مقالات

 شكَّل الزلزال الذي ضرب شمال غرب سورية في السادس من شباط 2023، تحدياً كبيراً لعموم السوريين على المستوى الشعبي وعلى مستوى استجابة الأجسام الحوكمية القائمة في مناطق النفوذ المختلفة لتداعيات الزلزال المدمر. وكان الزلزال الذي وقع فجر السادس من شباط/ فبراير قد خلَّف أضراراً بالغة في 137 مدينة وبلدة شمال غرب سورية، وتجاوزت أعداد المتضررين لمليون نسمة من بينهم 4,540 ضحية و8,789 مصاباً، إضافة إلى تدمير 1869 بناءً تدميراً كلياً، و8731 تدميراً جزئياً، ناهيك عن 55 منشأًة صحيًة تضررت بشكل كلي أو جزئي، الأمر الذي فرض تحدياً حقيقياً لنظام الاستجابة الصحي الذي كان قد اُستنزف أساساً خلال تفشي جائحة COVID19، وانتشار الكوليرا والاستهداف المتكرر من قبل نظام الأسد والطيران الروسي. وفي ظل التأخر المريب للهيئات الدولية المعنية بالاستجابة الطارئة للكوارث الطبيعية، برز بشكل لافت استجابة السوريين لضحايا الكارثة سواء من طرف منظمات المجتمع المدني أو الاستجابة الشعبية، تُقييم هذه الورقة استجابة مناطق شمال شرق سورية على ثلاث مستويات، استجابة أجسام الإدارة الذاتية، استجابة المجتمع المدني، والاستجابة الشعبية للمجتمع المحلي في شمال شرق سورية.

استجابة أجسام الإدارة الذاتية

في صبيحة اليوم الأول من الزلزال أصدرت "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" بياناً إلى الرأي العام([1])، أعربت فيه عن تعازيها للضحايا واستعدادها لتقديم كل ما يلزم لتجاوز ما خلفه الزلزال ومساعدة المناطق المتضررة، كما وجهت مؤسساتها لرفع الجاهزية ووضع كافة امكانياتها للمساهمة في مجال الصحة والمستشفيات والرعاية واستقبال المتضررين من خارج مناطقها، وطالبت بفتح جميع المعابر الدولية والداخلية لإيصال المساعدات للمناطق المتضررة. وفي محاولة لتأطير قنوات جمع التبرعات ضمن المؤسسات الرسمية التابعة لها وجهت الإدارة الذاتية بتقديم الدعم إلى مؤسسة الهلال الأحمر الكردي كمؤسسة رسمية تُعنى بجمع التبرعات وتتولى إيصالها للمناطق المنكوبة والأهالي المحتاجين([2]). حيث قامت الأخيرة بنشر روابط للتبرع عن طريقها في عدة دول منها دول أوربا واليابان والعراق إضافة إلى إمكانية التبرع المباشر في مقر الهلال الأحمر الكردي في مدينة القامشلي([3]).

وفي 9 شباط أطلق مجلس الإدارة الذاتية في الجزيرة ومجلس مقاطعة الحسكة ومقاطعة كوباني حملة لجمع التبرعات والمساعدات للسوريين المتضررين بالزلزال، ضمن حملة " معاً لأجل الإنسانية" قامت من خلالها بجمع المساعدات سواء مبالغ مالية أو مواد إغاثية، أو ألبسة ومؤن([4]). كما قامت المؤسسات الرسمية التابعة للإدارة بنصب الخيم في الحدائق والساحات العامة في عدة مدن استعداداً لاستقبال نازحين من المناطق المنكوبة، ونشرت قوات الأمن الداخلي أرقام هواتف مخصصة من قبل مراكز العمليات للأهالي في حال وقوع أي طارئ لتوجيه الدوريات للمكان بالسرعة القصوى([5]). ومن جهة أخرى، قامت الإدارة بتشكيل لجان فنية في إقليم الفرات وحيي الأشرفية والشيخ مقصود لتقييم الأضرار التي لحقت بالمباني السكنية والبنية التحتية وتفادي وقوع مزيد من الإصابات البشرية بين الأهالي.

أظهرت الاستجابة العاجلة لأجسام الإدارة الذاتية تماسكاً حوكمياً لهياكل الإدارة، ورغبة في توحيد قنوات الدعم وجمع التبرعات وتأطيرها ضمن المؤسسات الرسمية التابعة لها ليسهل مراقبتها والإشراف عليها والتحكم بآليات ووجهات صرفها. كما سعت للاستثمار السياسي من خلال تصدير الإدارة الذاتية لدى المجتمع الدولي كجهة منضبطة ومستعدة لتقلي المساعدات الدولية في حال إعادة فتح معبر اليعربية على الحدود العراقية، ومن جهة أخرى، حرصت الإدارة أن تبدو للرأي العام السوري والدولي كطرف مرن سياسياً ومبادر للتعاون مع الأطراف السورية المختلفة من خلال احراج النظام والمعارضة السورية في قضية قوافل الوقود التي لم مُنعت من الدخول إلى المناطق المتضررة من الزلزال.

قوافل الوقود المثيرة للجدل:

بعد يومين من الزلزال أعلنت الإدارة الذاتية أنها، وضمن الاستجابة العاجلة، قد أرسلت قافلتين من المساعدات إلى المناطق المتضررة شمال غرب سورية، وأوضحت ان القافلة الأولى تضم ٣٠ صهريج محمل بالوقود يقف على معبر جلود الواصل مع مناطق سيطرة المعارضة، والأخرى تضم ١٠٠ صهريج وقود، إضافة إلى مساعدات إغاثية وطبية إنسانية ويرافقها وفد من الهلال الأحمر الكردي متوقفة على معبر التايهة الذي يربط مناطقها بمناطق سيطرة قوات الأسد([6]). لاحقاً وبتاريخ 11/02/2023 أعلنت معرفات الإدارة الذاتية أن القافلتين ما تزالان واقفتين على المعبرين وأنه لم يتم الموافقة على دخولهم من الجهات المسيطرة على الجانب الأخر من المعبرين، لاحقاً بعد ٧ أيام من الانتظار على معبر أم جلود، أعلنت الإدارة الذاتية في بيان رسمي للرأي العام من أمام المعبر سحب القافلة بسبب تعذر دخولها للمناطق المنكوبة في شمال غرب سورية([7]).  رافقت مسيرة القافلتين الكثير من الجدل حول الجهة المسؤولة عن عدم إيصال المساعدات لمستحقيها، إذ حملت الإدارة الذاتية كلاً من تركيا ونظام الأسد مسؤولية منع دخول المساعدات الإنسانية، وأكدت أن قرار المنع "جاء نتيجة التقارب السوري- التركي، ولتضييق الخناق على الإدارة الذاتية حتى في الجانب الإنساني وليس فقط في الجانب السياسي والأمني والعسكري"([8]). من جهته، رفض رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى دخول القافلة واتهم الإدارة الذاتية بمحاولة توظيف الآم السوريين لغايات سياسية([9]). لا تخلو طريقة تعامل الإدارة الذاتية مع ازمة القافلة من الاستثمار السياسي الذي ظهر من خلال إصرارها رفع شعارات ورموز الإدارة على الصهاريج ودعوة وسائل الإعلام لتغطية المؤتمر الصحفي لإحراج المعارضة الرسمية شعبياً ودولياً. كما تتحمل أجسام المعارضة الرسمية أيضاً مسؤولية عدم وصول القافلة إلى المناطق المتضررة بصيغة كان يمكن التوافق عليها بين مختلف الأطراف. وفيما يتعلق بالقافلة المتجهة إلى مناطق سيطرة النظام في حلب، أكد العديد من الناشطين أن القافلة عبرت معبر التايهة، بعيداً عن الإعلام، بعد موافقة الإدارة الذاتية على تسليم 70 شاحنة لنظام الأسد وإدخال 30 شاحنة إلى مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية والشهباء.

من جهة أخرى، نفت الإدارة الذاتية فرض شروط  من طرفها لإدخال المساعدات واتهمت نظام الأسد وتركيا وحكومة إقليم كردستان باستغلال الكارثة لمصالحهم السياسية([10])، حيث استلمت الإدارة الذاتية 25 شاحنة من المساعدات من السليمانية في كردستان العراق عبر معبر اليعربية " تل كوجر " الرسمي([11]) لإيصالهم إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وتجدر الإشارة إلى أن معبر اليعربية مع العراق مغلق منذ الثامن من حزيران/يونيو عام 2020 بفيتو (روسي- صيني)، في حين وصلت قوافل المساعدات الإنسانية المقدمة من مؤسسة البارزاني الخيرية وجمعيات خيرية أخرى من أربيل إلى مناطق شمال غرب سورية عبر معبر السلامة الحدودي مع تركيا.

استجابة المجتمع المدني

بعد يومين من الزلزال أعلن تحالف منظمات المجتمع المدني في شمال شرق سورية إطلاق حملة "هنا سوريا" لجمع المساعدات والتبرعات العينية والمادية لإغاثة المتضررين من الزلزال، حيث حددت نقاط تجميع في مدن شمال شرق سوريا الرئيسية([12]). وضمن الدفعة الأولى تمكنت الحملة بتاريخ 13 شباط/ فبراير من إدخال 82 شاحنة محملة بالمساعدات إلى المدن المتضررة في إدلب وشمال حلب، حيث حرصت إدارة تحالف المنظمات على تأكيد مدنية واستقلالية الحملة بعيداً عن كل التجاذبات السياسية وأطراف النزاع على الأراضي السورية([13]). كما وصلت ثمان شاحنات أخرى ضمن الدفعة الثانية من الحملة ووصلت إلى شمال غرب سورية عبر معبر عون الدادات([14]).

كما بدا لافتاً خلال هذه الفترة حرص الأهالي في مختلف مدن شمال شرق سورية على المشاركة في حملات شعبية ومبادرات أهلية لجمع التبرعات وإغاثة المنكوبين، ومنها حملتا “العشائر” و”أهل الفرات” اللتين نظمتهما عشائر دير الزور، حملة “الفزعة الرقاوية” التي نظمتها المبادرات الخيرية الأهلية بالرقة، فزعة أهل الجزيرة، حملة “فزعة الفرات” نظمتها منظمة “ماري”، وحملات في الطبقة ومنبج وجميع النواحي والقرى بشمال شرقي سورية([15])، إضافة إلى "مبادرة أهالي قامشلو" التي ضمت أموال وُزعت على المنكوبين في جنديرس وعفرين وبلدات شمال حلب المتضررة([16])، وبلغت مجموع هذه الحملات اكثر من 120 سيارة وشاحنة ومساعدات مالية.

ختاماً، بالنظر إلى تداعيات الزلزال واستجابة الأطراف السورية المختلفة، لا شك أن هذه النكبة كانت فرصة لكسر الحدود الأمنية دون استغلال سياسي واضح، وطرح مبادرات جديدة تنهي جمود المشهد السوري القائم منذ سنوات. ومن جهة أخرى، أظهرت استجابة المجتمع المدني والمبادرات الشعبية فرصة أخرى لما يمكن العمل عليه من قبل المجتمع المدني السوري في إطار خلق فضاءات عمل تسهم في تجسير المجتمعات المحلية وإعادة ربطها في مختلف مناطق النفوذ وطرح مبادرات دون سياسية قد تكون مخرجاً لإنهاء حالة الانقسام القائم وتخفيف معاناة السوريين.


 

([1])"بيان إلى الرأي العام"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، 6/02/2023، https://2u.pw/yheVai

([2])  "بيان إلى الرأي العام"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، 9/02/2023، https://2u.pw/2CvTeE

([3])  "بيان إلى الرأي العام"، الموقع الرسمي الهلال الأحمر الكردي، 22/02/2023،   https://2u.pw/px8qBe

([4])  "لإغاثة منكوبي الزلزال.. مجلس مقاطعة الحسكة ينصب خيمتين لجمع المساعدات"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، 13/02/2023، https://2u.pw/sv6GBE

([5])  "استنفار عام لقوى الأمن الداخلي لتأمين الأهالي في حال حدوث أي طارئ"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، 8/02/2023، https://2u.pw/RpgJsZ

([6]) "ألبسة ومواد غذائية بانتظار موافقة إدخالها إلى حلب"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، 12/02/2023، https://2u.pw/D92h0u

([7]) " بيان للرأي العام بخصوص سحب قوافل المساعدات من معبر أم جلود بعد انتظار أكثر من سبعة أيام للدخول"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية، 16/02/2023، https://2u.pw/34z6fF

([8]) " شيخموس أحمد.. رفض دخول المساعدات الإنسانية جاء نتيجة التقارب السوري التركي"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية، 6/03/2023، https://2u.pw/scjqAu

([9]) الحساب الرسمي لرئيس الحكومة الموقتة على تويتر، 9/02/2023، https://2u.pw/Upw1U6

([10]) " أمينة أوسي: نحن سوريين ومساعدتنا هي للسوريين وليس لدينا أي شرط وطلب لتقديم المساعدات"، الموقع الرسمي للإدارة الذاتية، 12/02/2023، https://2u.pw/4iEruR

[11] " الشؤون الاجتماعية والعمل تستمر باستلام المساعدات من معبر اليعربية لإرسالها لمتضرري الزلزال"، 07/03/2023، https://2u.pw/Gpupsr

[12] "إعلان حملة هنا سوريا"، الحساب الرسمي لتحالف المنظمات على الفيسبوك، 08/02/2023، https://2u.pw/rq92BP

([13]) "بيان بخصوص حملة هنا سوريا"، الحساب الرسمي لتحالف المنظمات على الفيسبوك 14/02/2023، https://2u.pw/jPOukQ

([14]) "إطلاق القافلة الثانية من المساعدات الإنسانية"، الحساب الرسمي لتحالف المنظمات على الفيسبوك، 08/03/2023، https://2u.pw/41KOJq

([15]) " “فزعة العشائر” لمتضرري الزلزال تتجاوز حدود سلطات الأمر الواقع"، عنب بلدي، 19/02/2023، https://2u.pw/R0vowt

([16])"مبادرة أهالي قامشلو لإغاثة متضرري الزلزال"، الحساب الرسمي لمؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية على الفيسبوك، 23/02/2023، https://2u.pw/2ySQfK

الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
الخميس نيسان/أبريل 29
الملخص التنفيذي مع تراجع سُلطة الدولة المركزية لصالح صعود تشكيلات دون دولتية، منها ذات طابع قومي وديني؛ برزت نماذج مختلفة من أنماط الحكم المحلي في الجغرافية السورية، والتي تأثرت بالخارطة…
نُشرت في  الكتب 
الخميس كانون1/ديسمبر 17
مقدمة تتفق جل الأدبيات المتعلقة بحقل العلاقات المدنية العسكرية بأنها خضوع القوات المسلحة لقيادة مدنية ديمقراطية، وهي عملية معقدة تتطلب إصلاحاً تشريعياً شاملاً، وإصلاحاً للقطاع الأمني بأكمله، وإجراء العدالة الانتقالية،…
نُشرت في  الكتب 
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20
قدم الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية أيمن الدسوقي تصريحاً لجريدة عنب بلدي ضمن تقرير…
الجمعة شباط/فبراير 24