حول مشروعه البحثي "إصلاح القطاع العسكري في مرحلة ما بعد الصراع في سورية" عقد مركز عمران للدارسات الاستراتيجية بالتعاون مع مركز كارنيغي وبدعم من الاتحاد الأوروبي وألمانيا كجزء من مبادرة دعم عملية السلام السورية (SPPSI) ورشة عمل لعدد من الخبراء والفاعلين المحليين في الشأن العسكري في إستنبول يوم الخميس 25 تشرين الأول/أكتوبر 2018؛

هدفت الورشة إلى عرض ومراجعة وتحليل نتائج ثلاث أوراق بحثية أعدها مركز عمران ضمن خطة المشروع البحثي؛ حيث افتتحت الورشة بعرض لفكرة المشروع البحثي الهادف لتفكيك مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالمؤسسة العسكرية السورية، ويرمي لبلورة السياسات والبرامج التي تعزز من اتساق بنية ووظيفة هذه المؤسسة مع المتطلبات الوطنية والأولويات الأمنية والعسكرية المحلية بما في ذلك قوننة العلاقات المدنية العسكرية؛

جاءت الورشة على ثلاث جلسات استعرض فيها الباحثون الأوراق التالية:

  1. الجيش السوري بعد عام 2011-الدور والوظيفة.
  2. ورقة: البنى والفواعل العسكرية في سورية لعام 2018.
  3. ورقة: الاستقرار والتغيير في سورية: ورقة استشرافية حول مستقبل المؤسسة العسكرية.

تلت العروض جلسات نقاش مفتوحة ساهمت بتعزيز وجهات النظر والتأكيد على أهمية استدراك بعض الأمور التي من شأنها أن تساهم في إصلاح هذا القطاع، واختتم اللقاء بجلسة توصيات ونتائج عامة.

حضر اللقاء 37 شخص من عدة دول عربية وأوربية، اختلفت تخصصاتهم حسب القطاعات ذات الصلة بالمشروع من عسكريين وقانونيين وباحثين وخبراء.

التصنيف الفعاليات

أقام مركز عمران للدراسات الاستراتيجية لقاءً تعريفياً حول كتابه السنوي الرابع المعنون بــ : "حول المركزية واللامركزية في سورية: بين النظرية والتطبيق”. هدف اللقاء إلى مناقشة فصول الكتاب ومضامينه واستعراض الآراء والأفكار الواردة فيه مع عدد من الباحثين والسياسيين والإعلاميين.

خلال كلمة الافتتاح أوضح المدير التنفيذي لمركز عمران الدكتور عمار القحف، أهمية هذا الكتاب بما يشكلًه من مرجعية نظرية وتطبيقية لمفهوم اللامركزية في سورية، مزيداً بسيناريوهات تطبيقيه تحقق أهداف الشعب السوري في وحدة الأراضي السورية، وإعادة صوغ العلاقة بين الوحدات الإدارية وبين المركز في سورية المستقبل.

فيما قدم الباحثان معن طلاع وساشا العلو شرحاً موجزاً عن ضرورة استعادة الشرعية التي فُقدت لدى الأطراف كافة في سورية، عبر تنظيم أدوات الحكم المحلي المرتكزة إلى تجربة المجالس المحلية التي لم تجنح إلى الفدرالية المفرطة ولا إلى المركزيَّة المستبدة، وذلك من خلال طريق يزيد من قوة البُنى المحلية ويرسم حدوداً لصلاحيات المركز، تعتمد على منح الصلاحيات وليس التفويض الذي يخضع لسيطرة الدولة المركزيَّة.

بدوره سلط الباحث بدر ملا رشيد الضوء على تجربة الإدارة المحلية في مناطق سيطرة نظام الأسد ومناطق “الإدارة الذاتية”، مبرزاً أهم التحديات التي تقف في وجه تجربة المجالس المحلية.

ومن الجدير بالذكر أن الكتاب جاء على عشرة فصول لعشرة من الباحثين السوريين، وضّحوا في طياته مفاهيم عن اللامركزية وأشكالها وتطبيقاتها في بلدان خرجت من النزاعات، ومدى إمكانية تطبيقها في سورية، متطرقين إلى أشكال من اللامركزية (الاقتصادية، الإدارية، المالية، السياسية)، والرقابة المحلية والحكم المحلي، ومركزين على الوظائف الدستورية والقضائية والتشريعية بحسب أنماط اللامركزية. ومقدمين رؤية حول “اللامركزية النوعية كمدخل رئيسي للاستقرار في سورية” .

 

 

التصنيف الفعاليات

لم يكد يُعلن نبأ التوصل إلى تفاهم بين أنقرة وموسكو مؤخراً بخصوص محافظة إدلب حتى سادت حالة من الهدوء النسبي في جميع أرجائها. وبعيداً عن النتائج المتمخضة عن هذا الاتفاق في بعديها السياسي والعسكري؛ شكل البعد الإنساني الوجه الأبرز لهذا الاتفاق في تمكنه من الحؤول دون وقوع كارثة إنسانية كانت ستعد الأكبر في تاريخ النزاع الدائر في سورية عبر الأعوام السبع الماضية. بعد أن باتت المحافظة موئلاً أخيراً للنازحين والمهجرين داخلياً ممن ركبوا موجة النزوح لأكثر من مرة إلى أن استقر بهم المطاف في هذه البقعة من الأرض السورية مبتغين الحفاظ على أرواحهم وعائلاتهم بعد أن اختبروا أهوال الحرب وقسوة الحياة في مناطق سيطرة نظام الأسد، وليشكلوا فيها كتلة بشرية يقترب عددها من مليوني شخص.

تعد قضية النازحون في إدلب من القضايا الشائكة ذات البعد الإنساني والاجتماعي والسياسي، وهم الذين تبلغ نسبتهم 41% من السكان الحاليين في المحافظة، ويتوطن نصفهم تقريباً في مخيمات منتشرة على طول الشريط الحدودي مع تركيا يربو عددها على 280 مخيم، وتمثل المخيمات العشوائية القسم الأكبر منها بنسبة تقارب 86%. ولم يعد يخفى على المتابع لمجريات النزاع في سورية الظروف الإنسانية الصعبة التي يقاسيها سكان هذه المخيمات بمختلف جوانبها الصحية والاجتماعية والتعليمية والمعيشية والنفسية التي أفرزت وستفرز العديد من التداعيات السلبية عليهم.

فقد شكلَّ طول أمد وجودهم في هذه المخيمات وأعدادهم المرتفعة والمتزايدة عاملاً أثقل كاهل المنظمات الإغاثية والإنسانية عن تلبية الاحتياجات المتنوعة لهذه الكتلة البشرية الضخمة، إلى جانب غياب أي رؤية مستقبلية لمصيرهم من قبل الجهات الدولية والمحلية. وما سيشكله ذلك من تحدي مستقبلي في توطينهم وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لهم بعد أن أضحت عودتهم إلى مناطقهم الأصلية مثار تخوف وريبة على مصيرهم، بعد أن بسط النظام وحلفائه سيطرتهم عليها وهم في غالبيتهم من المحسوبين على الفئات المعارضة للنظام في شقيها العسكري والسياسي. وليخلق هذا بالتالي أزمة إنسانية كبيرة تتفاقم تبعاتها وتأثيراتها السلبية يوماً بعد يوم على النازحين أنفسهم وعلى السكان المحليين في مناطق نزوحهم. 

يبقى مستقبل النازحون في محافظة إدلب رهناً للاتفاقات الدولية والإقليمية والتي غالباً ما تخضع لتفاهمات بين الفواعل الرئيسية في الملف السوري. لذا فمع استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه ووجود حالة من الاستقرار النسبي في مناطق مخيمات النزوح؛ يبدو من الأهمية بمكان قيام الجهات ذات الصلة بالنظر في مستقبل قضية النازحين وآليات التعاطي معها من مختلف الجوانب، ووضع تصور مستقبلي حول ذلك يتضمن الإجابة على مجموعة من التساؤلات الجوهرية التي باتت تؤرق النازحين فضلاً عن السكان المحليين.

وتدور هذه التساؤلات حول حقهم في العودة إلى مناطقهم الأصلية التي نزحوا منها بعد تعرضهم للتهجير القسري، وما هي الضمانات الأمنية والاجتماعية المقدمة لهم في حال عودتهم. وهل سيتم وضع خطط لإدماج النازحين ضمن مجتمعاتهم المحلية الجديدة وما هي متطلبات ذلك وفرص نجاحه، وإلى أي مدى ستتمكن المنظمات الإنسانية من الاستمرار في توفير الدعم اللازم لهذه الكتلة البشرية من النازحين مع عدم وجود أفق واضح بشأن حل قضيتهم وتضاءل الدعم الإنساني المقدم من قبل الجهات المانحة.

ويبقى التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا السياق متمحوراً حول مدى أولوية قضية النازحين في إدلب بالنسبة للدول الضامنة للملف السوري وقيامهم بإدراجها في أي تسوية سياسية قادمة. حيث سترسم الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها من التساؤلات الأخرى ذات الصلة صورة أكثر وضوحاً عن مستقبل النازحين، وما يتطلبه ذلك من وضع آليات للتعامل مع هذا الملف الشائك.  

رغم الغموض الذي لا يزال يحيط بمصير محافظة إدلب وعدم حسمه بشكلٍ نهائي، ستبقى قضية النازحين فيها من التحديات الكبيرة في حاضرها ومستقبلها، مع ما يتطلبه ذلك من الإسراع في وضع حلول مستدامة لها وتحديد مصير هذه الكتلة البشرية الضخمة داخل وخارج مخيمات النزوح. والتي يبدوا أن استمرارها بالشكل الحالي لم يعد مقبولاً لا من الناحية الإنسانية ولا من الناحية الأخلاقية، بعد أن تردى الوضع الإنساني فيها إلى مستوى لا يمكن تصوره، ناهيك عن الإفرازات الاجتماعية السلبية ضمن هذه المخيمات والتي تتطلب لحظها من جميع الجهات ذات الصلة والتنبيه إلى تداعياتها السلبية على حاضر ومستقبل السكان أنفسهم وعلى مناطق تواجد هذه المخيمات. وذلك في ظل وجود بيئة أمنية غير مستقرة يمكن أن تسَّهِل من عملية استقطاب الأفراد داخل وخارج هذه المخيمات من قبل بعض التنظيمات التي لا تزال فلولها منتشرة في هذه المناطق مستغلة الظروف المادية القاسية لهم وغياب أفق واضح يحدد مصيرهم. 

 

المصدر السورية نت: https://goo.gl/EC59Tf

التصنيف مقالات الرأي

لا تغدو انتخابات الإدارة المحلية في سورية والتي أجريت في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد بعد تمديد الدورة الانتخابية للمجالس القائمة منذ انتخابات الإدارة المحلية في ديسمبر 2011 ، لا تغدو هذه الانتخابات خطوة جدية في إعادة تمثيل المحليات على أسس من  مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة وحداتها الإدارية، ونقل المزيد من الصلاحيات من المركز إليها  على الاقل وفق ما يتيحه القانون الإداري 107 الصادر في العام2011، بعد إخراجه من أدراج النظام كخطوة شكلية لامتصاص الانفجار الاجتماعي الحاصل، حيث لم يحظى على ما يبدو قبل هذا التاريخ بقبول الأسد منذ أن تمت صياغته من قبل خبراء في القانون الإداري في العام2009 ، رغم أنه لم يحل عقدة المركزية، وصمم صوب اللامركزية ولكن وفق منظور مركزي ، كما أنه وبعد صدوره لم يجد صدى على أرض الواقع إلا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ، حيث اعتمدت الحكومة السورية المؤقتة القانون وأصدرت لائحته التنفيذية مع الكثير من التشدد بالالتزام بمضامينه مع استثناءات طفيفة تراعي الظرف اللامركزي المفرط الذي أوجدته حالة الحرب والتشظي المجتمعي ورغم تواضع العملية الحوكمية في مناطق المعارضة بشكل كبير نتيجة تغول الكثر من الفصائل على البنى المحلية وعدم اعتماد القانون 107 أو غيره وعدم وجود دليل تنظيمي للكثير من المجالس وضعف المشاركة الشعبية والرقابة المجتمعية،

إلا أن الكثير من مناطق المعارضة شهدت انتخابات محلية راعت الكثير من معايير النزاهة ومثلت قطاعات واسعة من المجتمعات المحلية، واتسمت علاقة الكثير منها بالتوتر مع سلطات الأمر الواقع في مقابل السعي لبناء حوار مجتمعي حقيقي ومشاركة محلية في صنع القرار واعادة الاعتبار للمستويات الإدارية واعتماد اللائحة التنفيذية للقانون 107 بشكل أو بآخر، أما في مناطق النظام فقد صدّرت حالة الحرب نماذج من اللامركزية الغير المحوكمة ، فالفاعل المحلي الفعلي غير معتمد من المركز بل بسلطة الأمر الواقع وانصراف جهد الحكومة المركزية والنظام نحو التعاطي مع متطلبات الحرب، إضافة الى تضخم ظاهرة أمراء الحرب (المليشيات المحلية) الذين كانوا يديرون مصالح المحليات بالشراكة مع مصالحهم،

فيما تجاوزت البنى المحلية المعتمدة رسمياً بنتيجة انتخابات 2011 المركز إلا من باب الأخذ بالعلم في الوقت الذي تتعززت فيه شبكات المصالح بين أمراء الحرب والموظفين السوريين العاملين لدى الجهات المانحة في  سورية كالصليب الأحمر والأوتشا والأكسفام ومن يلتحف بأرديتهم من الشركات الغربية -هروباً من الحظر المفروض على النظام -من جهة والقائمين على الوحدات المحلية من جهة أخرى، في ظل غياب حالة الاستقرار السياسي والسلم الأهلي التي تتيح المزيد من المشاركة في هذه البنى وفي التخطيط للتنمية ولتوفير الخدمة وفي ظل تردي الظرف الأمني واستمرار الانتهاكات التي تعيق عملية المساءلة والرقابة المجتمعيتين.

بالعودة إلى انتخابات الإدارة المحلية الأخيرة ، فلا يمكن بحال توهم تعليل العودة إليها على أنه محاولة لتعريف الحل السياسي في سورية من خلال تحقيق أحد أهم مضامينه وهو التحول إلى نظام لامركزي يعتمد أسس الحوكمة كمدخل أساس لتوطيد مبدأ الدولة الديمقراطية محلياً ، فمن حيث التمثيل أعاد النظام طرح قوالبه التسلطية من خلال طرح ائتلاف الأحزاب الموالية له بلبوس مغاير عن الجبهة الوطنية التقدمية تحت اسم قائمة الوحدة الوطنية وبحصص من المقاعد طاغية على مقاعد المستقلين (70% للقائمة -30 % للمستقلين) بحسب تصريح محمد عزوز القيادي البعثي لصحيفة البعث الرسمية، كما جرى التعاطي سابقاً مع احتمالية ضعف الاقبال على الانتخابات البلدية ، من خلال تعريف وحدات محلية غير معتمدة في القانون الإداري 107 الذي حدد المستويات الإدارية للوحدات الإدارية (مدينة – بلدة –بلدية) بحسب عدد السكان والقانون 1378 الذي صنف الوحدات الإدارية في  سورية بحسب القانون 107، وذلك من خلال منح الشخصية الاعتبارية لعدد من القرى والوحدات الصغيرة، بقصد زيادة عدد المرشحين عنها، كما عمد النظام إلى اعتماد فوز قوائم الوحدة الوطنية بالتزكية في ريف حمص والقامشلي وغيرها بنتيجة انسحاب بعض المستقلين أو توقيفهم( من قبل وحدات حماية الشعب الكردية) يضاف إلى ذلك ايضاً جملة من التجاوزات في المراكز الانتخابية كان الهدف منها التأثير على الناخبين من خلال تحيز بعض اللجان الانتخابية لقوائم حزب البعث وتجاهل استخدام الحبر السري في كثير من المركز مما حدى بكثير من الناخبين إلى تكرار الاقتراع، إضافة إلى الضغط على الموظفين والطلاب للمشاركة في الانتخابات بعد إجرائها في يوم دوام رسمي.

لا تحقق انتخابات الإدارة المحلية بالنسبة للنظام أي شرعية حقيقية لتردد النظام في اعتماد القوانين الإدارية والالتزام بها، ولا تحقق أي مشروعية لضعف المشاركة الشعبية في الاقتراع ولعدم تمثيل المرشحين لما يزيد عن 12 مليون مهجر (بين نازح ولاجئ) ومعتقل، كما أنها لن تفرز مشاركة حقيقية في الرقابة والمساءلة لعمل المجالس "المنتخبة" بسبب غياب الحريات والحياة السياسية والقضاء المستقل ولن يتسم عمل هذه المجالس بالشفافية، لارتباطها بشبكات مصالح لقادة ميليشيات هدف النظام من عملية الانتخابات لمكافأتهم وقوننة وضعهم ضمن الوحدات الإدارية، وما ترشح مقاتلين من مليشيا نسور الزبعة و كتائب البعث والباقر وغيرها إلا أمثلة فاقعة على ذلك، كما يأتي حرص النظام على شكل الانتخابات البلدية في سبيل شرعنة تطبيق قوانينه الاستثنائية (القانون 10، المرسوم 66) التي تستلزم وجود مجالس محلية "منتخبة "، وليكافئ اللجان التنفيذية المؤقتة التي اعتمدها في المناطق التي سيطر عليها مؤخراً بمنحها اعتمادية ومرجعية "منتخبة"، وأيضاً لتحفيز خطى الدول المترددة بدعم مسيرة إعادة الأعمار بإدعاء وجود هيئات لامركزية "منتخبة" قادرة على تقييم الاحتياج من إعادة الإعمار، بما يعني توظيف موارد المحليات ومنحها صلاحيات مرتبطة بإعادة الإعمار في مقابل الاحتفاظ بالسياسة في المركز.

أما بالنسبة للروس فتغدو انتخابات الإدارة المحلية ضمن سياق سياسي متصل يتجاهل كل متطلبات الحوكمة، ويتجه بشكل مباشر نحو هندسة الحل على الطريقة الروسية تحت عنوان ضمني هو إعادة توليد شرعية النظام وتعويمه عبر تجاهل الاسئلة الأساسية المتعلقة بالإصلاح الأمني -المفضي حكماً إلى تغيير النظام- إلى اختزال الحل بمساق الانتخابات (دون توفير مقوماتها من الأمن والسلام المجتمعيين) من أدنى إلى أعلى وقبل ذلك مساق التعديلات الدستورية، وهو ما يفسر عدم حماسة الفاعل الروسي لتهجير الحواضن في المناطق المسيطر عليها بل والسعي إلى إعادتها ضمن لعبة الشرعية المزيفة.

وفيما يتعلق بالفاعل الإيراني فقد وجد هو الآخر نفسه مضطراً إلى دعم الانتخابات كبوابة للعودة للتحكم بالمجتمعات المحلية وادارة أنشطة إعادة الإعمار المنطلقة منها وهو برأيي لن يصادم الفاعل الروسي في مسعاه إلى توظيف العودة من خلال الانتخابات فمساقه تفصيلي مرتبط بصفقات جزئية محلية متعلقة بالنفوذ والتحكم بالأنشطة الاقتصادية وتفاعلات عملية إعادة الإعمار، أما مساق الفاعل الروسي فمرتبط بنظرته الكلية لشكل الحل في  سورية وانعكاس ذلك على مصالحه الكبرى في المنطقة.

ستبقى أزمة النظام مع المشروعية المجتمعية ملازمة لبقائه، وما التجاوزات الفجة التي صبغت الانتخابات المحلية والتحضير لها ومخرجاتها إلا نموذج لتعاطي النظام مع القضايا الإشكالية التي مثلت جذر الصراع في البلاد، بل إن التحول نحو الحوكمة الرشيدة بما تحققه من مشاركة وقوننة ورقابة مجتمعية وشفافية ومساءلة، يناقض جذرياً فلسفة النظام وهو أساس مطالب قطاع كبير من السوريين منذ اندلاع الثورة.

 

 

 

 

 

التصنيف مقالات الرأي

شكّلت موجات الربيع العربي في عامي 2010-2011 اختباراً حقيقياً لكل الصيغ السياسية والأمنية والاقتصادية الحاكمة، سواءً على صعيد تلك الدول التي اجتاحتها هذه الموجات، أو التي لم تجتحْها، فصدّعت أنظمة وهدّدت وخوفت أخرى، وبدأت إرهاصات ما سميت "إعادة ضبط بوصلات التشكل وفق العامل الوطني"، وأضحت تبرز أولوية أساسية للمجتمع العربي الذي رأى في الثورة فرصةً لاسترداد البلاد، والمشاركة الحقيقية في صنع قراراته وسياساته وتنفيذها؛ إلا أنه سرعان ما تم دفع تلك الإرهاصات إلى اتجاهات تخدم بنتاجها سرديات الصيغ الحاكمة، عبر إمعان السلطات المثار عليها، أو السلطات التي تخشى انتقال العدوى الثورية إلى مجالها الجغرافي في استخدام الأدوات الأمنية، سواءً المرتبطة بممارسات عنفية أو القائمة على فكر ودفع أمني، كـ "الاختراق والتوظيف والتحكم"؛ فسادت مقاربات "الثورة المضادّة" كديناميات متوقعة، يُراد لها أن تكون "واقعية" أمام ذاك المستقبل "المبهم" الذي تعد به قيم الربيع العربي، والتي تهدّد به معادلات الجيوسياسة الحاكمة في النظام السياسي الإقليمي، ومحطماً كل التحالفات التي أنشأتها شبكات الفساد والإفساد السلطوية ومنظروه، غير مكترثٍ بتكلفة الوصول، لأنها تكلفة سيتم دفعها عاجلاً أم آجلاً.

اليوم؛ وبالنظر إلى النتائج العامة للمشهدين السياسيين، المحلي والإقليمي؛ باتت غالبية الدفوعات السياسية التي جاهدت في تكسير سياسات التغيير وتشويهها تصب لصالح نظرية "العودة إلى صيغ ما قبل الربيع العربي"، فعلى المستوى السياسي المحلي داخل الوحدات السياسية في  

المنطقة العربية، بدأت تبرز نجاعة مقاربات ما قبل أحداث الربيع العربي كـ"موت السياسة"؛ و"تأليه السلطة"؛ و "التنكّر من حركات التحرّر والتغيير"؛ و"قداسة فكرة العبودية"؛ و"قصائد مدح السلطان"؛ و"سياسات تسطيح المجتمع". مضافاً إلى تلك المقاربات، برزت عمليات النسف "البراغماتي" لبعض القيم الاجتماعية، كالمناصرة والدعم؛ إذ تسيّدت ثقافة "الأنانية" فتحوّلت الطبقات الاجتماعية (بجُلها) إلى طبقات عددية مستهلكة مروضة، ترتكن (طوعاً أو قسراً) إلى سرديات السلطة، ناهيك بتسليمها الكامل قواعد "وأد" الإنتاج الإبداعي أو الثقافي الأصيل.
على المستوى الإقليمي؛ من جهة أولى، ضمنت من جديد إيران وتركيا و"إسرائيل" مكانة المركز في النظام السياسي الإقليمي، بعد أن بدت فرص محاصرة إسرائيل وتحجيم إيران والشراكة الاستراتيجية العربية التركية فرصاً قابلة للتحقيق مع حركات الربيع العربي. ومن جهة مقابلة، عادت الدول العربية لتغيب عن أي دوائر تأثير، بحكم استنزاف قدراتها، وتشتت اهتماماتها وطبيعة تحدياتها المحلية، ما دفعها إلى البحث عن تحالفاتٍ مع إحدى الدول الثلاث، وهذا ما كان سائداً بشكل أو بآخر قبل الربيع العربي؛ وهذا ما دفعت أيضاً باتجاهه القوى الإقليمية والدولية لإدراكها ضرورة عودة الضبط الأمني في المنطقة، بصيغ تعرفها وتدرك حدودها، فكانت حركية هذه القوى، أياً كانت ادعاءاتهم، ترتكز على المحدّد الأمني المغيّب أية معايير إنسانية والمتغافلة عن الانتهاكات، فكما كانت المعادلات الأمنية مضبوطة ببوصلة أمن "إسرائيل"، باتت كل التفاعلات السياسية تلحظ هذه البوصلة، وتعدّها شرطاً لازماً لرسم ملامح الأطر السياسية الحاكمة في المنطقة.

لا تعد سورية، وفقاً لأعلاه، استثناءً تتضمنه نظرية "العودة إلى ما قبل 2011"، فمدخلات المشهد العام تؤكد ذلك، فلا تغيير سياسيا أو سياساتياً، بل تحكّم السلطة بكل ميادين السياسة ومساحات "الإصلاح" المحتمل. وبقاؤها "رمزاً" أبدياً لن يزول، ولا تغيير لفلسفة الأجهزة الأمنية وبنيتها ووظيفتها، بل تعزيزاً لها مع ظهور شعارات "القضاء على أعداء الوطن"، وسعيها الدؤوب إلى تحصيل وطن "متجانس"؛ ولا حرية سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية؛ ولا تغيير في المنظومة القانونية (يتحكّم بها قرابة 15 قانونا استثنائيا ومحكمة إرهاب يديرها ضباط)؛ ولا حياة حزبية صحية، في ظل زيادة مؤشّرات تغوّل حزب البعث، وبقاء سيطرته في الجيش والأمن، وأهم الوزارات السيادية، وكل الوحدات الإدارية في الجغرافيا السورية؛ ولا تمكين للمجتمعات المحلية التي عانت ما عانت من جوْر سياسات "التنمية المركزية غير المتوازنة"؛ ولا حرية ثقافية خارج ثقافة "الممانعة"، فعداها خيانة وإرهاب وتقويض وزعزعة لهيبة الأمة ونفسيّتها؛ ولا إصلاح قضائيا، ولا مؤشرات قانونية لفصل السلطات واستقلال القضاء، بل ربطه الدائم بمكاتب الاستخبارات وإملاءاتها؛ ولا ... إلخ. 

إذاً، تسير كل المؤشرات بتسارع واضح نحو صيغ ما قبل الثورة، خصوصا بعد محاصرة المعارضة السياسية والعسكرية، وجعل هوامش حركتها غير ذات جدوى، مع فارق عميق (لا يكترث له النظام) أن تلك العودة محمّلة بارتكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وإنسانية، وتزداد حدّةً، في ظل استمرار وأد اللحظة السياسية الجديدة في البلاد، لصالح عمليات ترميم النظام، وإعادة تشكّله (تجمع كل القوى الدولية على ضرورته)، لحظةً تحتاجها عجلة البناء للمضي في امتحانات التماسك الاجتماعي، وبناء الشرعية الممهدة للاستقرار. 

تفترض نظرية العودة التي ترجو الضبط الأمني تغليباً مستمراً لمصالح السلطة، وحلفائها 

الدوليين؛ وتنفيساً للاستحقاقات والامتحانات السياسية؛ والأهم مسحاً متعدّد المستويات لكمٍ من الجرائم، لم تنته بعد؛ وتغييرات ديمغرافية لا تُحمد عقباها؛ وعددا من القواعد الأجنبية وملحقاتها الاستخباراتية في الجغرافيا السورية؛ وتضافر الجهود الدولية والإقليمية والمحلية في عملية إعادة الإعمار والعودة "الطوعية للمهجرين واللاجئين"؛ وغيرها من موجبات تمكين النظام وإعادة تعويمه، ولا تلحظ (ولا تعنيها) تلك النظرية (وداعموها) بنية الدولة وهويتها وطبيعة تفاعلاتها السياسية، ولا بنية المجتمع وعوامل تمكينه واستقراره وأمنه، فالأولى لا ضير من أن تكون فاشلة، والثانية لا حرج من عدم لحظها أصلاً؛ طالما أن جغرافيا معقدة، كالجغرافيا السورية، لا تشكل عائقاً أمنياً أمام إسرائيل، وأن مجتمعاً حياً، كالمجتمع السوري، تم أسر حريته لصالح هندسة سياسية، تراعي كل شيء إلا سورية الفاعلة، والقادرة على البناء الحضاري.

ربما تخدم نظرية العودة تلك مصالح شبكة من الفواعل المحلية والإقليمية والدولية؛ إلا أنها لا تدرك، ولا تريد أن تدرك، الثمن الباهظ لهذه العودة التي ستبقى هشّة، ودائمة التعرّض للزلازل والحرائق؛ وبأنها مهما تمترست، فإنها لن تشكل أسساً ولبناتٍ لدولة ومجتمع مستقر؛ فالعودة المحمّلة بالدم لن تنتج إلا اعتلالاتٍ مرضية وموتاً وظيفياً، ومنطق التاريخ سيبقى يفرض درسه بأن الثورة، وإن تعثرت أو حوربت أو قمعت، فهي تنتج أحداثاً يصعب تجاوزها وإغفالها؛ فهي لحظة حاسمة في التاريخ، ما بعدها ليس كما قبلها.

 

المصدر العربي الجديد: https://bit.ly/2NLQPBb

 

 

 

 

التصنيف مقالات الرأي

مبكراً؛ توضحت الأدوار المتوقعة للأمم المتحدة في سورية، حيث حددت تفاعلات الأمم المتحدة عبر مؤسساتها السياسية ضمن مقاربات "الاستعصاء والتزمين" لتتسيّد عناوين التعاطي الأممي مع الملف السوري، إذ أنه وبعد ستة أسابيع على بدء الثورة في سورية  استخدمت روسيا والصين حق النقض الفيتو؛ لتعطيل أول إعلان للأمم المتحدة اقترحته دول غربية يدين القمع الذي يمارسه النظام السوري، فكان بمثابة الإعلان الدولي الرسمي لتغلب منطق "إدارة الأزمة" ودعوة صريحة للفواعل والمحلية الدولية والإقليمية لتحسين تموضعها في الجغرافية السورية (سواءً عسكرياً أو سياسياً)، ولدى تبلور أول وثيقة ناظمة لحركة الأمم المتحدة في الملف السوري (جنيف) كانت قد سحبت من القضية السورية بعدها الاجتماعي ودوافع حراك المجتمع وثورته لصالح تنافس سياسي بين نظام ومعارضة مما عمق سياسات المحاور التي بات التضارب البيني في المصالح والسلوكيات هو الثابت المستمر  الذي ما زاد من محدودية الأثر الأممي الذي تحجم على مستويات الاستجابة الإنسانية الطارئة.

أسباب تعثر فاعلية الأمم المتحدة في سورية

ترسخ عملياً أثار التموضع الدولي والإقليمي وتحولاته المتعددة على الخطوط الرئيسية الناظمة لأطر المسيرة والعملية السياسية، وعلى طبيعة أدوار الأمم المتحدة الذي أجهضه استخدام  روسيا لحق "الفيتو" 11 مرة مما عطل مجلس الأمن (انظر الجدول أدناه) ، لذا لم يعد مستغرباً -وفق ما يميله إدراك حركية الأمم المتحدة والمرتبطة كلياً "بمنطق ونفوذ وحسابات الكبار الأمنية والجيوسياسية"- استقالة كوفي عنان كموفد خاص للأمم المتحدة والجامعة العربية في آب/ أغسطس عام 2012 بعد خمسة أشهر من الجهود غير المثمرة التي بذلها في خطته ذات النقاط الست والتي تدعو إلى وقف القتال والانتقال السياسي، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ؛([1]) أو حتى استقالة الأخضر الإبراهيمي بعد عامين من الدبلوماسية غير المثمرة رغم نجاحه في عقد أول جولة تفاوض مباشرة بين النظام والمعارضة برعاية  الولايات المتحدة وروسيا؛([2]) وأيضاً ليس مستغرباً أن تمضي الأمم المتحدة في عقد جولات تفاوض سمتها الرئيسة السيولة والتغيير المستمر لتعريف "اللحظة السياسية الجديدة" في سورية " إذ كانت انتقالاً سياسياً كاملاً وأضحت تفاصيل تتعلق بعقد اجتماعي لا ولم يلتزم به النظام، وانتخابات لا يمكن أن تجري في ظل هذا التفسخ المستمر لبنى الدولة وشرائحها الاجتماعية وقطاعاتها الاقتصادية.

لذلك انحسر دور الأمم المتحدة في المساعدات الإنسانية والتي بدورها أضحت ملف ابتزاز من قبل النظام وحلفائه في وقت فشل المجتمع الدولي من جعله ملفاً فوق تفاوضي، كما اقتصر هذا الدور على بعض المهام الإحصائية التي تقوم به المنظمات الخاصة بالأمم المتحدة، كمنظمة اليونيسكو، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة العمل الدولية، وعليه فإن تقييم الفاعلية مرتبط بطبيعة ووظيفة المؤسسة الأممية، فإن تناولنا بالنقد  مؤسستي الجمعية العامة ومجلس الأمن فإنه أسير الانقسام الدولي  واختلاف المصالح المرتبطة بالجيوستراتجية السورية وهو ما عزز من تسيّد عوامل العطالة وعدم النجاح في أي تقدم سياسي ذو أثر مباشر على النزاع وضرورات حله، وإذما ما قيمنا أدوار وكالات الأمم المتحدة مثل (مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، ومنظمة العمل الدولية، واليونسكو، والمنظمات الخاصة باللاجئين والإغاثة) فإننا نلحظ أدواراً متفاوتة الأهمية والأثر وفق معايير النجاح في تحسين وتغليب الخيارات الإنسانية والاغاثية وسياسات الاستجابة الطارئة.

وفي تفنيد أسباب محدودية الدور السياسي والأمني الأممي في سورية، فإنه يمكن حصرها في عدة مستويات سياسية تبلورت وتظافرت في انتاج "حق النقض" كوسيلة دالة لحجم الاختلاف في خارطة المصالح الدولية والإقليمية وما رافقها من دفوعات وحركيات سياسية ساهمت في تغيير مستمر للسياقات السياسية التي طرأت على الملف السوري، فمن جهة أولى  تعمقت قناعة موسكو لاستخدام هذا الحق  بحكم بحثها المستمر على عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها المشاركة بحل أو توجيه الأزمة السورية خارج نطاق السياسات الروسية ، وهي تبقي بذلك الحل على ما ينتجه واقع الصراع العسكري والذي تسيره وفق إرادتها، ومن جهة ثانية فقد استغلت روسيا الموقف المتردد للولايات المتحدة الأمريكية لاسيما موقف إدارة الرئيس (باراك أوباما) تجاه الأزمة السورية وبشكل خاص موقفها من بقاء رئيس النظام على رأس السلطة وكذلك دعمها للمعارضة السورية بشكل يؤثر في قلب المعادلة العسكرية والسياسية والمساهمة الجادة في تحقيق المزيد من المكاسب لروسيا وحلفائها سواء على صعيد الموقف العسكري أم السياسي، ومن جهة ثالثة فإن عدم توافق الدول الأعضاء جمد فاعلية مجلس الأمن وجعله جزء من المشكلة وليس جزءاً أساسياً في الحل ، لاسيما أن مصالح الأطراف غير قابلة للتطابق أو على الأقل في التقارب

أيضاً بالمقابل، لا يمكن للأمم المتحدة الانطلاق في التعامل مع ملفات الصراع إلا وفقاً لمنطلقين: قانوني وتنفيذي، إذ حتّم عليها المنطلق القانوني التعامل مع نظام الأسد بوصفه "ممثلاً للدولة السورية"، رغم ثبوت ارتكاب هذا النظام لكل أشكال الجرائم بدءاً من التطهير العرقي ومروراً بالإبادة الجماعية وليس انتهاءً بإرهاب المواطنين. إلا أن هذا التحتيم لا يبرّر للأمم المتحدة تقاعسها في البحث عن وسائل وأدوات تأثيرٍ لتحسين الشروط الإنسانية كحدّ أدنى باعتبارها منظمة عالمية مهمتها الأساس إنفاذ القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان.

أما على صعيد المنطلق الاجرائي فرغم أن الأمم المتحدة لا يمكنها تجاهل المنطلق القانوني، إلا أنها تبقى أسيرة سياسات الفاعلين الدوليين، الأمر الذي حدّد وقلّص هوامش المرونة المتبعة من قبل المبعوثين الدوليين وجعلهم يخوضون مهمة سياسية صعبة، بدأها كوفي عنان بنزعة براغماتية وطرح نقاطه الستة التي تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة. وتابع فيها الأخضر الإبراهيمي بأداء شديد المرونة لم يستطع به تجاوز "عدم جدية المجتمع الدولي في حل النزاع في سورية". وكان من شأن هذه اللاجدية أن ساهمت في منح المزيد من الوقت لنظام الأسد الذي استفاد منه في تقليص فرص السقوط ومتابعة النهج الأمني الذي دمر الدولة والمجتمع. كما دفعت باتجاه تفاقم وتعقد إشكالات الأوضاع في ضفة المعارضة ولا سيما في ظل غياب الحماية من القصف الجوي، وبالتالي تقليص هوامشها في إدارة الأماكن المحررة، مما أتاح الفرصة "للجهاديين" لاستغلال الظرف وانتقال حركيتهم لأشكال صلبة عززت الانتقال بالصراع من مستوى صراع سلطة ومجتمع إلى مستويات محاربة الإرهاب والذي توافقت معظم الدول على أنه المدخل الرئيسي لسياساتها لتؤكد تلك الدول أن مستمرة في تغييب جذر الصراع لصالح نتائجه وهو ما أسهم في استعصاءات واختلالات للعملية السياسية برمتها.([3])

بموازاة ذلك؛ تحرك المبعوث الدولي الثالث ستيفان دي ميستورا وفق أربعة قواعد جديدة تختلف عن سابقيه، وهي أولوية محاربة الإرهاب؛ تكريس الهدن كإطار لا سياسي يؤمن وقف الاقتتال؛ ضمان موافقة الفاعلين الدوليين المؤيدين لنظام الأسد، تجزئة أجندة الانتقال السياسي لسلل أربعة (دستور وانتخابات وحوكمة وأمن)، وقد تبنى هذه القواعد نتيجةً لظهور خمسة منعطفات كان من شأنها تحول النظرة نحو القضية السورية من ثورة مجتمع مضطهد ضد نظام مستبد إلى صراعٍ إقليمي ثم إلى حرب لمواجهة " الإرهاب"، وهذه المنعطفات هي: اتفاق نزع الترسانة الكيماوية؛ تسيد اللغة العسكرية بعد فشل العملية التفاوضية في جنيف؛ و مواجهة تمدد تنظيم "الدولة" وتنظيم جبهة النصرة؛ والتحالف الدولي وضبابية الأهداف والرغبة الدولية في تطويع طرفي النزاع في محاربة "الإرهاب، والتدخل الروسي وما أفرزه من تغيير لتعريف العملية السياسية وتغليب فكرة الدستور على غيرها، ولدى التقييم لتلك القواعد يظهر بشكل واضح أنها شكلت مناخاً داعماً لسياسة المحور الإيراني السوري الذي عمل منذ اليوم الأول عبر خبرته الأمنية في نقل الصراع إلى مستويات تتناسب مع سرديته للأحداث.

برعاية الأمم المتحدة: تسع جولات تفاوضية

منذ تعثر مبادرتي الجامعة العربية وانتهاء الحلول العربية (الأولى وتنص على وقف العنف والإفراج عن المعتقلين وسحب الجيش من المدن السورية، والثانية: نقل سلطات الرئيس بشار الأسد إلى نائبه وتشكيل حكومة وحدة وطنية) ساهمت مجموعة من العوامل لانتقال الملف من المستوى العربي إلى المستوى الدولي، الذي برزت المعالم الناظمة لتعاطيه مع أول فيتو روسي، وبات منطق العمل قائم على انجاز وثائق تفاهم أمريكية وروسية، ففي 30 يونيو/حزيران 2012، اتفقت مجموعة العمل حول سورية التي تضم الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي في جنيف على مبادئ العملية الانتقالية عرفت بمبادئ جنيف 1، إذ نصت الخطة وقتها على تشكيل "حكم انتقالية كامل الصلاحيات التنفيذية" على "قاعدة التفاهم المتبادل"، دون أن تحدد مصير الأسد،([4]) لتؤسس هذه الوثيقة الأممية لحالة من الفهم المزدوج والتفسيرات المختلفة لكل الأطراف المعنية بالملف، والأهم هنا أن حدد آنذاك الدور التنسيقي للأمم المتحدة كراعية للمفاوضات وميسرة لأجندة عمل غير خلافية مما أسس لمسيرة ماراثونية في المفاوضات ريثما يكتمل شرط التوافق الدولي التام الذي لا يزال غائباً حتى إعداد هذه الورقة.

بدأت هذه المسيرة في يناير/كانون الثاني 2014 بما عرف بـ"جنيف-2"، حيث عقدت مفاوضات أولى في سويسرا بين المعارضة والحكومة السورية، بضغوط من الولايات المتحدة الداعمة للمعارضة ومن روسيا الداعمة لدمشق،([5]) لكنها انتهت بدون نتيجة ملموسة، وأعادت الصراع مجدداً للميادين العسكرية الذي حكم منذ تلك الفترة حتى ما قبل التدخل الروسي منطق التوازنات العسكري، وتلتها جولة ثانية انتهت في فبراير/شباط أعلن بعدها مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية الأخضر الإبراهيمي وصول النقاش إلى طريق مسدود، مما حمله إلى إعلان استقالته بعد أن خلف كوفي أنان في هذه المهمة، وحل محله ستفان دي ميستورا في يوليو/تموز. ([6])

في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، واتساقاً مع مفهوم "إدارة الأزمة"، تم تشكيل مجموعة دعم دولية لسوريا في فيينا تضم 23 قوة دولية وإقليمية ومنظمات متعددة الأطراف، بينها الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وإيران وتركيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأعدت هذه المجموعة خارطة طريق للعملية الانتقالية، ولإجراء انتخابات وعقد مباحثات بين الحكومة والمعارضة بحلول بداية يناير/كانون الثاني دون الاتفاق على مصير الأسد.  وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، تبنى مجلس الأمن الدولي بالإجماع وللمرة الأولى منذ بدء الأزمة قراراً استناداً إلى محادثات فيينا ذي الرقم 2254، يحدد خارطة طريق تبدأ بمفاوضات بين النظام والمعارضة، وينص على وقف لإطلاق النار، وتشكيل حكم انتقالي في غضون ستة أشهر، وتنظيم انتخابات خلال 18 شهراً. ([7])

وفي مطلع 2016، عقدت ثلاث جولات من المفاوضات غير المباشرة بين النظام والمعارضة في جنيف برعاية مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية دي ميستورا، دون أي تقدم يذكر، ومن مارس/آذار إلى يوليو/تموز 2017 نظمت أربع جولات أخرى من المفاوضات غير المباشرة التي لم تثمر شيئا. وفي 14 ديسمبر/كانون الأول اتهم المبعوث الأممي دمشق -إثر جولة تفاوض أخرى-بنسف المفاوضات عبر رفض التفاوض مع المعارضة، واعتبرها "فرصة ذهبية ضاعت". ويوم 26 يناير/كانون الثاني 2018 انتهت الجولة الأممية التاسعة بخيبة في فيينا التي استضافتها لدواع لوجستية، علما بأنها تعقد عادة في جنيف.

شكل نهاية عام 2015 نقطة تحول رئيسية في الملف السوري، إذ طورت موسكو أدوات الفاعلية السياسية إلى مستويات صلبة تمثلت بالتدخل العسكري المباشر   واستطاعت منذ بيان فيينا في 30/10/2015 الذي أتى بُعيد التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، أن موسكو تعمل وفق مقاربة سياسية عسكرية، قائمة على "تطويع الميدان" وضرب المعارضة السورية، وتحويل ذلك لمكتسبات سياسية توظفها لتعزيز سرديتها وتعريفها للملف السوري. وبهذا السياق كان لا بد لموسكو من اتباع استراتيجية "الحل الصفري" على المستوى العسكري في سورية مستغلةً توظيف معادلة الإرهاب التي أرادتها الدبلوماسية الروسية سائلة. فضربت ابتداءً مناطق سيطرة قوى الثورة في الساحل وأخرجت كافة جيوبها من مساحات "سورية المفيدة" مُتبعة منهجية التهجير وصولاً لعودة السيطرة على حلب الشرقية، وقابل كل ذلك هندسة سياسية روسية على مستوى الفاعلين الدوليين والإقليمين تكرس من خلالها "القيادة الروسية" وإجهاضٌ دائمٌ لأية فاعلية تُرتجى من مجلس الأمن باستثناء قرار نشر المراقبين الدوليين رقم (2328) للإشراف على عملية الإخلاء كونه يعزز السيطرة الدائمة على مدينة حلب.

واستمراراً في هذا الاستثمار السياسي الروسي نظمت روسيا وإيران وتركيا في يناير/كانون الثاني 2017 في أستانا عاصمة كزاخستان؛ مفاوضات ضمت للمرة الأولى ممثلين عن النظام السوري وآخرين عن الفصائل المعارضة أفرزت ما يعرف باتفاقات خفض التصعيد، إذ كان المحدد الرئيسي هو محاولة سحب الوظائف السياسية من جنيف عبر تنامي المداخل الأمنية المبررة لاجتماعات الأستانة ووصولها لمستويات سياسية تبلور في مؤتمر سوتشي 30 يناير/كانون الثاني 2018 الذي جمع طيفاً كبيراً من السوريين للتوافق على دستور جديد وليرتجي تثبيت موسكو كمهندس رئيس للعملية السياسية،([8]) إلا أنه وقبيل المؤتمر أصدرت الدول الخمس: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، الأردن اجتماع باريس 23/1/2018 ورقة غير رسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف بشأن سورية، لم تختلف مع الطرح الروسي القائم على انتخابات ودستور، إلا انها أعادت الإشراف الكامل للأمم المتحدة على العملية السياسية وقلصت الكثير من صلاحيات "الرئيس".([9])

عطل الاستثمار السياسي الروسي مجلس الأمن الدولي ثم حاول خطف الصلاحيات والمسؤوليات السياسية لمسار جنيف الذي تعثر بحكم التباعد والاختلاف بين أطراف النزاع من جهة ولاستمرار التناقض بين الفواعل الدولية من جهة ثانية، إلا أن الفواعل الدولية الأخرى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن عارضت هذا الخطف عبر تأكيدها المستمر على أولوية الأشراف الأممي ووفقاً للقرارات الدولية لاسيما القرار 2254، وبهذا دلالات كثيرة حول التمسك بأدوار الأمم المتحدة، وقد يفسر ذلك من جهة أولى كسبيل اعتراض وعرقلة للروس الذين باتو منخرطين بتفاصيل عديدة بالمشهد السوري دون تحصلهم على مكسب سياسي استراتيجي، ومن جهة ثانية: استمرار منطق "إدارة الازمة" وجعل المشهد السوري مرة أخرى ميداناً للتنافس السياسي والعسكري الدولي بالدرجة الأولى خاصة بعدما استطاعت موسكو من إلحاق عدة خسائر عسكرية بالمعارضة وتخفيف أي مكسب ميداني لها.

الأدوار الأممية المتوقعة وتحدياتها المركبة

بات الصراع الدولي في سورية بمعناه العسكري والسياسي أكثر وضوحاً وتبلوراً، ويدخل في هذه الآونة  في مراحل ما قبل الترتيب الجديد لحدود التأثير والنفوذ، ومرجحاً لحقبة زمنية طويلة تتبلور فيها مظاهر الحرب الباردة على الأراضي السورية بشكل أكبر واحتمالية تحولها لصدامات مباشرة، ليعزز معه أيضاً استمرار عوامل الاستعصاء في أتون حركة العملية السياسية رغم نجاح موسكو في إعادة تعريف عناصرها الأولية بما يتفق مع مخيالها السياسي، فمن جهة أولى عسكرية لم تعد اتفاقات الأستانة بصيغها القائمة قادرة على استيعاب التطورات العسكرية الدولية المتلاحقة في سورية(عملية غصن الزيتون، تثبيت الانتشار الأمريكي، ارهاصات حرب كبرى في الجنوب)، ومن جهة سياسية ، يبدو القرار الاممي 2254 عصياً على الاستمرار دون مزيداً من الشروحات التفصيلية التي تسهل العملية التفاوضية السورية، وما بين الجهتين وما وتفرضانه من ضرورات ظهور ترتيب عسكري وسياسي جديد يوفر مناخات ومساقات جديدة قابلة للتفاعل، يستمر أثر الحل الصفري الذي ينتهجه النظام وحلفائه مهدداً لمبدأ ووجود لحظة سياسية في سورية،

بالعموم تتنامى مؤشرات "ضرورة إعادة الترتيب" و يُتوقع أن تحتوي معادلاتها على عدة معطيات، أهمها: استدامة التواجد الأمريكي في سورية وبقاء امتلاكها لعنصر تعطيل الحركية الروسية؛ محاولات روسية لتحجيم الدور الأمريكي أو وصولها إلى مرحلة تطبيع وتكيُّف وجعل هذا الدور ذو آثار أمنية أكثر منها سياسية؛ استمرار اختبار ضبط النفس في الجنوب السوري التي تعبث به طهران أمنياً واجتماعياً؛ وضوح طبيعة التموضع التركي في معادلة علاقتها مع واشنطن وموسكو؛ استمرار الثلاثي (موسكو وطهران والنظام) في منوال عمليات "بسط السيطرة"؛ توفير أطر أمنية جديدة تستوعب هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الأجنبية في سورية. وأمام هذه المعطيات يكون المشهد السوري قد اقترب من تجاوز "الصراع المحلي" ونقله كلياً للمستوى الإقليمي والدولي والذي وإن كان مرتباً أولياً بتفاهمات واتفاقات أمنية، إلا أنها شديدة القلق ولم تعد صالحة لضبط التحولات الجديدة. فبات هذا المشهد بحاجة لترتيب آخر وهذا ما سيؤثر حكماً على طبيعة المخرج السياسي العام من جهة، وأداور كافة الفواعل المحلية من جهة ثانية.([10])

 ووفقاً لهذا، تنحصر أدوار الأمم المتحدة السياسية المتوقعة في العمل وفق مبدأ التوافق مع الدفوعات الروسية المتمسكة بتعريفها للعملية السياسية وبما ينسجم مع الأدوار الأممية التي تضمنتها "اللاورقة" باعتبارها مؤشراً أخيراً على طبيعة الفهم السياسي لتلك الدول وفق الآتي:

أولاً: تغيير النهج والمستند المتبع في جنيف بحيث يحقق تقدماً في أجندة العملية ولا يلاقي بذات الوقت اعتراضاً روسياً حوله، وعليه قد يكون هذا النهج يستند على فكرة الابتعاد عن أسلوب الجولات ، والاتجاه إلى عملية سياسية متواصلة، وفق آليات "فرق عمل تركز على الدستور والانتخابات وغيرها من القضايا التي تركز على وضع تدابير بناء الثقة مثل ملف المحتجزين، وإعادة تفعيل فرق العمل المعنية بوقف إطلاق النار، وايصال المساعدات الإنسانية، وهذا يتطلب من فريق ديمستورا إعادة ملفاته بالكامل إلى جنيف ودفعه باتجاه اعتماد مستند قانوني جديد يفسر بشكل أوضح القرار 2254 و يزيد من الآليات التنفيذية.([11])

ثانياً: أدواراً عابرة للتنسيق: بمعنى تكرار سياسة ورقة المبادئ المشتركة (المبادئ الحية ذات 12 بند)، وورقة خلاصات الوسيط المتعلقة بالانتقال السياسي، مثل هذه الأوراق التي أقرتها تشاورية لوزان، ورفضتها الهيئة العليا للمفاوضات السابقة، ويمكن جعلها وثائق رسمية ملزمة للمعارضة وللنظام، إذا حدث اتفاق دولي عليها، في خط يشبه بيان جنيف 2012، وبياني فيينا 2015، إلا أن فاعلية هذه الأدوار ستبقى مرتبطة بطبيعة الترتيب السياسي والدولي الجديد وعدم انفجار الحركيات الدولية القلقة في سورية.([12])

ثالثاً: تركيز فرق الأمم المتحدة على المبادئ الدستورية العامة التي ستضع إطارا للمناقشات اللاحقة بشأن مضمون الدستور الجديد، أو نصّه الفعلي، أو الإصلاح الدستوري، مسؤولية كاملة على الأمم المتحدة لضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة كما هو الحال بالنسبة للمسائل الدستورية،

بذات السياق وضمن توقع "ظهور معطيات التدخل الإنساني"، فإنه لا يزال مستبعداً وفق المؤشرات التي تفرزها سلوكيات الدول "الصديقة" للشعب السوري، فلا بوادر إلى حراك خارج مجلس الأمن الذي حكم عليه الروس بالعطالة، فبالوقت الذي توقع سابقاً الكثيرين تدخلاً عسكرياً غربياً إبان العديد من المجازر الكيماوية في سورية، أتت صفقات الروس لتنقذ الأمر، أو كما توقع البعض التدخل حالياً حيال جرائم الحرب التي يرتكبها الروس والايرانيون ونظام الأسد في الغوطة الشرقية، وسواها من المناطق السورية، لاسيما بعد صدور قرار مجلس الأمن 2401 القاضي بوقف إطلاق النار وبهدنة إنسانية، إذ لم تشكل  مأساة الغوطة أي دافعاً للتدخل الإنساني، وبقي السوريين هم من يدفعون ثمن العجز والفشل الدولي، على العكس لايزال  الإطار الدولي وتقاطعاته الاستراتيجية، وبما يرسمه من خطوط حاكمة لتحركات القوى الإقليمية، يشير إلى استدامة الأزمة وصعوبة توافر حلول مستقرة لها.

ختاماً

إن قدرة الأمم المتحدة على لعب دور بناء في هذه المنطقة عموماً وفي سورية ذات الخصائص الجيوسياسية المعقدة خصوصاً كمنظمة تعلي الشأن الإنساني على باقي الاعتبارات وتسعى لتمكينه ، هي قدرة محدودة جداً لأسباب تتعلق بهيكليتها وبنيتها ونمطية وظائفها أمام "منطق الكبار"، ولأسباب مرتبط بالظروف المتعلقة بالجغرافية السورية، فوفقاً لـ" وليام شوكروس" مؤلف كتاب : ( Deliver us from Evil: Warlords, Peacekeepers and a World of Endless Conflict ):"اعتقدنا ونحن ندخل غُرّة هذا القرن، أن ثمة هندسة عالمية جديدة للنظام العالمي الذي شُيِّد غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، لكننا في الواقع لم نُدرك ما طبيعة هيكليته النهائية، حتى ولو كنا نأمل بأن تكون اليد العليا للتدخّل الإنساني. لكن اليوم، أثبت الشرق الأوسط أن العكس هو الذي حدث، وأن الآمال الإنسانوية تحطّمت في المنطقة وسادت، بدلاً منها، حصانة الديكتاتوريين في العديد من الأماكن".([13])

‏ سبعة أعوام والأمم المتحدة في سورية في حالة تقييد كامل، وبدلًا من إطلاق "الفواعل الدولية" لمهامها الإنسانية –على أقل تقدير-في سورية، نراها مكبلة بتوازنات غاية في الدقة وحسابات ومصالح معقدة وغير مستقرة، ومستندات قانونية ناظمة للعمل التفاوضي تفتقد للتفسير المشترك مما يجعل كافة هوامشها لا تعدو عن كونها منظمة معطلة للأثر السياسي ومنفذ لاتفاقٍ يصعب بلورته وفق التراتيبات المتراكمة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً في سورية.

 

نشر على مجلة آراء الخليج: https://bit.ly/2K7deaw

 


([1])  استقالة كوفي عنان من مهمته كمبعوث دولي وعربي إلى سوريا، موقع DW الالكتروني، تاريخ: 2/8/2012، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/pxEZKM

([2])  استقالة الأخضر الإبراهيمي من منصبه كموفد أممي إلى سوريا، موقع فرانس 24 الالكتروني، تاريخ: 14/5/2014، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/9w7mwP

([3]) خطة دي ميستورا تجميد دون أفق، تقدير موقف صادر عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ:5/11/2014، الرابط: https://goo.gl/WhkDYt

([4]) مقررات «جنيف 1»: وقف العنف وإقامة هيئة حكم انتقالية، موقع جريدة الشرق الأوسط، تاريخ: 29/1/2014، الرابط: https://goo.gl/RM2Pc3

([5]) مؤتمر جنيف 2 حول سوريا ... حقائق ومعلومات، موقع BBC ARABIC الالكتروني، تاريخ: 22/ 1/2014، الرابط: https://goo.gl/nPHkvb

([6]) سنوات من الجهود الدبلوماسية العقيمة لحل النزاع السوري، موقع SWI SWISSINFO.CH الالكتروني، تاريخ 30/1/2018، الرابط: https://goo.gl/nvPVKu

([7]) المرجع نفسه.

([8]) أبرز محطات مفاوضات أستانا، موقع الجزيرة الالكتروني، تاريخ:31/10/2017، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/4AaM6Z

([9]) ورقة الدول الخمسة، تقدير موقف صادر عن موقع تطورات جنيف، تاريخ 12/2/2018، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/9n6AUN

([10]) معن طلاع، نوار أوليفر: "المشهد العسكري في سورية وتحولاته المتوقعة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ 16/3/2018، الرابط الالكتروني: https://goo.gl/GS8Jps

([11]) للمزيد حول القرار أنظر الرابط: https://goo.gl/zHD7f5

([12]) ورقة الدول الخمسة، تقدير موقف صادر عن موقع تطورات جنيف، مرجع سابق.

([13]) MICHAEL YOUNG:” Is there any role for the UN in a polarized Middle East?”, CARNEGIE middle east, 24/9/2017, link: https://goo.gl/ddhSDd

التصنيف مقالات الرأي

ملخص تنفيذي

  • رافق مشروع الإدارة الذاتية مجموعة من الاشكاليات بدايةً من المحاولات المضنية من قبلها في الحصول على تقبلٍ مجتمعي واعتراف سياسي بمشروعها من قبل أي طرفٍ من الأطراف المنخرطة في النزاع في سورية. وبالرغم من نجاح الجناح العسكري للإدارة الذاتية والمتمثل "بوحدات حماية الشعب YPG" في موضوع محاربة "تنظيم الدولة" والتحول إلى شريك محلي أول لقوات التحالف الدولي، إلا أن هذه الشراكة لم تمنحه لا اعترافاً سياسياً ولا تحصيناً للإدارة من قبل من يرون في مشروعها خطراً كتركيا عبر عملية "غصن الزيتون"، أو تجاوزاً لهيكل الدول والمتمثل بنظام دمشق عبر التهديدات المستمرة بشن حربٍ على مناطق سيطرة "قسد" والدفع لإحداث مظاهرات وتحركات احتجاجية لتواجدها في عدة مناطق؛ الرقة، منبج، والحسكة.
  • لم تتمكن الإدارة الذاتية من دفع المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها سواءً العربية أو الكُردية لاستساغة مشروعها بناءً على عدة عوامل منها غياب الوضوح في مفهوم الهوية لدى الإدارة الذاتية فهي من جهة " كردية عند اللزوم"، ومن جهة أخرى هي " تطبيقٌ لنظرية أممية" تتجاوز حدود القوميات والأديان. ويظهر هذا في عقدها الاجتماعي المفروض من جهةٍ واحدة، فعلى الرغم من احتوائه على نقاطٍ يمكن اعتبارها مطلباً سورية عاماً خاصة بعد سنين طويلة من الاقتتال والدماء، كطرح الحكم الذاتي والتقليل من سيطرة المركز، إلا أنه يتعرض في تفاصيله لمجموعة من القضايا المتمثلة بتجاوز سلطة الدولة بدرجةٍ عالية، ويُعيد هيكلة قوانين مجتمعية مبنية على ثقافةٍ ممتدة في التاريخ والاعتقاد بالنسبة لمنتسبيها.
  • ساهمت صعوبة تطبيق العقد الاجتماعي ومشروعه السياسي على مناطق مختلفةٍ في تنوعها البشري العرقي والثقافي والديني، في حدوث عدة اشتباكات وخلافات ضمن تحالف قسد خلال فترات متعددة([1]). كما لم يستطع حزب الاتحاد الديمقراطي إقناع القاعدة الشعبية "الكُردية" بمشروعه، فبالرغم من القبضة الأمنية للإدارة حدثت مظاهراتٌ عدة من قبل أحزاب المجلس الوطني الكُردي رفضاً لمشاريع متعددة كمشروع فرض اللغة الكُردية لوحدها على المدارس في المناطق ذات الغالبية الكُردية، وظهر جزءُ كبير من هذه الخلافات نتيجة تبني الإدارة الذاتية لنظرية "الأمة الديمقراطية" العائدة لزعيم حزب العمال الكُردستاني المعتقل في تركيا. ويهدف هذا المفهوم من الناحية التطبيقية لإنفاذ مبدأ "كونفدرالية الشعوب" عبر تقويض السلطة المركزية للدولة القومية المستبدة التي تستمد سبل استمرارها وشرعيتها من القوى الخارجية. وفيما يخص كردستان فتحريرها يمر عبر تحرير الشعب الكُردي، فالمادة لا تولد الحرية وإنما الوعي والفكر الثوري كأساس المجتمع الحر" على حد زعمهم.
  • وفيما يتعلق بإدارة الموارد المتاحة للإدارة فيكتسب واقع حكمها المزيد من التعقيد في ظل غياب الشفافية فيما يتعلق بالعديد من آليات إدارتها للموارد والنفقات المتعلقة بمؤسساتها، ويتم إدارة الموارد عبر "الهيئة التنفيذية" للمقاطعات وهي بمثابة هيئة حكومية بوزارات "سيادية" والتي بالرغم من شبه الاستقرار في مناطق واسعة من سيطرة الإدارة الذاتية خلال فتراتٍ طويلة إلا أنها لم تحقق مستوى يقارب كمية الموارد المتدفقة للإدارة. وتعاني هيئات الإدارة من نقص في الكادر المختص والعمل الفعلي. من جهة أخرى يمكن تتبع نشاطٍ ملحوظ للإدارة في مجال تعبيد الطرق في محافظة الحسكة، وعملية ضبط الأسواق والمواد المستوردة عبر منع بيع المواد الاستهلاكية الفاسدة.
  • وبالرغم من المؤشرات التي تشكل نموذجاً حوكمياً فاعلاً إلا أنه لا يزال يعتريه عدة إشكاليات وعلى رأسها: الشفافية والوضوح؛ غياب المؤشرات الاستراتيجية كالخطط والسياسات؛ تغييب المجتمع المدني والحد من فاعليته؛ قلة الخبرات البيروقراطية والتكنوقراطية.

مدخل

أفرزت أجواء الثورة السورية المناخات المناسبة لظهور فواعل ما دون الدولة على مجمل الخارطة السورية كان منها المشروع المنفذ من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ومظلته السياسية "حركة المجتمع الديمقراطي" والمتمثل بـ "الإدارة الذاتية الديمقراطية". وخلال الفترة الممتدة من منتصف عام 2012 إلى وقتنا هذا حاول حزب الاتحاد الديمقراطي اللعب على عدة حبال (التيار الثالث أي لا الوقوف مع المعارضة ولا النظام) بهدف تثبيت مشروعه، الذي شهد عدة مراحل تميزت بشبه ثباتٍ إلى معركة كوباني / عين العرب كانون الثاني 2015، لترتفع أسهمه في السيطرة والتمكين حتى قيام تركيا بعملية "غصن الزيتون" التي أدت لفقدان الإدارة الذاتية لإحدى أهم أقاليمها والمتمثل بإقليم عفرين.

وظهر خلال حركية هذه الإدارة مجموعه من الإشكاليات على المستوى السياسي والقانوني والتنفيذي والإداري، ساهمت في عرقلة هذه الحركية وتشتت أطرها الحوكمية، وهذا ما سنستعرضه في هذه الورقة التحليلية

الإدارة الذاتية وثنائية الاعتراف والقبول

نشأت الإدارة الذاتية وبزغ نجم حزبها الرئيس "حزب الاتحاد الديمقراطي PYD" في واقع سياسي واجتماعي يبحث عن إسقاط شرعية نظام الأسد بكل تجلّياته. ولم تكفل ولادة الإدارة في ظروف الحرب التي شنتها وحدات الحزب على داعش حصولها على ضمانات كافية تمكّنها من الحفاظ على مكتسباتها السياسة. وعلى الرغم من قيام حزب الاتحاد بخطواتٍ متقدمة في سبيل تثبيت نفسه إلّا أن مشروعه لا يزال يعاني من غياب اعتراف شريحةٍ واسعة من الحاضنة الرئيسية له المتمثلة بـالكُرد أولاً، وثانياً من قبل "الأسد" الممثل الرسمي للدولة السورية، وأخيراُ المعارضة السورية المختلفة في تقييمها للإدارة الذاتية وفق معايير ذاتية وأخرى نتيجة تحالفاتها الإقليمية.

وإذ نحدد مصادر الشرعية في الحالة السورية بثلاثة عناصر: الشعب وفعّاليته الثقافية والسياسية، والنظام بسبب استمرار اعتراف المجتمع الدولي بتمثيله للدولة السورية، والمعارضة السورية بفضل اعتراف المجتمع الدولي بمؤسساته الائتلافية، فإن إشكالية شرعية حزب الاتحاد الديمقراطي ستستمر مالم يحصل على اعترف أحد هذه المصادر أو جميعها.

فعلى الصعيد المحلي "الكردي" ارتبطت مشروعية الإدارة الذاتية بعدة عوامل أهمها " الإنجاز الأمني" عبر النجاح في إبعاد شبح حرب المدن عن مناطقها، ولاحقاً النجاح في حرب مكافحة الإرهاب، وتأخير التدخل التركي الذي سيضر بمصالحها.  ولقد استطاعت الإدارة الذاتية استغلال هذا العامل بشكلٍ جيد سواءً في بناء سرديتها السياسية أو عبر استغلال مجريات القضية الكُردية في تركيا والعراق. فعلى سبيل المثال لا الحصر استغلّ الحزب معاركه مع الجيش التركي داخل المدن الكُردية التركية عام 2016 في تأجيج مشاعر الخوف لدى العامة من خلال بثّ تفاصيل تلك المعارك بشكل مباشر على قنوات الإدارة الذاتية الإعلامية. وبقي "الخطر الخارجي على الكُرد" مقاربة توظفها الإدارة الذاتية خلال سنيَ سيطرتها على شمال سورية أحد أهم أسس التغاضي الشعبي عن بقية ممارسات الإدارة.

وإذ نعيش آخر مراحل وجود "تنظيم الدولة" العسكري، ستنمو حاجة الإدارة الذاتية إلى تحصيل جزء من شرعيتها من المواطنين السوريين غير الكرد في المرحلة القادمة، خصوصاً بعد سيطرتها على مدينة الرقة وريف مدينة دير الزور. ولقد كشفت أحداث مدينة منبج مع تزايد دعوات الإضراب احتجاجاً على السيطرة الكُردية عليها حجم اختلال التوازن الأمني والدعم الشعبي، وكذلك تشهد محاولات اغتيال شخصيات من ضمن إدارتها المدنية والعسكرية بما فيها قوات التحالف الدولي مؤخراً على تدني عتبة التحمّل المحلي لممارسات الإدارة([2]). ويجدر الإحاطة بمحاولات النظام استغلال هذه المشاعر في إعادة تعويم نفسه شعبياً في مناطق شمال شرق الفرات، فلقد شجّع وموّل رجل الأعمال وعضو مجلس الشعب حسام قاطرجي تشكيل ما يسمى "المقاومة الشعبية في الرقة" بهدف استئصال ما أسماه الاحتلال الأمريكي، كما دعا هذا التشكيل "الخفي الغامض" إلى مظاهراتٍ شعبية في الرقة لدعم الأسد وللمطالبة بخروج قوات سورية الديموقراطية المتعاونة مع التحالف الدولي منها([3]).

وأمّا على الصعيد الدولي فلقد اجتهد حزب الاتحاد للحصول على اعتراف سياسي من ثلاثة جهات رئيسة: روسيا، والولايات المتحدة، وبعض دول الاتحاد الأوروبي. وفي حين يرتبط الحزب تاريخياً بموسكو كمستفيد من إرث علاقة حزب العمّال بالاتحاد السوفيتي، إلّا أنه سعى للتقرب بشكل أكبر من واشنطن وذلك لعدّة اعتبارات، أهمّها "إعاقة التدخل التركي"، فيما وصل تأزم علاقتهما لحد المواجهة العسكرية. ولقد بدأت علاقة الاتحاد بأمريكا عملياً بحصار كوباني وتطورت لاحقاً لشراكة محلية في مواجهة "تنظيم الدولة"، ونجحت وحدات الحماية الشعبية في إقناع البنتاغون في الاعتماد عليها حصراً من خلال تأقلمها السريع مع أهدافها الإقليمية أولاً، وبسبب إصرار فصائل المعارضة السورية على مواجهة النظام والتنظيم في آن واحد، الأمر الذي رفضته واشنطن باستمرار بدعوى عدم تشتيت جهودها في مكافحة الإرهاب.

أبدت وزارة الدفاع الأمريكية حماسة كبيرة للتعاون مع وحدات الحماية الشعبية ولكنّها عملت في المقابل على إخراج هذا التعاون قانونياً من خلال الضغط عليها ودفعها للاندماج بقوة جديدة سمَيت فيما بعد بقوات سورية الديموقراطية لتجاوز معضلة تصنيف حزب العمّال الكردستاني على لوائح الإرهاب الأمريكية. وبالفعل لا تشير أدبيات "قسد" إلى أي ارتباط أيديولوجي بحزب العمّال، ولا تضع أي عوائق أمام العرب وغير الكرد للانضمام إليها، بل شجّعت على التحاق كتائب عربية بعناصرها وعتادها بشكل كامل فيها لإظهار تنوعها العرقي والسياسي نزولاً عند الرغبة الأمريكية، إلا أن هذا التحالف والاندماجات اللاحقة لا تخرج عن أنه إطار شكلي، تحتفظ فيه الـ YPG بسيطرتها على كافة مراكز القرار والقوة داخل هذا الجسم الائتلافي.

وعلى رغم من المرونة العالية التي أبدتها قيادات الاتحاد في قنديل ومحلّياً في التجاوب مع المطالب الأمريكية، إلا أن علاقتها مع واشنطن اقتصرت على التعاون العسكري من خلال قسد والتحالف الدولي دون أن يترجم ذلك إلى أي اعتراف سياسي. بل على العكس يلحظ وجود سياسة أمريكية حثيثة على فك ارتباط القيادات المحلية للحزب مع قنديل، ولقد ظهر هذا التوجه جلّياً في تشجيعها لتشكل حزب سياسي جديد تحت اسم "سورية المستقبل" كقرين غير مؤدلج لقوات سورية الديموقراطية ودون وجود أي علاقة مباشر بحزب العمّال ومؤسساته داخل أدبياته.

دفع عدم اعتراف الإدارة الأمريكية سياسياً بالحزب لاحتفاظه بالقدر الأدنى من العلاقات الطيبة مع كل من طهران ودمشق، وعلى صيانة علاقته التاريخية مع موسكو. ولقد أدركت روسيا جيداً دوافع الاتحاد في استمرار التواصل معها على الرغم من تعاملها العسكري مع أمريكا، ولكن لم يمنعها ذلك من توظيف الحزب في تنفيذ أجندتها السياسية في سورية. فقبلت بتأسيس ممثلية له في موسكو وسعت في إشراكه ومؤسساته في المحافل الدولية ومفاوضات الحل السلمي، واستخدمت علاقتها المميزة مع الحزب في الضغط على تركيا تارةً وعلى أمريكا تارةً أخرى. ولقد اقترن هذا الاعتراف السياسي بممارسة أمنية بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية، من خلال مساندة الوحدات في السيطرة على تل رفعت ومطار منغ وبلداتٍ أخرى في ريف حلب الشمالي، ومن خلال إرسال "قوات فصل" روسية إلى عفرين. ولكنّها أبدت في الأخير تفاعلاً أكبر مع أولويات أنقرة الأمنية خصوصاً في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون التي أتت ضمن ترتيبات مسار "الأستانة" ذو المهام الأمنية والعسكرية.

وفيما يتعلق بقنوات تواصل الحزب مع دول الاتحاد الأوربي، فقد أعلنت الإدارة خلال مناسباتٍ عدة افتتاح ممثليات في عدد من العواصم الأوربية في بروكسل، وإستكهولم وباريس وبرلين، ولكن دون الحصول على اعترافٍ رسمي بها من دول الاستضافة، واقتصر وجودها القانوني في مجملها بافتتاح هذه الممثليّات تحت رخص جمعيات. ويدير هذه المنظمات ممثلو حزب الاتحاد الديمقراطي PYD أنفسهم.

يدلل أعلاه ووفقاً لحركية الإدارة الذاتية عسكرياً وسياسياً على عدم نجاحها في تجاوز إشكاليات القبول المجتمعي والوطني والدولي، ولم تخرج محاولاتها مجتمعياً عن كونها تصدير لإطار شكلي أكثر مما هو مساحة محلية للتفاعل المجتمعي. أما على المستوى الوطني لا يزال طرفي الصراع "النظام والمعارضة" يرتبط مع الإدارة الذاتية بعلاقات عدائية حتى الآن. وأما على الصعيد الدولي فإن تغير السياقات السياسية وتأثيرها على العملية السياسية يجعل "التغيير سِمة رئيسية لسلوك الفاعلين"، وبهذا المعنى فإن أي اعتراف تحصلت عليه الإدارة الذاتية فهو مؤقت قابل للتغيير في أي لحظة.

عقدٌ اجتماعي في سياق سياسي وعسكري سائل

أعلنت مجموعة الأحزاب المنضوية ضمن حركة المجتمع الديمقراطي (TEV-DEM) وبعضٌ من الأحزاب المقربة لها عن تشكيل "الإدارة الذاتية الديمقراطية" في 21/01/2014([4])، بعد سلسلة طويلة من الاجتماعات وفشل محاولات تشكيل "مجلس غربي كُردستان" الذي تم التفاوض على إنشائه في أربيل([5]). وأعلنت عن عقد اجتماعي خاص بها ليقوم مقام الدستور قبل أن يتحول فيما بعد إلى حجر أساس "للعقد الاجتماعي للفيدرالية الديمقراطية لروج آفا – شمال سورية" الوليدة من مجلس سورية الديمقراطي المشكل بتاريخ 10/12/2015. وتم نشر مسودة العقد الاجتماعي للنظام الفدرالي بتاريخ 28/06/2016 بمدينة ديريك/ المالكية، فيما أقرّها "المجلس التأسيسي" في 29/12/2016 بعد تعديل اسم المشروع ليصبح الفيدرالية الديمقراطية للشمال السوري بعد إزالة وصف روج آفا منه. ومن خلال دراسة مستند "العقد الاجتماعي" يمكن التعرّف على إشكاليات عدة منها "أسئلة وإشكاليات الشرعية" سواء تلك المتعلقة بمستوى التمثيل السياسي لأهم الفعاليات والمكونات في مناطق الشمال السوري، أو تلك المرتبطة بغياب معايير القبول الشعبي، ناهيك عن عدم قبول "الحكومة المركزية السورية" أو أية حكومة أخرى لهذا العقد.

لم يتطرق العقد الاجتماعي لحدود فدرالية شمال سورية، حيث ورد في ديباجته "ومؤسسة على مفهوم جغرافي ولا مركزية سياسية وإدارية ضمن سورية الموحدة". ويعتري مفهوم اللامركزية السياسية الكثير من عدم الوضوح والضبابية ويلحظ من قراءته وجود خلط بين حقوق الكيانات ذات البنية الكونفدرالية والتي هي في حقيقة الأمر اتحاد دول، وبين الفدرالية وهي مصطلح فضفاض لا يمكن حصره بنموذج معين([6]).

منحت الإدارة الذاتية نفسها عبر دستورها الجديد صلاحيات الحكومة المركزية. فتُشير المادة 22 في العقد الاجتماعي لمبدأ يتنافى مع الحدود السيادية التي عرفتها لنفسها وتقول "أن لكافة الشعوب والمكونات والمجموعات الحق في تقرير مصيرها" (بالرغم من حقيقة قداسة حق تقرير المصير). وتُبين مواد العقد من رقم 54 حتى 84 هيكلية مؤسسات الحكم في "فدرالية شمال سورية" والتي تبدأ من أصغر وحدة (الكومونة) إلى الهيئات العامة والمجالس التنفيذية للأقاليم ضمن الفدرالية، والمجلس التنفيذي للفدرالية. وتوضح المواد كيفية تشكيل المجالس والهيئات العامة، ومفوضية الانتخابات وهيئة الدفاع، وتتبع الهيئة التنفيذية للإقليم 15هيئة تنفيذية، وللمجلس التنفيذي للفدرالية 18 هيئة عامة، فيكون محصلتها 33 هيئة تنفيذية دون التطرق لهيئات بقية مجالس الأحياء. وبالنظر إلى تصريح العقد على وجوب عضوية كل مواطن في كومونة واحدة على أقل تقدير -ورغم توضيح العقد في كثيرٍ من بنوده على مبادئ الحرية والديمقراطية، إلّا إنه أوجد الأرضية المناسبة لخلق نوع من الدكتاتورية والبيروقراطية المعوقة في حقيقة الأمر للحرية.

تصرح المادة 66 في الوثيقة أن "بإمكان كل إقليم تطوير وتكريس العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الشعوب والبلدان المجاورة، بشرط عدم تناقضها مع العقد الاجتماعي لفيدرالية شمال سورية من جهة ومع الدولة السورية من جهة أخرى، إلّا إن الإدارة نفسها قامت بفتح وتطوير علاقات وفتح ممثليات قد تُفهم في إطار التفاعل السياسي ومتطلباته، بينما من الواضح أن استقبال جيوش وتأمين قواعد عسكرية أجنبية هو فعلٌ لا يقوم به إلا الدولة، ويتعارض أصلاً مع المادة 66. وفي مواجهة هذه الانتقادات ردّت الرئيس المشتركة لمجلس الفدرالية الديمقراطية لشمال سورية " هدية يوسف" ضمن ندوة بالمركز الكردي في مصر بتاريخ 20/07/2016 بأن:

  1. إنَّ النظام الفيدرالي المذكور بالوثيقة لا يعنى تقسيماً ولا انفصالاً لشمال سورية، وإننا نقبل بأن نعيش في دولة تحافظ على الشعوب الموجودة بها.
  2. الفدرالية هي الحل الوحيد للقضية السورية، ولو كانت لهم رغبة بالانفصال لصرحوا بها.
  3. الدفاع والسياسة الخارجية سيتم إدارتها من قبل المركز([7]).

يواجه العقد الاجتماعي لفدرالية الشمال إشكاليات وصعوبات متشابكة، خصوصاً مع توسع رقعة الكيان، فيما يستمر غياب تمثيل مكوّنات سياسية واجتماعية حيوية كالمجلس الوطني الكُردي، وممثلين عن أهالي منبج، والرقة، وريف الحسكة الجنوبي والشدادي وهي مناطق ذو غالبية عربية. أمّا الإشكالية الأخرى فتتجلى في فرض أحادي للنموذج الفدرالي دون التشاور مع بقية المكونات السياسية في البلاد وفي مرحلة سيولة عسكرية وسياسية وتدخل إقليمي ودولي متزايد في الجغرافية السورية. ([8])

إدارة التنوع الجغرافي والبشري

اختلفت مساحات وطبيعة الجغرافية، وكتل الجوامع البشرية التي سيطر عليها حزب الاتحاد PYD (الإدارة الذاتية)، خلال أعوام الثورة، حيثُ امتدت رقعة سيطرة الحزب ما بين عامي 2012 و2015 على 12% من مساحة سورية، ضمن مناطق عفرين وريفها، عين العرب/كوباني وريفها، وثلثي محافظة الحسكة.

تتميز منطقة عفرين، الواقعة ضمن "جبل الأكراد"([9])، بوفرة المياه الجوفية وخصوبة أراضيها وبطبيعتها الجبلية، وبنشاط صناعي وتجاري في حقل الألبسة وزراعة الزيتون، وأغلب سكّانها من الكرد غير المنتمين على عشائر. وفي المقابل تتميز منطقتي الجزيرة وكوباني بطبيعتهما السهلية وباعتمادهما على زراعة الحبوب والقطن. وقد عانت المنطقتان من إهمال النظام وعرقلة نشاط القطاع الخاص، وتعتبر مدنها الرئيسية حديثة تأسست أوائل القرن الماضي بعد ترسيم الحدود بين تركيا وسورية([10]).

وفيما يتعقل بأثر النشاطات التجارية والاقتصادية على البنية الاجتماعية والتوجه الأيديولوجي يوجد اختلافات مجتمعية وسياسية ضمن مناطق الإدارة الذاتية، فكما كان لقرب عفرين من حلب تأثيرٌ في إنشاء بعض المصانع فيها، فقد أثرت الطبيعة المجتمعية الحلبية المعتمدة على الصناعة والتجارة عليها كذلك، حيث خلقت توجهاً نحو الاستقرار المستدام أكثر من الجزيرة وكوباني المعتمدتين على الزراعات الموسمية. وهكذا تتأثر درجة الارتباط بالأرض بعوامل الطبيعة، فعمر شجرة الزيتون في عفرين تعود لمئات السنين، بينما كانت الجزيرة وكوباني مراعٍ لسكّان المدن المجاورة قبل 100 عام –باستثناء مدن تاريخية كعامودة والمالكية. لذا تختلف طبيعة الاستيطان في شرق نهر الفرات عن عفرين، ولقد كانت أحد أسباب هجرة ما يقارب المليون ونصف مدني من منطقة الجزيرة إلى حلب ودمشق انقطاع المطر خلال أعوام 2006-2008.

أمّا على الصعيد السياسي والحزبي فتتأثر مختلف الانتماءات والتوجهات في هذه المناطق الثلاثة نتيجة عدة عوامل، أحدها تأثّرها بسلوك الحواضر العربية الكبيرة بقربها. فعلى الرغم من ارتفاع الكثافة السكّانية الكردية في كوباني وعفرين مقارنة بشمال الجزيرة، إلا أن التمترس القومي الكُردي بدا واضحاً في محافظة الحسكة والذي أتى كردت فعلى على اساس سياسات حزب البعث الاستبدادية والقومجية. وإذا ما درسنا التوّزع الجغرافي للانتماءات الحزبية من مدينة ديريك/ المالكية شرقاً على الحدود العراقية السورية إلى عفرين على الحدود التركية السورية غرباً، فسنرى اختلافاً بينياً كردياً في التوجهات السياسية، حيث تتركز القاعدة الشعبية الأكثر صلابةً للحزب الديمقراطي الكُردستاني العراقي في الشرق وتتضاءل لصالح حزب العمال الكُردستاني كلما ذهبنا شرقاً حيث قاعدته الحزبية الأمتن في عفرين. ويضاف للفروقات أعلاه استمرار وجود مفهوم العشيرة في مناطق الجزيرة بنسبة أكبر مما هي عليه في عفرين وعين العرب/ كوباني.

ارتفعت نسبة سيطرة وحدات حماية الشعب وتشكيل قسد بعد منتصف عام 2015 لتبلغ حد الـ 24% من مساحة سورية الكلية أي ضعف المساحة الواقعة تحت سيطرتها سابقاً، وطرأ مع توسع رقعة سيطرتها تغير في حجم الكتل البشرية وطبيعة المدن المسيطرة عليها. فبعد أن اقتصرت سيطرة الحزب ومؤسساته على مدن وأرياف بغالبية كردية، بات الحزب مسؤولاً عن منطقة تمتد من كوباني شمالاً مروراً بالرقة وريف دير الزور وانتهاءً بحدود العراقية شمال البوكمال جنوباً، ومن منبج غرباً مروراً بتل أبيض وانتهاءً بالمالكية شرقاً. وتتميز هذه المنطقة باحتوائها لمدن وبلدات عربية وبمساحات سهلية وصحراوية واسعة يتخللها تلال وقرى صغيرة متناثرة، مما زاد من عدد السكّان من مليونين إلى ثلاثة ملايين والنصف وفق بعض التقديرات، ومما زاد من تكلفة حمايتها وصيانتها من هجوم محتمل لعناصر " تنظيم الدولة" عليها([11]).

لا يقتصر تأثر "الإدارة الذاتية" وتفرعاتها العسكرية والسياسية على تغيّر العامل الجغرافي وزيادة الكتلة البشرية فحسب، فلقد أدّى توسعها في جنوب المنطقة الشمالية إلى احتوائها فواعل عربية جديدة لم تتعامل معهم خلال المرحلة الأولى الممتدة من عام 2013 إلى منتصف عام 2015. ويعتبر حوض الفرات منطقة ذات كثافة سكّانية عربية ما زالت تحتفظ إلى حد كبير ببعدها القبلي. ولقد اعتمدت الإدارة الذاتية في مرحلة ما قبل "معركة الرقة وريف دير الزور" على المكون الكُردي كجنود وإداريين، فقامت بتوظيف الأدبيات والشعارات الكُردية لتعبئة "العناصر والمسؤولين" طيلة هذه الفترة، الأمر الأكثر حرجاً في التعامل مع المكوّنات العربية ذات الانتماءات والتحالفات المتنوعة والمتقلبة، أضف إلى ذلك احتكام العشائر العربية السورية بأعراف وقوانين خاصة غريبة على أنصار الإدارة الذاتية. ولذلك دفع هذا التنوّع الديموغرافي والاجتماعي حزب الاتحاد الديموقراطي لتبني مفهوم "الأمة الديمقراطية" كإطار أوسع من العصبية القومية التي تبنتها بطريقة غير مباشرة في المرحلة الأولى من تأسيس الإدارة الذاتية. ولا يخلو هذا المفهوم من إشكاليات وتناقضات مع العرف العشائري السائد في المنطقة العربية مما يحذو القائمين على الحزب إعادة تعريف مشروعهم السياسي باستمرار بما يتناسب مع توجهات مختلف المكوّنات الاجتماعية الخاضعة لسيطرتها.

تدفعنا هذه الاختلافات الأيديولوجية والسياسية والحزبية والقومية إلى تلمس مدى تأثّر وتفاعل مفهوم "الأمة الديموقراطية" مع تنوّع مرجعيات الجوامع البشرية الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية. ولقد طرح الحزب هذا المفهوم المعروض كحل شامل لتحقيق العدالة والمساواة والأخوة لمختلف شعوب المشرق. فما هي الأمة الديمقراطية، ومن أين جاءت، ومن طرحها، وكيف ستحل المشاكل؟

"الأمة الديموقراطية" كقاعدة نظرية للإدارة الذاتية

لا تعُد نظرية "الأمة الديمقراطية" مفهوماً أنتجته الإدارة الذاتية بينما تعود جذورها لتطور نظرية الفوضوية (Anarchism) للمفكرين الأمريكيين "موراي بوكتشين" و"نعوم تشومسكي" اللذان عمِلا على تأطيرها ضمن كيان الدولة أولاً، وبما يحافظ على مؤسساتها ثانياً درئاً للفوضى الكاملة في ظل غياب بدائل تستطيع حمل أعبائها ومسؤولياتها في حال اندثارها. ولقد حاول المفكران وبشكل أخص " تشومسكي" ضبط مفاهيم "الفوضوية" و"الاشتراكية" لتتقبل واقع وجود الدولة بصيغتها الحالية، والانطلاقة من هذا الواقع لإحداث التغيير المنشود، وذلك بعيداً عن تطبيق نظرية الثورة العمالية أو التحرر الكامل عودةً للحياة الطبيعية كما يدعو الفوضويون الأوائل([12]).

يُعرِّف حزب الاتحاد الديموقراطي "الأمة الديمقراطية" على النحو التالي: "جماعةٌ من الناس تربطهم روابط مشتركة وتُمارس الديمقراطية لإقامة حكمها". ونلحظ هنا تحوّل "الديمقراطية" من نظام حكمٍ إلى صفة "للجماعة البشرية" بما يُخالف المفهومين الإسلامي والحداثي اللذان اعتمدا الدين والقومية لتعريف حدود الأمة. ويُعتبر هذا المفهوم انعتاقاً من الإرث الشيوعي والاشتراكي لحزب العمال الكُردستاني، بعد أن قام زعيمه عبد الله أوجلان بمراجعات فكرية بعد اعتقاله واتجه لتبني وتطوير مفهوم الامة الديمقراطية كقاعدة فكرية جديدة لحزبه وأتباعه. وينتقد أوجلان محاولاته وحزبه السابقة لإقامة دولة كردية بمفهومها الحداثي، ويصف توّصله لمفهوم الأمة الديمقراطية برحلة فكرية خاضها بعد دراسة أهم الثقافات والأديان ومنظومات الحكم التي حكمت وما زالت تحكم العالم([13]).

ويتبنى مناصرو حزب العمال الكُردستاني بفروعه المحلية مفهوم "الأمة الديمقراطية" كخارطة طريق لقيام "أخوة الشعوب" ولحل مشاكل الدولة القومية والحداثية. وينتقدون قصور الماركسية والاشتراكية واقتصارها على تقسيم المجتمع إلى طبقات متصارعة فيما فشلت نماذجها في الحكم في مواجهة المشروع الرأسمالي الذي احتكر الصناعة والعلم فسخّرهما للانفراد بقيادة المجتمع الدولي ظلماً واضطهاداً للشعوب. ويعتقد مناصرو الأمة الديمقراطية أن التطور العلمي واكتشافاته المستمرة يكشف جوانب القصور في النظريات والفلسفات السابقة، ويُظهر الحاجةَ إلى قراءةٍ جديدة للوصول إلى تفسير فلسفي جديدٍ بما يضمن إحياء المواجهة المصيرية للحداثة والرأسمالية وتجلّياتهما.

أطلق أوجلان مفهوم الأمة الديمقراطية أثناء سنوات اعتقاله الأولى، وأسقطت عملياً في عام 2003 عند إنشاء تنظيمات محلية عوضاً عن الإدارة المركزية لحزبه، وذلك في سبيل تخفيف الضغط عن أنصاره أولاً، وانتقالاً من النموذج الماركسي والاشتراكي لنموذج "الأمة الديمقراطية ثانياً. ويهدف "هذا المفهوم من الناحية التطبيقية لإنفاذ مبدأ كونفدرالية الشعوب" عبر تقويض السلطة المركزية للدولة القومية المستبدة التي تستمد سبل استمرارها وشرعيتها من القوى الخارجية. وفيما يخص كردستان فتحريرها يمر عبر تحرير الشعب الكُردي، فالمادة لا تولد الحرية وإنما الوعي والفكر الثوري كأساس المجتمع الحر.([14]).

ويحدد يوسف خالدي، الباحث في المركز الكردي للدراسات بُعدَين أساسيين للأمة الديموقراطية:

  1. محلي ذاتي: يحقق نفسه من خلال إتاحة الفرصة أمام السكان المحليين للإعلان عن هويتهم الفرعية كأفراد وجماعات قائمة بحد ذاتها أولاً، مع امتلاك حق الإعلان عن تمثيلها في هوية عامة مشتركة قادرة على التعبير عن تلك الهويات الفرعية كجزء من كل، وعبرها تستطيع القومية الكردية التحول إلى أمة تتجسد تطلعاتها في هيئة شبه مستقلة ديمقراطياً.
  2. الإطار العام: عبر توفير مساحات واسعة من الحرية في الأبعاد الثقافية والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والدبلوماسية ضمن إطار الدولة العام وحدودها القائمة.

وتُحقق الإدارة الذاتية مبدأ شبه الاستقلال الديمقراطي عبر آليتين:

  1. الاتفاق مع القومية المتحكمة بِعُرى الدولة الحداثية وفق عقد اجتماعي جديد تشترك في صياغته جميع مكونات المجتمع كأطراف أصيلة، استناداً على إرث الشعوب وحضاراتها المشتركة في المنطقة وعلى الثقافة والعلاقات التاريخية.
  2. استبعاد أي تصور يتضمن أفكار قد توحي أو تشير إلى سياسات الصهر والتذويب والإقصاء للمختلف، مع التخلي نهائياً عن خيارات حلول الإبادة التي اتبعها الدولة القومية سابقاً وانتهت إلى الفشل، وذلك مقابل تخلي الكرد عن مطلب الاستقلال التام وإنشاء الدولة.

ويحدد مشروع الإدارة شكلان لقيامها:

  1. أن تتخلى الأمم القومية عن ميولها لإقامة دولها الخاصة ورغبتها في الاستئثار بالدولة، بالإضافة إلى قبول الدولة القومية بمبدأ شبه الاستقلال الديمقراطي.
  2. أن يبادر الكرد وبشكل أحادي حال تعذر التوصل إلى حالة وفاق مع الدولة القومية إلى تطبيق وتنفيذ مبدأ شبه الاستقلال الديمقراطي([15])".

وتستكمل نظرية الأمة الديموقراطية إطارها الفلسفي من خلال طرح حلول لمشاكل المرأة والزواج، باعتبار فشل الرأسمالية في فهم الحياة الزوجية، معتبرةً المرأة في الرأسمالية عبدة لترف الرجال، وأنها ليست كما يعرًفها الدين والعرف، بل كائناً قادراً على بذل أضعاف ما يبذله الرجل. وحل مشاكل المرأة تبدأ في خلق توازن ضمن الوظائف الأساسية في الحياة وهي "تأمين الغذاء وأمن الوجود وسيرورة النسل"، وهنا ينبغي وقف التعاظم البشري العددي، كما يجب بناء المجتمع بين النساء والرجال على أساس " الحياة الندية"، وإيجاد المساواة بين الجنسين بشكلٍ كامل.

إدارة الموارد

يكتسب واقع حكم الإدارة الذاتية مزيداً من التعقيد في ظل غياب الشفافية فيما يتعلق بالعديد من آليات إدارتها للموارد والنفقات المتعلقة بمؤسساتها، ويمكن دراسة الموارد الخاصة بالإدارة الذاتية من خلال النظر إلى مرحلتين، الأولى: مرحلة ما قبل 2015 وقبل السيطرة على مدينة تل أبيض، والثانية مرحلة ما بعد السيطرة على تل أبيض إلى الآن، حيث تم توحيد جزئي لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية التي كانت عبارة عن جزيرتين " الجزيرة وكوباني" لتصبح على امتداد الحدود السورية التركية من المالكية إلى منبج. وفي كلا المرحلتين بقيت طبيعة موارد الإدارة الذاتية متشابهة وهي:([16])

  1. إيرادات الأملاك العامة: النفط والغاز في المنطقة الشرقية من محافظة الحسكة، وصوامع القمح
  2. إيرادات الضرائب المحلية والرسوم الجمركية من المعابر الحدودية
  3. إيرادات المؤسسات الخدمية التابعة لها
  4. المغتربين بكردستان العراق وتركيا
  5. والتبرعات المحلية

ووفق البند الثامن من المادة 53 من وثيقة العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية فإن المسؤول عن وضع الموازنة في الإدارة هو المجلس التشريعي([17]). وقد قامت الإدارة الذاتية منذ منتصف عام 2012 حتى 2018 بكشف ميزانيتها لمرة واحدة فقط لعام 2014 بالإضافة إلى موازنة عام 2015 وذلك ضمن مناقشات المجلسين التشريعي والتنفيذي في 17/03/2015، ولا يمكن التأكد من مدى صحة الأرقام الواردة ضمن المناقشة. ولقد تلقى التقريران انتقاداً من المجتمعين في المجلس وذلك لاحتوائها على الكثير من السردية والشرح دون وجود تفاصيل عن الإيرادات والنفقات. ويوضح الجدول أدناه الميزانية المعلنة من قبل الإدارة الذاتية خلال عام 2014 وموازنتها لعام 2015.

 

ربما يجب الحديث هنا عن غياب الشفافية بما يتعلق بإنتاج النفط، وتسويقه، بالإضافة إلى المنح الدولية وطريقة التصرف بأموال إعادة الإعمار.

السلطة التنفيذية

يتم إدارة موارد الإدارة الذاتية عبر الهيئة التنفيذية التي تشكلت بداية عام 2014، وهي هيئة بمثابة هيئة حكومية بوزارات "سيادية" بما فيها الخارجية والدفاع. وتستند في تسيير أعمالها قانونياً على "العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية" والقوانين الصادرة من المجلس التشريعي. وحاولت منظومة حركة المجتمع الديمقراطي وحزب الاتحاد الديمقراطي PYD منذ بداية إعلان الإدارة الذاتية إنشاء "الهيئة التنفيذية" على أساس تحالفي عبر ضم أكبر عددٍ من التنظيمات سواءً كانت المُشكلة من قبلها والمرتبطة بهاً عضوياً، أو من المتحالفة معها كـ "الهيئة الوطنية العربية"، و"حزب الاتحاد السرياني" وتنظيمات كُردية وعربية وسريانية أخرى. ولقد حاول الحزب احتكار الشأن العام عبر هذه التحالفات صورياً من خلال إلزامهم بالسير "على نهج الأمة الديمقراطية". ويبلغ عدد الهيئات ضمن الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة 16 هيئة، بعد عملية دمج للعديد منها وتحويل البعض إلى مكاتب ضمن هيئاتٍ أخرى. وتكشف دراسة هذه الحالة وجود محاولات لإضفاء صيغة التكامل على جسد الهيئة التنفيذية في وقتٍ تعاني من نقص في الكادر والعمل الفعلي على أرض الواقع مقارنةٍ بالمساحة التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية.

تتصدر هيئة البيئة والبلديات قائمة الهيئات النشيطة ضمن الإدارة الذاتية، حيثُ تنشط بلديات الإدارة الذاتية بشكلٍ رئيسي في تنفيذ مجموعة مشاريع عبر أقسامها الخدمية، والفنية، ومن جملة أعمالها:

  • تعبيد الطرق داخل المدن والطرق الواصلة بين الأرياف والمدن وذلك عبر طرح مناقصات بالظرف المختوم. ويظهر رُسُو العديد من المناقصات على "الشركة العامة للطرق والجسور: زاغروس" المنشأة عام 2013.
  • كما نشطت البلديات في مشاريع تنظيف الفوهات المطرية وتوزيع مادة المازوت التي حدث حولها شكاوىٍ كثيرة من المواطنين نتيجة المحسوبيات وقلة الكمية.
  • وتأخذ البلديات على عاتقها القيام بتنظيم المخططات التنظيمية للمناطق التي تتوسع فيها المدن الواقعة تحت سيطرتها، ومن جملة المناطق التي تم تنظيمها "مشروع المنطقة الصناعية في مدينة ديريك/ المالكية" تحت ذريعة إبقاء المدينة نظيفة وخالية من الملوثات. وتم عرض سعر المحل الواحد من 2.5 مليون إلى 3 ملاين حسب المساحة. ويعاني أغلب الصناعيين في المدينة من القرار كونهم مالكي المحلات، ولم يكن بإمكان الكثير منهم القيام بشراء محلٍ من " غرفة الصناعة". ولقد أشار بعض الصناعيين إلى قيام تجارٍ بشراء معظم العقارات في المنطقة وهم متحكمون بالأسعار([19]).

تدُر البلديات على الإدارة الذاتية مبالغ مالية([20]) ضخمة من الضرائب من كافة النشاطات التي تقوم بها، بالإضافة لما ذُكر تقوم بتجهيز مسالخ وأسواق لبيع المواشي، والضرائب التي تفرض على أصحاب المحلات كضريبة الحراسة، والنظافة وإشغال الرصيف، وضرائب أخرى. وتعاني البلديات من عدم وجود كادرٍ مختص خصوصاً فيما يتعلق بأهم الاختصاصات وهي التنمية والتخطيط والقانون، كما أنها لا تمتلك مكاتب فرعية في المناطق العربية الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية.

تركّز الإدارة الذاتية على هيئة التربية والتعليم وذلك من خلال تفعيل قانون تغيير المناهج. وقد شهدت عملية سيطرة الإدارة الذاتية على السلك التعليمي خلافاتٍ كبيرة على الصعيد الشعبي ومن مختلف القوميات والأديان، بالإضافة للنظام الذي رفض التفريط بمؤسساته الرئيسية. ويتحكم الحزب بالتعليم من خلال سيطرته على الكادر التدريسي عبر تقديم الرواتب، ومن خلال الإعداد والتمكين الأيديولوجي. وسيؤدي انقطاع المركز عن الأطراف مع امتداد سنوات الثورة لأكثر من 7 سنوات وفي غياب أية آمال لإمكانية التوصل لحل سياسي، إلى تعاظم سيطرة الحزب على عقول الأطفال بما يمكنه من بناء جيلٍ كامل تحت تأثير ووطأة أيديولوجية PYD المستندة على أفكار زعيم حزب العمال الكُردستاني([21]).

 تأتي هيئة الصحة في مقدمة الهيئات التي عانت بشكلٍ مباشر وحاد نتيجة الحرب، وواجهت مشاكل تمحورت بشكلٍ أساس حول نقص الكادر الطبي نتيجة هجرة الأطباء لخارج البلاد، وارتفاع تكاليف القطاع الصحي فيما يخص الحصول على أجهزة المخابر والمشافي. كما أدى الحصار أثناء تواجد تنظيم الدولة إلى حدوث نقصٍ حاد في نوعية وكمية الأدوية المتوفرة في الأسواق. أما هيئة السياحة والآثار فتركز عملها على منع العمليات التخريبية من قبل مهربي الآثار، بالإضافة لمشاركتها في عمليات التشجير والاعتناء بالبيئة. وكذلك تعاني هيئة الثقافة والفن من عدم تفعيل مديريات الثقافة، والمسارح، والتأليف والنشر، فيما تُشرف الهيئة على تنظيم مهرجانات القصائد، والقصص، والكتب بناءً على فكر وتعليمات "عبد الله أوجلان" زعيم حزب العمال الكُردستاني([22]). كذلك فإن هيئة الدفاع الذاتي تعمل على فرض خدمة الإدارة الذاتية عسكرياً على كل من هو من مواليد 1986 وما بعدها، وخلال ما يزيد عن ثلاث سنوات قامت الهيئة بسحب أكثر من 20 ألف شاب للخدمة الإلزامية.

رغم أن المؤشرات أعلاه تشكل نموذجاً حوكمياً فاعلاً إلا أنه لا يزال يعتريه عدة إشكاليات وعلى رأسها: الشفافية والوضوح؛ غياب المؤشرات الاستراتيجية كالخطط والسياسات؛ تغييب المجتمع المدني والحد من فاعليته؛ قلة الخبرات البيروقراطية والتكنوقراطية.

خاتمة

ساهمت عدة عوامل في تمكين الإدارة الذاتية من بسط سيطرتها على شمال سورية و أدائها، كانسحاب النظام في المناطق ذات الغالبية الكُردية لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي PYD وذراعه المسلح "وحدات حماية الشعب YPG"، مما وفر جواً من الأمن والاستقرار اللذان أسهما في تثبيت حزب الاتحاد لسلطته. كما ساهم التحالف الدولي بعد معركة كوباني في توسيع الإدارة الذاتية لتسيطر على ما يقارب 24% من مساحة سورية، بعد أن كانت تُسيطر على أقل من 10% قبل قبول التحالف لها شريكاً في محاربة تنظيم الدولة. ومما ساهم أيضا في تثبيت السلطة العسكرية للحزب هو افتقار بقية الأحزاب الكُردية لقوة مسلحة، من جهة، وتفتيت الـ ـ YPGللكتائب المشكلة من قبل بعض الأحزاب من جهة أخرى، منعاً من ظهور أي منافس، وتحت حجة عدم وجود " قوتين كُرديتين".

قانونياً تواجه الإدارة الذاتية غياب أي اعتراف من قبل حكومة المركز أو أية وثيقة وطنية، وتستند فقط على علاقاتها مع دول التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى عقدها الاجتماعي الذي يعتريه الكثير من الغموض والتداخل مع مفاهيم سياسية أخرى. كما يشمل العقد نفسه أموراً تناقض أدبيات الإدارة الذاتية، فمن جهة تدعي الإدارة إنها تريد التخلص من سلطة الدولة المركزية، إلا إنها قامت بربط الشعب كله بمؤسساتها وخلقت شمولية عبر البيروقراطية المتشعبة خلال الكومونات والمجالس والقوى العسكرية المتعددة. ويحوي العقد الاجتماعي في نسخته المعدلة مع التوجه لإعلان "فدرالية شمال سورية الديمقراطية" مصطلحاتٍ تتعارض مع الثقافة الجمعية للسوريين، كمصطلح "الآلهة الأم" ضمن مصادر التشريع، وهو خلطٌ بين المفاهيم الوثنية والتوحيدية كعبارة القسم " أقسم بالله العظيم" ضمن الديباجة نفسها. ولم ينجح العقد في أن يكون "دستوراً" لمنطقة حكم ذاتي أو فدرالية، بل يتعداه ليكون عقداً لمناطق حكم كونفدرالية، فالعقد يمنح: اللجوء السياسي وتبني العلاقات الدبلوماسية، كما يمنح حق تقرير المصير.

ويشوب العقد إشكاليات وصعوبات أخرى، خصوصاً مع توسع السلطة الجغرافية "للفدرالية" المعلنة من طرف واحد، في غياب شركاء حيويين من ناحية التمثيل لكتلة بشرية واسعة كالمجلس الوطني الكُردي، وممثلين عن المناطق المسيطر عليها مؤخراً ابتداءٍ بشمال الرقة، والرقة، وريف الحسكة الجنوبي وانتهاءً بريف دير الزور. وهي مناطق ذات غالبية عربية ومن الممكن أن يتسبب مشاكل تمثيلها في قبول طرفٍ "يحتسب كُردياً" ضمن دوائر إدارتها المحلية. وتبقى الإشكالية الرئيسية متمثلةً بكون سورية في مرحلة تغي مستمر عسكرياً وسياسياً، ولاتزال الدول العظمى والإقليمية غير متفقة على شكل وكيفية الانتقال السياسي في سورية.

يُصر حزب الاتحاد الديمقراطي على تبني مفهوم "الإمة الديمقراطية" ويشارك في عملية الترويج لها على المستوى الإقليمي كحلٍ للقضية الكُردية وحل مشاكل بقية الشعوب. ومع وجود بعض التشابه من ناحية في هذا الحل مع الحل الكُونفدرالي المطبق في أوروبا إلّا أنه يفتقر إلى حرية التطبيق أو التعديل حيث يراه الحزب "العلاج الجامع والوحيد". كما يفتقر هذا الحل أيضاً لوجود طرفٍ سياسي إقليمي يؤمن به، بالإضافة إلى تعارضه مع الحالة المجتمعية في الشرق والمحكومة في الكثير من جوانبها بالأدبيات الدينية. وتصطدم فلسفة "الأمة الديمقراطية" بالتقاسم الحاصل بحق القومية الكُردية إقليمياً مما يجعل من مظلوميتها أداةً للدول ولتدخلها في الشؤون الوطنية لهذه الدول.

محلياً يواجه مشروع الأمة الديمقراطية مشاكل ذاتية ظهرت مع عملية التطبيق، كحالة عسكرة المجتمع عبر تشكيل ما تُسمى بقوات الحماية الجوهرية (حراسة الأحياء)، بالإضافة لأجهزة عسكرية وأمنية ضخمة مقارنة بالمساحة الجغرافية والكتلة السكانية. كما خلقت الإدارة الذاتية بيروقراطية مركزية مبغوضة لأصحاب الإدارة أنفسهم وفق تصريحاتهم، وعوضاً عن الهرب من المركزية السابقة للنظام تم إيجاد مركزية أخرى جديدة أقسى من القديمة تتمثل بالإدارات المتعددة التي هي بدورها ضخمة وزائدة على الكتلة السكانية والمساحة الجغرافية. كما عارضت الإدارة الذاتية نفسها فيما يخص احترام الثقافات الخاصة بكافة مكونات المنطقة عبر تطبيق "عقودٍ اجتماعية" تعارض لُب ثقافات المجتمعات المحلية.

وأخيراً وبالنظر لتقاسم السيطرة والنفوذ على الخارطة السورية نرى بأن الإدارة الذاتية وإن استمرت على شكلها الحالي فإنها في حقيقة الأمر تَهدم أحد أهم أعمدة نظريتها المتمثل بإزالة آثار الدول الوطنية "القومية" الحديثة وما أنتجته من حدودٍ قطعت أوصال الشعوب، لتكون هي في حقيقة الأمر من قطع مجتمعاتٍ بأكملها كما نرى في مدينة الرقة وريفها الجنوبي ومدينة دير الزور وريفها وكذلك في أجزاءٍ من ريف حلب الشمالي.


([1]) يمكن العودة لها بتفصيل ضمن فقرة الخلافات داخل" قسد" في الورقة الصادرة عن مركز عمران والمعنونة بـ" البنى العسكرية والأمنية في مناطق الإدارة الذاتية" https://goo.gl/MX2dmq

([2]) التحالف الدولي يعلن مقتل عنصرين له في سورية غداة استهداف قوات أمريكية في منبج، الموقع: مركز راصد الشمال السوري، التاريخ: 30/03/2018، الرابط: https://goo.gl/Y1SBN4

([3]) فصيل "المقاومة الشعبية" يستهدف قاعدة أمريكية في الرقة، الموقع: اخبار سورية، التاريخ: 02/04/2018، الرابط: https://goo.gl/7smXXv

([4]) في الذكرى الثانية لإعلانها. آراء حول تقييم عمل الإدارة الذاتيّة، الموقع: بوير برس، التاريخ: 21/01/2016، الرابط: https://goo.gl/jp1RhC

([5]) فشل المفاوضات بين حركة المجتمع الديمقراطي والمجلس الوطني الكُردي لعدّة أساب أهمها اختلاف المحاور "الكُردية الإقليمية" الراعية لكلا المجلسين،

([6]) قراءة في العقد الاجتماعي "لفيدرالية الشمال"، الموقع: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، التاريخ: 16/08/2016، الرابط: https://goo.gl/6fJedS

([7]) ندوة بالمركز الكردي.. بالفيديو| خبراء: الأكراد يفتتون سورية بـ "فيدرالية روج آفا"، الموقع: مصر العربية، التاريخ: 20/07/2016، الرابط: https://goo.gl/xKCQGM

([8]) الجدير بالذكر موضوع الهوية؛ ظهرت الدول القومية في الشرق الأوسط عُقب انهيار إمبراطورياتٍ سابقة، وبقيت ورثتها بعيدةً عن إمكانية خلق "تعريفٍ جامع لنفسها"، فلم تستطع الجمهورية التركية المستندة على إرث الإمبراطورية العثمانية تجاوز مشكلة "العِرق الواحد" وتقبُّل حقيقة المجتمع غير المتجانس، كما لم تستطع "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" المستندة على إرث الشاهنشاهية من تحديد حدود هويتها وطبيعتها لا معلنة فارسيتها وغير متقبلة للتعايش بهدوء في منطقةٍ تذخر باختلافات مذهبية متنوعة. يُمكنُنَا مراقبة المشهد من هذا المنظار من فهم ما تعانيه التنظيمات السياسية القابعة في أسفل هرم "السلطة والحكم" في المنطقة من إشكالية تعريف الهوية.

يرفض حزب الاتحاد الديموقراطي إطلاق صفة "القومية" الكُردية على نفسه، ولكنه في المقابل يطلق الدعوات لعقد "المؤتمر الكُردستاني" ، كما ينفي علاقته العضوية بحزب العمال الكُردستاني، في حين ينسب نجاحات "روج آفا والإدارة الذاتية" لشخص "عبد الله أوجلان " زعيم حزب العمال.  وتُلقي تحالفات الحزب الدولية بدورها الظلال على إشكالية الهوية التي يروّج لها الحزب، حيث وضع تحالف قوات سورية الديموقراطية مع الولايات المتحدة الرأسمالية الحزب في تناقض مع الأيدلوجية الماركسية التي طالما تبّناها.

 

([10]) الوجود الكردي في شمال سورية: منطقة جبل الأكراد (عفرين) – 1، الموقع: مدارات كُرد، التاريخ: 04/12/2016، التاريخ: https://goo.gl/7upuYf  تتقع منطقة جبل الكرد أو الأكراد أو كردداغ القديمة في أقصى الزاوية الشمالية من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وتشغل الزاوية الشمالية الغربية من قوس الهلال الخصيب ودولة سورية، وتعتبر مرتفعاتها من النهايات الجنوبية الغربية لجبال طوروس. تبدأ مرتفعات جبل الكرد من المنابع العليا لنهري عفرين والأسود غربي مدينة ديلوك “عنتاب” داخل الحدود التركية، وتعتبر امتدادا طبيعيا لجبال Reşa و  Zagê حيث مناطق الأكراد في الشمال والشرق. وتأخذ مرتفعاته اتجاهاً شمالياً جنوبياً بانحراف قليل إلى الغرب وبطول يبلغ نحو 100 كم إلى نهايته الجنوبية الغربية غربي بلـدة جنديرسعفرين. أما عرضها فيتراوح ما بين 25 و45 كم. وينضم إلى هذه المنطقة الجبلية، جبل ليلون وسهل جومه، وقد شكلوا معاً عبر التاريخ منطقة جغرافية واحدة ومتكاملة على طول وادي نهر عفرين.

([11]) Syria Population 2018، الموقع:  world population review، التاريخ: 06/04/2018، الرابط: https://goo.gl/4uX9bc، تبقى الأعداد تقريبية في غياب الظروف المساعدة لقيام مؤسسات ذات حيادية بإجراء احصاءات دقيقة.

([12]) بوكتشين، أوجلان وجدلية الديمقراطية* 1/3، الكاتبة: جانيت بيل، الموقع: يكيتي ميديا، التاريخ: 24/10/2016، الرابط: https://goo.gl/9zgLCY

([13]) ويتدرج في مرافعته من خلال شرح تطور دولة الكهنة السومرية وصولاً للحضارة الديمقراطية كسنام البشرية. فيبدأ بتناول السومريين كأول من أنشأ "دولةً" في التاريخ، وليعرج بعدها على الحضارات المصرية، والصينية، والبوذية، الكونفوشيوسية، والإغريقية، وميلاد الأديان التوحيدية، وهدم الإسلام للعبودية، وصولاً للحضارة الرأسمالية والأزمة التي تعاني منها البشرية في الهوية بشكلٍ عام. ويختتم مرافعته بالدفاع عن القضية الكردية تحت عنوان "الدفاع عن شعب"، فيخلص أن مفهوم الأمة الديمقراطية شامل لنتج كافة الحضارات السابقة بخصائصها السماوية (الإلهية)، والبشرية، وأنّها أمةُ متعددةُ الهوياتِ والثقافاتِ والكياناتِ السياسيةِ في مواجهة وحوشِ الدولةِ القومية.

([14])سيهانوك ديبو : نحو الحل الديمقراطي للقضية الكردية ؛ معركة بين رُع وآبيب (الأمة الديمقراطية هي الأمةُ المتعددةُ الهوياتِ والثقافاتِ والكياناتِ السياسيةِ مَقابِلَ وحوشِ الدولةِ القومية، وأن كفاحاتُ الأمةِ المتطلعةِ إلى الدولةِ والدولةِ المتطلعةِ إلى الأمة، هي المؤثِّرُ المِحوريُّ في الواقعِ الدمويِّ للعصر. وتحقيقُ مُلاقاةِ الأمةِ مع السلطةِ والدولة، هو المنبعُ العَينُ لقضايا عصرِ الحداثة، والتي إذا ما قارنّاها مع القضايا الناجمةِ من الدولِ الديكتاتوريةِ والسلالاتية، سنَجِدُ أنّ القضايا في عصرِ الحداثةِ تنبعُ من أمةِ الدولة، وأنّ هذا الوضعَ يُشَكِّلُ أكبرَ فارقٍ بينهما. سيهانوك ديبو : نحو الحل الديمقراطي للقضية الكردية ؛ معركة بين رُع وآبيب، الموقع: السلطة الرابعة، كاتب المقال: سيهانوك ديبو، التاريخ: 29/08/2016، الرابط: https://goo.gl/JXVxAv

([15]) الأمة الديمقراطية، الموقع: المركز الكردي للدراسات، الكاتب: يوسف الخالدي، التاريخ: 23/06/2016، الرابط: https://goo.gl/tLRtXo

([16]) الإدارة المحلية في مناطق كُرد سورية "عفرين نموذجاً"، الموقع: مركزعمران للدراسات الاستراتيجية، التاريخ: 03/07/2015، الرابط: https://goo.gl/c5MpXp

([17]) ميثاق العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لمقاطعة الجزيرة – سورية تمت المصادقة عليه في الجلسة رقم / 1 / تاريخ: 06/01/2014، المصدر: المجلس التشريعي، الرابط: https://goo.gl/2bgcde

([18]) المجلسان التنفيذيّ والتّشريعيّ يناقشان بيان الموازنة العامّة التقديريّة لعام “2015” ونفقات عام “2014”، المصدر: بوير برس، التاريخ: 17/03/2015، الرابط: https://goo.gl/QLvB7e

([19]) مشروع المنطقة الصناعية في «ديريك»... بين إصرار البلدية ورفض الصناعيين!!، المصدر: وكالة قاسيون، التاريخ: 16/09/2017، الرابط: https://goo.gl/PmYkaD

([20]) إتاوات في مناطق "PYD" تحت اسم "ضرائب"، من قوت المواطنين إلى خزائن الحزب، الموقع: ن س و، التاريخ: 25/072017، الرابط: https://goo.gl/429A2m

([21]) الواقع التعليمي في مناطق "الإدارة الذاتية"، المصدر: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، التاريخ: 15/12/2016، الرابط: https://goo.gl/WRn8YP

([22]) الكونفرانس الخامس لحركة الثقافة والفن بروج آفا، الموقع: وكالة فرات، التاريخ: 25/01/2016، الرابط: https://goo.gl/Kr8U94

التصنيف أوراق بحثية

مُلخّصٌ تنفيذيّ

  • تبدو حملة موسكو والنظام على الغوطة الشرقية مغامرة سياسية وعسكرية، تستند إلى افتراض النظام بأنه الأقوى على الأرض، مستفيداً من فائض القوى الذي ولدته اتفاقات خفض التصعيد، وافتراض روسي مقابل باستمرار الولايات المتحدة في سياساتها المضطربة تجاه الملف السوري واقتصار دورها على شرق الفرات.
  • وقعت موسكو من خلال حملة الغوطة الشرقية في فخ التحول المباشر إلى طرف في الأزمة السورية بدلاً من فاعل دولي مساعد في الحل، وهو الدور الذي لطالما حاولت موسكو الإيحاء به، إضافة إلى تورط حليفها النظام في معركة طويلة الأمد قد تشكل حرب استنزاف لقواه وتعيد للعالم صورة النظام الدموي الذي يقتل شعبه، والتي حاول النظام وحلفاءه إخفاءها خلف ستار "حرب الإرهاب".
  • وضعت موسكو نفسها بين فكي كماشة أمريكية أوروبية تتيح لهم الفرصة للضغط على موسكو وتصفية الحسابات الموزعة على عدة ملفات عالقة بين الطرفين، الأمر الذي يُعَدُّ مؤشراً على أن ملف الغوطة الشرقية قد تجاوز حدودها الجغرافية إلى صراع دولي.
  • إن لحظة الانتهاء من حرب تنظيم الدولة كانت لحظة حاسمة ولها تداعيات كبرى على الملف السوري، أولها: نهاية مسمى "الأزمة" بانحسار أثارها الدولية والإقليمية وعلى رأسها "الإرهاب"، مما يعني عودة مفهوم "الثورة" ببعده الدال على المواجهة بين النظام السوري وشعبه. وثانيها: بأن فراغ الولايات المتحدة وتحالفها الدولي من حرب الإرهاب حمل ضمناً رسالة مفادها؛ نهاية التفويض الأمريكي لموسكو بالتحكم بالملف السوري، واستخدام واشنطن لوجودها العسكري على الأرض السورية باتجاه موازنة القوة مع موسكو وطهران.
  • إن تفاعل المتغيرات المتسارعة على الصعيد الاستراتيجي الأمريكي خصوصاً والناتوي عموماً، لم يكن في حسابات موسكو، والتي لجأت في محاولة لاستدراك آثاره إلى تحرك ورد فعل سريع في الغوطة.
  • في هذا المناخ المتوتر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، يمكن فهم تفرد موسكو الواضح بعملية الغوطة، مقابل حضور إيران الملتبس، بناءً على عاملين: رغبة موسكو باستعراض قوتها منفردة كند لواشنطن وتثبيت مناطق نفوذ خالصة لها دون تواجد إيراني. إضافة إلى سعي موسكو للتخفيف من حضور طهران لتجنب هذا التشنج الإقليمي (الإسرائيلي-الخليجي) والدولي اتجاه إيران وسلوكها في المنطقة، والاحتمالات المتزايدة للتحرك العسكري ضدها.
  • تشكل الغوطة الشرقية اليوم-بعد دير الزور-إحدى المحطات التي ستتوضح فيها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية، ومقياساً لمدى جدية الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا والخليج العربي في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في سورية، والوصول إلى حل سياسي للأزمة يرسم مستقبل سورية بدون الأسد.

مدخل

بدأ النظام السوري مدعوماً بغطاء جوي ودبلوماسي روسي في 18 شباط/ فبراير حملة قصف جنونية طالت مدن وبلدات الغوطة الشرقية؛ استهدفت بنيتها التحتية وتسببت بمقتل المئات من المدنيين، تبعتها محاولات للتقدم البري تكبد فيها النظام خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. أثارت تلك الحملة ردود أفعالٍ دولية معارضة وحراكاً دبلوماسياً نشطاً لوقفها، تصدرته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد، وأفضى إلى استصدار القرار الدولي رقم: (2401)، والقاضي بوقف الأعمال العسكرية لمدة شهر وإدخال المساعدات الإنسانية، ولكن النظام وحليفه الروسي لم يلتزما بالهدنة وطرحا بديلاً يقوم على فتح معبر إنساني لخروج المدنيين، بيد أن أهالي الغوطة لم يستجيبوا لتلك الدعوات ورفضوا الخروج حتى الآن.

 وعلى الرغم من الحراك الدبلوماسي النشط أوروبياً وأمريكياً، والحراك الروسي المضاد في أروقة مجلس الأمن؛ إلا أن المشهد يكاد يخلو من أي دور إقليمي فعال دبلوماسياً، سواء على الصعيد الخليجي التركي، أو على المقلب الآخر حيث لا يلحظ أيضاً ثقل إيراني دبلوماسي وعسكري فعّال وواضح على الأرض، الأمر الذي يشير إلى أن الغوطة أصبحت ساحة للصراع الدولي؛ بين أمريكا وأوروبا من طرف وروسيا من طرف آخر، بشكل يجعل الفاتورة البشرية للضحايا مرشحة للارتفاع في الأيام القادمة، ويبقي مآل الغوطة ملتبساً وخاضعاً لعدة احتمالات تبعاً لقدرة أهالي الغوطة وفصائلها على الصمود أولاً، ومدى جدية المجتمع الدولي وقدرته على فرض وقف إطلاق النار وإجبار موسكو والنظام على الالتزام بالهدنة، حيث تشكل الغوطة اليوم اختباراً للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية وقدرتها على تحجيم الدور الروسي بشكل يعيد بثّ الحياة في مسار جنيف المعطل، ويعيد ضبط بوصلة الحل السياسي باتجاه بعيد عن الطموحات الروسية للتفرد به. وعليه تسعى هذه الورقة إلى رسم ملامح المشهد الدوليّ الجديد لفهم وتفكيك ما يجري اليوم في الغوطة الشرقيّة بشكلٍ خاص، واستشراف مآلات الحملة العسكرية عليها وأثرها على مسار الحل السياسي في ظل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه سورية. مقابل قراءة تحليلية على مستوى الملف السوري برُمّته، والذي دخل مرحلة جديدة وحساسة تشكل الغوطة الشرقيّة بوابتها، ويمكن تسميتها "مرحلة ما بعد الإرهاب".

أولاً: النظام وموسكو (المغامرة)

لا تبدو الحملة العسكرية التي يقودها النظام وروسيا على الغوطة الشرقية عملية مدروسة الأبعاد والعواقب، سواء على المستوى العسكري ومقاربة موسكو لسيناريوهات مناطق سورية أخضعتها سابقاً(حلب)، أو على المستوى الدبلوماسي الذي تمثل بفشل محاولات تبرير العملية وخلق غطاءٍ دوليّ لها. لذلك يمكن القول إن ما تقوم به قوات النظام وموسكو في الغوطة مغامرة سياسية وعسكرية، تستند إلى افتراض النظام بأنه الأقوى على الأرض بعد التقدم الذي أحرزه في إدلب ودير الزور، مستفيداً من فائض القوى الذي ولدته اتفاقات خفض التصعيد، وافتراض روسي مقابل باستمرار الولايات المتحدة في سياساتها المضطربة تجاه الملف السوري واقتصار دورها على شرق الفرات، الأمر الذي يمنح موسكو المساحة الأكبر في ترتيب الأوضاع على الأرض بما يتناسب مع مصالحها ورؤيتها للحل السياسي. ويمكن الاستدلال على عامل المغامرة في هذه العملية من خلال مجموعة نقاط:

1.   غياب الذريعة

تجلت ذريعة النظام وموسكو المعلنة للهجوم على الغوطة بوجود عناصر إرهابية تتبع هيئة "تحرير الشام" في بعض مناطق الغوطة، ولكن إعلان فصائل الغوطة استعدادها لإخراج هذه العناصر أحرج موسكو، والتي عطّلت بدورها التفاوض حول خروج هؤلاء العناصر؛ لتتحول الذريعة إلى استهداف المدنيين في العاصمة دمشق بالقذائف من قبل فصائل المعارضة، وهو الأمر الذي يشير إلى مأزق موسكو في تغطية عملها العسكري وتقديم مبررات مقبولة لدى المجتمع الدولي لاستمرار حملتها على الغوطة وما ينتج عنها من مجازر يومية، خاصة وأن حجة "الإرهاب" لا تجدي نفعاً في حالة الغوطة، والتي تعترف موسكو بفصيليها الأقوى (جيش الإسلام- فيلق الرحمن)، حيث وقّعت معهما تتابعاً اتفاقاً اعتبرت بموجبه الغوطة منطقة خفض تصعيد. ولعل غياب الذريعة هو ما شكّل عاملاً مساهماً في تقوية المواقف الأمريكية الأوروبية ضمن مجلس الأمن، ودفع الدبلوماسية الروسية لتجنب المزيد من العزل الدولي في أروقة الأمم المتحدة، عبر عدم استخدام الفيتو في وجه القرار (2401)، مقابل تمريره بعد الالتفاف عليه وإفراغه من مضمونه وعدم الالتزام بتطبيقه.

2.   المقاربة الخاطئة

مقابل غياب الذرائع، فإن إشارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ومندوب النظام في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، لإمكانية تطبيق سيناريو حلب في الغوطة الشرقية؛ يبدو مقاربة خاطئة وغير مدروسة، وذلك وفقاً لعدة عوامل تصب في صالح الغوطة لناحية عدم إمكانية سحب سيناريو حلب عليها، ولعل أبرز تلك العوامل:

  • المساحة والجغرافية: حيث تمتد الغوطة الشرقية على مساحة 110 كم2، في حين اقتصرت مساحة الأحياء الشرقية لحلب في السيناريو الشهير على 3كم2، بالإضافة إلى أن جغرافية الغوطة تتشكل من مدن وبلدات متفرقة ومترامية ومساحات مفتوحة من الأراضي الزراعية بشكل يضطر النظام إلى خوض نوعين من المعارك، وهي حرب المدن والحرب النظامية في المساحات المفتوحة، الأمر الذي قد يزيد من خسائر قواته ويجعل الغوطة منطقة أكثر صعوبة من معارك أحياء حلب الشرقية، وهذا ما تدل عليه خسائر النظام الكبيرة في حملاته الثمان السابقة على الغوطة منذ العام 2012([1]).
  • السكان: يعيش في الغوطة الشرقة الآن ما يقارب 400 ألف نسمة من المدنيين المحاصرين منذ العام 2013، بشكل جعلهم يطورون بدائل محلية مستندة إلى خبرتهم كمزارعين، الأمر الذي يجعل الحصار أخف وطأة عليهم من حلب الشرقية، وإمكانية إفراغ الغوطة من سكانها على غرار حلب أمراً صعباً، حيث لا توجد اليوم منطقة سورية تحتمل هذه الكتلة البشرية في حال هُجّرت.
  • المقاتلون: لا يزيد عدد المقاتلين في الغوطة الشرقية كثيراً عن نظرائهم في حلب الشرقية، حيث تتراوح التقديرات بين 8000- 10000 آلاف مقاتل، ولكن الفارق في أن المقاتلين في الغوطة هم أبناء المنطقة بكتلتهم الكبرى، مما يزيد في تعزيز عامل الدفاع عن أرضهم وعوائلهم، إضافة إلى أن تنظيمهم وتسليحهم وخبراتهم القتالية تعد أفضل مما كانت عليه فصائل حلب، فالفصائل الثلاثة الكبرى في الغوطة (جيش الإسلام، فيلق الرحمن، أحرار الشام) أظهرت مرونة تفاوضية منذ بداية الحملة العسكرية وتنسيقاً عالياً في صد الهجوم البري، حيث دخلت في غرفة عمليات مشتركة متجاوزة خلافاتها السابقة([2])، ناهيك عن اعتمادها على الإنتاج الذاتي للأسلحة والذخائر التي تحتاجها، مما يمنحها القدرة على المقاومة طويلة الأمد، والأهم من ذلك هو صعوبة إخراج هذا العدد من المقاتلين المدربين والمنظمين إلى أي من جبهات المعارضة الأخرى، إذ سيؤدي ذلك إلى اختلال في موازين القوى مع النظام في تلك الجبهات المحكوم أغلبها باتفاقات أمنية إقليمية ودولية، بالإضافة إلى اختلال توازن القوى القائم بين الفصائل المهيمنة على الجبهات بشكل قد يدفعها إلى رفض استقبال كتلة عسكرية كهذه، يصعب السيطرة عليها و تطويعها ضمن فصائل أخرى.
  • الفاعلية الإقليمية: تعتبر الغوطة جغرافية داخلية غير حدودية مع أيّ دولة، الأمر الذي يعدُّ عاملاً هاماً يمنح فصائلها مساحة أكبر نسبياً في التحرك الدبلوماسي والمواجهة العسكرية بعيداً عن التأثير الإقليمي المباشر، والذي كان عاملاً حاسماً في سقوط أحياء حلب الشرقية. فبالرغم من وجود داعمين إقليميين لفصائل الغوطة؛ إلا أن النشاط الدبلوماسي والسياسي منذ بدء مسار أستانة يُظهر بوضوح المساحة الأوسع نسبيّاً من القرار الذاتي التي تتمتع بها قيادتا جيش الإسلام وفيلق الرحمن بعيداً عن الهيمنة الإقليمية المباشرة، والخاضعة لها غالبية الفصائل في الجبهات الشمالية والجنوبية.

3.   رد الفعل الدولي

يبدو أن اختيار موسكو لتوقيت العملية العسكرية ضد الغوطة الشرقية؛ عبّر بشكلٍ أو بآخر عن سوء تقدير من قبلها لجدية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بخصوص سورية، والتي أعلن خطوطها العامة وزير الخارجية الأمريكية، ريكس تيلرسون، قبل شهر تقريباً من بداية الحملة على الغوطة، والتي تعتمد على تطويق النفوذ الإيراني وبناء مستقبل سوري من دون الأسد، ما يعني استهداف حلفاء موسكو بشكل يقوض من فاعلية الدور الروسي في سورية، وذلك عبر عودة الثقل الأمريكي الأوروبي الذي كان منشغلاً في فترة حرب تنظيم الدولة "داعش"، لذلك أسفرت الحملة العسكرية على الغوطة عن ردود أفعال أمريكية أوروبية معارضة وغير مسبوقة، تراوحت بين الضغط الدبلوماسي عبر مجلس الأمن و التواصل المباشر مع موسكو وصولاً إلى التلويح بالقوة العسكرية في حال تم استخدام السلاح الكيماوي، الأمر الذي يمكن أن يُفسّر كإثبات لجدية واشنطن وأوروبا في العودة بقوة للانخراط في الملف السوري وعدم السماح لموسكو بالتفرد في المناطق السورية الواحدة تلو الأخرى في إطار سعيها لفرض رؤيتها الخاصة في الحل السياسي.

ويشير واقع الحراك الدولي -الأمريكي الأوربي- تجاه الحملة الروسية على الغوطة، وما تبعه من حملة إعلامية دولية وحراك مدني سوري في مختلف عواصم العالم؛ بأن موسكو ونتيجة لمغامرتها غير المحسوبة قد وقعت في فخ التحول المباشر إلى طرف في الأزمة السورية بدلاً من فاعل دولي مساعد في الحل، وهو الدور الذي لطالما حاولت موسكو الإيحاء به، إضافة إلى تورط حليفها النظام في معركة طويلة الأمد قد تشكل حرب استنزاف لقواه وتعيد للعالم صورة النظام الدموي الذي يقتل شعبه، والتي حاول النظام وحلفاءه إخفاءها خلف ستار "حرب الإرهاب". وبذلك تكون موسكو لم تنجح في تحقيق نصر سريع يُستخدم في استكمال صورة المنتصر التي يريدها الرئيس، فلاديمير بوتين، قبيل الانتخابات الروسية في الثامن عشر من الشهر الجاري، بل ووضعت نفسها بين فكي كماشة أمريكية أوروبية تتيح لهم الفرصة للضغط على موسكو وتصفية الحسابات الموزّعة على عدة ملفات عالقة بين الطرفين، الأمر الذي يُعَدُّ مؤشراً على أن ملف الغوطة الشرقية قد تجاوز حدودها الجغرافية إلى صراع دولي.

ثانياً: المشهد السوري الجديد (ما بعد الإرهاب)

يبدو أن نشوة "الانتصارات" التي حققها تدخل موسكو العسكري في سورية قد غيّبت عن العقل الاستراتيجي الروسي حقيقة مفادها أنَّ؛ لحظة الانتهاء من حرب تنظيم الدولة كانت لحظةً حاسمةً ولها تداعيات كبرى على الملف السوري، أولها: نهاية مسمى "الأزمة" بانحسار أثارها الدولية والإقليمية وعلى رأسها "الإرهاب"، مما يعني عودة مفهوم "الثورة" ببعده الدال على المواجهة بين النظام السوري وشعبه.  وثانيها: بأن فراغ الولايات المتحدة وتحالفها الدولي من حرب الإرهاب حملَ ضمناً رسالةً مفادها؛ نهاية التفويض الأمريكي لموسكو بالتحكم بالملف السوري، واستخدام واشنطن لوجودها العسكري على الأرض السورية باتجاه موازنة القوة مع موسكو وطهران، وهو ما بدأت تظهر مؤشراته بوضوح مع مطلع العام 2018، والتي تمثلت في إعلان استراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة المتمحورة حول احتمال المواجهة مع روسيا والصين([3])، ووضحت أكثر ضمن خطاب وزير الخارجية الأمريكية، ريكس تيلرسون، في جامعة ستانفورد، والذي استعرض فيه الرؤية الأمريكية في سورية ما بعد "داعش"، حيث أكد على نية واشنطن الاحتفاظ بوجودها العسكري في سورية لمواجهة بقايا تنظيم الدولة والنفوذ الإيراني، وعدم تكرار خطأ العراق بالانسحاب، إضافة إلى استبعاد وجود الأسد في مستقبل سورية ودعوة موسكو للتعاون لإعادة الهدوء لمناطق خفض التصعيد([4]).

 بالمقابل شهد شهر شباط/ فبراير تصعيداً عسكرياً أمريكياً روسياً، من جهة، في دير الزور وتمثل في الضربة الأمريكية لمليشيات النظام ومرتزقة روس حاولوا تجاوز الخط الأحمر الأمريكي للعبور إلى شرق الفرات. إضافة إلى تصعيد إيراني إسرائيلي، من جهة أخرى، تمثل في إسقاط الطائرة الإسرائيلية في سورية، ثم تمت ترجمة التوتر العسكري في سورية بشكل تصعيد كلامي في "مؤتمر ميونخ" للأمن، حيث هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتحرك العسكري ضد طهران إذا لزم الأمر([5])، كما كشفت الخُطب في ذات المؤتمر عن مدى تعقد المشكلات العالقة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، بدءاً من شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي في شرق أوكرانيا، إلى تورطها بالانتخابات في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبية، مروراً بدعمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وصولاً إلى امتناعها عن الالتزام بمعاهدات خفض التسلّح، وحشدها مزيداً من القوات في شمال غربي روسيا وجيب كاليننغراد، ما يشكّل تهديداً لأمن دول البلطيق والبلدان الإسكندنافية([6]).

ويبدو أن تفاعل تلك المتغيرات المتسارعة على الصعيد الاستراتيجي الأمريكي خصوصاً والناتوي عموماً، لم يكن في حسابات موسكو، والتي لجأت في محاولة لاستدراك آثاره إلى تحرك ورد فعل سريع في الغوطة الشرقية يحقق لها عدة أهداف في هذا الإطار، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال عدة مؤشرات:

  1. "شيطنة الغوطة": والذي تجلى في المناخ السائد في موسكو بين أوساط خبراء سياسة الشرق الأوسط ومراكز الدراسات المقربة من دوائر صنع القرار قبيل بدء الحملة على الغوطة، واعتبارها "نقطة تواجد أمريكية من حيث التسليح ودعم الفصائل"، وأن أولوية روسيا الاتحادية يجب أن تكون إخراج الأمريكان من محيط دمشق، حيث أنتج هذا المناخ عملية إعلامية ضخمة لشيطنة الغوطة لدى النخبة الروسية والرأي العام كمقدمة لتبرير التدخل العسكري للسيطرة عليها([7]).
  2. عملية انتقامية: يمكن القول بأن موسكو تستثمر العملية العسكرية في الغوطة للرد على الضربة الأمريكية في دير الزور، والتي أودت بحياة 200 من المرتزقة الروس في خسارة تعادل خمسة أضعاف خسائر موسكو منذ تدخلها في سورية 2015، وبالرغم من الإنكار في البداية ومن ثم الصمت عن الحادثة الذي انتهجته موسكو؛ إلا أن محللين روس اعتبروا الحادثة " أول اشتباك بين القوتين منذ حرب فيتنام، وأنها فضيحة كبرى وسبب لأزمة دولية حادة، ولكن روسيا ستتظاهر وكأن شيئاً لم يحدث"([8]).
  3. تسويق السلاح: إن فتح جبهة جديدة في سورية يتيح لموسكو فرصة لتسويق أسلحتها الجديدة، وهو نهج اعتمدته روسيا منذ بداية تدخلها العسكري في سورية، حيث جرّبت حوالي 200 نوع سلاح جديد([9])، إذ تحتاج موسكو حملة تسويقية جديدة في سورية لأسلحتها بعد فضيحة فشل منظومة S400 في حماية قاعدة حميميم من هجوم بالقذائف أدى إلى تدمير سبع طائرات في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2017([10])، وسقوط إحدى طائراتها في إدلب ومقتل الطيار مطلع شباط/ فبراير الفائت، الأمر الذي دفع موسكو لاستخدام طائراتها الأحدث من الجيل الخامس "الشبح" في الغوطة بالرغم من أنها لم تنهي اختباراتها بعد([11])، هذا الاستخدام الذي تبعته تصريحات الرئيس الروسي حول تطوير صواريخ بالستية جديدة تحمل رؤوس نووية قادرة اختراق أنظمة الدفاع الجوي الأمريكي، في إعلان عن سباق تسلح جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية ([12]).

وفي هذا المناخ المتوتر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أيضاً فهم تفرّد موسكو بعملية الغوطة الشرقية، وتجنبها لحضورٍ إيرانيٍ واضح وفعَال بناءً على عاملين:

  • رغبة موسكو باستعراض قوتها منفردة كند لواشنطن وتثبيت مناطق نفوذ خالصة لها دون تواجد إيراني.
  • تجنب هذا التشنج الإقليمي (الإسرائيلي-الخليجي) والدولي اتجاه إيران وسلوكها في المنطقة، والاحتمالات المتزايدة للتحرك العسكري ضدها.

كما يمكن من خلال العلاقة مع روسيا تفسير مواقف الدول الأوروبية المتصدرة للحراك الدبلوماسي في مجلس الأمن ضد عملية موسكو في الغوطة الشرقية، فبالإضافة إلى الملفات المعلقة بين الناتو وروسيا، تشتعل حرب إعلامية بين موسكو وبريطانيا حول دعم الأخيرة للدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، والذي تعتبره موسكو منظمة "إرهابية"، وتدير في هذا الإطار حملة إعلامية دولية كشفت تفاصيلها صحيفة الغارديان البريطانية([13])، بشكل جعل الطرفان في مواجهة إعلامية ودبلوماسية حول سلوكهما في سورية. كما يزيد من الحراك الألماني تجاه ما يحدث في الغوطة، إضافة إلى مشاكلها الناتوية مع موسكو، شعورها بالحرج الأخلاقي إزاء ملف استخدام الكيماوي في الغوطة، خاصة بعد ما نشرته صحيفة "ديرشبيغل" الألمانية حول تورط شركات ألمانية في تصدير أجزاء من الصواريخ التي ضُربت بها الغوطة في العام 2013([14]). أما السويد فتجد في الهجوم على الغوطة فرصة لإدانة موسكو، والتي أدى التوتر بينهما نتيجة النشاط الروسي في البلطيق إلى احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية نهاية العام 2016([15])، في حين تلتزم فرنسا وإدارة ماكرون بالخط الأحمر الذي وضعته الإدارة السابقة فيما يخص استخدام القوة في حال حدوث هجوم كيماوي في سورية. أما المواقف العربية الخجولة والمقتصرة على تصريحات بخصوص الوضع الإنساني، فيمكن فهمها في إطار الانشغال بالنفوذ الإيراني في سورية، والحشد الدولي لمواجهته، وعليه تفضل الدول العربية وعلى رأسها الخليجية عدم المواجهة مع موسكو، خاصةً في ظل استمرار الأزمة الخليجية، ولذلك يمكن اعتبار المبادرة المصرية مجرد محاولة لذر الرماد في العيون وإخلاء المسؤولية بوصف مصر أحد الضامنين لاتفاق خفض التصعيد في الغوطة.

ثالثاً: نتائج وخلاصات

من خلال استعراض طبيعة الحملة العسكرية التي تقودها موسكو والنظام السوري على الغوطة الشرقية وتحليل المناخ الدولي والإقليمي المحيط بها، مقابل استعراض نقاط القوة الداخلية للغوطة، يمكن التوصل إلى النتائج التالية:

  1. خيار روسي: يبدو أن قرار الهجوم الحالي على الغوطة الشرقية لم يكن للنظام السوري بقدر ما كان خياراً روسياً يستهدف واشنطن من خلال مناطق المعارضة التي تعتبرها موسكو "موالية لأمريكا"، ولعل اختيار رجل موسكو في جيش النظام، سهيل الحسن، لقيادة العملية يفهم في سياق التأكيد على أن العملية تخدم مصالح موسكو أكثر من النظام السوري.
  2. تدويل الصراع: إن تحول ملف الغوطة الشرقية إلى ساحة صراع دولية بين موسكو من جهة وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى؛ قد يزيد من أمد الحملة، خصوصاً مع ما تظهره فصائل الغوطة وأهلها من صمود ورفض لخيار الخروج حتى الآن.
  3. معركة طويلة الأمد: ترتكز استراتيجية موسكو والنظام في محاولتهما التقدم برياً من الجبهات الشرقية للغوطة (حوش الظواهرة، الشيفونية، وغيرها) وهي مساحات زراعية مفتوحة، على تجنب حرب المدن في المحاور الأخرى وتخفيف خسائرها، إضافة إلى محاولات السعي لفصل شمال الغوطة عن جنوبها عسكرياً كمرحلة أولى في تقسيمها إلى جيوب، بشكل يُسهَل من السيطرة عليها لاحقاً، الهدف الذي لا يبدو سهلاً ويشير بنفس الوقت إلى نية موسكو خوض معركة طويلة الأمد بهدف إخلاء الغوطة.
  4. موازنة الحل السياسي: يبدو أن الحراك الدولي المناهض لعملية الغوطة والهادف لإيقاف القصف عنها ومنع سقوطها، مستمر بوتيرة متصاعدة وأكثر جدية من سابقتها ويدفع باتجاه خيارات مفتوحة لأمريكا وأوروبا بشكل قد يتجاوز مجلس الأمن، خاصة وأن الغوطة الشرقية تمثل الورقة الأكثر تأثيراً في موازنة الحل السياسي بعيداً عن طموحات موسكو والنظام في الحسم العسكري. الخيارات التي سترتبط بشكل مباشر في مدى تصعيد النظام وموسكو في الغوطة الشرقية واحتمالية استخدام الأسلحة المحضورة دولياً أو الاستمرار في عدم الالتزام بقرار مجلس الأمن.
  5. احتمالان: في ظل ما تقدم من نتائج يصبح احتمال سقوط الغوطة عسكرياً وإخلاءها من سكانها ضعيفاً في المدى القريب، وممكناً في حال استمرار الحصار ووتيرة القصف العالية لمدة طويلة، مما يعني قدرة موسكو على تحقيق انتصار دبلوماسي على أمريكا وأوروبا، وهذا ما يبدو أن الأخيرة لن تسمح به، أما الاحتمال الأكثر ترجيحاً يتمثل بنجاح المساعي الدبلوماسية مع موسكو في التوصل إلى تهدئة وتثبيت لاتفاق خفض التصعيد، مقابل تنازل المعارضة السورية عن بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها في محيط العاصمة، والتي تبعد خطر قذائفها عن دمشق "تبعاً للذريعة الروسية"، وتحفظ لموسكو ماء وجهها، كما أن هذا الاحتمال قد يكون مغرياً لموسكو والنظام لضم المناطق المحيطة بالعاصمة (جوبر، حرستا، وأجزاء أخرى) إلى مشروعها لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرتها، حيث تعتبر تلك المناطق ضواحي سكنية لمدينة دمشق .
  6. مسار أستانة: من المستبعد أن تؤثر الغوطة أياً كان الاحتمال الذي ينتظرها على مسار أستانة لناحية مناطق خفض التصعيد التي أنتجها، فحتى الآن تُظهر الأطراف الفاعلة في الملف السوري (دولية وإقليمية) رغبة في الحفاظ على هذا المسار، وخصوصاً في الجنوب، حيث يوجد الأردن والولايات المتحدة الأمريكية كشركاء في التفاهم الذي أفضى إلى ضمه إلى مناطق خفض التصعيد، على عكس الغوطة التي تفتقد الظهير الإقليمي الحدودي، أما الشمال السوري فالتفاهمات بخصوصه قد أُنجزت بين تركيا وروسيا من جهة ومع الولايات المتحدة من جهة أخرى، كما أن التحسن الملحوظ في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة بعد زيارة تيلرسون الأخيرة والتقدم الذي تحرزه تركيا في معارك عفرين، قد يمنح تركيا مساحة أكبر لمناورة موسكو في الشمال وتحجيم تطلعاتها وإيران للاستحواذ على مزيد من الأراضي، في حين تعتبر المنطقة الرابعة من مناطق خفض التصعيد (ريف حمص الشمالي) هي الأنجح والأكثر هدوءاً حتى الآن وغير مرشحة للانفجار مستقبلاً.
  7. صراع جديد: تعتبر نتائج الحملة على الغوطة سياسية أكثر منها عسكرية، ففي حال تمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيين من الحؤول دون سقوط الغوطة ومنع موسكو من تأمين محيط العاصمة، فهذا سيعني تقليم أظافر موسكو عسكرياً وسياسياً في سورية، وإحداث توازن قوى بخصوص شكل الحل السياسي وعقبة بقاء الأسد، أما في حال تمكن موسكو من إسقاط الغوطة فهذا سيعني توسيع مساحة سيطرتها ونفوذها وتثبيتها في مواجهة مناطق السيطرة الأمريكية في شمال شرق سورية، الأمر الذي سيحوّل سورية إلى ساحة لحرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن تطيل من أمد الصراع وتعقّد الملف السوري بشكلٍ أكبر.

رابعاً: التوصيات

تشكل الغوطة اليوم بعد دير الزور إحدى المحطات التي ستتوضح فيها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية، ومقياساً لمدى جدية الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا والخليج العربي في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في سورية، والوصول إلى حل سياسي للأزمة يرسم مستقبل سورية بدون الأسد، وعليه فإن الظرف الحالي يعتبر دقيقاً جداً، ويفرض على المعارضة السورية العسكرية والسياسية تجاوز أخطائها السابقة وإعادة هيكلة نفسها استعداداً لاستثمار المرحلة القادمة، والتي ستكون الغوطة بوابة الدخول لها، وعليه يمكن الإشارة إلى بعض التوصيات الهامة:

1.   على مستوى الغوطة

  • تعزيز عوامل الصمود: إن حالة الصمود التي تعيشها الغوطة اليوم هي حاصل تظافر جهود المدنيين ومنظمات المجتمع المدني والفصائل العسكرية، واستمرار هذا الصمود ريثما تؤتي جهود المجتمع الدولي أكلها في وقف المجزرة الجارية يبقى رهناً بالحفاظ على هذا التنسيق العسكري مع القوى المدنية، وقدرة الفصائل على تجاوز خلافاتها السابقة.
  • سد الذرائع: ويتمثل بسحب ذريعة وجود عناصر هيئة فتح الشام في الغوطة من يد روسيا، وذلك يمكن أن يكون عبر التفاوض مع مقاتلي الهيئة لحل التشكيل نفسه في الغوطة وتسليم سلاحه إلى فصائل الغوطة في حال تعذر إخراجهم إلى الشمال الذي يشهد معركة لاجتثاث الهيئة، أو استخدام القوة في حال فشل الحلول التفاوضية واعتقال عناصر الهيئة.
  • التنسيق السياسي: توسيع التنسيق العسكري بين فصائل الغوطة (جيش الإسلام، فيلق الرحمن، أحرار الشام) إلى تنسيق سياسي استعداداً لأي عملية تفاوضية مع الروس، وعدم إعطاء الفرصة لموسكو بإحداث اختراق سياسي بين الفصائل تكسب منه ما عجزت عنه عسكرياً.
  • شركاء الصمود: فسح المجال أمام (شركاء الصمود) الفعاليات المدنية والمجالس المحلّية في الغوطة سياسياً بشكل فعّال، وعدم احتكار الفصائل للقرار، واعتماد هذا الأسلوب كنهج مستقبلي يؤسس لإدارة مدنية حقيقية في الغوطة كنموذج لباقي المناطق المحررة.
  • ضامنون جدد: محاولة تعديل اتفاق خفض التصعيد في ظل احتمال حدوث أي تفاوض مع روسيا، وطرح إدخال ضامنين جدد أو استبدال مصر كضامن بدولة أُخرى أكثر فاعلية وقدرة على حفظ الهدنة تكون من الدول الداعمة للمعارضة، ومن الممكن اقتراح الولايات المتحدة الأمريكية أو إحدى الدول الأوروبية المشاركة بقوات التحالف الدولي المتواجدة على الأرض السورية، وقد يلقى هذا المقترح دعماً أمريكياً في ظل استراتيجيتها الجديدة في سورية.
  • الضغط الدبلوماسي: تكثيف الحراك السياسي الذي تمارسه المعارضة السورية للضغط على الدول الحليفة لها، بخاصة الخليجية للقيام بدور دبلوماسي أكثر فاعلية لوقف المجزرة الجارية في الغوطة.
  • الفاعلية الإعلامية: وتتمثل بدعم الجهد الذي يقوم به الناشطون السوريون في مدن العالم كالاعتصامات والمظاهرات أمام السفارات الروسية، وعدم الاستهانة بهذا الدور وأهميته في لفت النظر إلى ما يجري في الغوطة واستمرار التغطية الإعلامية لأخبارها في وسائل الإعلام الدولية.

2.   على مستوى الملف السوري

  • لحم المسارين: الاعتراف بأن ما يجري في الغوطة الشرقية اليوم ومن قبلها استحواذ النظام على البادية السورية وأجزاء من دير الزور وإدلب؛ هو حاصل ونتيجة مباشرة لمسار أستانة، والذي أتاح للنظام فائض قوة يوجهه باتجاه المناطق المحررة، وتجزئة الجبهات وفصلها عن بعضها، وفك الارتباط بين المسار السياسي والعسكري للمعارضة السورية، لذلك أولى خطوات استثمار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية؛ هي إعادة توحيد المسار العسكري على مستوى المعارضة بشكل كتلة واحدة وليس جبهات منفصلة، والتنسيق على المستوى التفاوضي مع المسار السياسي، وعدم الفصل بينهما كما حدث في أستانة.
  • استثمار الهوامش: إن وجود استراتيجية أمريكية جديدة في سورية، ووجود عسكري أمريكي طويل الأمد لا يجب أن يفهم على أنه نهاية الدور الروسي، وإنما هو توازن للقوى، ومقدمة لصراع دولي مباشر بعد نهاية تنظيم الدولة يُضاف إلى الصراع الإقليمي القائم، وقد يساهم في تعقيد الملف السوري أكثر؛ لذا لابد للمعارضة السورية تجنب الانخراط المباشر في لعبة المحاور، فالمرحلة القادمة بحاجة لاستراتيجية مرنة تقوم على استثمار الهوامش التي قد يخلقها صراع المحاور، وتوظيفها في خدمة مصالح وأهداف الثورة السورية.

خامساً: ملاحق الورقة

الملحق رقم (1):

جدول زمني لحملات النظام السابقة على الغوطة الشرقية

 

المصدر: وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية

الملحق رقم (2):

قوات النظام المشاركة في الحملة الحالية على الغوطة، ومحاور تقدمها

 

المصدر: وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية


([1]) للاطلاع على خسائر النظام في حملاته السابقة على الغوطة الشرقية منذ العام 2012، راجع الجدول رقم (1) في الملحق.

([2]) وحدة الرصد المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية.

([3]) استراتيجية دفاع أمريكية جديدة تشير إلى تحول في الأولويات، موقع "عربي 21"، 19/1/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/pRJLy6

([4]) تيلرسون: باقون عسكرياً في سورية لمنع عودة داعش، موقع "العربية نت"، 17/1/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/Y3DkW3

([5]) نتنياهو في مؤتمر ميونيخ: سنتحرك ضد إيران إذا لزم الأمر، موقع" DW الألماني"، 18/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/QkH2qt

([6]) روسيا ترفض «تطويقها» بالبنى العسكرية لـ«الأطلسي»، موقع "جريدة الحياة"، 19/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/7M7kVT

([7]) وحدة الرصد والمعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية.

([8]) غارات أميركية تقتل 200 من المرتزقة الروس في سورية، موقع "نيوز سنتر"، 14/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/TDnds6

([9])  موسكو جرّبت 200 نوع من الأسلحة في قتل السوريين، موقع "أورينت نيوز"، 23/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/cjz9EG

([10]) "كوميرسانت": تدمير سبع طائرات روسية بمطار حميميم في سورية جراء قصف بالهاون، موقع صحيفة "العربي الجديد"، 4/1/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/JEjKJR

([11]) هآرتس: لهذه الأسباب بدأت روسيا باستخدام طائرة "الشبح" في سورية، موقع "أورينت نيوز"، 26/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/7FydSG

([12]) بوتين يعرض أسلحة جديدة لا مثيل لها في العالم، موقع وكالة "سبوتنيك العربي"، 1/3/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/iutkRS

([13]) The Guardian website,18/12/2017, available on: ,How Syria's White Helmets became victims of an online propaganda machine

https://goo.gl/S2uLgf

([14]) "دير شبيغل" تكشف عن تورط شركات ألمانية بهجمات الكلور في سورية، موقع "أورينت نيوز"، 6/2/2018، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/bcAkmf

([15]) السويد تستعد لحرب مع روسيا!، موقع "روسيا اليوم"، 16/12/2016، متوافر على الرابط الآتي: https://goo.gl/BFr4WL

التصنيف أوراق بحثية

مدخل

شكلت مواقف دول الخليج حالات داعمة للقوى المجتمعية الثورية السورية، حيث تولت منذ البداية طرح العديد من المخارج للأزمة السورية، وشكلت مبادراتها الدينامية الأساسية والمحركة لمبادرة الجامعة العربية الأولى إلا أن استمرار رفض النظام أدى إلى تطور الموقف الخليجي والمطالبة بتنحي رئيس النظام السوري لصالحه نائبه (المبادرة العربية الثانية)، ومن ثم رفض الحوار معه ليفضي إلى تعزيز تقديم الدعم السياسي والمعنوي للمعارضة السورية في المجتمع الإقليمي والدولي، وبلغ هذا الموقف ذروته في تلك المرحلة عندما سحبت دول الخليج سفرائها من دمشق وطردت نظرائهم السوريين من أراضيها. أما في المرحلة المسلحة فقد اتبعت كل من قطر والسعودية والإمارات سياسات تمكين المعارضة ومدها بالدعم اللوجستي بدايةً ثم دعوة المجتمع الدولي ومطالبته بتسليح الجيش السوري الحر والاعتراف بمؤسسات المعارضة الرسمية وهيئاتها، إلا أن التطورات السياسية والأمنية ساهمت في عرقلة الحركة والتأثير الخليجي، سواء تلك التطورات  الناجمة عن التدخل الروسي وما فرضه من معادلات سياسية وعسكرية جديدة، أو تلك المتعلقة بالأزمة الخليجية والتحولات المحلياتية أو تلك المرتبطة "بالتخبط" الامريكي في المنطقة وما تفرزه من تمكين للمشروع الإيراني.

تناقش هذه الورقة -متكئة على أدوات التحليل الاستراتيجي-مسببات تلك العرقلة وأثرها على العلاقة الخليجية السورية وانحسار خيارات ومساحات التأثير، موضحة طبيعة المشهد السوري بعد هذه التطورات وموجبات عودة التلازم الوظيفية مع المسارات السورية الوطنية لتحقيق الاتساق العضوي لتفريغ المشروع الإيراني المتمدد، وتستكشف هذه الورقة ميادين هذا التلازم وحزم الإجراءات الضامنة لعودة الفاعلية في الحقل السياسي والأمني والتنموي.

عوائق التفاعل الخليجي مع تطورات القضية السورية

دفعت التطورات الإقليمية والتعقيدات المحلية التي تعتري الجغرافية السورية منذ التدخل الروسي إلى ظهور عوائق مختلفة الحجم أمام القوى الإقليمية الفاعلة في الشأن السوري، مما أفرز تحولاً في مسار الحركية الإقليمية وفقاً لتغلب "المنطق الجيوأمني" على مداخل الحل والانفراج السوري وبحكم أولوية "عدم التعارض مع موسكو" التي باتت فاعلاً رئيسياً في هذه الجغرافية، ودول الخليج العربي من بين تلك القوى الإقليمية، فبالنظر لأهم تلك التطورات، فإنه يمكن حصرها بعدة دوائر "متعارضة"، فرضت على دول الخليج تغييرات  واضحة أفرزت إعادة تقييم للسلوك والأداء الخليجي، وأهم هذه الدوائر وهي:

  • الدائرة الأمريكية: إذ عزز بدايةً سلوك وأداء الفاعل الأمريكي في المشرق العربي عموماً وفي سورية خاصة، تغييباً واضحاً للمداخل السياسية وتغليباً للمقاربات الأمنية، وهو ما جعل قضايا المنطقة أزمات مزمنة "يعول" فيها على عنصر التسكين والتهدئة لخلق حالة تعافي واستقرار نسبي، الأمر الذي أعاد هندسة العناصر المشكلة للعملية السياسية في سورية، فقد ساهمت سياسة واشنطن السابقة والتي اتكأت على "ترشيد استخدام القوة" ومبدأ "القيادة من الخلف" إلى تثبيت عدة عناصر حدت بشكل موضوعي عمل الإدارة القائمة، أهمها تمكين طهران في سورية التي استفادت كثيراً من واقع ما بعد الاتفاق النووي الإيراني، وترك مساحات الفاعلية السياسية الروسية والتي اتسعت في ظل الإدارة الأمريكية الحالية.
  • الدائرة الروسية: شكل تحليل النتائج المتوقعة من تدخل موسكو كالضغط على الأسد والحد من التمدد الإيراني وضرب القوى الإرهابية، عاملاً مطمئناً للفاعل الخليجي عامة، إلا أن نمو محور (إيران، موسكو، العبادي، الأسد) وزيادة فاعلية إيران وفرض الأسد ونظامه على كل المسارات الناشئة، ساهم في تبني دول الخليج سياسة الحذر والترقب، والبحث عن هوامش حركة دافعة باتجاه الحلول السياسية، والانخراط الإيجابي في كافة الفعاليات الإقليمية والدولية المعززة لتلك الحلول.
  • الدائرة الخليجية: حيث إن عوامل كالأزمة الخليجية، والحرب ضد ميليشيا الحوثي في اليمن، وتغيير أنماط السياسات المحلية، ساهمت في تأخر الملف السوري في أولويات السياسة الإقليمية لدول الخليج، الأمر الذي ساهم في تقليص مساحات التأثير في المعادلات العسكرية في الجغرافية السورية، واضطرابٌ في أدوات التعاطي، وبالتالي اتسام الحركية الخليجية اتجاه الملف السوري بالتكتيكية والقائمة على مبادئ "الصد" و"تقليل" الخسائر.
  • الدائرة السورية: ساهم الانتقال غير المتسق في خطوات الهندسة السياسية لملامح "الانفراج" السوري (من انتقال سياسي إلى سياسات التسكين والتعافي وصولاً إلى تحويل الاستحقاقات السياسية إلى اختبارات حكومية) إلى تعقيد مآل العملية السياسية، وبالتالي تعزيز احتمالات بقاء نظام الأسد وحلفائه و"انتفاء" حصول انتقال سياسي من سلطة الأسد إلى سلطة مدنية وفق آليات العدالة الانتقالية.

بعد تلك التطورات الدافعة لتغير السلوك الإقليمي لدول الخليج في سورية، فإنه يمكن تشكيل معادلة الدور الخليجي الراهنة وفق للآتي: )الفاعلية الخليجية = أدوار إنسانية ودبلوماسية+ دعم شديد المحددات والشروط+ انخراط إيجابي في عمليات التشكل السياسي(، وتؤكد هذه المعادلة -التي فرضت نفسها بحكم تنامي معوقات الفاعلية المثلى- تضيق مساحات التأثير وتقلص الفرص الكفيلة بعدم تحول سورية سواء كجغرافية لمسرح متشظي، "تُحسن" طهران المنتشرة أفقياً في هذا المسرح استغلاله ومل فراغاته بمشروعها السياسي والإيديولوجي، أو لتحول سورية كدولة إلى كيان دولتي فاشل غير قادر على ضبط المشهد الأمني والعسكري والسياسي وترتهن دوائر صنع القرار فيه لحلفائه وشروطهم الجيوسياسية في المنطقة.

"التلازم": ضرورة وحتمية  

من جهة أولى، فإن تسارع طهران لتحسين وتعزيز تموضعها في المنطقة وإن بدى غير مستقر فإنه باتجاهات امتلاك شروط التمكين، إذ يساهم تفتيت أهم المسارح الجيوسياسية في المنطقة في إضعاف دول الأطراف وتصدر طهران لدفة القيادة التي ستحاول من خلالها التحكم في ملفات المنطقة بغية ضمان عودته لممارسة دوره الشرطي قبل أحداث الربيع العربي من جهة ولاستكمال مشروعه الاستحواذي على مراكز القوة في المجال الحيوي والجيبولتيكي لهذه المنطقة.

ومن جهة ثانية، فإن عدم تحول الفعل الخليجي لاستراتيجية متكاملة قادرة على الدفع باتجاه تضمين الاتفاق السياسي المتوقع للشروط الأمنية والسياسية المحلية المتقاطعة مع محيطها العربي، واكتفائها في سياسة الصد، يسهم على المدى الاستراتيجي بإعادة فرز السلطة الحاكمة بكل ما تعنيه العودة من تعاظم شروط اللاستقرار والفوضى والتحكم في بؤر الإرهاب واتجاهاته.

 ومن جهة ثالثة، فإن التدخل الروسي الذي يحاول استثمار "نصره" العسكري في ميدان السياسة و"رعاية" عملية سياسية لا تفضي لمعالجة أسباب الرفض والقطيعة المجتمعية، فإنه ينمي مناخات الانحدار باتجاه الأفغنة القابلة للتدحرج لتغدو سمة المنطقة ككل، وبالتالي فإن كافة المؤشرات تدل على أنها خطوات ديكورية في "مسلسل ادعاءات" الحل السياسي، وهو أمرٌ ينبغي أن تبقى دول الخليج مدركةً أبعاده السلبية على المنطقة ككل،

تحتم الاتجاهات أعلاه على دول الخليج تجاوز معطلات التأثير في الملف السوري سواء المرتبطة ببنيتها الداخلية أو المتعلقة بضرورات اتساق الرؤية والأدوات الخارجية، وإعلاء أولويات التلازم الأمني والسياسي  السوري الخليجي، والاستمرار بالضغط على الفواعل الدولية لتبقى القضية المجتمعية هي المحرك الأساس في أي عملية سياسية، مستغلة عوامل في تمكين القوى الاجتماعية سياسياً واقتصادياً  وتعزيز أدوار المجالس المحلية التي هي نتاج شرعية شعبية، وهو أمر سيكون صاداً للمشروع الإيراني غير المنسجم مع هوية المنطقة وتفاعلاتها من جهة، وسيعزز من مناخات صد وتجفيف قوة الجماعات العابرة للحدود واسقاط ورقة لطالما احسنت قوى الاستبداد توظيفها في تمزيق البنية المحلية واستغلال ذلك لإعادة شرعنة بقائها.

اتساقٌ سياسيٌّ

انطلاقاً من ضرورة وأهمية هذا التلازم، فإن ملامح أي انخراط استراتيجي خليجي ينبغي له الانطلاق من اعتبارات سياسية واقعية؛ وضرورات إعادة تقييم لأدوار التأثير محلياً والبحث عن أنماط تغييرها باتجاهات تعزيز التلازم؛ بالإضافة إلى أولوية تعزيز المشروع الصاد لطموحات طهران، وعليه يمكن– كمحاولة لرسم هذه الملامح –تحديد ثلاثة أطر للفاعلية، الأول متعلق باستنباط عناصر التأثير الكامنة في العملية السياسية وسبل تعزيز مقاربة التلازم، والثاني مرتبط بتحديد الأدوار المحلياتية، والإطار الثالث يحدده واقع المشروع الإيراني وآفاقه وسبل مواجهته وتحجيمه. فإذا ما انطلقنا من في هذا القسم من الإطار الأول، فإن المشهد السياسي الراهن بات يؤكد على ثوابت جديدة، لا سيما تلك التي تعد نتائجاً للتدخل الروسي، ومنها نذكر:

  1. الاستثمار السياسي الروسي لمخرجات الأستانة، والدفع السياسي باتجاه بلورة مسارات سياسية "تجد طريقاً للحظها في حركية العملية السياسية" وتخفف من تكلفة تدخلها وتسهل من استراتيجية الخروج.
  2. انسجام نتائج التدخل مع فكرة تثبيت نظام الحكم واجراء تغييرات واصلاحات شكلية ومن داخله، واتساقه مع الهواجس الإيرانية بحكم العلاقة الوظيفية التي تضبط علاقات موسكو بطهران في سورية لا سيما فيما يرتبط بالشق الميداني، وبذات الوقت يعمل على اصدار نتائج ينبغي لها أن تحتوي عنصر جذب لأنقرة تجاه موسكو التي لا تزال تتطلع لعلاقات أمثل مع الولايات المتحدة.

إلا أن إدراك موسكو لثابتين يتعلقان بالنظام (الأول: عدم قابلية تحمل بنيته لأي تغيير حقيقي؛ والثاني عدم نجاعة تزمين خفض التوتر من زاوية عدم قدرة النظام على الحفاظ على المكتسبات العسكرية، وبالتالي العمل على أولوية الاستعجال في الخطوات السياسية اللازمة وانجازها شكلاً على الأقل) يجعل عملية الهندسة الروسية للحل السياسي عملية يعتريها العديد من العراقيل وعناصر اللاستقرار، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن العملية السياسية وفق المخيال الروسي لا تزال مرتبطة حالياً بمرحلة تفاوضات مع الأطراف الإقليمية المعنية، ومتعلقة بمدى مقاومة المجتمع الدولي لهذه الخطوة الروسية التي ستسحب تدريجياً مرجعية جنيف، هذا المجتمع الذي وإن تماهى بحكم التدخل العسكري مع المخرجات الروسية، إلا أنه يدرك أن الأمر بنهايته رهين التقارب الروسي الأمريكي، وهذا ما لم تتعزز مؤشراته المرتبطة بالشروط الأمنية السورية المحلياتية([1]).

ووفقاً لأعلاه وبالتقاطع مع الشروط الوطنية كانتفاء مسببات الإرهاب والربط العضوي بين الانتقال السياسي والاستحقاقات الأخرى، فإنه يمكن تحديد عناصر الفاعلية السياسية الخليجية بأربعة مداخل:

  1. الدفع باتجاه تبني سياسة خليجية وعربية موحدة حيال نظام الأسد، وتبيان الأضرار الاستراتيجية والتكاليف السياسية البالغة من عملية إعادة شرعنته، والعمل على إصدار بيان عربي موحد، فوجوده في النظام العربي يهيأ الظرف المكتمل لطهران لتحويل سورية لمنصة قلق وفوضى إقليمية.
  2. استراتيجية تفاوض خليجية موحدة مع موسكو لتضمين العملية السياسية الشروط السياسية المناسبة لخلق بيئة محلية مستقرة، كجلاء كافة الميليشيات الإرهابية التي تساند نظام الأسد، وبرامج زمنية للانتقال السياسي وفق القرارات الدولية ذات الصلة.
  3. دعم الفعاليات السياسية والإدارية الوطنية في مناطق خفض التصعيد، وفقاً لعناصر استراتيجية التمكين المحلي التي تستوجب العمل على تعزيز أربعة عناصر، تطوير عمليات الحوكمة في مناطق سيطرة المعارضة، وتدريب البنى الإدارية وتقوية أدائها السياساتي، برامج مكافحة التطرف الوطنية، دعم مجالس الحكم المحلي كديناميات حكومية صادة لمشاريع جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً).
  4. تدعيم القدرات الدفاعية لمنظومة الجيش الحر، وما تستوجبه من عمليات تحصين وحماية مناطق خفض التصعيد من أي اختراق محتمل من قبل النظام وحلفائه أو من قبل تنظيم الدولة الذي بات يعلي مقاربة المجموعات السائلة كمبدأ للاختراق وإعادة السيطرة وتحسين التموضع.

تفريغ المشروع الإيراني

تدلل الخريطة أدناه على واقع إيران العسكري والأمني في سورية في عام 2017، فبالإضافة إلى قواعدها العديدة في سورية (فعلى سبيل المثال يمتلك الحرس الثوري لوحده -عدا الميليشيات الأخرى-ثلاثة قواعد كبيرة في الكسوة بريف دمشق ومنطقة صلنفة في الساحل السوري ومنطقة السبع بيار في البادية السورية، عدا عن نقاط الاتصال والتسليح في مطار دمشق الدولي والزبداني وجمرايا في ريف دمشق ومدينة البعث في القنيطرة، والحاضر في ريف حلب) تنشط إيران حالياً على أربعة أبعاد:

  • سياسياً: إذ مكنتها منصة الأستانة الدفع باتجاه المشاركة في بلورة معالم الطريق للحل السياسي
  • عسكرياً: تقاتل طهران وميليشياتها على عدة جبهات في دير الزور والقنيطرة ودرعا وريف حمص الشرقي.
  • اقتصادياً: البدء في استحواذ مشاريع استراتيجية كالطاقة والمواصلات والعقارات.
  • إدارياً: فبالإضافة إلى سيطرتها وتحكمها في خيارات وسياسات المجالس البلدية والمحلية في مناطق سيطرتها، باتت إيران متحكمة في معظم المعابر الشرقية ناهيك عن المعابر مع الحدود الإيرانية.

بالمقابل ورغم تنامي العناصر المكملة للمشروع الإيراني وبلوغها مستويات متقدمة، إلا أن عوامل تفريغ هذه المشروع وتحجيمه لا تزال تمتلك فرصاً عديدة يمكن لدول الخليج استغلالها، خاصة أن أي حالة سياسية محتملة ستعترضها بنية أمنية هشة ومناخ فوضوي لا يمكن أن يفضي للتعافي والاستقرار المجتمعي، ومن هذه الفرص نذكر حزم الإجراءات التالية:

  1. البدء بحملة سياسية ودبلوماسية في كافة الفعاليات الإقليمية والدولية لتوصيف كافة الميليشيات الإيرانية كقوى إرهابية، واعتبارها قوى معطلة لمسيرة "السلام" ومغذية لخطاب التطرف والإرهاب.
  2. البحث عن علاقة وظيفية مع تركيا، تشكل عامل معادل لعلاقتها مع أنقرة التي فرضتها ضرورة الجغرافية والمعادلات العسكرية والأمنية في سورية.
  3. دعم كافة الاتفاقيات الأمنية المثبتة لمناطق خفض التصعيد مقابل جدول زمني لانسحاب الميليشيات الإيرانية من المجال الحيوي لهذه المناطق تمهيداً لخروجها من سورية.
  4. دعم مجموعة من الفعاليات المدنية والإعلامية والبحثية والقانونية الهادفة لخلق حالات محلية صادة للمشروع الإيراني.

إعادة الإعمار والبوصلة السياسية

تشكّل إعادة الإعمار في سورية مهمة بالغة التعقيد والتشبيك مع المسار السياسي؛ فبحسب ما هو متعارَف عليه حول المعافاة وإعادة الإعمار بعد النزاعات، يجب أن تتم إعادة البناء المادّية والمعافاة الاقتصادية والإصلاحات السياسية والمصالحة المجتمعية بصورة متزامنة من أجل نقل البلاد من حالة الحرب والفوضى إلى "السلم والاستقرار". لكن في سورية، ثمة خطر بأن يتواصل الجزء الأكبر من إعادة الإعمار والمعافاة الاقتصادية بمعزل عن المفاوضات والإطار السياسي الملائم لشروط التعافي، إذ يمكن أن تتحوّل إعادة الإعمار بسهولة إلى أداة لتثبيت مكاسب الحرب وديناميكيات النفوذ القائمة، ما يحول دون عملية الانتقال من الحرب إلى السلم أو يطرح تعقيدات أمامها، بدلاً من دعمها،  كما أن اهم ما يعزز هذا الخطر أنه مع تقدّم عملية إعادة الإعمار، ستواجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، معضلةً بين الاستثمار في إعادة الإعمار "التقنية" – التخلّي عن فرض شروط على المساعدات، والاتجاه بحكم الأمر الواقع إلى مكافأة النظام والمساهمة في ترسيخه لنفوذه على الأرض – وبين رفض المشاركة في عملية إعادة الإعمار برمتها، ما يُعرِّضهم لخطر خسارة مزيد من التأثير[2].

 ورغم ذلك تتيح إعادة الإعمار فرصة لدول الخليج بتعزيز الاتساق السياسي مع الحاضنة المجتمعية السورية وزيادة أوراق التأثير والمساهمة في عملية التشكل السياسي لسورية ورسم معالمها المستقبلية، فإعادة تصوّر المشهد بكافة أبعاده لا يمكن له أن يتم دون إعادة صياغة الديناميكيات السياسية وديناميكيات النفوذ أو ترسيخها.[3] وتدرك دول الخليج طبيعة العلاقة بين إعادة الإعمار والحكم والنفوذ. فحتى فيما يتفاوضون على الترتيبات المتعلقة بنزع التصعيد ووقف إطلاق النار، فأنهم سيسعون أيضاً إلى ترسيخ دوائر نفوذهم في سورية عن طريق إعادة الإعمار. على سبيل المثال، تستثمر تركيا في إعادة إعمار البنى التحتية المتضررة من الحرب في الباب، آملةً بأن يساهم ذلك في طرد المجموعات المتطرفة وتشجيع عدد كبير من اللاجئين الذين تستضيفهم داخل الأراضي التركية، على العودة إلى سورية، وليس الهدف من هذه الجهود بسط الاستقرار في الوقت الراهن وحسب، إنما أيضاً تمكن ورائه أسباب سياسية.

وعليه يمكن تحديد ملامح سبل فعالية دول الخليج في سياسات إعادة الإعمار في عدة اتجاهات، أهمها ما هو مرتبط بمتطلبات تعزيز التواصل ما بين منظومة مجلس التعاون الخليجي مع الاتحاد الأوروبي (الداعم المادي الأكبر لإعادة الإعمار في سورية) والتوصل لمذكرات تفاهم وتنسيق وتعاون لإنجاز هذا التحدي، والعمل على الدفع باتجاه تحديد الشروط السياسية لبدء هذه العملية، والحذر من تحول هذا الملف من استحقاق سياسي داعم للاستقرار إلى تحدي حكومي يتوه في دهاليز البيروقراطية وشبكات الفساد الأسدية والإيرانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه من أدوات الفاعلية يكمن في إنشاء منظومة التعاون الخليجي لصندوق مالي داعم لسياسات إعادة الإعمار وما تتطلبه من دراسة احتياجات وسياسات تنفيذية وبرامج تطوير الأداء والعودة الكريمة للاجئين والنازحين، والتركيز المباشر على مناطق سيطرة المعارضة وما تتطلبه من احتياجات تؤهلها لإدارة هذه العملية.

ختام القول

تتعاظم شروط التشكل السياسي غير المتسق مع طبيعة وتعريف القضية السورية التي تشهد تغييراً لمفاهيم سياسية كالانتقال والتغيير السياسي لصالح تسوية تفرغ الاستحقاقات السياسية الضامة لبناء سورية بما يتسق مع هويتها الحضارية وتحولها لمهمات حكومية غير مستعجلة وغير مرتبطة ببوصلة سياسية، وهو ما من شأنه تحول سورية لدولة فاشلة مزمنة تتحكم طهران في معظم دوائر صنع قرارها، وهو ما سيرتد فوضى أمنية متنامية على البنية السورية والخليجية والعربية، الأمر الذي يحفز دول الخليج لإعادة تقييم سياساتها تجاه الملف السوري ودراسة أسباب إعاقة فاعليتها عبر تعزيز مقاربة التلازم السياسي والأمني مع الملف السوري، والبحث عن امتلاك دوائر تأثير تضمن من خلالها دول الخليج إيقاف السيولة المتأتية من المشهد السوري وتضمين خطوات هندسة الحل أبعاده السياسية والاجتماعية الكفيلة بتحقيق الاستقرار والتعافي في سورية من جهة وتقوض وتفرغ المشروع الإيراني من جهة أخرى.

 

المصدر مجلة آراء حول الخليج


 ([1]) التثمير الروسي للمسار السياسي لما بعد الأستانة، تقدير موقف صادر عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تاريخ 13/11/2017، الرابط: https://goo.gl/6sN4h8

([2])  Benedetta Berti, “Is Reconstruction Syria’s Next Battleground?”, Carnegie endowment for international peace, 5/9/2017, https://goo.gl/xFWLxX

 ([3]) لقد تكبّدت سورية، خلال الأعوام الستة الماضية، خسائر تراكمية في إجمالي الناتج المحلي تخطّت 226 مليار دولار، وأصبح نصف سكّانها في عداد النازحين بسبب النزاع، ولحقت أضرار كبيرة بالبنى التحتية المدنية. بحسب التقديرات الواردة في تقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2017، دُمِّر 27 في المئة من المنازل في المراكز المدينية التي خضعت للتقويم، أو لحقت به أضرار، ويُقدَّر مجموع تكاليف إعادة الإعمار بـ200 إلى 350 مليار دولار

التصنيف أوراق بحثية

حركة سياسية ثقيلة، عطالة ذاتية، أخطاء متراكمة متزايدة، بوصلة عمل مشتتة، فقدان القرار الوطني المستقل، تأجيل الامتحانات والتحديات، تلك هي السمات الأبرز للأداء السياسي للمعارضة السورية خلال سنين الثورة السورية، ذاك الأداء الذي ابتدأ سيره من جديد إبان اندلاع ثورة الكرامة والحرية في سورية بعد أن كان في حالة سكون وظيفي قبيلها، فتحفز واستلهم من هتاف ومظاهرات الثوار موجبات حركته، مجددًا الأمل بفاعلية سياسية تنهي حكم النظام القائم وتؤسس لانتقال سياسي يخلق مناخات حرية الاختيار والتعبير وتحرر الإرادة الشعبية ويضمن لها مشاركة فعالة في صنع قرار بلدهم وبناء مؤسساتها وفق فلسفة الكفاءة والحرفية وتعزز من سبل تنمية مواردها البشرية والاقتصادية.

"لم تنجح المعارضة السورية في التحول من كيان سياسي شبه حزبي معارض، إلى مؤسسة حكم قادرة على قيادة الثورة والتأثير بمجرى الأمور على الأرض"

إلا أنها ومنذ اللحظات التنظيمية الأولى حتى يومنا هذا لم تنجح المعارضة السورية بأن تكون على مستوى تطلعات الثورة وأهدافها، ولم تنجح في التحول من كيان سياسي شبه حزبي معارض، إلى مؤسسة حكم قادرة على قيادة الثورة والتأثير بمجرى الأمور على الأرض.

فحتى هذه اللحظة لا تزال الممارسة السياسية للقوى المكونة للمعارضة تعكس خلطًا بين أدوات ومفاهيم العمل السياسي الحزبي المعارض (الذي اعتادت عليه تاريخيًا) ومفاهيم وأدوات الحكم وممارسة السيادة.

صحيح أن جل أسباب التعثر السياسي ترتبط بعوامل خارجية تتعلق بطبيعة المقاربة الأمنية الدولية السائدة لحل الأزمة السورية، وصحيح أيضًا أن سياق التحولات السياسية إقليميًا ودوليًا ساهم بشكل وبآخر في تغيير تموضع المعارضة لا سيما بعدما غدت الجغرافية السورية "مسرحًا جيوسياسيًا" ترتجي الفواعل الدولية والإقليمية تحويله لـ"بوابة تدخل" يسهم في تكوين نظام سياسي إقليمي يراعي شروط تلك الفواعل ومشاريعها السياسية ، إلا أن الأسباب الذاتية للأداء السياسي الكارثي حاضرة وبقوة، ولا يمكن إغفالها لأن اتساق الحركة وانسجامها مع الأهداف الاستراتيجية لطالما ارتبطت ارتباطًا عضويًا في بنية الجسم السياسي وفواعله ونجاعة أدائه العام.

انبثقت أولى الاعتلالات الوظيفية لأجساد المعارضة مع عدم بنائها وفق قواعد تمثيلية حقيقية، مُحدثةَ شبه قطيعة مع جلّ الهيئات المدنية والثورية في الداخل السوري، فحاولت ولأسباب تتعلق بفهم المعارضة آنذاك باقتراب سقوط النظام، أن تحاكي شكلًا تجربة المجلس الوطني الانتقالي الليبي أولًا، ثم تدارك ذلك الاستعجال بالائتلاف الوطني للمعارضة وقوى الثورة كجسم يدير شؤون "المرحلة الانتقالية"، وبهذا تم إنتاج أجسام بعمر افتراضي قصير، ووظيفة سياسية وإدارية تجاوزها السياق العام للمشهد السوري، وقوى تقليدية غير قادرة على القيام بسلوكيات رجال الدولة وتمتهن الطروحات الشعاراتية فقط.

وحتى ما قام به الائتلاف من عملية توسعة (معادلة كفة الإسلاميين بديمقراطيين) أتت لتتوافق مع المزاج الدولي الدافع باتجاه عملية تفاوض سياسية في جنيف أكثر مما تمليه ضرورة الإصلاح والتماهي مع الداخل السوري الثائر وما يتطلبه من احتياجات تتفاقم وتزداد شدتها مع بدء ظهور التنظيمات المتطرفة، فلا أدار ملفاته التفاوضية باقتدار وحرفية، ولا اتبع استراتيجية تفاوض واضحة.

"المراهقة السياسية التي مارسها الائتلاف في بداية تشكيله و"نجاحه المذهل" في تصدير صورة مثبطة عن طبيعة عمله المتوقع لا سيما بعد مسلسل الاستقالة التي تم الإعلان عنها قبيل تسليم الائتلاف كرسي سوريا في جامعة الدول العربية"

خلال كل ذلك اختلج بالائتلاف عطالة سياسية محكمة، فمن جهة أولى ثبت التدافع والتنافس البيني لمكوناته السياسية معادلة ذات مخرجات صفرية وعناصر تقليدية ثابتة لا تتبدل، ومن جهة ثانية أضحى انعكاسًا للتضارب الدولي الذي دعم وجود وكلاء سياسيين له ضمن هذا الجسد الثقيل يجعل مجموع قراراته تشبه أحجية (تعا ولا تجي)، ومن جهة ثالثة ازدادت تلك العطالة بالمراهقة السياسية التي مارسها الائتلاف في بداية تشكيله و"نجاحه المذهل" في تصدير صورة مثبطة عن طبيعة عمله المتوقع لا سيما بعد مسلسل الاستقالة التي تم الإعلان عنها قبيل تسليم الائتلاف كرسي سوريا في جامعة الدول العربية، ومجموع المبادرات "العاطفية" التي وجهها للنظام، وعدم الخبرة في التعاطي السياسي والدبلوماسي مع القوى الإقليمية والدولية، والمهاترات البينية، إلخ.

أما الهيئة العليا للمفاوضات -هذا الجسد الذي كُلفت الرياض في اجتماعات فيينا أواخر عام 2015 بدعم تشكليه ضمن أول مخرجات التشويه الروسي للعملية السياسية الذي أراد الإمعان في تمييع صف المعارضة -لم تستطع أن تستغل التوافق والدعم الشعبي الذي تشكل حينها تجاهها جراء المواقف السياسية الصلبة الصادرة عنها، ولم تستثمر هذا التوافق لفرض وثائق القاهرة المنجزة في عام 2012 كمرجعية سياسية للهيئة.

تلك الوثائق التي من أفضل ما خطته المعارضة خلال سنين الثورة، بل وبحكم وراثتها لجميع الإشكاليات المتراكمة من سابقيها وزاد عليها تضمينها اتجاهات سياسية تختلف مع بعضها البعض حتى في الأولويات العامة، لم تستطع الهيئة ضبط هذه البنية الشديدة التحول والسيولة، الأمر الذي ساهم مع عوامل سياسية أخرى في فقدانها لاحتكار تمثيل المعارضة في المفاوضات إذ شاركتها منصتا موسكو والقاهرة هذا الاحتكار، ليبدو المشهد التفاوضي إذا ما عزلنا التصريحات الإعلامية أقرب لتفاوض النظام مع فريق يتفق مع أكثر من نصفه.

ولعل أخطر الاعتلالات الوظيفية للمعارضة تزايد طردًا مع تنامي مستويات الصراع في سورية وبروز الإرهاب فيها، إذ تعاملت المعارضة في هذا الصراع بوجدانية مغرقة أكثر مما يفرضه مبدأ الحسم تجاه تنظيمات عابرة للثورة ولها مشاريع تهدد هوية البلد وفعله الحضاري، فلا وظفته كباقي الفواعل السياسية، ولا حسمت باكرًا موقفها منه، وسجلت عجلة السياسة في هذا السياق في سجل المعارضة وقوعها في المحاذير الوطنية وعدم إنجازها لوثيقة وطنية حاسمة رافضة لأي قوة لا تؤمن بأهداف الثورة وتريد حرفها.

الأمر الذي أفرز تأخرًا في إدراك خطورة العناصر والجماعات الجهادية الأجنبية التي تغلغلت داخل تشكيلات الثورة السورية بحجة مظلومية و"نصرة" الشعب السوري، والتعاطي معها دون إدراك أبعاد مشاريعها الذاتية وحجم انتماءاتها التنظيمية، وهو ما أدى بشكل أو بآخر لظهور تصنيفات متعددة في جسد المعارضة ثم المطالبة الدولية بعزلها عن المتطرفة.

"مضت ولا تزال المعارضة قدمًا باتجاه موتها السريري، إذ إن كل المؤشرات تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا بدء بتقييم الأدوات سوى بضع محاولات ترقى أن تكون استعراضًا لمص الصدمة ليس إلا"

وصلت الارتكاسات السياسية الذاتية للمعارضة مداها الأوسع بعد معركة حلب، والتي تبين أنها لم تعد قادرة على الفعل السياسي ولو بأدنى درجاته، فمرت كوارث التدخل الروسي وما حملته من تغييرات ديموغرافية وعسكرية واضحة دون أن يلمس المراقبون لهذه الأجسام أي استراتيجية تعاطي إبان هذا التدخل، فبعد هذه المعركة مضت ولا تزال المعارضة قدمًا باتجاه موتها السريري.

إذ إن كل المؤشرات تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا بدء بتقييم الأدوات سوى بضع محاولات ترقى أن تكون استعراضًا لمص الصدمة ليس إلا، ولا تدارسًا موضوعيًا لصلاحية البُنية الحالية لهذه المرحلة بعد أن اتخذت شكلًا ثابتًا ومصمتًا خلال الأعوام الستة الفائتة، الشكل الذي حال دون أي فعل سياسي حقيقي يُحدث أثرًا ملموسًا سواء على المستوى المحلي كتنظيم الصف الثوري الداخلي أو على المستوى الخارجي كتمثيل بديل مقنع للمجتمع الدولي، مما ولد فراغًا سياسيًا في الثورة السورية، وغُربة عن الشارع الثوري والذي عزز من عدم ملاحظتها في معادلة الصراع السوري، وأعلى من شأن الخيارات العسكرية التي اتسم حراكها بالفصائلية المغرقة وغيبت أثر وفعالية الحراك المدني والسياسي وأقصته وتدخلت في جميع مفاصل المحلياتية.

"لا يمكن للتاريخ عندما يتحدث عن ثورة العز والكرامة في سوريا وما سطرته من تضحيات في سبيل العيش الحر الكريم إلا أن يُحمل المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مسؤولية تعثر الأداء السياسي"

يمكنني القول متوجعًا إنه لا يمكن للتاريخ عندما يتحدث عن ثورة العز والكرامة في سورية وما سطرته من تضحيات في سبيل العيش الحر الكريم إلا أن يُحمل المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مسؤولية تعثر الأداء السياسي وعدم استغلال الفرص وتغييب الرشد، وسيسجل بخط ممزوج بالدم والألم أن اليسار المعارض كاليمين غرقا بالأوهام وأتقنا الاستعراضات الأيديولوجية بينما عجلة الثورة السياسية لا تزال تنتظر من يرتقي بأدائه لمستوى تضحياتها التي أتعبت التاريخ وأثقلت الجغرافية.

المصدر نون بوست

التصنيف مقالات الرأي