Print this page

ستشكل القمة الرباعية المنعقدة في الرياض بتاريخ 14أيار 2025 (بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا والمملكة العربية السعودية) نقطة تحول بارزة في أطر التفاعلات السياسية الإقليمية، كونها تؤسس لديناميات تعاطٍ داعمة للاستقرار بعد حقبة عبثت فيها طهران وأدواتها بمعادلات الأمن الإقليمي. كما ستعتبر تطوراً استراتيجياً في مسيرة معالجة التحديات السورية بعد سقوط الأسد، سواء على صعيد العلاقات الدولية أو على صعيد الاستحقاقات الانتقالية، وذلك بحكم ما عنونته تلك القمة من إعلان رفع العقوبات ودعم الاستقرار.

يوضح تقدير الموقف هذا الدلالات والآثار الاستراتيجية لتلك القمة على مختلف الأصعدة، وانعكاساتها على المشهد السوري وأجندته الأمنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الآثار السياسية والأمنية: دفعٌ إيجابي لمعادلات السلم والأمن

بُعيد الكوارث والأزمات التي أحدثتها طهران وأدواتها جرّاء العبث بمعادلات الإقليم، انتظر الأخير اجتماعاً استراتيجياً يرتب القواعد الرئيسية الناظمة للتفاعل في النظام الإقليمي، لا سيما بعدما تعرض المشروع الإيراني لانتكاسة استراتيجية جعلت جل أدواته في المنطقة تدخل مرحلة انتقال طويلة تعالج فيها خساراتها. ولأن الاستقرار مطلب دول المنطقة؛ فقد كان العنوان الأبرز لهذا الاجتماع.

وفي هذا السياق ينبغي تثبيت نتيجة سياسية مفادها "نجاعة المحددات الناظمة للسياسة الخارجية السورية الجديدة". فمن جهة أولى، ساهم التوازن في هندسة العلاقات الدبلوماسية وتضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية في عودة سورية إلى مكانها الطبيعي ضمن الدول العربية، بما ينسجم مع هويتها وتفاعلاتها الحضارية. كما حافظت على علاقة مميزة ونوعية مع الجارة تركيا التي شكلت جسراً للتواصل الإيجابي. ومن جهة ثانية، شكلت رسائل "الاستقرار وعدم جعل سورية مسرحاً مصدّراً للأزمات الإقليمية" عاملاً دافعاً لفتح العلاقات الدولية معها، إذ شكلت هذه الرسالة نقطة التقاء مصلحية بالغة الدقة، فمنها يمكن الانطلاق لعودة الاستقرار إلى المنطقة التي أنهكتها الأزمات، إضافة لكونها محفزةً لدول الإقليم لمساندة سورية والإسهام في بلورة هذه القمة.

وبذلك، سيؤثر العنوان الأبرز لهذه القمة (الانفتاح على الدولة الجديدة) إيجاباً على المشهد السوري، كما هو موضح أدناه:

  • دخول سورية مرحلة نوعية جديدة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رفع العقوبات وتحسين العلاقات مع دمشق، وسيكون ذلك بمثابة انطلاقة فعالة باتجاه تحقيق الانتقال وأجندته، بعد أن شكلت العقوبات عاملاً معطلاً لحركته.
  • تحسين شروط "الاستقرار" من خلال ترتيب البيئة الإقليمية لقواعد اشتباك جديدة ما بين سورية وإسرائيل تعزز "السلام والأمن المحلي والإقليمي".
  • الانخراط الفعال لدول المنطقة في تعزيز مؤشرات الانفتاح الدبلوماسي وتحقيق إنجازات مهمة في ملفات إعادة الإعمار والتنمية، إضافة لتذليل هواجس دول الطوق والسعي باتجاه تحسين العلاقات البينية.
  • المساهمة في تسريع ديناميات التفاوض والتفاهم ما بين الحكومة السورية و"قوات سوريا الديمقراطية"، خاصة إذا ما أضفنا عامل حل حزب العمال الكردستاني لنفسه، مما يعزز البعد الوطني للمفاوضات.

الآثار الاقتصادية: مؤشرات داعمة للتعافي والتنمية

سيسهم إعلان الولايات المتحدة رفعَ العقوبات عن سورية في تخفيف العوائق الاقتصادية والمالية والسياسية التي فرضتها دول (كالولايات المتحدة) أو منظمات دولية (كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) على كل من حكومة النظام السابق، وبعض الأفراد والكيانات المرتبطة به، وعلى قطاعات اقتصادية معينة داخل البلاد. الأمر الذي سيشكل مدخلاً نوعياً لمرحلة إنهاء كافة العقوبات باستثناء ما يرتبط منها بنظام الأسد بشكل مباشر.

ومما لا شك فيه أن عنوان المرحلة القادمة سيكون اقتصادياً-تنموياً بامتياز، وسيتركز العمل فيها على تحسين المناخات الاقتصادية الدافعة باتجاه تذليل العقبات التي تحول دون امتلاك الدولة والمجتمع السوري كافة الأدوات التي تتطلبها برامج الإصلاح والتعافي والتنمية، إذ سيدفع باتجاه الآتي:

  • تحسن قيمة العملة الوطنية، وتنشيط القطاع المصرفي، والسماح بعودة التعاملات البنكية والتحويلات المالية الدولية عبر دخول سورية نظام "السويفت".
  • تنشيط حركة التجارة الخارجية، إضافةً إلى رفع الحجز عن الأموال السورية المجمّدة في الخارج.
  • تعزيز البيئة الجاذبة للاستثمارات الوطنية والدولية (خاصة التركية والخليجية)، وزيادة معدلات الإنتاج الوطني.
  • إطلاق عجلة إعادة الاعمار لا سيما في قطاعات التطوير العقاري والطاقة والنقل والتعليم.
  • تذليل العوائق الفنية والمالية التي تحول دون إعادة تأهيل قطاعات التعافي (النقل والمواصلات والطاقة والاتصالات).
  • استيراد وتصدير البضائع، بما فيها المواد الأساسية والمحروقات، وتخفيف معدلات التضخم، وتوفير فرص العمل وتحسين مؤشرات سبل العيش.
  • تسهيل دخول المساعدات الإنسانية والأدوية، وتحسين قدرة المنظمات على العمل داخل سورية بدون قيود مصرفية أو لوجستية.

الأدوار السورية المأمولة: ضرورات الملكية الوطنية

على المستوى السياسي والأمني، تعتبر وحدة الصف السوري ومنطق المسؤولية العامة وديناميات التشاركية هي مداخل النجاح في الاستحقاقات التالية:

  • إنجاز تحدي تشكيل السلطة التشريعية التي ستساهم في بلورة الإطار القانوني الوطني الناظم للبرامج التنفيذية.
  • سيادة القرار الوطني، وتوسيع مساحات المشاركة الوطنية في رسم استراتيجات تنفيذية لملفات عودة اللاجئين والنازحين وإعادة الإعمار والعدالة الانتقالية.
  • النجاعة الحوكمية كمدخل لتنفيذ الاسترتتيجات آنفة الذكر، والتي تستلزم نقاشات تقنية معمقة حول قانون 107 وسبل تطويره، لتحسين ديناميات المشاركة المحلية وضمان وجود مركز قوي وأطراف قوية من خلال تثبيت  مؤشرات التنمية المتوازنة والعادلة.
  • إعادة هيكلة قطاع الأمن والدفاع وما يرافقها من برامج استيعاب وإعادة دمج، وضمان نزاهة واستقلالية القضاء، بحيث تفضي هذه العملية إلى بلورة قطاع محترف ووطني يشكل نقطة التقاء لكل السوريين، ويكون قادراً على الانخراط الفعال في معالجة تحديات سورية الداخلية والتفاعل إيجابياً مع استحقاقات المنطقة.

أما على المستوى الاقتصادي والتنموي، فإن الاستفادة التامة من رفع العقوبات تحتاج إلى جهود سورية نوعية تتمثل في:

  • إنجاز تقدير احتياجات سوري يراعي المنظور القطاعي والجغرافي، ويعيد ترتيب الأولويات المرتبطة بالتعافي المبكر وإعادة الإعمار، مع ضرورة الاستفادة من جهود وخبرات المنظمات السورية.
  • تحسين آليات العمل في القطاع المصرفي والمالي، وإقرار سياسات نقدية ومالية ناجعة، تؤكد على الملكية الوطنية لكافة المشاريع التنموية لضمان تنفيذها وفق معادلات الاحتياج السوري وضروراته.
  • الاستمرار في تطوير وتحديث البيئة الاستثمارية في سورية، من خلال إقرار قوانين جديدة وإعفاءات ضريبية، وتقديم تسهيلات للمستثمرين، لخلق إيرادات تخفف من عبء الاعتماد المتنامي على المساعدات الخارجية.
  • تعزيز مؤشرات الشفافية، وضرورة إجراء إصلاحات هيكيلية في سياسات المراقبة ومكافحة الفساد وسوء الإدارة، والتي من المحتمل أن تكون بوابة لإعادة إنعاش شبكات الفلول الاقتصادية.

ختاماً

 لطالما كان معيارا "العقلانية" و"منطق الدولة" أبرز المحركات الموضوعية الحاسمة للحفاظ على الاستقرار في سورية منذ التحرير في كانون الأول 2024 رغم ما شابه من أزمات، والسبيل لتحقيق الاستثمار النوعي لمكسبي الانفتاح الدبلوماسي على سورية الجديدة ورفع العقوبات الاقتصادية، إذ ينبغي على الفاعلين السوريين (دولة وكيانات ومجتمعاً وأفراداً) التمسك بهذين المعيارين لإنجاز انتقال نوعي يؤسس لاستقرار مستدام، في إقليم يعتبر "الاستقرار والتنمية" سيد الموقف وعنوان المرحلة الاستراتيجي. وهو ما يتطلب أن تكون الفترة القادمة مرحلة التفاهمات الأمنية الدقيقة، التي ينبغي أن تنعكس إيجاباً على ديناميات حوار وطني يفضي إلى عقد اجتماعي يعزز الهوية الوطنية ومؤشرات التماسك الاجتماعي.