Print this page

تمهيد

تضم محافظة حلب نحو 17 ألف منشأة صناعية عاملة في قطاعات متعددة تشمل الغزل والنسيج والصناعات الغذائية والمعدنية والكيميائية وغيرها، موزعة على مناطق ومدن صناعية عدّة. وقد أسفرت الأزمات المتتالية التي ضربت الاقتصاد السوري خلال السنوات الماضية، والعقوبات الغربية، وغياب برامج حكومية واضحة لدعم الصناعة؛ عن تعميق إشكاليات وتحديات القطاع الصناعي، وبالتالي إضعاف الإنتاج المحلي لصالح زيادة الواردات، بالأخص تلك الآتية من تركيا.

ومنذ سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، يواجه هذا القطاع تحديات بنيوية تُعيق مسار التعافي الاقتصادي وعودة حلب إلى الاندماج ضمن الأسواق الإقليمية والدولية. تتجلى هذه التحديات في ارتفاع تكاليف الإنتاج، ولا سيّما أسعار الكهرباء والوقود، والتذبذب الحاد في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، إضافة إلى غياب السياسات الجمركية الحمائية الفعّالة. علاوة على ذلك، فإن تدهور البنية التحتية الصناعية واللوجستية، وضعف المبادرات الحكومية الداعمة للقطاع، أديا إلى تآكل القدرة التنافسية للمصانع والورش المحلية.

وعليه، تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على المعوّقات الراهنة، والعوامل المؤثرة في أداء القطاع الصناعي في حلب، مع تحليل التحديات الاقتصادية المؤثرة عليه، ومن ثمّ اقتراح حلول مستدامة تعزز من تنافسيته سواءً على المستوى المحلي أو الخارجي، واستكشاف سبل تعزيز الاستقرار في بيئة الأعمال الصناعية([1]).

تحدي ارتفاع تكاليف الطاقة وآليات التعاطي

تشكّل تسعيرة الكهرباء عائقاً رئيسياً أمام استقرار الصناعة، حيث يبلغ سعر الكيلوواط الساعي للصناعيين في حلب 27 سنتاً أمريكياً، وهو أعلى من متوسط سعره في الدول القريبة والمناطق المحيطة، مثل مصر التي يباع الكيلوواط فيها للصناعيين بـ5 سنتات، وتركيا حيث يبلغ 8 سنتات، أما في مناطق شمال حلب وإدلب (مناطق المعارضة سابقاً) فيبلغ 12 سنتاً. وتعاني مدينة الشيخ نجار الصناعية -التي تضم نحو 960 منشأة عاملة- من نقص في الإمداد الكهربائي، إذ تحتاج إلى 120 ميغاواط يومياً، بينما لا يتجاوز التزويد الحالي 80 ميغاواط. كما يعاني الصناعيون من ارتفاع تكلفة الفيول الذي وصل سعر الطن منه إلى 630 دولاراً ناهيك عن عدم توافره طوال الوقت، مما يؤدي لاستمرار مشكلة الطاقة. ويتسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي بتعطيل العديد من الصناعات التي تحتاج إلى إمدادات طاقة مستقرة، مثل صناعات الغزل والنسيج والزجاج والصلب. بالإضافة إلى ذلك، يعاني قطاع الطاقة من نقص حاد في استثمارات البنية التحتية المرتبطة بتحديث الشبكات الكهربائية أو تعزيز قدراتها لتلبية الطلب المتزايد، وعدم الاعتماد على الطاقة الشمسية رغم وفرة الإمكانيات الطبيعية التي تجعلها خياراً واعداً لتخفيف الضغط على الشبكة الكهربائية وتقليل التكاليف.

ولإصلاح أثر أزمة نقص الكهرباء على الصناعة؛ يمكن العمل على الإجراءات التالية:

  • مع دمج حقول النفط والغاز في مؤسسات الدولة بعد توقيع اتفاق بين الحكومة السورية و"قسد" في 10 آذار/مارس 2025، من المتوقع أن تشهد إمدادات الطاقة تحسناً ملحوظاً مع الوقت، مما قد ينعكس إيجابياً على استقرار التيار الكهربائي وانخفاض التعرفة الكهربائية وتكاليف الإنتاج على الصناعيين. وإلى حين عودة الإمدادات المحلية للمستويات المطلوبة؛ يمكن العمل على تشكيل لجنة مشتركة تضم ممثلين من الحكومة والقطاع الخاص للتواصل مع دول حليفة لسورية بهدف استيراد الغاز الطبيعي والفيول بأسعار منخفضة.
  • إعادة تسعير الكهرباء بعد تشكيل لجنة فنية تضم ممثلين من الحكومة والقطاع الخاص لدراسة تكاليف الإنتاج والتوزيع وتحديد سعر الكيلوواط الساعي بناءً على التكلفة الفعلية، على أن تكون تكلفة الكيلوواط حوالي 10 سنتات، والعمل على تثبيت السعر بالدولار لفترة مؤقتة إلى أن يستقر سعر صرف الليرة أمام الدولار.
  • تبسيط إجراءات منح التراخيص وتذليل الصعوبات أمام المستثمرين في مشاريع الطاقة المتجددة (الشمسية والرياح)، عبر إنشاء نافذة خاصة لتسريع عمليات الترخيص خلال مدة قصيرة والرد على استفسارات المستثمرين، إضافة إلى تقديم حوافز ضريبية وإعفاءات تصل إلى 5 سنوات لتشجيع الاستثمار في هذا المجال.
  • التعاون مع شركات أجنبية -مثل "سيمنز"- لإعادة تأهيل وتشغيل العنفات الخمسة في المحطة الحرارية بحلب تدريجياً، مع الاعتماد على قروض دولية بضمانات حكومية.
  • إنشاء صندوق خاص بتمويل من الحكومة والمنظمات الدولية لدعم مشاريع الطاقة الشمسية والرياح، وتقديم حوافز تصل إلى 50% لإنشاء أنظمة الطاقة الشمسية للصناعيين.

سبل الاستقرار النقدي وضبط تقلبات سعر الصرف

تشكل التقلبات الحادة في سعر صرف الليرة أمام الدولار واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الصناعيين في حلب، فالتذبذب الكبير في سعر الصرف، الذي يصل إلى 500 ليرة يومياً، يعرقل التخطيط المالي ويزيد من صعوبة اتخاذ قرارات الإنتاج، مما يخلق حالة من عدم اليقين المالي. على سبيل المثال، شهدت الليرة تحسناً ملحوظاً من 12 ألف ليرة للدولار إلى 7500 ليرة، وعادت للتذبذب في نطاق سعري بين 9,000 و 12,000 ليرة خلال شهري كانون الثاني وشباط 2025. تؤثر هذه التقلبات بشكل مباشر على هيكل الأجور والرواتب، حيث يصعب على الصناعيين تحديد مستويات دخل ثابتة للعاملين. فالعامل الذي كان يتقاضى مليون ليرة أسبوعياً (ما يعادل 76 دولاراً عند سعر صرف 13 ألف ليرة للدولار) أصبح يتقاضى ما يعادل 125 دولاراً عند سعر صرف 8000 ليرة. وقد أدت هذه التغيرات إلى اضطرابات كبيرة في حسابات الصناعيين، مما دفع العديد منهم إلى فصل عمال بشكل كامل أو مؤقت لحين استقرار سعر الصرف.

من جانب آخر، أدى تقييد عمليات السحب النقدي إلى انكماش اقتصادي، حيث واجه الصناعيون صعوبات كبيرة في توفير السيولة اللازمة لتشغيل مصانعهم ودفع رواتب العمّال. كما أن الصناعيين الذين يعتمدون على استيراد المواد الخام يواجهون صعوبات في تحديد الأسعار النهائية لمنتجاتهم وتقدير التكاليف التشغيلية، مما يضعف قدرتهم على المنافسة في السوق المحلية والخارجية. كذلك تتعقد إدارة الالتزامات المالية والديون، فقد انخفضت قيمة ديون بعض الصناعيين إلى النصف تقريباً جراء تحسن الليرة إلى مستويات 8,000 ليرة للدولار، في حين أن هذه الديون كانت مقوّمة على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار.

ومن أجل استقرار الليرة السورية والأسعار، فيما يلي مجموعة من الإجراءات يمكن للحكومة والمصرف المركزي العمل على تطبيقها:

  • تشكيل لجنة اقتصادية تضم ممثلين عن: المصرف المركزي ووزارة المالية وخبراء اقتصاديين، لوضع خطة تدريجية لتوحيد سعر الصرف، وإيجاد نطاق سعري يتحرك خلاله بما يعكس الواقع الاقتصادي (مثلاً 10,500 - 11,500 ليرة للدولار)، والسماح بتقلبات طفيفة داخل هذا النطاق مع تدخل محدود للمصرف المركزي عند الحاجة. ستسمح هذه الطريقة بتقليل المضاربات والازدواجية في التسعير، وتقلل من حالة عدم اليقين في السوق.
  • تسهيل تحويلات المغتربين عبر تقديم حوافز لتحويل الأموال عبر القنوات الرسمية بدلاً من السوق السوداء، والتعاون مع دول صديقة لتأمين قروض أو مساعدات مالية لزيادة الاحتياطي في المصرف المركزي.
  • رفع أسعار الفائدة على الودائع والقروض لجذب المدخرات ومكافحة التضخم، ومراقبة الأسواق لمنع ارتفاع الاسعار والاحتكار، ودعم الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الواردات.
  • إصدار سندات حكومية قصيرة الأجل بالدولار أو بالليرة السورية بفائدة تحددها اللجنة الاقتصادية، لجذب رؤوس الأموال المحلية وتقليل ‏الضغط على الدولار‎، وزيادة عرض الدولار في السوق بطريقة مدروسة.
  • الحد من المضاربة على الليرة، من خلال تشديد الرقابة على مكاتب الصرافة غير المرخصة والصرّافين الجوالين في الشوارع، وفرض غرامات على المخالفين.
  • تحسين كفاءة البنوك الحكومية، وتشجيع البنوك الخاصة على تلبية طلبات الصناعيين في السحب والإيداع وتقديم قروض ميسرة لهم، إضافة إلى تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني.

تقييم ومراجعة السياسات الجمركية

شكلت السياسات الجمركية الصادرة عن حكومة تسيير الأعمال تحدياً إضافياً للقطاع الصناعي، فخفض التعرفة الجمركية على الملابس الجاهزة المستوردة من تركيا أضعفَ المنافسة المحلية وأدى إلى إغراق السوق بالمنتجات الأجنبية، وقد أثّر هذا الإجراء سلباً على ورش التصنيع المحلية التي تعاني أصلاً من ارتفاع تكاليف الإنتاج ونقص الدعم الحكومي، مما قلّص من قدرتها على منافسة المنتجات التركية ذات الأسعار التنافسية.

كما أن السماح بدخول بضائع قادمة من العراق عبر مناطق سيطرة "قسد" (سابقاً) دون فرض رسوم جمركية فاقم من التحديات التي تواجهها المصانع السورية، فقد دخلت هذه المنتجات إلى الأسواق بأسعار أقل، مما قلّص فرص المنتجات المحلية في البقاء والمنافسة. إضافة إلى ذلك، أدى عدم وجود نظام رقابة فعّال على البضائع المستوردة لتدفق منتجات رديئة الجودة إلى الأسواق، مما يزيد الضغوط على الصناعيين المحليين المطالبين بالعمل وفق معايير جودة معينة. وقد يؤدي الاستمرار بهذه السياسات الجمركية غير المتوازنة إلى تهديد استمرارية العديد من المصانع المحلية وإضعاف قدرتها على العمل والنمو.

وفي ضوء ما ذكر أعلاه، ولإصلاح السياسة الجمركية؛ توصي الورقة بما يلي:

  • مراجعة بنود التعرفة الجمركية من قبل لجنة متخصصة بشكل دوري، مع ضمان التوازن بين حماية الصناعة الوطنية وعدم إثقال كاهل المستهلكين.
  • تعزيز الرقابة على البضائع المستوردة، وضمان جودتها ومطابقتها لمعايير الجودة والسلامة، وفرض شهادات مطابقة مسبقة على بعض المنتجات قبل دخولها إلى السوق.
  • مراجعة الاتفاقيات التجارية مع دول الجوار وإعادة تقييمها لضمان عدالتها وعدم الإضرار بالصناعة الوطنية، مع إشراك ممثلين عن القطاع الصناعي في المفاوضات. فوجود تدفق كبير بالملابس التركية أو البضائع العراقية في الأسواق السورية بأسعار منخفضة جداً يضر بالصناعة الوطنية، بينما يمكن العمل على فرض رسوم إغراق جمركية لمعادلة الأسعار.
  • تطبيق نظام "النافذة الواحدة" لتبسيط إجراءات التصدير، وإنشاء منصة إلكترونية لإتمام الإجراءات الجمركية عبر الإنترنت، وتقديم تخفيضات جمركية على المواد الخام المستوردة التي تدخل في الصناعات المحلية، وإعفاء الصناعات من رسوم المعدات الحديثة.
  • تفعيل اتفاقيات "التجارة بالمقايضة"‎ مع بعض الدول من خلال استغلال الفائض الإنتاجي في بعض القطاعات، مثل الزراعة، لمقايضته بمواد خام أو معدات صناعية ‏بدلاً من استيرادها بأسعار مرتفعة‎.
  • تصميم برنامج لدعم الصناعات المحلية لمدة 3-5 سنوات عبر إعفاءات ضريبية أو منح حكومية، حتى تتمكن من منافسة المنتجات المستوردة، بعد وضع قائمة بالقطاعات أو المنتجات الأكثر تأثراً.
  • إصلاح إدارة المعابر الجمركية في عموم البلاد، لمنع تدفق البضائع بدون رسوم، حيث إن ‏استمرار هذا الأمر يخلق سوقاً غير متكافئة. إضافة إلى استخدام أنظمة رقمية ذكية لمتابعة حركة السلع (الاستيراد والتصدير)، للحد من الفساد الجمركي وتسريع الإجراءات.‎

أدوار حكومية مطلوبة

علاوة على ما سبق، ينبغي للحكومة الانتقالية خلال الفترة القادمة العمل على: تعزيز أدوار غرفة الصناعة، وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمار الصناعي.

فيما يخص تعزيز أدوار غرفة الصناعة، تقدم الورقة توصيات يمكن إجمالها بالنقاط التالية:

  • إنشاء منصة تنسيق إلكترونية مركزية، تهدف إلى تحسين التواصل بين الصناعيين والجهات الحكومية (مثل وزارة الصناعة، وزارة الكهرباء، والجمارك)، وتسمح بتسجيل طلبات الصناعيين ومتابعة مشاكلهم مباشرة، مع إمكانية مراجعتها من قبل غرفة الصناعة للعمل على حلها. إضافة لإمكانية تنظيم اجتماعات دورية لمعالجة التحديات وإيجاد حلول فعالة.
  • تعزيز دور غرفة الصناعة في التفاوض، من خلال تشكيل لجنة تمثيلية تضم كبار الصناعيين وممثلين عن الغرفة للتفاوض مع الحكومة حول: السياسات الجمركية وأسعار الطاقة وسعر الصرف. ويناط بها إعداد تقارير شهرية وفصلية توضح التحديات التي تواجه القطاع الصناعي، ثم تقديمها للجهات الحكومية والمنظمات الدولية.
  • تنظيم زيارات ميدانية لمسؤولين حكوميين ووفود تجارية وصناعية إلى المناطق الصناعية، للاطلاع على التحديات والفرص على أرض الواقع.
  • إنشاء وحدة استشارية داخل الغرفة تقدم خدمات في مجالات إدارة الجودة والتصدير والطاقة المتجددة، بهدف دعم الصناعيين.
  • تدريب الكوادر من خلال تنظيم دورات تدريبية للصناعيين في مجالات الإدارة المالية والتسويق الدولي وتقنيات الإنتاج الحديثة.
  • تعزيز الشفافية والحوكمة مما يزيد ثقة الصناعيين بغرفة الصناعة، وذلك من خلال: إعلان الميزانية، وتشكيل مجلس استشاري، وتصميم نظام شكاوى فعال.

أما عن تهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات الصناعية، فتدفع الورقة باتجاه ما يلي:

  • تحديث البنية التحتية في حلب، بدءاً من تطوير مرافق مطار حلب الدولي، وتوسيع مساحات التخزين، إلى إنشاء طرق سريعة تربط المناطق الصناعية بالموانئ والمطارات.
  • تحسين البنية التحتية للنقل من خلال: إعادة تأهيل الطرق الرئيسية والفرعية، وتحديث خطوط السكك الحديدية، وإنشاء مراكز لوجستية متكاملة.
  • إقامة معارض صناعية دورية تركز على قطاعات محددة، مع تقديم دعم لوجستي وتنظيمي للمشاركين.
  • تنظيم بعثات تجارية إلى الأسواق الإقليمية والعالمية، وتغطية جزء من تكاليف مشاركة الصناعيين، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة.

أخيراً، يمثل قطاع الصناعة في حلب أحد أعمدة الاقتصاد السوري، غير أن استمرارية الأزمات والتحديات الهيكلية تستدعي تبني إجراءات عاجلة وسياسات إصلاحية على المدى المنظور، تسهم في تحقيق استقرار اقتصادي وتحفيز نمو القطاع الصناعي، بما يعزز من القدرة التنافسية محلياً وإقليمياً، كما يعزز من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بنفس السوية. ويعتبر استقرار الطاقة، واستقرار سعر الصرف، والسياسات الجمركية العادلة؛ الركائز الأساسية لضمان استدامة القطاع الصناعي في المدينة وتعزيز مساهمته في التنمية الاقتصادية الوطنية.


 

([1])  اعتمدت هذه المادة على عدد من المقابلات أجريت مع مدير مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب وعدد من أصحاب المصانع والورش، إضافة إلى عقد جلسة تركيز ضمت 10 صناعيين في مدينة حلب ناقشت التحديات والحلول.