كثيرة هي الأسئلة والنقاشات حول الهوية السورية؛ ماهيتها مقوماتها ووجودها، حاضرة في كل الطروحات الأكاديمية منها والشعبية، تخبو تارة وتعود إلى الواجهة تارة أخرى. البعض ينكر وجودها بصيغتها الجامعة لانتفاء مقوماتها، والبعض الآخر يناقش عمقها الضارب في التاريخ، وآخرون يثبتون قصورها عما تعنيه الهوية الوطنية بمفاهيمها المعاصرة طالما أن إشكالياتها أكثر من دعائمها، فجذورها لم تتطابق مع حدود الجغرافيا السورية المفروضة، إضافة إلى عدم إتاحة الفرصة لممارستها بشكل يساهم بترسيخها في ظل احتلالات متتالية وانقلابات عديدة ثم وجود نظام استبدادي تمييزي لا يعترف بحقوق أو واجبات أو مواطنة، ولا يطبق دستوراً ولا قانوناً إلا في حيز ما يتيح له -وله فقط-البقاء أياً كان ثمن ذلك.

قد يبدو الحديث عن الهوية والعقد الاجتماعي رفاهية في ظل كارثة طبيعية ضخمة لم تنته ارتداداتها بعد، إلا أن زلزال السادس من شباط 2023 لم يكتف بتفجير موجة من التساؤلات التقنية حول هول الكارثة الطبيعية الحاصلة وأبعادها الإنسانية وتحليل أسباب فداحة مستوى أضرارها المادية والمعنوية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى أسئلة سياسية وإنسانية وثقافية وفلسفية وجودية كما يحدث خلال الأزمات الكبرى دوماً، لكن على نطاق أوسع هذه المرة.

لم يكن لدى السوريين وقت فائض للبحث عن إجابات شافية عن تلك الأسئلة المُعقّدة، فكانت استجابتهم لمنكوبي الكارثة في سورية وتركيا سريعة ولافتة، بل كانت أسرع من الاستجابة الدولية بكثير، فلم ينتظروا الاستجابة الأممية ولا حتى تبرير تأخيرها المتعلق ببيروقراطية مؤسسات الأمم المتحدة وزوال "العوائق اللوجستية والسياسية". ربما ليقينهم أنهم كالعادة سيُتركون وحدهم في مواجهة مصيرهم، وأن لا دولة خلفهم تعوضهم أو تتحمل مسؤولياتها تجاههم، بل وعلى العكس ستكون أول من يتاجر بمأساتهم ويسرق مساعداتهم ويسيس معاناتهم وحتى يقصفهم أثناء فاجعتهم! ولن يغير من بؤس واقعهم تصريح ولا اعتذار متأخر ولا موقف لن يأتي، لتترك أرواحهم تزهق بأسباب وأشكال متعددة؛ سواء جراء كارثة طبيعية أو قصفاً أو برداً أو جوعاً أو قهراً أو كل ذلك معاً، دونما اكتراث ولا محاسبة ولا إجراء يحد من الاستهتار بحيواتهم.

لم تمض ساعات على الكارثة حتى أخذ السوريون ينظمون أنفسهم، أينما كانوا وكل حسب استطاعته، في مبادرات تطوعية فردية وجماعية باتجاهات ومجالات شتى، تبدأ بجمع الأموال والحرص على إيصالها لمستحقيها ولا تنتهي بالإنقاذ دون معدات ولا حتى تدريب. فولدت فرق ومجموعات تطوعية للمرة الأولى ودُعِمَت أخرى قائمة مسبقاً وعاملة في الشأن الإنساني. ولأول مرة منذ عقد من الزمن، كان الفعل سورياً خالصاً، سورياً لأجل السوريين أياً كانت أماكن وجودهم وانتماءاتهم، وسورياً من حيث اكتمال دائرة الفعل من التخطيط إلى التمويل فالتنفيذ، بعيداً عن الأجندات والبيروقراطيات وأولويات "الداعمين"، بل وصل حتى إلى تحدي بعض سلطات الأمر الواقع لإرغامها على فصل مواقفها السياسية عن إيصال المساعدات.

ورغم أن الاستجابات المحلية مهما بلغت لا يمكنها أن تعوض المساعدات الدولية؛ إلا أنها ساهمت بالتخفيف إلى حد ما من وطأة تأخر الاستجابة الدولية، وفي الوقت نفسه؛ أعادت طرح أسئلة الهوية السورية مجدداً. فقد اعتبر البعض تلك الاستجابات، خاصة العابرة لبعض مناطق سلطات الأمر الواقع، دليلاً على فعل جمعي تضامني نابع عن هوية سورية مشتركة. في حين اعتبر آخرون أن طبيعة تلك الاستجابات وعدم قدرتها على تجاوز مناطق نفوذ أخرى، ترسيخ للانقسام القائم. بينما قرأها البعض كاستجابة بشرية طبيعية متعلقة بمركزية الإنسان في حالات ما بعد الكوارث الطبيعية، ومن اعتبرها مؤشراً على كمون الرغبة السورية بتجاوز واقعها المقسّم في انتظار لحظة وطنية تعيد تشكيل وبناء ملامح هذه الهوية وتؤسس لعقد اجتماعي سوري جديد.

ولعلَّ من الصعوبة بمكان خلق معايير علمية وعملية لقياس مدى الارتباط بالهوية عموماً والهوية الوطنية خصوصاً، نظراً لعدم وجود تعريف موحد لها ولتداخل مفاهيم مُركّبة فيها، ناهيك عن اختلاطها بالأبعاد العرقية أو الدينية أو المناطقية في كثير من الأحيان، واختلاف تصوراتها السابقة المبنية على مفهوم "الأمة" عن تصوراتها الحديثة المرتبطة بالمواطنة إلى تطورات ما بعد الحداثة وانعكاسها على الهوية، إضافة إلى صعوبة وضع الحد الفاصل بين الجزء الشعوري والانعكاس السلوكي (الفردي والجماعي) والسياق التعاقدي السياسي والإطار القانوني الضامن له. فالانتماء عاطفة إنسانية فردية من الصعب قياسه وإحصاؤه وإخضاعه لمعايير جامدة، إذ لا يُكتفى بالارتباط المفروض نسباً أو بالقوة، في حين توجد هوامش اختيار يمكن للفرد الانتماء إليها أكثر من هويات مفروضة عليه. فضلاً عن كونه متغيراً يتأثر بعوامل عديدة (كالفترة الزمنية المدروسة، الحروب والنزاعات، وجود الأعداء، التجييش، مستويات العنف، الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية والظروف العامة، مدى الاستقرار، المظلوميات، اليأس/الأمل...إلخ) فيزداد حيناً وينقص حيناً آخر.

من ناحية أخرى، يتعلق الشق العملي للهوية بالممارسة، وقد يلتبس على المراقب الخارجي التفريق بين الممارسة الحرة وتلك المفروضة سواء من السلطات السياسية أو الاجتماعية، كما يشوب الأمر الكثير من التعقيد عند الحديث عن الهوية الوطنية وممارستها، إذ تكمن الصعوبة في الفصل بين المنظور الوطني الحقيقي و"الشعاراتية" التي جعلت استخدام المصطلح ممجوجاً لكثرة استعماله في غير محله، وتعريفه من وجهة نظر النظام الحاكم وقصره على رموزه وعلى شخصية الحاكم، إضافة لاقتصار استخدامه على من يتبنى رؤى النظام، وكذلك في سياق التجييش على ما يخالف مصلحة حكم الأسد وإن كان الشعب نفسه.

وبتطبيق ذلك على الاستجابة السورية لكارثة الزلزال (رغم صعوبة التفريق بين الاستجابة الإنسانية العامة وبين الدافع الوطني كمحرك لهذه الاستجابة)، نلاحظ أن الأيام الأولى لما بعد الزلزال أعادت لشريحة واسعة من السوريين نوعاً ما شعور بدايات ثورة 2011، إذ ظهرت رغبة عارمة بألا تطغى الحدود وتقسيمات مناطق السيطرة على المساعدات الإنسانية، وهو ما اتضح من تضامن تجاوز مناطق النفوذ ومحاولات إرسال مساعدات عابرة لها، بعضها اصطدم بعوائق من السلطات المسيطرة خاصة بين مناطق النظام وتلك الخارجة عن سيطرته، وبعضها الآخر أظهر إمكانية تحدي الإرادة الشعبية لهيمنة الجهات المسيطرة كما في قافلة فزعة عشائر دير الزور.

بالمقابل، لا يمكن اعتبار ذلك التضامن أو النشاط الإغاثي كافياً للدلالة على تجاوز معوقات الهوية الوطنية السورية، بما يتجاوز الأزمات المُركَّبة السابقة لها، وما أضيف إليها من تعقيدات خلال السنوات العشر الماضية، ويعود ذلك إلى عدة نواحٍ لا بد من أخذها بعين الاعتبار:

أولاً: استجابة الناس في مواجهة الكارثة الطبيعية تختلف عن استجابتهم -وحتى تضامنهم- في مواجهة الكوارث ذات البعد البشري (كالقصف مثلاً)، رغم أن كليهما قد يوصلان إلى نتائج متقاربة من حيث المبدأ لا الكم، من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ناهيك عن الفزع والرعب والحالة النفسية.

وقد يعزى السبب فيما سبق، إلى كون الكارثة الطبيعية وتبعاتها أعلى تهديداً ويمكن أن تطال الجميع دون تمييز، الأمر الذي يُشعر الناس بأنهم تحت ذات التهديد في أي وقت، ويشتركون بذات العجز والضعف في مواجهة كوارث الطبيعة. أما الأفعال الإنسانية، بما فيها الجرائم واسعة النطاق والمستنكرة إنسانياً، فقد توحي بأن الأمر محصور بفئة ما؛ المجرم والضحايا وذويهم، وكلما ابتعد مكان الجريمة عن متلقيّ الخبر -جغرافياً أو انتماءً (سياسياً/دينياً/عرقياً/طبقياً)- قل تأثرهم بها وبالتالي استجابتهم تجاهها، فهم أو أهلهم أقل عرضة لاحتمال التعرض لهكذا أمر، مع استثناء التعاطف الإنساني غير المؤدي إلى فعل بالضرورة.

ثانياً: يعتبر عاملا "الأدلجة" و"التسييس" عاملين مهمين لا يمكن تجاوزهما حتى في سياق الاستجابة للكوارث، ففي حين أن التعاطف الإنساني يكون في ذروته؛ تستطيع الحكومات ووسائل الإعلام تجيير تلك اللحظات الانفعالية لدى الشعوب لتمرير أجندات تخدمها، وقد بدا ذلك جلياً على النطاق السوري في سلوك النظام الذي استخدم الزلزال كفرصة ليستغل عاطفة الناس في الدفع بحملة شبه مُنظمة للمطالبة برفع العقوبات عنه رغم عدم تعارضها مع المساعدات الإنسانية.

ومن جهة أخرى، تترسخ تلك الأفكار لدى الشعوب ذاتها فتصبح "انتقائية التعاطف" فتتعاطف أو تستجيب لأولئك الذين يشبهونها -في الموقف الظاهر على الأقل- دون الذين يتبنون مواقف مغايرة، ويتضح ذلك من خلال السلوك المعلن أثناء جمع التبرعات الجماعية المحكوم بمناطق النفوذ، حيث كانت الحملات والمبادرات آليات تضامن ذات اتجاه سياسي واحد.

فليس النظام وحده من تجاهل الكارثة الواقعة في شمال غرب سورية لدرجة عدم إحصاء ضحاياها ضمن عدد السوريين المتضررين إلا بما يخدم تسويق نفسه سياسياً، بل كان ذلك سلوكاً واضحاً لدى المنظمات والمبادرات والمؤثرين الداعمين له الذين لم يأتوا على ذكر المناطق الخارجة عن سيطرته أو إيصال مساعدات إليها رغم شدة تضررها، ويعود ذلك إلى العوائق الأمنية الحاكمة وصعوبة كسر هيمنة النظام في مناطقه والتي تتجاوز الرغبة في الاستجابة للمتضررين من الأطراف الأخرى.

ضمن ذات الإطار، يمكن تصنيف بعض المساعدات المحلية والدولية والتي كانت مبنية على أسس ظاهرها إنساني وحقيقتها دعم الاتجاهات السياسية أو الإيديولوجية، كما في مساعدات العراق ولبنان، التي عكست مساعدتها لمناطق النفوذ المختلفة، حسب الجهة المرسِلة، الاتجاه السياسي الذي تدعمه والقائم على أسس طائفية أو عرقية أو سياسية.

على الجهة المقابلة، ظهرت استجابة مبنية على "وحدة القضية"، والتي دفعت السوريين المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وكثير من الجاليات السورية في الخارج -بمن فيهم كثيرون ممن أخرجوا أنفسهم عن المشهد السوري خلال السنوات الأخيرة الماضية- إلى التعاضد مع السوريين الذين يحملون ذات قضيتهم في التغيير، أكثر مما استجابوا لأماكن سيطرة النظام، مدفوعين إلى ذلك بسبب عدم وجود هامش حركة لدى مناطق الأخير -باستثناء التحويلات الفردية- وعدم ثقتهم بتوزيعه للمساعدات، والسبب الأهم أن الدعم الدولي استثنى مناطق شمال غرب سورية رغم كونها الأكثر تضرراً واتجه نحو الأسد، مما عمّق مظلومية جديدة لدى السوريين لن يكون تجاوزها سهلاً.

ثالثاً: تختلف الأيام الأولى دوماً عما بعدها، فالشعور بالكارثة والتهديد يجمع ويؤلف ويوحد، لكن التجربة الإنسانية أثبتت القدرة على الاختلاف على التفاصيل مع مرور الوقت بما قد يعيق العمل المشترك ويقلل بالتالي من فرص الالتحام الوطني، ناهيك عن تأثير الوقت على عاملي الاستجابة والتعاطف رغم استمرار الكارثة أو وجود الحاجة. ويتضح ذلك من تجليات أزمة الثقة والتشكيك والتي تقود إلى الاعتماد على الجهود الفردية وعدم التنسيق، مما يعني حكماً تكرار الأنشطة وحتى الأخطاء وضياع الجهود وعدم القدرة على تنظيم المساعدات المقدمة، وبالتالي العودة للدوران في ذات الحلقة المفرغة. الأمر الذي يتعارض مع ما يتطلبه ترسيخ الهوية من عمل تراكمي طويل المدى لا تحققه الاستجابات الآنية ما لم يتم تحويلها إلى عمل مستمر ذي منظور وطني استراتيجي.

 

ختاماً؛ لا شك بأن الاستجابة السورية كانت ملفتة، وقد أثبت السوريون خلالها قدرتهم على الوقوف إلى جانب بعضهم وقدرتهم على التجاوب السريع واستثمار الخبرات في تنظيم الحملات ومواجهة الكوارث الصعبة بما يفوق سرعة الاستجابة الدولية، إلا أن هذه المرونة والعملياتية في مواجهة المأساة ليست بالضرورة اللحظة الفارقة التي تثبت استعداد السوريين لإنهاء ما خلفته عقود من الاستبداد والتفرقة والتهميش، إذ لطالما كانت المعاناة السورية العابرة للهويات الضيقة العامل المشترك الأبرز بين السوريين.

كما أن الاستجابة الإنسانية لكارثة طبيعية لا تعبر عن هوية وطنية، بقدر ما تعبر عن إنسانية لم تمت. وفي الحالة السورية تعبر عن معنى الفقد على المستوى الشخصي وغياب الدولة على المستوى العام، وإدراك لمعنى التخلي الذي طالما اختبره السوريون، والذي رسخته أكثر طريقة التعاطي الدولية في تأخير إيصال المساعدات وتسييسها بطريقة قد تعزز الانقسام أكثر، كما سبق أن عززه الدم واستعصاء الحل السياسي العادل الذي حول التضامن إلى نوع من تكريس الانقسام السياسي.

تحتاج الهوية الوطنية اليوم فضلاً عن أبعادها الثقافية واللغوية والتاريخية والجغرافية؛ إلى مجموعة عوامل تبدأ بوجود إرادة شعبية قادرة على فرض نفسها، وهو ما يقتضي زوال النظام المعتاش على تعزيز التفرقة، وكذلك سلطات الأمر الواقع الهشة التي ترى أي مؤشر على اتفاق وطني عابر لمناطق النفوذ تهديداً لوجودها حتى ضمن نطاق الاستجابة لكارثة طبيعية، إضافة لاستقرار نسبي يسمح بممارسة هذه الهوية لترسيخها في بيئة آمنة تضمن حقوق الأفراد وتعكس رؤاهم في عقد اجتماعي يمثل تطلعاتهم ودستور وطني نافذ يرغم السلطات على تحقيق مصالح المواطنين، لا يصنفهم بناء على مدى خضوعهم لإرادته. الأمر الذي يتطلب استعادة الدولة ومؤسساتها المستلبة وإعادة هيكلتها وإصلاحها بشكل يساهم في عملية بناء تلك الهوية وحمايتها.

تتطلب الكوارث الطبيعة استجابة سريعة وواسعة لمواجهتها، غالباً ما يطغى عليها الشعور التضامني العاطفي، إلا أن الهوية تحتاج لظروف موضوعية وذاتية لبنائها ولفعل واعٍ وتراكمي لرسم ملامحها، ينطلق من التعاقد على مبادئ واضحة والبناء على قواسم مشتركة، وسيكتشف السوريون على اختلافاتهم وتنوعهم، عاجلاً أم آجلاً، بأن أول وأدق تلك القواسم أنهم جميعاً ضحايا لهذا النظام الذي لا يزال كارثتهم السياسية التي فاقت آثارها كوارثهم الأخرى.

التصنيف مقالات الرأي

بمشاركة ما يقارب 70 شخصية سورية من الفاعلين والناشطين في المجتمع المدني، عُقد بتاريخ 3 نيسان 2021 وبالتعاون بين منظمة التنمية المحلية، مركز الحوار السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، مركز عين الشرق لدراسة السياسات، وحدة المجالس المحلية، ندوة حوارية تحت عنوان:

دور المجتمع المدني في الاستحقاقات الوطنية (العقد الاجتماعي نموذجاً)

 

قدم في بداية الندوة الدكتور لؤي صافي أستاذ العلوم السياسية في جامعة حمد بن خليفة، مقدمة تمهيدية عن العقد الاجتماعي ودور المجتمع المدني في بنائه، ثم تحدث الدكتور أحمد قربي مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري عن القيم الوطنية السورية للعقد الاجتماعي الجديد (مضامين العقد الاجتماعي)، فيما تحدث الأستاذ معن طلاع مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عن سياق بناء العقد الاجتماعي بين التحديات والفرص.

 

بعد توزعهم إلى 5 "مجموعات نقاش مركزة"، ناقش المشاركون ثلاثة محاور رئيسة:

  1. هل ثمة قيم ومبادئ عامة مشتركة بين المكونات السورية؟ ما هي حال وجودها؟
  2. ما هي التحديات التي تحول بين تحقيق تعاون في القضايا والهموم الوطنية المشتركة؟
  3. ما هي أفضل السبل لتعزيز العلاقات التعاونية بين المكونات المجتمعية؟

 

وقد قدمت المجموعات الخمس التي شاركت فيها خبرات متميزة ومتنوعة إجابات مفتاحية مهمة على هذه التساؤلات.

توافق المشاركون على ضرورة البناء على هذه المخرجات ضمن مسار متراكم بغية المساهمة في تفعيل المشاركة الإيجابية للمجتمع المدني السوري في بناء عقد اجتماعي لسوريا المستقبل.

التصنيف الفعاليات
الأربعاء, 26 حزيران/يونيو 2019 17:56

الساروتية كثقافة ثورية شعبية

في منظور مختلف عن تعظيم مصاب السوريين في فقد أيقونة ثورية شعبية كعبد الباسط الساروت، يمكن الحديث عن رؤية تصب في اتجاهين أساسيين، الأول يركز على التحذير من إشكالية الاستمرار في الحديث عن فرادة مثال الشهيد الساروت وبالتالي منح النظام انتصاراً معنوياً أو التسبب ضمناً بهزيمة معنوية لجمهور الثورة، التي استطاع النظام قتل نموذجها الفريد، أما الاتجاه الثاني فينطلق من المحذور الأول إلى اعتبار عبد الباسط نموذج أو "بارادايم" لقيم الثورة أو بعضها جسدها الشهيد ومثلت انبثاقاً موضوعياً لخصوصية وهوية الحراك الثوري السوري، قيم لن تموت باستشهاده، فضلاً عن استمرار المئات من الثوار بتبنيها ضمنا ومحال أن ينتهي الليمون أو الزيتون أو الياسمين، ولعل هذا التجريد لهذه القيم والسمات والممارسات  وتحويلها إلى ثقافة شعبية ثورية حية،  سيقود إلى  اكتشاف المئات من حبات الليمون أو الزيتون أو زهرات الياسمين يحملون هذه الثقافة ويتمثلون هذه القيم.

الساروتية هنا عنوان لمنظومة قيم وممارسات جسدها الساروت كما قلنا بقوله وفعله فنسبت إليه وستنسب إلى غيره ممن سيحملها ويجسدها، ولن تعقم أرحام الحرائر عن تكرار أمثاله ومثال عبد القادر وأبو فرات وغيرهم والقائمة تطول، يمكن أن نورد هنا بعض مفردات هذه الثقافة ونفتح الباب للمتابعين لإبراز المزيد.

الهوية الوطنية وما فوقها وما تحتها

إحالة أبناء الرقعة الجغرافية الممتدة بين النهر والبحر وبين الجبل والصحراء إلى هوية وطنية ترسمها الحدود السياسية، لا يكون ذي بال إذا لم تحكمه قيم جامعة تسكب في إثباتها الدماء، تنطلق ابتداءاً من الإنسان وجوده ومستقبله، كرامته وعدالته، الساروت البدوي المهجر قسرياً من الجولان المحتل إلى قلب سورية حمص المحافظة الثالثة أهمية ومحورية وعقدة اتصال، يعبر بشخصه ثم بوعيه السياسي الوطني  وتلقائيته إلى قلوب السوريين الأحرار، محيلاً كل الهويات المتوهمة إلى هوية جامعة هي فوق الوطن وفوق الدولة هي الإنسان وجوداً وكرامة وعدالة.

 الثورة في الساروتية ليست ثورة فقراء على أغنياء وقد أتت إلى الساروت وغيره كل فرص الغنى والظهور فأغنى نفسه بالناس وللناس، وليست ثورة مكون على مكون وقد غنّى هو ومن معه من السوريون لحرية وكرامة كل السوريين، وفي ذات الوقت فإن الثورة في الساروتية هي ابنة الواقع  وتتفاعل مع تباينات المجتمع والسياسة على حد سواء وليست معطى سياسي نخبوي فوقي.

الواقعية في مقابل الطائفية السياسية

على المنصات وقف هاتفاً مع الحرة المرحومة فدوى سليمان بنت الطائفة العلوية، هاتفاً للحرية والكرامة والوطن الواحد بالتزامن  مع انخراط زهرات سورية في الحراك كباسل شحادة ومشعل التمو وغيرهم الكثير في نسف موجع لسردية حامي الأقليات، وهو نفسه أي عبد الباسط الذي يكرر في عدة مناسبات طروحات توحيد الاستقطاب على بوصلة الكرامة والحرية استقطاب إيجابي وطني لكل الطوائف والمكونات في مواجهة توظيف السلطة للمسألة الطائفية في صراعها الدامي مع الثورة، في الوقت عينه الذي لا يتماهى فيه مع المزاودات الوطنية التي تنفي المحرقة الممنهجة والمقصودة بحق المكون الأكبر من السوريين وهم العرب السنة، بوصفها عملية تجريف حضاري لوجود هذا المكون تاريخاً وإنساناً وثقافة وعمراناً، هو جلي في أحد أهازيج الساروت لا يتنافى مع الثورة ولا مع وطن الجميع ويحمل إشارة إلى الخطر الذي يتهدد الكل بتهديد وجود الجزء، هو طرح وطني أصيل في مواجهة سردية طائفية سياسية مبطنة يحمل في شكله ومضمونه انضباطاً يحيل الثائرين إلى ناظم شعوري متين .

الانضباط الثوري

للثورة السورية هوية واضحة في شكلها ومظاهرها انعكست على مضمونها وجوهرها وخصوصيتها. السوريون انطلقوا من العراضة الشامية مثلاً والدبكات التي كانت تعقد في أفراح الأرياف وبعض المدن وكلها مظاهر يحكمها انضباط معين من "الوصّيف" إلى ضابط الإيقاع. انطلقوا من ذلك كله إلى صياغة نمط هجين تمازج فيه الهتاف والدبكة وأُبدعت فيه أشكال جديدة مثل عروض تسونامي الثورة والقسم الثوري الجماهيري والمظاهرات الطيارة شديدة الانضباط، مظاهر شهدناها كثيراً وعلى الدوام في مظاهرات حمص وشقيقاتها الملتهبة وانتقلت ثقافتها إلى بقية المدن الثائرة، قيمة الانضباط ووحدة الهتاف والتركيز على الهدف دون حرف البوصلة إلى معارك جانبية مع المقصرين بحق الثورة وتضحياتها هي قيم وممارسات ساروتية جسدها عبد الباسط أيضاً، فالمجاميع المنضبطة بشكل التظاهر ورسائله وصوته تحمل  في مظهرها هذا رسالة سياسية واعدة بأن الذين وسُموا يوماً بأن جباههم لا تعرف السجود جديرون بتمثيل البديل السياسي أو على الأقل رسم محدداته، الرسالة التي هي جزء من قصة وسردية الحراك التي لم يبدلها أو يغيرها الساروت.

سردية لم تتبدل

التراجع الذي حكم واقع ثورة ملئت الدنيا وشغلت الناس تسبب بالجزء الأكبر منه تبدل السردية أو قصة قيامة السوريين، حيث انحرفت البوصلة وفق أجندات طارئة غطت على ثبات سردية عبد الباسط والمئات وربما الآلاف من أمثاله، الذين غيبتهم السجون أو علقوا على المشانق أو جلسوا جانباً ينتظرون لحظة العودة إلى نسق الثورة الأول، في الوقت الذي تعززت فيه سرديات بديلة أكدت سردية النظام بأن الثورة عبارة عن خروج لشراذم مرتهنة من الإرهابيين والقتلة العابرين للحدود في مواجهة الدولة الشرعية وحتى المنظومة الدولية المشرعنة لها، مما استدعى تكالب العالم ظاهراً وباطناً على الثورة بجريرة من أصروا أن يضعوا الثورة في موقع العداء له. بالتزامن مع ذلك ظل الساروت يهتف للحرية والعدالة والكرامة ولوطن يعيش هذه القيم حتى الرمق الأخير وعبر على ظهور أولئك الأدعياء ليفتح ثغراً في حصار شعبه وليخرج إلى حيث يتبرأ من السرديات الطارئة بل ومن الارتهان للداعم والصديق، عمل ورفاقه بقطف زيتون بلاده واستعان بما تيسر من رزق في تثبيت السيرة (السردية) وإكمال المسيرة، صنع الساروت هنا السياسة الثورية وصنع أدواتها أيضاً.

واقعية الأدوات أو السياسة الثورية


حين  التحول إلى العسكرة  لم يكن أحد من المراقبين عن بعد ليتوقع أن تظاهرات حمص الرائعة ستتحول تدريجياً إلى قصة خالدة للكفاح المسلح في وجه طغمة مجرمة، تحديداً لم يكن أحد ليتوقع أن ينحاز عبد الباسط إلى السلاح بالكلية، في البدء حمل رفاقه والمنشقون السلاح لحمايته وحماية بقية المظاهرات، ثم لم يلبث أن امتشق بندقيته دفاعاً عن لحن الحرية الذي عزفه والآلاف من السوريين، ثم قرر الأسد أن يدخل الحرب التي أعلنها هو من طرف واحد، يستفز مؤيديه بصوته ويجلب عليهم بعدته وعتاده ويشاركهم بأموالهم وأولادهم دون مقابل منه.
كان قرار الناس أو معظمهم أن يدافعوا عن أنفسهم وكان قرار عبد الباسط وأمثاله أن يتنحوا عن المنصة ويكونوا مع الناس، يرّشدوا بندقيتهم ويشقوا معهم طريقهم يتظاهرون معهم في اسطنبول والريحانية وإدلب وحماه وحلب، ثم يدافعون أخيراً عن آخر قلاع الثورة على أرض حماه وإدلب، وعلى طول الطريق لا يكون ثمة انحناء أو ركون أو ارتهان لصديق أو حليف ولا قطيعة ولا مجافاة أو مناكفة لجار أو كبير، بهذا المعنى انتخب الناس الساروت ورفاقه دون انتخابات فكانوا نخبة الثورة وطليعتها.


النخبة الشعبية الثورية


لعل تجريد قيم الساروت واستخلاصها من قصة ثورته واستشهاده والبحث عنها في إرادة وتصميم آلاف الثوار على جبهات العز وأيضاً في الجيل الجديد -الذي نمى وعيه خلال السنوات الثمانية الماضية على حديث الثورة والسياسة مهما شاب هذا الحديث من شوائب - سيحيل المشهد المستلب لصالح قوى دولية وإقليمية أو أجندات غير وطنية أو عابرة للحدود، إلى مشهد جديد، عنوانه صناعة نخبة ثورية شعبية تتبنى هذه القيم وتحمل هذه الثقافة وتحذو هذا الحذو، بعدما عجزت النخب التقليدية عن تصدير قيادات مجتمعية وسياسية وخلق حالة رمزية يلتف حولها السوريون. الآلاف الذين جمعهم استشهاد الساروت وقبل ذلك بطولاته ورفاقه على جبهات حماه وإدلب واللاذقية وما يجري حتى اللحظة من ملاحم بطولية ذوداً عن آخر قلاع الثورة، أكاد أجزم أنهم بتبنيهم لقيم الوطن الحر والثورة النظيفة التي ظهرت في عبد الباسط ومن سبقه ومن ينتظر، قادرون على صنع منظومة قيادية سياسية ومجتمعية تمضي مع الناس وبالناس إلى النصر يلتفون حولها ويرفدونها ولا تنتهي بموت أو شهادة.


 

رابط المصدر، موقع السورية نت: http://bit.ly/3026IsP

 

 

 

التصنيف مقالات الرأي