يترافق التوتر الحاصل شرق المتوسط مع جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية، فعلى الصعيد الدولي نشهد ما يسمى الانسحاب الأميركي العسكري من بعض مناطق الصراع التي شكلت محدداً مهماً في السياسة الأميركية الخارجية لعدة عقود؛ كالسلام مع حركة طالبان، وضرورات تطبيقه من انسحابٍ أميركي من أفغانستان، إلى جانب التيه الأميركي فيما يخص العراق.

ولا يمكن تجاهل طريقة إدارة الرئيس الأميركي ترامب لملف حلف الناتو الذي تقوده أميركا منذ 70 عام، تلك الطريقة التي دفعت بماكرون ليصرح بأن " الناتو ميت سريرياً"، ولا يمكن إلقاء تهمة إنهاء الناتو على إدارة ترامب وحدها، فظهور داعش وتشكيل التحالف الدولي الذي مكن أميركا من التدخل في مناطق من الشرق الأوسط والعالم دون مظلة القرارات الدولية، بالإضافة للسياسة التي انتهجها سلف ترامب " أوباما " في الشرق الأوسط، والتي تم تتويجها بالاتفاق النووي مع إيران، مع جملة أخرى من العوامل المؤثرة على كيفية وصول منطقة حوض المتوسط لما نشهده من أزمة متعلقة بالسياسات الجيوسياسية لعدة فواعل هامة، كالاتحاد الأوروبي وتركيا، وفرنسا كدولة.

فالفراغ الذي يشكله على الأقل معرفة عدم رغبة واشنطن في الانخراط المباشر بصراعات المنطقة على المستوى المعهود منها، واكتفائها الآن بسياسة استخدام عصى العقوبات في غياب واضح لأية مشاريع تحالف أو توافق فيما عدا " السلام الإسرائيلي – الخليجي "، يدفع بعدة دول وكيانات إخرى مثل الاتحاد الأوربي للعب دور القوة الإقليمية، وهذا ما يظهر بشكلٍ جلي في أزمة " غاز شرق المتوسط والأزمة الليبية".

هذا الواقع الجديد البادئ بالتشكل أظهر أهمية تحول الاتحاد الأوروبي لفاعلٍ دولي حقيقي، في ظل ما يسمى الانسحاب الأميركي، إلا أن محاولات الاتحاد الظهور كفاعلٍ جيوسياسي إلى الآن، أظهرت ضعفه في التأثير بالسياسة الإقليمية والدولية، وهو ما بدا واضحاً من تشكل سياسات خارجية متعددة ضمن الاتحاد، بصورة تؤدي إلى الآن لحالة من التشتت في مضمار سياسته الخارجية، وهذه الإشكالية تظهر بشكلٍ جلي في المواقف الألمانية والفرنسية من أزمة شرق المتوسط والأزمة الليبية، وهذا الاختلاف في المواقف بالأخص من أزمة التنقيب التركي عن الغاز والخلافات اليونانية التركية الناتجة عنه، تجذر أكثر  نتيجة غياب الدور الأميركي الفعال، فواشنطن  كانت سابقاً تقوم بدور الوسيط بين الطرفين مستندة على كون الطرفين حليفين لواشنطن ولوجودهم ضمن الناتو.

إلا أن هذا الدور بدأ يخف مع سياسة أوباما في التقليل من الانخراط المباشر وما تبعها من غياب الاستقرار في سياسات الإدارة الأميركية الحالية وهو ما حدا بالأطراف الأوروبية لتقوم بمحاولة ملء الفراغ الناتج عنه بعدة أشكال، فألمانيا تحاول حل إشكالية شرق المتوسط عبر الحوار ولعب دور الوسيط بين الأطراف المختلفة، على الضفة الأخرى تحاول فرنسا لعب دورٍ كفاعلٍ جيوسياسي، أو محدد للسياسات الإقليمية. وكلا المقاربتين لم تحققا حتى الآن نجاحاً في تحويل أوروبا لفاعلٍ مؤثر بناءً على سياستها الخارجية، فاختلاف المقاربات بين ألمانيا وفرنسا القوتين الرئيسيتين في الاتحاد بعد انسحاب بريطانيا، لا يتمثل فقط فيما يخص سياساتهم اتجاه تركيا وشرق المتوسط، بل يتعداه لملفاتٍ أخرى منها، كيفية رؤيتهم لمستقبل حلف الناتو، وللعلاقة مع روسيا، وكيفية إدارة التدخلات الروسية في الملف الأوروبي وفي حوض المتوسط.

ترنح المواقف والتحركات الجيوسياسية الخارجية الأوروبية أدى بالاتحاد لمحاولة تشكيل " المفوضية الأوروبية الجيوسياسية"، نهاية العام 2019، وستحاول اللجنة العمل "من أجل أوروبا موحدة وقوية في الخارج"، وهذه الخطوة هي اعتراف بعدم فاعلية السياسة الخارجية الأوروبية إلى الآن مع أن الاتحاد لديه أكبر سوق في العالم، وهو ثاني أعلى طرف فيما يخص الإنفاق في مجال الدفاع (بعد الولايات المتحدة)، ويمتلك قوة دبلوماسية يقارب تعدادها تعداد جيش كامل، بـ 55000 دبلوماسي، كما أن الاتحاد الأوربي هو صاحب الميزانية الأعلى في العالم للمساعدة الإنمائية.

لكن نقاط القوة هذه مقيدة بشكلٍ كبير نتيجة تجزؤ القوة الأوروبية بين الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي وفشل الاتحاد الأوروبي في تحويل تموضعه الجيوسياسي لتحركات حقيقية على الأرض، نتيجة اختلاف مقاربات كل دولة منه للملفات الخارجية، مقارنة بدولٍ ناجحة في دمج مصالحهم الاقتصادية والسياسية مع تموضعهم الجيوسياسي سواء ضمن نطاقهم الجغرافي أو حول العالم مثل واشنطن وبكين.

ضمن هذه الأجواء تظهر فرنسا على أنها الدولة التي تحاول بشكلٍ أكبر قيادة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي أو على الأقل مجموعة الدول المطلة على البحر المتوسط، إلا أنها لم تستطع إلى الآن رسم خطوطٍ عريضة يمكن تحويلها لسياسة أوروبية كاملة، لذا جاءت الخطوات الفرنسية وبالأخص فيما يتعلق بالملف اللبناني، ضمن إطار قوة استعمارية سابقة تحاول العودة للبنان من باب علاقتها الانتدابية السابقة، سواء عبر الزيارات المتكررة لماكرون وتقليله من قيمة رسمية المؤسسات الحكومية اللبنانية، أو تواصله بشكلٍ مباشر مع المتضررين في بيروت، واعطائه وعوداً بوصول المساعدات الفرنسية مباشرة " للمواطنين اللبنانيين"، ووضعه خريطة للحل السياسي يتوجب على الفرقاء اللبنانيين الالتزام بها، ومغازلته لحزب الله الإيراني اللبناني، وهي ممارسات تُعتبر تجاوزا لأعراف سيادة الدول ضمن العلاقات الدولية، على الرغم من عدم مطابقة هذا العرف للحالة اللبنانية بشكلٍ براقٍ جداً.

ومن جهتها تستمر ألمانيا بمحاولات التوسط بين مختلف القوى سواءً كان في شرق المتوسط بين تركيا واليونان، ومؤخراً فرنسا، أو بين الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، وحتى في الملف الليبي واستضافتها لحوارات الأطراف الليبية المتقاتلة. وتتعارض سياسة القوتين في الملف اللبناني، فـ لألمانيا موقفٌ متشدد من حزب الله ونشاطاته في القارة الأوربية، مقارنةً بمهادنة وقبول فرنسي للحزب.

بإيجاز الحديث لم يتمكن الاتحاد الأوروبي إلى الآن من إنهاء مشكلاته الداخلية، وتحويل وحدته السياسية والاقتصادية الداخلية، لخطواتٍ حقيقية فيما يخص السياسة الخارجية، مما سيجعل من أي توقعٍ فيما يخص إمكانية تحركٍ فعال أكبر لأوروبا صعب الحدوث. من جهة أخرى فإن الاندفاع الفرنسي نحو رسم سياسة فرنسية فاعلة ضمن شرق المتوسط ومناطق أخرى من العالم، سيكون العلامة الفارقة في السياسة الخارجية الأوربية، فإما ستتمكن فرنسا من جعل توجهاتها الوطنية خطوطاً عريضة للتحركات الجيوسياسية الأوروبية،  وهنا ستواجه عقبة الولايات المتحدة التي ترغب باستمرار سيطرتها على القرار الأوروبي وهو ما ظهر من التلاسن الأميركي الفرنسي حول " موت الناتو سريريا" أو ستضطر فرنسا لاتخاذ خطواتها السياسية ضمن كتلة أصغر من الدول الأوربية بشكلٍ يؤدي لزيادة الخلافات السياسية الحادة ضمن دول الاتحاد، والتي تلقت ضربة قوية بخروج المملكة المتحدة منه، مما أفقد الاتحاد ثقلاً سياسياً قوياً، وأنهى الفكرة التي سماها البعض بالمستحيلة وهي "تشكيل الجيش الأوروبي الموحد"، وبالتأكيد تحتاج أي فاعلية أوروبية خارجية لتوحيد الأهداف الجيوسياسية الأوروبية بما يتوافق مع مصالح دول الاتحاد، وهو ما يواجه خلافاتٍ داخلية، بالإضافة لعراقيل أميركية توضع في عجلة هذا المسار، وما من شأنه أن يرجح كفة النجاح لصالح الأطراف المنافسة للاتحاد الأوروبي أكثر.

المصدر: تلفزيون سوريا: https://bit.ly/3njgEdT

التصنيف مقالات الرأي

شرق الفرات أحد حجارة الشطرنج الأخيرين على الرقعة السورية الممتلئة بقوى إقليمية ودولية تحاول كسب الجولات الاخيرة من النزال، لربما لا تكون مغالاة إذا ما قلنا إن سياسة القوة الثانية في حلف الناتو « تركيا» في الملف السوري ارتبطت بمصير المناطق المسيطر عليها من قبل الإدارة الذاتية، ولأجل إنهاء هذا المشروع وضعت تركيا نصب عينيها أن تقع في مواجهة حليفها التاريخي المتمثل بالولايات المتحدة، بينما الأخيرة حاولت مسك العصا من الوسط دوماً منذ أواخر العام 2015 تاريخ تشكيل قوات سوريا الديمقراطية التي تمثل وحدات حماية الشعب عمودها الرئيسي، الوحدات التي أعلنت التزامها فكرياً بمبادئ زعيم حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي أبقى الكفة التركية فيما يخص مصيرها دوماً الكفة العليا في أي مساومة دخلتها تركيا سواءً مع واشنطن أو مع روسيا.

القوة الناعمة

من جهتها لم تنجح القوة الناعمة لأمريكا متمثلة بالدبلوماسية والتطمينات العسكرية والأمنية لتركيا في إعطاء توازنٍ كافٍ لرغبتها في تمكين مشروع « الإدارة الذاتية» عسكرياً على المدى القصير، ولربما سياسياً في المستقبل، في خضم هذا الواقع المتشابك، ارتفعت دوماً التصريحات التركية منذ سيطرة وحدات حماية الشعب على مدينة منبج أواخر العام 2016، تهديداً بأنها لن تقبل بوجود ممر يحكمه حزبٌ وقوى عسكرية ترتبط بحزبٍ له 40 عاما من الصراع العسكري داخل وخارج تركيا، وهكذا اتجهت تركيا لتنفذ عملية درع الفرات، التي حققت أهدافها المرحلية آنذاك بمنع أي تواصل بين مناطق شرق النهر وعفرين، إلا أن ما تبقى تحت سيطرة « ي ب ك، وقسد» وامتداده لاحقاً باتجاه تحرير الرقة من تنظيم الدولة، وإتمام العملية بالسيطرة على غرب دير الزور، آخر معاقل التنظيم في سوريا، ليدفع بتركيا لتخطو خطوة أكثر قساوة، وتمثل بعملية « غصن الزيتون» التي انتهت بالسيطرة على مدينة عفرين ونواحيها، لنصل إلى تاريخ إعلان ترامب سحب قوات بلاده من سوريا، وما تبعه من تعديلات وتصريحاتٍ متضاربة انتهت بضرورة إنشاء منطقة آمنة تهدف لتحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسية: 1_ منع عودة ظهور تنظيم الدولة، ومحاربة خلاياه المتبقية، 2_ جعل شرق الفرات أحد الأعمدة الامريكية في مشروع حصار نظام طهران، 3_ حماية حلفاء واشنطن المحليين.

مع إعلان جملة الاهداف الأمريكية المنشودة من المنطقة الآمنة عادت حدة التصريحات التركية للواجهة، كون جملة الأهداف تلك تخالف أولويات تركيا، فتنظيم الدولة لم يعد بالقوة التي بإمكانه أن يمثل تهديداً إقليمياً، بينما لم ترغب تركيا دوماً أن تكون أحد أطراف تطبيق منظومة العقوبات على إيران، والهدف الثالث والمتمثل بحماية الشركاء المحليين لواشنطن يصب في خانة أولى الاولويات التركية من ناحية ضرورة مواجهته، خلال هذه الفترة منعت واشنطن « قسد» ومظلتها السياسية « مسد « من عقد أي اتفاقٍ مع نظام دمشق، الأمر الذي يعني سيطرة إيران على المنطقة وعودة 40% من موارد سوريا لخدمة نظام الأسد، الأمر الذي يعني ايقاف المسار السياسي بشكلٍ شبه كامل، أو على الأقل إنهائه من مسار جنيف أو ما تبقى منه.

الأولويات المختلفة

للحليفين « واشنطن، وأنقرة» مجموعة من الأولويات المختلفة التي أدت لظهور حالة متداخلة من خرائط لحل الازمة بما يرضي الاطراف الثلاثة : تركيا، وامريكا، وقسد، لدرجة أن وصلت واشنطن لترسل أرفع مسؤول أمريكي يصل إلى شرق سوريا، متمثلاً بقائد المنطقة الوسطى في القيادة المركزية للتحالف الدولي، الجنرال كينيث ماكينزي، والذي عقد اجتماعاً مع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي بالتزامن مع لقاء جمع مبعوث واشنطن إلى سوريا، جيمس جيفري، بوزير الخارجية التركي ومسؤولين في أنقرة لبحث المنطقة الآمنة، تبعتها اجتماعات أخرى أظهرت الخلاف بين الطرفين على بنودٍ عدة أهمها العمق الذي ستشمله المنطقة الآمنة، وستدخله قوات تركيا، وطبيعة هذه القوات مع ماهية دورها العسكري، وبدت تطفو على السطح مجموعة أرقام هي مطالب كل طرف: 30كم تركية، 10كم أمريكية، و5 كم قسد، وفي حين تُظهر واشنطن قبولاً لسيطرة تركية على 10 كم وهو الأمر الذي من شأنه أن يبقي المناطق خارج هذا النطاق كوحدة جغرافية تشمل منبج، والرقة ودير الزور، وهو الأمر الذي يمكن أن يجعل منها وحدة إدارية تسيطر عليها «قسد» أو ما تبقى منها، وتمنع ظهور داعش، وتعيق مواجهة بين حليفٍ محلي يمكن الاعتماد عليه، وآخر دولة ذي تاريخ طويل من العمل المشترك مع واشنطن، بينما تركيا بمطالبتها بعمقٍ يصل لمسافة 30كم فهي تحقق معظم أهدافها، وهو إنهاء سيطرة الوحدات على معظم مناطق الغالبية الكُردية، باستثناء مدينة الحسكة التي تتحول لفرعٍ مقطوع، كما إنها ستتمكن من السيطرة على الطريق الدولي الثاني M4 والممتد من القامشلي إلى تل تمر وصولاً لعين عيسى، وهو ما يعني إنهاء الاتصال اللوجستي حتى بين المناطق التي يمكن أن تبقى تحت سيطرة « قسد»، وهي هكذا تقول لواشنطن « إن كان همك، تنظيم الدولة، واستمرار حصار إيران والنظام، فما تبقى لك جنوباً يكفي لتحقيق هذه الأهداف، أما الشريك المحلي فمن المستحيل القبول به بطبيعته هذه.

صيغة توافق

هذا المشهد يسير في ظل إعادة روسيا والنظام لقرع طبول الحرب على إدلب وإعلان إنهاء الهدنة المعلنة « ببركة أستانة» والتي لم تر النور، وهو أمرٌ لو سارت فيه روسيا والنظام يعني بالدرجة الأولى إخراج تركيا من إدلب نهائياً أو بشكلٍ كبير على أدنى تقدير، وهو ما من شأنه أن يؤثر بالشروط التركية شرقي النهر أيضاً، ففي حال تعرض إدلب لهجومٍ بريٍ يفتقر لأدنى مستويات العدالة والرحمة التي عهدناها من قبل آلة الحرب الروسية والأسدية، فهو أمرٌ سيؤدي إلى ظهور حاجة تركية متزايدة للاعتماد على الأحلاف القديمة، والعودة للسير ضمن المسار الغربي، وهو ما سيفقدها إمكانية ممارسة الضغوط على التحالف فيما يخص إنهاء « التهديد الأمني « من شمال شرق سوريا، ولذا نرى أن التصريحات التركية تجاوزت مرحلة التهديدات التي تكررت منذ عملية درع الفرات ولاحقاً غصن الزيتون، وانتقلت لمرحلة أكثر جدية، وتدرك تركيا أن روسيا ستستغل عدم تفاهمها مع أمريكا، في إحداث ضغطٍ أكبر في إدلب، لذا وإن لم نشهد معارك مباشرة الآن فإننا سنشهد رفع حدة الضغوط على شريكتها في الناتو لمحاولة تحسين ظروفها غرب النهر، أو على الأقل تقليل الخسائر، وتحقيق أجزاء من هدفها المتمثل في انهاء الإدارة الذاتية، وإلى الآن يبدو أن الولايات المتحدة قامت بتقديم خيارين لأنقرة، الأول مشروع المنطقة الآمنة المشتركة والتي ستكون شاملة لكل الامتداد الحدودي، والثاني: منح أنقرة الضوء الأخضر للقيام بعملياتٍ محدودة النطاق الجغرافي، والمدة المفترض إنهاء المهمة فيها.

تطمينات أمريكية

ويمكن أن تسير الأمور في عدة اتجاهات وفق النجاح والفشل في الوصول لصيغة توافق بين أنقرة وواشنطن، ففي حال الوصول لصيغة اتفاق، فسنمتلك بنوداً يمكن أن تشابه بنود اتفاق منبج، لكن مع جوانب تنفيذية أقوى وأسرع، كجولات تركية داخل الحدود السورية الشمالية، ولاحقاً التطور لحضور عسكري سواءً منفرداً او مع فصائل من المعارضة الموالية لتركيا في بعض النقاط، مع إمكانية تطويره ليشمل كافة المنطقة المقترحة على اختلاف عمقها بين 10 إلى 20 كم، أما في حال غياب تفاهم أمريكي تركي، فمن المتوقع استهداف مكثف لوحدات حماية الشعب على طول الحدود السورية التركية، والقيام لاحقاً بعمليات عسكرية تستهدف نقاطاً محددة أكثرها ترجيحاً في الوقت الحالي هو مقاطع من الطريق الواصل بين مدينتي الدرباسية، ورأس العين، وأخرى بين بلدة تل أبيض إلى كوباني/ عين العرب غرباً، ونقاط أخرى غرب مدينة عين العرب، مع احتمال قيام تركيا في حال نجاحها بعملية اتجاه هذه المناطق أن تبدأ ضغطاً على واشنطن للحصول إلى نفوذ عسكري في النقطة الواصلة بين حدود سوريا مع كردستان العراق، والتي تبقى بعيدة في المنظور القريب، إلا اذا اتجهت تركيا لاستخدام كافة حظوظها في التحالف الدولي.

ضمن هذا الواقع الذي يزداد تأزماً كلما ظهرت بوادر الوصول لاتفاق، تظهر « قسد ومسد « بأضعف الحالات منذ بداية تشكيل هذه القوات، فحتى الآن لم تتلق أي تطمينات أمريكية جدية، كما أنها تدرك انتهازية النظام المستعد بالتضحية بمسافة تصل لأكثر من 15كم في مقابل تمكنه من السيطرة على غرب النهر في الرقة ودير الزور ومنبج، وتمكنه من الحصول على الموارد النفطية والمائية، كما يظهر أن محاولات واشنطن في العمل وفق ثلاثة مسارات وهي «الإقليمية، والمحلية والدولية» ورغم نجاحها بشكلٍ جزئي «في الدولي عبر تأمين جنودٍ إضافيين من بريطانيا وفرنسا ودول أخرى. والمحلي عبر قبول قسد بخطة المنطقة الآمنة، وهذا ما أشار إليه قادة من قسد عبر استعدادهم لسحب وحدات حماية الشعب لأكثر من 20 كم جنوباً، بالإضافة إلى تسليم المناطق الحدودية لمجالس عسكرية محلية، واحترامٍ أكبر لحساسيات تركيا وفق ما أراد زعيم حزب العمال الكُردستاني في رسالته لمناصريه في حزب الاتحاد الديمقراطي، إلا إنه يظهر أن المسار الاقليمي الذي أنجز جزء منه مع الوصول لتوافق مع دول خليجية أهمها السعودية لتقديم الدعم المادي، لم يحقق الحدود المطلوبة منه، فالسعودية لاتزال تعاني من مأزق اليمن، كما أن مصر ليست في وارد لعب دورٍ إقليمي خصوصاً في مواجهة نظام دمشق وما يعنيه الأمر من دخولٍ فعلي في محور محاصرة إيران، ويستمر المانع الإقليمي الأهم متمثلاً في تركيا، التي ترفض اعلان الرضاء والقبول بشروطها هي، لذا لتجنيب المنطقة مآلات أي معركة لا يمكن إدراك مآلاتها ونهاياتها، تحتاج الولايات المتحدة لكسب المزيد من الوقت لتتمكن على الأقل من السير في مشروع تغيير طبيعة قوات سوريا الديمقراطية وتقليل السيطرة الفعلية لعناصر مرتبطة بحزب العمال عبر تشكيل مجالس عسكرية محلية يمكن أن تتقبل تركيا فكرة التعامل معها في المستقبل كجزءٍ من المنظومة الخارجة عن سيطرة النظام، وروسيا، الأمر الذي يمكن أن يحقق للسوريين فرصة فرض شروطهم أثناء المفاوضات الدولية بصوتٍ أقوى.

 

المصدر صحيفة القدس العربي: http://bit.ly/30gJsHV

 

التصنيف مقالات الرأي

ملخص: في 30 سبتمبر 2015 شنَّ الطيران الروسي أولى طلعاته الجوية مستهدفاً مخازن للأسلحة والذخيرة وعربات ومدرعات في حمص وحماة وحلب؛ مستنداً إلى معلومات تم جمعها وتحديدها من قبل غرفة عمليات يديرها تحالف روسي-إيراني-عراقي-سوري في العاصمة العراقية بغداد.وجاءت عملية القصف بعد الكشف عن حشود عسكرية روسية تضمنت: تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بغواصة نووية ومجموعة سفن حربية، وتوسيع القاعدة الجوية في اللاذقية.

وعلى الرغم من ادعاء موسكو أن حشدها العسكري يهدف إلى قتال تنظيم الدولة المتطرف؛ إلا أن العمليات الجوية قد استهدفت مختلف فصائل المعارضة في عدة محافظات، وأكد محللون عسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة "حميميم"، والتي لا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب هذه هو إنشاء منطقة عزل جوي بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة "أضنة" تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.

التواطؤ الغربي لاستدراج روسيا في المأزق السوري

في 30 سبتمبر 2015 شن الطيران الروسي أولى طلعاته الجوية مستهدفاً مخازن للأسلحة والذخيرة وعربات ومدرعات في حمص وحماة وحلب؛ مستنداً إلى معلومات تم جمعها وتحديدها من قبل غرفة عمليات يديرها تحالف روسي-إيراني-عراقي-سوري في العاصمة العراقية بغداد.

وجاءت عملية القصف بعد الكشف عن حشود عسكرية روسية تضمنت: تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بغواصة نووية ومجموعة سفن حربية، وتوسيع القاعدة الجوية في اللاذقية، وتزويدها بنحو 48 مقاتلة من طراز (Su-24) و(Su-25) و(Su-30) وبمروحيات قتالية و35 عربة قتال مدرعة مزودة بمدفعية من طراز (BTR-82A/B)، ومدفعية عيار (152 mm)، و6 دبابات من طراز (T-90)، ونحو 800 مقاتل روسي من القوات الخاصة و500 من سلاح البحرية، وعدد غير معروف من المرتزقة الشيعة الذين تم شحنهم من العراق وباكستان وأفغانستان عبر طائرات (Ilyushin IL-76) تمهيداً للزج بهم في هجوم بري مرتقب ضد المعارضة السورية بإسناد جوي روسي.

وعلى الرغم من ادعاء موسكو أن حشدها العسكري يهدف إلى قتال تنظيم الدولة المتطرف؛ إلا أن العمليات الجوية قد استهدفت مختلف فصائل المعارضة في عدة محافظات، وأكد محللون عسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة "حميميم"، مثل صواريخ أرض-جو (SA15) و(SA22)، والتي لا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب هذه هو إنشاء منطقة عزل جوي ("A2AD" Anti-Access Area-Denial) في المنطقة بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة "أضنة" تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة (USS Theodore Roosevelt carrier) تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.

وفي مقابل التراجع العسكري الغربي تحدثت المصادر عن رسو حاملة الطائرات الصينية (Liaoning-CV-16) في ميناء طرطوس، بعد أن عبرت قناة السويس في 22 سبتمبر، حيث تتوجه بكين إلى تعزيز قواتها البحرية بمقاتلات من طراز (J-15 Flying Shark) ومروحيات قتالية مزودة بصواريخ مضادة للغواصات من طراز (Z-18F) و(Z-18J) في منتصف شهر نوفمبر القادم، والتي ستتمركز في القاعدة الجوية الروسية باللاذقية بعد أن تمر بالأجواء الإيرانية والعراقية بالتنسيق مع طهران وبغداد.

وتأتي التعزيزات الصينية بعد استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرئيس الصيني في البيت الأبيض يوم الجمعة 25 سبتمبر 2015، مما يؤكد وجود تفاهمات مسبقة بين العواصم الثالثة (واشنطن، موسكو، بكين) حول الترتيبات العسكرية التي تجري في سورية بالتنسيق مع إيران. ومن الملفت للانتباه أن يتزامن الحشد الروسي مع حالة إخلاء جوي غربي لمنطقة شرقي المتوسط في ظل تطورين مهمين:

1.    الترحيب الأوروبي بالدور الروسي-الإيراني الجديد: ففي أول رد فعل لها على العمليات الجوية الروسية رحبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالتدخل الروسي مؤكدة أنه: "لن يكون من الممكن إنهاء الحرب الأهلية في سورية إلا بمساعدة روسيا التي بدأت أول أمس شن ضربات جوية في البلاد"، وأكدت في كلمة في شرق ألمانيا بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لإعادة توحيد ألمانيا: "هذا صحيح بصورة خاصة في حالة سورية، إذ نعرف جميعا منذ أعوام أنه يمكن أن يكون هناك حل فقط في وجود روسيا وليس من دون وجودها". وفي زيارته الأخيرة إلى طهران أكد وزير الخارجية النمساوي سيباستيان كورتس، أن الأزمة السورية: "تحتاج إلى نهج عملي مشترك يتضمن مشاركة الأسد في التصدي لإرهاب تنظيم الدولة"، وأضاف: "في رأيي أن الأولوية لقتال الإرهاب، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون إشراك قوى مثل روسيا وإيران"، كما صرح وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل جارثيا مارجايو، من طهران كذلك، أن: "حكومة بشار الأسد، سواء رضينا بها أم لا، هي من تمتلك الشرعية الدولية، وهي من تملك مقعداً في الأمم المتحدة". وتزامن إعلان وزير الخارجية البريطاني أن بلاده مستعدة لبقاء بشار الأسد رئيساً في الفترة الانتقالية، مع تأكيد صحيفة "غارديان" البريطانية (29 سبتمبر 2015) أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد أكد لأول مرة أن بريطانيا مستعدة للقبول ببشار أسد على رأس مرحلة انتقالية في سورية بهدف التوصل إلى اتفاق مع روسيا وإيران حول الملف السوري.

2.    التضييق على المعارضة السورية ووقف الدعم عنها: ففي شهر مارس الماضي قطعت واشنطن الدعم عن أربع فصائل، وخفضت المساعدات التي كانت تقدمها لنحو 12 كتيبة أخرى، ثم بادرت إلى إيقاف الدعم المالي عن 52 فصيلاً في الجبهة الجنوبية في نهاية شهر أغسطس، وأعلنت بعد ذلك عن مراجعتها لبرنامج "تدريب المعارضة المعتدلة" متهمة العناصر التي دربتها بتسليم أسلحة وعتاد أمريكي إلى "جبهة النصرة" في 21 سبتمبر، ثم عمدت إلى تعميق حالة الفراغ عبر إغلاق غرفة التنسيق المشتركة في الأردن "الموك"، في حين نشطت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في التضييق على ممولي الفصائل المعتدلة وإصدار قوائم بأسماء مطلوبين لملاحقتهم أمنياً في دول الجوار.

وعلى الرغم من التصريحات الأمريكية الرافضة لاستهداف المعارضة المعتدلة في 30 سبتمبر 2015؛ إلا أن الرئيس أوباما كان على علم مسبق بتفاصيل عمليات سلاح الجو الروسي، حيث أكد البيت الأبيض أن بوتين قد: "أوضح الموقف الروسي بصورة كاملة لأوباما"، وذلك في إشارة إلى مراسلات مفصلة أرسلتها موسكو إلى واشنطن في 29 سبتمبر تتضمن تفاصيل العمليات المرتقبة، ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول أمريكي قوله إن موسكو أعلمت واشنطن بالضربات قبل شنها، ومن الملفت للانتباه تزامن التصريحات الأمريكية الرافضة للقصف الروسي مع جلسات مفاوضات مكثفة عقدها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونائبته ويندي شيرمان مع الروس والإيرانيين للحديث عن: "سبل التعاون في الشأن السوري"!

الملامح الأولية للخطة الروسية

تتطلب عملية تشخيص مخاطر التدخل الروسي الاعتماد على معلومات دقيقة غير متأثرة بالشحن الإعلامي الغربي المصاحب للحملة، ومن خلال ما رشح من محاضر الاجتماعات التي عقدها المسؤولون الروس في موسكو ونيويورك خلال الأسبوعين الماضيين؛ يمكن تلخيص أهم معالم الخطة الروسية في سورية في النقاط التالية:

1.    إنشاء منظومة أمنية إقليمية جديدة

تجمع بين موسكو وطهران وبغداد ودمشق، وتنسق عملياتها مع تل أبيب، ففي مقابلة مع موقع (RT) الروسي، بتاريخ 2 أكتوبر 2015، أكد الفريق سيرغي كورالينكو ممثل روسيا الرسمي في "المركز المعلوماتي" ببغداد، أن المهمة الأساسية للمركز تتمثل في: "جمع وتحليل ومعالجة وتبادل المعلومات الجارية حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط في سياق مكافحة ما يسمى "الدولة الإسلامية"، وللقيام بعدها بإيصال هذه المعلومات إلى هيئات الأركان في روسيا والعراق وإيران وسورية"، كما أكد وجود تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية، وأشار إلى وجود وثيقة تأسيسية تحدد نمط العلاقة بين الدول الأربع مرحباً بانضمام أية دولة أخرى إلى هذه الغرفة، قائلاً: "أود التأكيد على أن هذا المركز المعلوماتي لا يعتبر مخصصاً فقط لأربعة أطراف، وإنما نأمل أن ينضم لعملنا دول أخرى، والتي لها مصلحة في القضاء على داعش، ولذلك نحن مقتنعون بانضمام دول أخرى إلينا وسيصبح عملنا أكثر فاعلية"، وذلك في إشارة واضحة إلى التعاون الوثيق بين المركز المعلوماتي مع رئاسة الأركان الإسرائيلية وإمكانية انضمام تل أبيب إلى ذلك التحالف؛ حيث تزامن الحشد الروسي في سورية مع اجتماعات مكثفة بين رئيسي الأركان الروسي والإسرائيلي والاتفاق على إنشاء آلية لتنسيق العمليات بين موسكو وتل أبيب في المجالات: الجوية والبرية والبحرية والفضاء الإلكتروني تحت إدارة نائبي رئيسي أركان البلدين نيكولاي بوغدانوفسكي ويائير جولان، وتنفيذاً لتلك الاتفاقيات؛ فقد أكدت صحيفة "تايمز أو إسرائيل" أن موسكو قد أشعرت تل أبيب مسبقاً بجميع الأهداف التي كانت ستقصفها يوم الأربعاء 30 سبتمبر، وقبل نحو ساعة من قصف أهداف بحمص اتصلت موسكو مع عدد من الضباط الإسرائيليين منهم مستشار الأمن القومي يوسي كوهين وأخبرتهم بتفاصيل العملية الجوية قبل شنها.

2. توجيه ضربات ترجيحية لتعزيز وضع النظام في المناطق التي فقدها

في اجتماع عقد المقر الرئاسي في أوغاريوفو بالقرب من العاصمة الروسية يوم الإثنين 21 سبتمبر 2015؛ حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طمأنة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والوفد الأمني والعسكري المرافق له بأن سلاح الجو الروسي لن يقوم بأية عمليات جنوب سورية، وأن موسكو ستنسق مواقفها مع تل أبيب، ولن تسمح لحزب الله بنقل أية أسلحة جنوب غربي سورية، وأكد بوتين للوفد الإسرائيلي أن العمليات العسكرية الروسية ستهدف إلى:

•    حماية النظام السوري وتعزيز قدراته القتالية.

•    دعم إيران للقيام بدور إيجابي في المنطقة بعد الاتفاق النووي.

•    مواجهة قوى التطرف متمثلة في تنظيم "داعش" وجبهة النصرة.

وبعد تحقيق هذه الأهداف أوضح بوتين أن قواته ستشرف على تنفيذ خطة انتقالية تتضمن: وقف إطلاق النار، وتأسيس حكم انتقالي يضم أطرافاً من السلطة والمعارضة، والإشراف على انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية يختار فيها الشعب السوري من يمثله ويحكمه.
ولتحقيق هذه الخطة أكد بوتين للوفد الإسرائيلي على ضرورة تمكين الحكم في دمشق من إدارة المرحلة الانتقالية، مشيراً إلى أن القوات الروسية لا تنوي التمدد إلى دمشق، بل سيقتصر وجودها في اللاذقية حيث ستعمل على حماية الأقلية العلوية ومنع المعارضة من التقدم نحو جبال الأنصارية أو المناطق الساحلية.

وسربت مصادر مقربة من الموساد تفاصيل أخرى حول اللقاء تتعلق بمداخلات رئيس الأركان الإسرائيلي وقائد الأمن الفيدرالي الروسي، لمنع وقوع أي تضارب في الأهداف حيث ستركز الخطة الروسية على تمكين النظام من استعادة المناطق التي فقدها في الأشهر الماضية، وذلك من خلال توفير غطاء جوي للمرتزقة الإيرانيين في معارك تهدف إلى توطيد سيطرة النظام في دمشق والقلمون وحمص وريف حماة والريف الغربي لمدينة جسر الشغور.

وأشار المصدر إلى أن تفاصيل العمليات البرية قد تم وضعها في سلسلة زيارات متبادلة اجتمع فيها مساعد وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، مع حسين أمير عبد اللهيان في طهران، ولقاءات قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني مع الضباط الروس بموسكو، حيث يتوقع أن تنضم ميلشيات شيعية قريباً إلى قوات الأسد و"حزب الله"، لشن هجوم بري بإسناد جوي روسي.

3.    التمهيد لعملية تحول سياسي تحت إشراف النظام

بالتزامن مع الحشد العسكري بذلت الدبلوماسية الروسية جهوداً حثيثة للتسويق لخطة تحول سياسي حيث تحدث بوتين عن إمكانية تشكيل حكومة سورية موسعة تضم أطرافاً من المعارضة "المعتدلة" وتكليفها بترتيب انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية بالتتابع، وتأكيده على أن: "الرئيس السوري بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة ولاقتسام السلطة مع معارضة بناءة". وقال الرئيس الروسي على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك بأقصى شرق البلاد "نريد فعلاً إيجاد نوع من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف"، وأضاف بوتين نحن نعمل مع شركائنا في سورية، وبشكل عام هناك تفاهم بأن توحيد الجهود في محاربة الإرهاب يجب أن يسير بالتوازي مع نوع من العملية السياسية في سورية نفسها. وأضاف بوتين إن "الرئيس السوري يتفق مع هذا وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وإجراء اتصالات مع ما يسمى المعارضة الصحية وإشراكهم في الحكومة".

وينسجم الطرح الروسي مع مبادرة أطلقها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للبدء بحوار وطني سوري لا يقوم على أساس "جنيف 1" أو "جنيف 2"، بل ينطلق من مبدأ (6+1) ويشمل دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى إيران، ويقوم على أساس وقف جميع العمليات العسكرية ودعم الفصائل والميلشيات المقاتلة.

وينطلق ظريف من نجاح مفاوضات الملف النووي كنقطة ارتكاز بالإضافة إلى الضربات الترجيحية الروسية وتراخي مواقف بعض الدول الإقليمية والدولية فيما يتعلق برحيل بشار الأسد واعتقادهم بإمكانية توليه القيادة في مرحلة انتقالية للبلاد.

4.    ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تركته أمريكا في المنطقة

تؤكد مصادر أمنية غربية بأن العملية الروسية قد جاءت كضربات استباقية تهدف إلى إفشال مخططات بعض القوى الإقليمية لفرض مناطق عازلة شمال وجنوب غربي البلاد، وهذا ما يفسر تكديس منظومات الدفاع الصاروخية المتطورة وسعيها لإنشاء منطقة عزل جوي ("A2AD" Anti-Access Area-Denial)، وتحذير قوى التحالف من خرق المجال الجوي السوري دون التنسيق مع موسكو.

وتأتي هذه العمليات ضمن خطة طويلة الأمد تهدف من خلالها موسكو إلى مد شبكاتها الصاروخية في المنطقة الممتدة ما بين طهران وبيروت مروراً ببغداد ودمشق، والسيطرة على أجواء المنطقة من خلال إنشاء شبكة دفاع جوي مع هذه الدول.

وفي مقابل سعي واشنطن إلى استدراج موسكو لعمل عسكري في سورية؛ يبذل الروس جهوداً حثيثة لتأسيس وجود بحري دائم في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط، حيث تمكن هذه السياسة موسكو من صياغة تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة والدخول بقوة في أسواق السلاح والطاقة.

وكانت صحيفة "واشنطن بوست" قد أشارت إلى أن خطاب أوباما في الأمم المتحدة، يوم الإثنين 28 سبتمبر 2015، يتضمن اعترافاً محزناً بالفشل؛ حيث حمل خطاب أوباما رسالتين: تتضمن الأولى إدراك الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي أنه "لا يمكن فرض الاستقرار على أرض أجنبية"، وتؤكد الثانية على أن الإدارة الأمريكية: "مستعدة للعمل مع أي دولة، بما في ذلك روسيا وإيران، لحل الصراع في سورية".

5.    إنعاش سوق الصناعات العسكرية الروسية
تروج موسكو لنفسها في الآونة الأخيرة على أنها لاعب دولي يمكن الاعتماد عليه في احتواء إيران وحملها على الالتزام بالاتفاق النووي، ومنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية، والمساهمة الفاعلة في محاربة الإرهاب، ومنع انسياب الأزمة السورية خارج الحدود، والترويج لتقنيات الطاقة السلمية في الشرق الأوسط.

ومن خلال هذه الحزمة من المعطيات يعمل الكرملين على إنعاش الاقتصاد الروسي عبر استعادة مجاله في سوق السلاح الذي كانت تعتمد عليه الجمهوريات العربية المتداعية، فقد أكد نائب رئيس شركة "روس أوتوم نيكولاي سباسكي" الروسية أثناء لقاءه مع السفير الإيراني في موسكو أن شركته تعمل على بناء منشأتين نوويتين جديدتين جنوب إيران، وفي شهر فبراير الماضي وقع فلاديمير بوتين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عقداً يقضي بقيام روسيا ببناء مفاعلات نووية في مصر، كما تتفاوض موسكو مع السعودية والإمارات والكويت والأردن على صفقات لتطوير الطاقة النووية، وكان أكبرها في 19 يونيو 2015 ، حيث التزمت موسكو بإنشاء 16 مفاعلاً نووياً للسعودية، كما تعمل وزارة الدفاع الروسية على إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية في مجال تطوير سلاح البحرية ونظم الدفاع الجوية وتقنيات الطائرات بدون طيار، فضلاً عن العربات المدرعة وأنظمة الإشارة، وتتطلب مثل هذه الالتزامات العسكرية طويلة الأمد صياغة تحالفات أمنية وطيدة، ووجوداً فعلياً في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط.

محدودية التدخل الروسي والفرص الكامنة

من خلال المحاولة التي بذلها الباحث أعلاه لتحديد النطاق النوعي والمكاني للعمليات الروسية-الإيرانية المرتقبة؛ لا بد من التأكيد على أن التوجهات الروسية تندرج ضمن خطة بشار أسد العسكرية بتقليص سيطرة قواته على "سورية المفيدة" المتمثلة في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس، وعلى أن محدودية التحرك الروسي تندرج في هذا الإطار؛ إذ إن 48 مقاتلة و6 دبابات و35 عربة مدرعة متمركزة في قاعدتي: "حميميم" الجوية و"طرطوس" البحرية، لا يمكن أن تنفذ عملية "احتلال" أو "اجتياح" للقطر السوري، خاصة وأن قوام القوات الخاصة وسلاح البحرية التي تم حشدها لا يتجاوز 1776 جندياً روسياً يعمل أغلبهم في مجال تقنيات الرصد والدفاع الجوي.

كما أن الضغوط الاقتصادية على موسكو تمنعها من شن حملة اجتياح بري واسع النطاق خارج البلاد، إذ إن عملية ضمّ شبه جزيرة القرم قد فاقمت من الضغوط الاقتصادية على روسيا التي باتت تعاني من: العزلة الدولية، وهبوط أسعار النفط، وتراجع قيمة الروبل، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية إلى حد 30 في المائة.

ويجدر التنبيه إلى أن الدعم الروسي الأخير للنظام السوري ليس الأول ولا الأكبر من نوعه؛ فقد حصلت دمشق في السنوات الماضية على منظومات دفاع جوي متطورة، ومروحيات قتالية، وقامت موسكو بتطوير وتحديث أسراب طائرات "ميغ" و"سوخوي" منذ عام 2012؛ كما استلم جيش النظام في السنوات الأربعة الماضية كميات كبيرة من العربات المدرعة والمدفعية الثقيلة والدبابات المتطورة والذخيرة من مختلف الأعيرة، وكانت الاستخبارات الروسية تزود رئاسة الأركان في دمشق بأماكن تواجد المعارضة وسبل استهدافها، دون أن يغير ذلك من ترجح الميزان العسكري لصالح المعارضة أو يساعد على منع نظام بشار المتفكك من الانهيار.

وتشير مصادر أمنية مطلعة إلى أن التدخل الروسي الأخير قد جاء عقب معلومات مؤكدة بأن النظام السوري على وشك السقوط، حيث تقلصت سيطرته على البلاد إلى نحو 18 بالمائة، في حين استنفذ جيشه 93 بالمائة من مخزونه من الصواريخ، ولم يعد قادراً على استعادة سيطرته أو إرجاع أي منطقة فقدها في الأشهر الماضية، ودفعت هذه الهزائم بشار نحو التفكير باستخدام مخزونه من الأسلحة الكيميائية المتبقية لحماية العاصمة من الثوار الذي أحرزوا تقدماً ملحوظاً في الأسابيع القليلة الماضية.

ولا يتوقع أن تسفر عمليات شحن المزيد من قطعان المرتزقة الشيعة إلى الأراضي السورية بتغيير فعلي؛ إذ إن التقارير العسكرية تؤكد فشل سياسة الحشد الطائفي التي يقوم بها قاسم سليماني بسبب قصر فترة تدريب هذه القوات على ستة أسابيع في مخيمات، وعجز هؤلاء المقاتلين عن المواجهة، وتشير المصادر إلى أن المبادرة الإيرانية-الروسية الأخيرة تأتي كمحاولة لوقف الاستنزاف المالي الذي تعاني منه طهران بعد أن أنفقت نحو 40 مليار دولار لإنقاذ نظام بشار، وتوجهها للتركيز على تحسين وضعها الاقتصادي عقب الاتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الغربية، إضافة إلى إدراك الحكم في طهران أن قدرتها على دعم بشار لا بد وأن تنضب في ظل الخسائر الكبيرة التي يعاني منها نظامه.

وتأتي أنباء حشد إيران للمزيد من المرتزقة على خلفية إنهاك "حزب الله" وتكبده نحو 1800 قتيل و3000 جريح منذ تدخله في سورية، واضطراره لعقد الهدن مع المعارضة حتى يتمكن من استعادة معنويات قواته المنهارة، مما يؤكد على أن العمليات المرتقبة ستكون محدودة بإطار زمني لا يتعدى شهرين، وستنحصر في إطار القيام بضربات ترجيحية تحاول استعادة توازن النظام في المناطق التي فقدها في المعارك الأخيرة، وستشنها قوات منهكة سبق وأن انكسرت في معارك سابقة مع المعارضة.

وفي ظل هذه المعطيات؛ يؤكد المسؤولون الروس على أن الهدف من العملية العسكرية يقتصر على: ترجيح كفة النظام، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، والبدء في مفاوضات المرحلة الانتقالية، وذلك في ظل إدراك الكرملين أنه من غير الواقعي محاولة القضاء على عشرات آلاف المقاتلين الذين يتمتعون بأفضلية القتال على أرضهم، ويستفيدون من تحول الاستراتيجية العسكرية لجيش النظام إلى "الدفاع" وفقدانه عنصر المبادرة، وضعف الكفاءة القتالية للميلشيات التابعة لإيران، وذلك في مقابل توحد فصائل المعارضة واعتمادها تكتيكات قتالية متطورة، وتحقيقها اختراقات غير مسبوقة في حروب المدن من خلال المواكبة ما بين العمليات النوعية ضد التحصينات الخارجية، وتوظيف القصف الصاروخي عالي الدقة لاستهداف نقاط الأمن الداخلية.

نتائج وتوصيات

وللتعامل مع مخاطر الحشد الروسي وعملياته المرتقبة يتعين على المعارضة أن تبادر إلى اتخاذ الإجراءات التالية:

أ‌.    تبني سياسة "الكمون الاستراتيجي": والذي يتمثل في امتصاص الضربات المبدئية، واستيعاب عنصر المفاجأة من خلال رصد التحركات واستقراء نمط العمليات المعادية، وتجنب استدراجها في مواجهات غير متكافئة في هذه ا لفترة الحاسمة.

ب‌.    تنفيذ استراتيجية "إعادة التموضع": لتشتيت إحداثيات غرفة العمليات المشتركة ببغداد، وذلك من خلال عدة صيغ أبرزها: "الانتشار الكيفي"، وتجنب التجمعات، وشن حرب العصابات، وتنفيذ العمليات الخاصة، والمبادرة إلى "إعادة التشكيل".

ت‌.    إنشاء "غرفة عمليات سورية مشتركة": حيث تمثل عملية إغلاق غرفة العمليات المشتركة في الأردن "الموك" فرصة سانحة لإنشاء غرفة عمليات سورية تعزز مفاهيم الأمن الوطني، وتمنح فصائل المعارضة ما تحتاجه من شخصية اعتبارية في المعادلة الإقليمية، وذلك من خلال تبني استراتيجيات "إدارة الأزمة"، واتباع وسائل احترافية لتبادل المعلومات، ورسم الخطط، وتقدير الموارد المطلوبة، وتوظيف مصادر القوة الكامنة بمختلف أبعادها، ووضع ذلك في إطار قالب تطبيقي يستوعب التحولات الإقليمية والدولية وآليات توظيفها في إفشال خطة التدخل الخارجي.

ث‌.    إعداد خطة للمحافظة على "المكتسبات الاستراتيجية": عبر تحديد الأولويات، وتنفيذ عمليات الإخلاء، وتنسيق خطط الكر والفر، وإعادة التشكل في إطار المحافظة على البؤر الاستراتيجية التي اكتسبتها المعارضة، ومن ثم التوسع في مناطق "الخاصرة الرخوة" التي لا تصل إليها ميلشيات المرتزقة ولا تطالها عمليات القصف الجوي.

ج‌.    التركيز على العمليات النوعية والضربات الموضعية في المناطق الآمنة للنظام: وذلك من خلال شن عمليات نوعية تطال النظام في مقراته الآمنة وتستثمر مشاعر السخط في صفوف خزانه البشري الذي يتنامى سخطه من قيادة بشار، وخاصة في قلب العاصمة ومحيطها، فضلاً عن محاولة نقل المواجهات إلى مناطق متفرقة في محافظتي اللاذقية وطرطوس.

ح‌.    إعادة صياغة التحالفات الإقليمية: حيث يحاول تحالف (موسكو-طهران-بغداد-دمشق) توظيف "فراغ المجال" الغربي -عسكرياً وأمنياً- لفرض عزلة على بعض القوى الإقليمية وعلى رأسها الرياض وأنقرة، ولا شك في أن الاستفادة من هذه القوى كداعم يتجه نحو التحلل من بعض القيود والالتزامات الدولية، والتعامل معه كظهير دبلوماسي يتحدث بقوة في الأروقة الدولية، دون التقليل من قدرة الكوادر السورية التي أنتجتها الأزمة على رفد الساحة بأطروحات جديدة في مقابل ترهل الدبلوماسية الدولية، والدفع نحو مبادرة تقوم على التخطيط السليم والتشكيل البنيوي المتوافق مع متطلبات المرحلة.

خ‌.    الإعداد لخطة تحول سياسي تحظى بإجماع وطني: تنطلق من منظور وطني وترتكز على مفاهيم الاحترافية والانضباط وتعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للشعب السوري، وتفهم المتطلبات الأمنية لدول الجوار، والأخذ بزمام المبادرة للتقدم بمبادرة وطنية جامعة على أنقاض الدكتاتورية المتهاوية.

التصنيف أوراق بحثية