظيم عمل المجالس المحلية: فقد تطورت منظومات حوكمة مختلفة حتى ضمن منطقة سيطرة النظام، الذي ترك كل منطقة تدار وفق معايير محلية مختلفة رغم وجود نص قانوني واحد هو المرسوم 107/ لعام 2011.
- تنظيم عمل المجتمع المدني: وبناء شراكات عملية مع المنظمات غير الحكومية لتوفير شبكة أمان مجتمعي، وهذا لا يعني حصر عمل التنظيمات المدنية بالعمل الإغاثي، فرغم الحاجة الماسة للعمل الإغاثي مرحلياً فإن العمل الإغاثي لا يولد مضاعفات اقتصادية ولا يخلق فرص عمل. ومن الضروري عدم الاعتماد الكلي على الإغاثة. منظمات المجتمع المدني جزء أساسي من خلق مناخ إيجابي لعودة الاستثمار في سورية، ولا يجب تقييدها بالعمل الإغاثي.
- إعادة إعمار المدن والبلدات: ستحتاج العديد من المدن والبلدات لتنظيم سريع لضبط أعمال البناء، وتنظيم السلامة العامة، وحماية الأملاك العامة، وتوفير البنى التحتية. المنظومة السورية للتخطيط غير قابلة للتعامل السريع مع تلك التحديات، خاصة وأنها في السنوات الأخيرة توجهت نحو مشاريع التطوير العقاري متناسية حق السكن للسكان المبعدين.
- السلم الأهلي: لا بد من آليات شفافة ومحلية للتعامل مع قضايا السلم المجتمعي. وهي آليات تنظر إلى الروافع المجتمعية القائمة، وتتحاور معها على تنوعها، ولا تختزلها بنوع واحد من القيادات الطائفية.
ستصدر أوراق لاحقة تباعاً لتفصيل هذه الآليات بالخطوط العريضة لتفعيل الحوار حولها.