مقالات

وظفت المظلومية قديماً ومن قبل العديد من الفئات كأداة ضغط سياسي واجتماعي للحصول على ميزات ترفع أصحابها فوق القانون والأعراف، ولمنحهم مكانة خاصة غير قابلة لمساس، فعلى سبيل المثال لا الحصر شرعن إهمال آل أمية ومن بعدهم تجاهل آل عباس المشروع الشيعي السياسي، وكذلك أسس اليهود دولتهم في فلسطين مستغلين الاضطهاد التي تعرضوا له في أوروبا، ليتكرر مؤخراً نفس السيناريو إلى حد كبير مع تنظيم الدولة الذي يوظف مظلومية السنة في العراق والمشرق عموماً في تسويق "الخلافة الإسلامية". وعلى الرغم من فاعلية المظلومية في حشد الرأي العام وتجييش مئات آلاف الأنصار، إلّا أنها شرّعت في جميع الحالات دون استثناء للإقصاء والظلم، وخلقت تباعاً مجموعة مظلوميات جديدة مؤسسةً لدخول مجتمعاتها في دوامة سلبية لا تلبث أن تقضي على الجميع غرقاً. ويلحظ اليوم أن موجة الثورات المضادة التي لحقت بالربيع العربي ونال جلها حكومات مكونها الرئيسي إسلامي، نشوء مناخ مناسب ومشجع لوقوع الحركات الإسلامية ضحية توظيف مظلوميتها وانصراف أفرادها عن إعادة ترتيب بيتهم الداخلي والدعوة إلى مشاريع وطنية تحميهم وغيرهم من سياط الدكتاتورية وتسلطها.

يكمن المحظور الأول للمظلومية في فئويتها، فهي سردية تروي مأساة الفئة المستهدفة، وتحكي آلامهم وما تعرضوا له من قمع وإجرام وتهميش، وغالباً ما ترتفع أصوات أصحابها مدافعين عنها عند أي نقد يوجه لها. ويتدرج المقتنعون بها في تصعيد نبرتهم المطالبة برد مظالمهم حتى تغدو مسلمة "فوق دستورية" أو حقيقة كونية "مقدسة" لا تقبل النقاش بل ويعاقب من يشكك بها. وبعيداً عن صوابية الدعوة أو مصداقية المعلومات المؤسسة للمظلومية ينتهي المطاف دائماً في منح أصحابها ميزات لا ينعم بها غيرهم، ممهدة بشكل طبيعي للفئة المظلومة في الوقوع بالمحظور الثاني.

إن التشريع القانوني أو الدستوري الذي يمكّن لفئة دون غيرها في المجتمع أو السياسة دون الاستناد على قاعدة مساواة وعدل شاملة غالباً ما يؤسس للإقصاء أولاً وللدكتاتورية لاحقاً. فالمظلومية لا تقبل المشاركة، وهي حكر لمن اكتوى بلظاها، فإن حظي أصحابها بالحكم اقصوا من "تنعم" و"أعرض" عن مساندتهم في محنتهم. فلا مكان حين ذاك للمختلف عنهم بينهم، ولا يجزيه أي عمل عن اللحاق بركبهم، فهو مستخدم ومستأجر بأحسن الأحوال. ولأن سنة الكون تنص "أن لكل فعل ردة فعل مساو له في القوة وعكسه في الاتجاه"، تتشكل مظلوميات مضادة تطالب كل منها على حدة أو مجتمعةً بحقوقها ورد مظالمها. وكإجراء طبيعي غالباً ما تلجأ الفئة المظلومة سابقاً إلى تعزيز ما حصلت عليه طوعاً بالإكراه، مؤسسةً لدكتاتورية جديدة ومتجددة تمكنهم إلى حين قبل أن تنقلب عليهم وبالاً ومحنة.

أمّا المحظور الثالث فهو الوقوع ضحية نظريات المؤامرة، حيث تشبه الميزات التي يطالب بها أهل المظلومية تلك التي تفرض على الدولة من القوى الخارجية لحماية الأقليات التي تتبع لها، ويسهل في هذا السياق تحديد القواسم المشتركة بينهما، ولعل أهمها على الإطلاق التمييز وتشكل الخوف الوجودي. حيث أنها تسهم في بناء هوية المستفيدين منها حول المظلومية فقط، وتقطع السبيل عليهم في إيجاد المشترك بينهم وبين محيطهم المختلف. فعلى الرغم من جاذبية القيم والصفات المشتركة وقدرتها على تذليل الفروقات بين أفراد المجتمع الأوسع، إلا أنها تجرّد أهل المظلومية من "حقوقهم" وتحولهم إلى أشخاص عاديين متساويين، وغالباً ما يواجه الباحث عنها بعنف، مقاطعةً وعقاباً على تمرده، ودرساً لأخوته، وتحذيراً للغير. ويترافق مع زيادة الميزات وتقدم الزمان، تنامي الشكوك والارتياب بنيّات المحيط، وقد يكون أغلبها في محلها، إلّا إنها تشجع في ذات الوقت على انتشار نظريات المؤامرة وتُصرف الجهود على محاربة الآخر وصده بدلاً عن النماء الذاتي والتطور الفعّال.

تمتلك الحركات الإسلامية في المشرق رصيداً يكفل لها المطالبة بمظلوميتها، فلقد عانى أفرادها من التضييق والاضطهاد والتهميش وكل ما يؤهلهم للإحساس بالظلم فضلاً عن غيرهم، وإذ منعهم اتكاؤهم على قاعدة شعبية واسعة من تبني سردية المظلومية علناً، إلّا أنهم يمارسونها بوعي أو دون وعي منهم. ولقد كشفت تجارب حكم الجماعات الإسلامية جنوحها للوقوع في المحظورات السابقة، وبحكم عدم اتساقها مع نسق المنظومة الدولية الليبرالية كان من السهل الإيقاع بها أو الانقلاب عليها.  وبما أن مناط التكليف الإلهي يقتضي أولاً عمارة الأرض للكل لا لفئة دون غيرها، وثانياً إنفاذ مقاصد الشريعة من قسط وعدل ومساواة، ينبغي على الجماعات الإسلامية تطبيق ما يطالبون به الليبراليين من إرهاف الحس الوطني وتقديم النفع العام. فلم يكن ليكتب لتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا النجاح لولا تبنيها هذا الفهم الرفيع، ولم يكن ليقع في كبوته الأخيرة إلّا لغفلته عن ضرورة الاستمرار في منهجه الأول.

المصدر موقع السورية نت:https://goo.gl/N1mmAa

الأربعاء آب/أغسطس 23
يأتي نشر هذا الكتاب في وقت عصيب على سورية، خاصة في أعقاب الكارثة الطبيعية التي حلت بالبلاد، إضافة إلى الزلازل السياسية التي شهدها الشعب السوري منذ بداية الثورة السورية عام…
نُشرت في  الكتب 
الخميس نيسان/أبريل 29
الملخص التنفيذي مع تراجع سُلطة الدولة المركزية لصالح صعود تشكيلات دون دولتية، منها ذات طابع قومي وديني؛ برزت نماذج مختلفة من أنماط الحكم المحلي في الجغرافية السورية، والتي تأثرت بالخارطة…
نُشرت في  الكتب 
الخميس كانون1/ديسمبر 17
مقدمة تتفق جل الأدبيات المتعلقة بحقل العلاقات المدنية العسكرية بأنها خضوع القوات المسلحة لقيادة مدنية ديمقراطية، وهي عملية معقدة تتطلب إصلاحاً تشريعياً شاملاً، وإصلاحاً للقطاع الأمني بأكمله، وإجراء العدالة الانتقالية،…
نُشرت في  الكتب 
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20
قدم الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية أيمن الدسوقي تصريحاً لجريدة عنب بلدي ضمن تقرير…
الجمعة شباط/فبراير 24