قدم الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، محمد منير الفقير تصريحاً لصحيفة القدس العربي ضمن مادة حملت عنوان: "في تحدٍ جديد للأسد… رامي مخلوف يلعب على الولاءات العشائرية والطائفية والطبقية".
رأى الباحث خلال حديثه؛ أن الصراع تعقد أكثر من السابق ليس لحدة الخلاف وإنما لجهة الانقسام الذي يعمقه في البيئة الحاضنة الأساسية للنظام وتحديداً داخل الطائفة العلوية. ونوه الفقير إلى أن معظم المستفيدين مما يسميها رامي مخلوف الأعمال الخيرية هم من الطائفة العلوية وهذا كان قبل الثورة وبعدها، عبر جمعية البستان التي انتزعت من مخلوف أو راماك، لافتاً إلى ان التحدي بدأ منذ ظهور رامي في أول فيديو وترسخ في الفيديو الثالث عندما توقف عن استجداء بشار الأسد وأطلق تهديدات مبطنة بالطلاسم الدينية التي نشرها على صفحته.
للمزيد انقر رابط المصدر: https://bit.ly/2ZUHWxN
في منظور مختلف عن تعظيم مصاب السوريين في فقد أيقونة ثورية شعبية كعبد الباسط الساروت، يمكن الحديث عن رؤية تصب في اتجاهين أساسيين، الأول يركز على التحذير من إشكالية الاستمرار في الحديث عن فرادة مثال الشهيد الساروت وبالتالي منح النظام انتصاراً معنوياً أو التسبب ضمناً بهزيمة معنوية لجمهور الثورة، التي استطاع النظام قتل نموذجها الفريد، أما الاتجاه الثاني فينطلق من المحذور الأول إلى اعتبار عبد الباسط نموذج أو "بارادايم" لقيم الثورة أو بعضها جسدها الشهيد ومثلت انبثاقاً موضوعياً لخصوصية وهوية الحراك الثوري السوري، قيم لن تموت باستشهاده، فضلاً عن استمرار المئات من الثوار بتبنيها ضمنا ومحال أن ينتهي الليمون أو الزيتون أو الياسمين، ولعل هذا التجريد لهذه القيم والسمات والممارسات وتحويلها إلى ثقافة شعبية ثورية حية، سيقود إلى اكتشاف المئات من حبات الليمون أو الزيتون أو زهرات الياسمين يحملون هذه الثقافة ويتمثلون هذه القيم.
الساروتية هنا عنوان لمنظومة قيم وممارسات جسدها الساروت كما قلنا بقوله وفعله فنسبت إليه وستنسب إلى غيره ممن سيحملها ويجسدها، ولن تعقم أرحام الحرائر عن تكرار أمثاله ومثال عبد القادر وأبو فرات وغيرهم والقائمة تطول، يمكن أن نورد هنا بعض مفردات هذه الثقافة ونفتح الباب للمتابعين لإبراز المزيد.
الهوية الوطنية وما فوقها وما تحتها
إحالة أبناء الرقعة الجغرافية الممتدة بين النهر والبحر وبين الجبل والصحراء إلى هوية وطنية ترسمها الحدود السياسية، لا يكون ذي بال إذا لم تحكمه قيم جامعة تسكب في إثباتها الدماء، تنطلق ابتداءاً من الإنسان وجوده ومستقبله، كرامته وعدالته، الساروت البدوي المهجر قسرياً من الجولان المحتل إلى قلب سورية حمص المحافظة الثالثة أهمية ومحورية وعقدة اتصال، يعبر بشخصه ثم بوعيه السياسي الوطني وتلقائيته إلى قلوب السوريين الأحرار، محيلاً كل الهويات المتوهمة إلى هوية جامعة هي فوق الوطن وفوق الدولة هي الإنسان وجوداً وكرامة وعدالة.
الثورة في الساروتية ليست ثورة فقراء على أغنياء وقد أتت إلى الساروت وغيره كل فرص الغنى والظهور فأغنى نفسه بالناس وللناس، وليست ثورة مكون على مكون وقد غنّى هو ومن معه من السوريون لحرية وكرامة كل السوريين، وفي ذات الوقت فإن الثورة في الساروتية هي ابنة الواقع وتتفاعل مع تباينات المجتمع والسياسة على حد سواء وليست معطى سياسي نخبوي فوقي.
الواقعية في مقابل الطائفية السياسية
على المنصات وقف هاتفاً مع الحرة المرحومة فدوى سليمان بنت الطائفة العلوية، هاتفاً للحرية والكرامة والوطن الواحد بالتزامن مع انخراط زهرات سورية في الحراك كباسل شحادة ومشعل التمو وغيرهم الكثير في نسف موجع لسردية حامي الأقليات، وهو نفسه أي عبد الباسط الذي يكرر في عدة مناسبات طروحات توحيد الاستقطاب على بوصلة الكرامة والحرية استقطاب إيجابي وطني لكل الطوائف والمكونات في مواجهة توظيف السلطة للمسألة الطائفية في صراعها الدامي مع الثورة، في الوقت عينه الذي لا يتماهى فيه مع المزاودات الوطنية التي تنفي المحرقة الممنهجة والمقصودة بحق المكون الأكبر من السوريين وهم العرب السنة، بوصفها عملية تجريف حضاري لوجود هذا المكون تاريخاً وإنساناً وثقافة وعمراناً، هو جلي في أحد أهازيج الساروت لا يتنافى مع الثورة ولا مع وطن الجميع ويحمل إشارة إلى الخطر الذي يتهدد الكل بتهديد وجود الجزء، هو طرح وطني أصيل في مواجهة سردية طائفية سياسية مبطنة يحمل في شكله ومضمونه انضباطاً يحيل الثائرين إلى ناظم شعوري متين .
الانضباط الثوري
للثورة السورية هوية واضحة في شكلها ومظاهرها انعكست على مضمونها وجوهرها وخصوصيتها. السوريون انطلقوا من العراضة الشامية مثلاً والدبكات التي كانت تعقد في أفراح الأرياف وبعض المدن وكلها مظاهر يحكمها انضباط معين من "الوصّيف" إلى ضابط الإيقاع. انطلقوا من ذلك كله إلى صياغة نمط هجين تمازج فيه الهتاف والدبكة وأُبدعت فيه أشكال جديدة مثل عروض تسونامي الثورة والقسم الثوري الجماهيري والمظاهرات الطيارة شديدة الانضباط، مظاهر شهدناها كثيراً وعلى الدوام في مظاهرات حمص وشقيقاتها الملتهبة وانتقلت ثقافتها إلى بقية المدن الثائرة، قيمة الانضباط ووحدة الهتاف والتركيز على الهدف دون حرف البوصلة إلى معارك جانبية مع المقصرين بحق الثورة وتضحياتها هي قيم وممارسات ساروتية جسدها عبد الباسط أيضاً، فالمجاميع المنضبطة بشكل التظاهر ورسائله وصوته تحمل في مظهرها هذا رسالة سياسية واعدة بأن الذين وسُموا يوماً بأن جباههم لا تعرف السجود جديرون بتمثيل البديل السياسي أو على الأقل رسم محدداته، الرسالة التي هي جزء من قصة وسردية الحراك التي لم يبدلها أو يغيرها الساروت.
سردية لم تتبدل
التراجع الذي حكم واقع ثورة ملئت الدنيا وشغلت الناس تسبب بالجزء الأكبر منه تبدل السردية أو قصة قيامة السوريين، حيث انحرفت البوصلة وفق أجندات طارئة غطت على ثبات سردية عبد الباسط والمئات وربما الآلاف من أمثاله، الذين غيبتهم السجون أو علقوا على المشانق أو جلسوا جانباً ينتظرون لحظة العودة إلى نسق الثورة الأول، في الوقت الذي تعززت فيه سرديات بديلة أكدت سردية النظام بأن الثورة عبارة عن خروج لشراذم مرتهنة من الإرهابيين والقتلة العابرين للحدود في مواجهة الدولة الشرعية وحتى المنظومة الدولية المشرعنة لها، مما استدعى تكالب العالم ظاهراً وباطناً على الثورة بجريرة من أصروا أن يضعوا الثورة في موقع العداء له. بالتزامن مع ذلك ظل الساروت يهتف للحرية والعدالة والكرامة ولوطن يعيش هذه القيم حتى الرمق الأخير وعبر على ظهور أولئك الأدعياء ليفتح ثغراً في حصار شعبه وليخرج إلى حيث يتبرأ من السرديات الطارئة بل ومن الارتهان للداعم والصديق، عمل ورفاقه بقطف زيتون بلاده واستعان بما تيسر من رزق في تثبيت السيرة (السردية) وإكمال المسيرة، صنع الساروت هنا السياسة الثورية وصنع أدواتها أيضاً.
واقعية الأدوات أو السياسة الثورية
حين التحول إلى العسكرة لم يكن أحد من المراقبين عن بعد ليتوقع أن تظاهرات حمص الرائعة ستتحول تدريجياً إلى قصة خالدة للكفاح المسلح في وجه طغمة مجرمة، تحديداً لم يكن أحد ليتوقع أن ينحاز عبد الباسط إلى السلاح بالكلية، في البدء حمل رفاقه والمنشقون السلاح لحمايته وحماية بقية المظاهرات، ثم لم يلبث أن امتشق بندقيته دفاعاً عن لحن الحرية الذي عزفه والآلاف من السوريين، ثم قرر الأسد أن يدخل الحرب التي أعلنها هو من طرف واحد، يستفز مؤيديه بصوته ويجلب عليهم بعدته وعتاده ويشاركهم بأموالهم وأولادهم دون مقابل منه.
كان قرار الناس أو معظمهم أن يدافعوا عن أنفسهم وكان قرار عبد الباسط وأمثاله أن يتنحوا عن المنصة ويكونوا مع الناس، يرّشدوا بندقيتهم ويشقوا معهم طريقهم يتظاهرون معهم في اسطنبول والريحانية وإدلب وحماه وحلب، ثم يدافعون أخيراً عن آخر قلاع الثورة على أرض حماه وإدلب، وعلى طول الطريق لا يكون ثمة انحناء أو ركون أو ارتهان لصديق أو حليف ولا قطيعة ولا مجافاة أو مناكفة لجار أو كبير، بهذا المعنى انتخب الناس الساروت ورفاقه دون انتخابات فكانوا نخبة الثورة وطليعتها.
النخبة الشعبية الثورية
لعل تجريد قيم الساروت واستخلاصها من قصة ثورته واستشهاده والبحث عنها في إرادة وتصميم آلاف الثوار على جبهات العز وأيضاً في الجيل الجديد -الذي نمى وعيه خلال السنوات الثمانية الماضية على حديث الثورة والسياسة مهما شاب هذا الحديث من شوائب - سيحيل المشهد المستلب لصالح قوى دولية وإقليمية أو أجندات غير وطنية أو عابرة للحدود، إلى مشهد جديد، عنوانه صناعة نخبة ثورية شعبية تتبنى هذه القيم وتحمل هذه الثقافة وتحذو هذا الحذو، بعدما عجزت النخب التقليدية عن تصدير قيادات مجتمعية وسياسية وخلق حالة رمزية يلتف حولها السوريون. الآلاف الذين جمعهم استشهاد الساروت وقبل ذلك بطولاته ورفاقه على جبهات حماه وإدلب واللاذقية وما يجري حتى اللحظة من ملاحم بطولية ذوداً عن آخر قلاع الثورة، أكاد أجزم أنهم بتبنيهم لقيم الوطن الحر والثورة النظيفة التي ظهرت في عبد الباسط ومن سبقه ومن ينتظر، قادرون على صنع منظومة قيادية سياسية ومجتمعية تمضي مع الناس وبالناس إلى النصر يلتفون حولها ويرفدونها ولا تنتهي بموت أو شهادة.
رابط المصدر، موقع السورية نت: http://bit.ly/3026IsP