في معظم الدول؛ تمارس اللجان البرلمانية أو الهيئات البرلمانية الأخرى مهام الرقابة المالية على مؤسسات الدولة، وتختلف هذه الصلاحية التي يملكها البرلمان من نظام لآخر فيما يتعلق بقطاع الدفاع والأمن فهي: صلاحيات غير محدودة كما في السويد التي يمتلك برلمانها الحق في تعديل بنود الموازنة بما فيها البنود المتصلة بقطاعي الأمن والدفاع، وتستطيع البرلمانات تعديل البنود حتى لو تمخض هذا التعديل عن زيادة مبلغ النفقات أو إدخال بنود جديدة على الموازنة؛ أو هي صلاحيات مقيدة كما في سويسرا وإسبانيا التي تستطيع برلماناتها إدخال التعديلات على الموازنة ولكنها لا تملك تعديل المبلغ الكلي المرصود للنفقات فيها؛ بالإضافة إلى الصلاحيات المحدودة كما في بريطانيا وكندا إذ لا تستطيع البرلمانات إلا تقليص النفقات المرصودة في الموازنة؛([1]) وبكل الأحوال من نافل القول أن لهذه اللجان أدوار ما يمارسها وفق القانون والدستور؛ إلا أن الوضع في سورية مختلف كلياً فممارسات حكومة النظام وبرلمانه تزداد وتتقلص إلا في فيما يخص الأجهزة التي تعد دعائم حكمه وعلى رأسها الأمن والدفاع فهي أدوار صفرية بامتياز لا رقابة ولا اشراف ومقترحات ومراجعات بل موافقة وتنفيذ
يعتبر العامل الاقتصادي في سورية أحد الأسباب التي تدفع قسم من الشباب نحو التطوع في السلك العسكري بسبب عدم حاجة المتطوع لقضاء عدة سنوات في الدراسة الجامعية ومن ثم تأدية الخدمة الإلزامية لمدة سنة وثمانية أشهر، ومن ثم البحث عن عمل من أجل تلقي راتب شهري، وبالتالي يعتبر التطوع في المؤسسة العسكرية أقصر الطرق من أجل تلقي راتب شهري ولاحقاً التدرج بالرتب العسكريةً ودرجات الراتب، وخلال السنوات الماضية كان القسم الأعظم من المتطوعين ينتمي للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد ورموز حكمه.
يعد قانون الخدمة العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 الركيزة الأساسية في عمل المتطوعين من ضباط وصف ضباط وأفراد في المؤسسة العسكرية([2])، حيث تتضمن بعض مواد هذا القانون تحديد رواتب العسكريين بمختلف فئاتهم ورتبهم ودرجاتهم، وعبر السنوات التالية تم زيادة رواتب العسكريين عدد من المرات في الأعوام (2006 – 2008 – 2011 – 2013 – 2015 – 2018 مرتين) إلى جانب إعادة صياغة جدول الرواتب بما يتوافق مع تلك الزيادات التي كانت تتم بشكل عام مع زيادات العاملين المدنيين في الدولة.
ونتيجة للأوضاع الاقتصادية المتردية خلال السنوات الماضية تم إقرار "ولأول مرة في سورية" ما يسمى "بالتعويض المعيشي" بقيمة (4000 -7500) ليرة عبر مراسيم تشريعية صادرة عن بشار الأسد في عامي 2015 و2016 على التوالي.([3])
وفي شهر حزيران من عام 2018 أخذت رواتب العسكريين منحى مختلف حيث تمت زيادة رواتبهم دون بقية العاملين في الدولة بنسبة 30% بعد إضافة التعويض المعيشي ليكون من أساس الراتب المقطوع، وفي نهاية عام 2018 صدرت زيادة أخرى للعسكريين فقط بنسبة 8% بالإضافة إلى مضاعفة راتب الطيران الخاص بالضباط الطيارين لثلاثة أضعاف ما كان عليه في عام 2015، وهو ما شكّل نقلة نوعية في رواتب العسكريين وبات ينظر لهذه الزيادة على أنها مكافأة من قيادة النظام السوري لضباطه وصف ضباطه وأفراده المتطوعين على وقوفهم معه في مواجهة المعارضة المسلحة.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا؛ هل كافأ النظام السوري عسكرييه حقاً أم انه استفاد من اقتصاد الحرب بشكل ما؟ وهنا نحاول الوقوف على كيفية إدارة النظام لاستحقاق الرواتب العسكرية منذ 2003 وحتى الوقت الحاضر، إذ يؤكد المسار الزمني لرواتب العسكريين منذ 2003 وحتى 2019 أن قيمتها لاتزال أقل مما كان يتقاضاه العسكريين بنفس الرتبة والدرجة إذا ما احتُسِبت بسعر صرف الدولار الأمريكي خصوصاً أن الليرة السورية ومنذ عام 2011 وما تلاه شهدت انخفاضاً ملموساً أمام الدولار وباتت الأسواق المحلية في ظل تدهور الليرة تعتمد في حساب قيم السلع والخدمات على الدولار وهو ما انعكس على مستوى المعيشي؛([4]) وهو يدعونا لمقارنة سلسلة الرواتب مقرونة بالدولار والليرة على مدار خمسة عشر عاماً الماضية وعلى سبيل المثال لا الحصر يظهر الجدول التالي سلسلة الراتب للضابط الملازم منذ عام 2003 وحتى عام 2019:([5])
ويظهر الشكل البياني التالي حركة الراتب بالليرة والدولار بشكل متزامن مع سعر الصرف في وقت كل زيادة، إلا أن راتب الملازم بوقت الزيادة الأخيرة بنهاية عام 2018 كان مساو تماماً لما كان عليه بعام 2003 في حين أن قيمته بالوقت الحاضر يساوي 90 دولار وهو أقل مما كان عليه في عام 2003. ويلاحظ في الشكل البياني الثاني أن الخط البياني الخاص بالراتب قد انتظم بحركة تصاعدية بعد إضافة التعويض المعيشي.
ويمكن تعميم ما سبق على راتب العميد من حيث الدرجتين الأولى والخامسة كما يلي:
إلا أن موضوع رواتب العسكريين والزيادات لا تنحصر عند هذا الحد، حيث أن رواتب العسكريين ضمن الرتبة الواحدة تنقسم لدرجات مختلفة بحسب المدة التي يقضيها العسكري بالرتبة، ويتم نقله من درجة إلى درجة أعلى ضمن نفس الرتبة في سلسلة الرواتب كل عامين، فعلى سبيل المثال كانت الزيادة بين درجة وأخرى في عام 2006 تمثل 7 % أما بالوقت الحالي فهي لا تزيد عن 5 % بعد مرور كل هذه السنوات. ويذكر أن قيمة الرواتب بعد الزيادة الأخيرة في عام 2018 بالليرة السورية أصبحت على الشكل التالي([6]):
الضباط:
صف الضباط:
الأفراد:
منذ عام 2003 وحتى الوقت الحاضر لا تزال الزيادات على الرواتب في المؤسسة العسكرية تتم عبر إصدار مراسيم تشريعية من بشار الأسد بشكل مباشر بعيداً عن مؤسسات الدولة المدنية، وهو ما خلق شرخاً إضافياً في العلاقات المدنية العسكرية كون أن "رئيس الجمهورية" هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة،([7]) ويقوم بإصدار هذه الزيادات بمعزل عن المؤسسات المدينة ليخص بها العسكريين فقط دون غيرهم.
إلا أنه وعلى الرغم من هذه الزيادات المتواصلة فهي زيادة وهمية حيث أن السلة المعيشية قد ارتبطت طرداً مع الدولار وكذلك هو الحال بالنسبة لآجار البيوت الشهرية، حيث بلغت تكاليف معيشة أسرة في نهاية الربع الثالث من عام 2018 وفق مؤشر قاسيون لتكاليف معيشة أسرة في دمشق، مكونة من 5 أشخاص إلى 309 آلاف ليرة سورية،([8]) وهذا الأمر دفع بعض العسكريين بالتوجه نحو أساليب مختلفة للتحصيل المالي، كالارتباط بشبكات الفساد المحلية والتهريب، والمشاركة في عمليات التعفييش من المناطق التي كان يدخلها الجيش السوري منذ عام 2011، وهو ما دفع البعض أيضاً لتفضيل التطوع في الفيق الخامس المدعوم روسياً على التطوع في مؤسسة النظام العسكرية والتي على الرغم من كافة التضحيات التي قدمتها لصالح نظام الحكم لمنع سقوطه إلا أن هذا النظام لم يؤمن لمن ضحى من أجله أبسط مقومات الحياة الأساسية.
تعد رواتب الجيش مؤشراً بالغ الوضوح لغياب أية أدوار مدنية على عمليات تقدير الرواتب والعلاوات والمكافآت لصالح الاستحواذ المستمر للنظام؛ وأن الزيادات الوهمية ما كانت إلا لتعزيز الولاء؛ فمنذ توريث بشار الأسد للحكم في سورية؛ كان ولا زال يحاول التهرب من أسئلة "الشرعية" واستحقاقات الاصلاح والتنمية البشرية والاقتصادية عبر تقديم حزمة من زيادات الرواتب للعاملين في الدولة لا سيما العسكريين منهم بشكل خاص ( زيادات وهمية ترافقها دوماً زيادات في الأسعار) في دليل واضح على إفلاسه من أي سياسات تنموية والتي تتطلب تحرير مقدرات الدولة وتغيير الأنماط البرلمانية والاقتصادية وتعزيز الرقابة بكل أنواعها وهو ما سيعجز عنه هذا النظام لصالح إعادة اهتمامه ببناء هياكل وشبكات التحكم الخاصة به.
([1]) لينا أندرسون:" مفاهيم الرقابة المالية في القطاع الأمني والأطراف الرئيسية المشاركة فيها"، منشور صادر عن مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، 2015، ص 39- 40.
([2]) المرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 المتضمن قانون الخدمة العسكرية، الموقع الالكتروني الرسمي لمجلس الشعب السوري، متوفر على الرابط https://bit.ly/2t8kLyH،
([3]) التعويض المعيشي، المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2015، المرسوم التشريعي رقم 13 لعام 2016، الموقع الالكتروني الرسمي لمجلس الشعب السوري، متوفر على الروابط، https://bit.ly/2tgTfz7 ، https://bit.ly/2BqEYUN
([4]) بلغ سعر الدولار الأمريكي في بداية شهر شباط/ فبراير حوالي 515 ليرة سورية مقابل كل دولار أمريكي.
([5]) تم اعتماد موقع https://ec.europa.eu/ من أجل حساب الليرة السورية بما يقابلها بالدولار بشهر وسنة كل زيادة في الرواتب
([6]) تفاصيل المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2018، الموقع الرسمي لوكالة الأنباء السورية "سانا"، متوفر على الرابط https://bit.ly/2WNB41x
([7]) بشار الأسد ضابط في الجيش السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي وهو شخصية عسكرية وليس مدنية
([8]) 309 ألف ليرة تكاليف معيشة أسرة - أيلول 2018، جريدة قاسيون، متوفر على الرابط https://bit.ly/2E8QW6f،