تعمل الوفود الأمريكية منذ بداية العام 2019 على الوصول لصيغةٍ توافقية حول مصير شمال شرق سورية، والتوافق الأمريكي المطلوب إلى الآن له طرفان رئيسيان: الأول هي الجارة الشمالية تركيا، والتي ترى في مشروع الإدارة الذاتية بكليته تهديداً على أمنها القومي، وعلى الطرف الآخر هناك الإدارة الذاتية المبنية على فكر أوجلان المهادنة لتركيا على الساحة السورية.
شكل قرار الرئيس الأمريكي المفاجئ للجميع بإعلانه الانسحاب من سورية بداية حركة دبلوماسية مكوكية منها المعلن ومنها السري، في محاولةٍ للوصول إلى صيغة تستطيع بها واشنطن الحفاظ على المكعبات التي رصفتها في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية.
يبدو للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تحاول فقط الوصول لصيغة توافقية مع حليفتها تركيا، إلا أن الواقع يشير إلى مساراتٍ أخرى تنشط فيها شبكة العلاقات الدبلوماسية الأمريكية منها على الصعيد الدولي، ومنها على الصعيد الإقليمي، وأخرى على الصعيد المحلي؛
فيما يخص النشاط الأمريكي على الصعيد الدولي، فيتمحور حتى الآن في ثلاثة مسارات رئيسية الأول يتمثل في محاولات لكسب الحلفاء الأوروبيين ضمن القوات المتبقية في سورية لحماية مكتسبات التحالف على أنقاض تنظيم الدولة، ويبدو أن هناك حتى الآن شريكين رئيسيين في هذا المسار وهما فرنسا، والمملكة المتحدة، مع دولٍ أخرى قد أبدت استعدادها لإرسال عناصر من قواتها المسلحة إلى شمال سورية، إلى جانب محاولات بعض الدول لتجنب إرسال قوات برية والبحث عن طرقٍ أخرى لدعم مهام التحالف مثل "هولندا"، يضاف لهذه المحاولات قيام دول الاتحاد الأوروبي بإرسال وفودٍ عدة إلى مناطق الإدارة الذاتية لسببين رئيسين هما مواطنوهم من عناصر تنظيم الدولة، وكيفية دعم مشروع الإدارة الذاتية في المجال الخدمي.
يتمثل المسار الثاني في الاستمرار بخنق النظام السوري من طرف المجتمع الدولي عبر منعه من إقناع الأطراف الدولية بالدخول لعملية إعادة الأعمار، ومراقبة أشد المساعدات الإنسانية التي تصل للنظام.
يتمثل المسار الثاني في الاستمرار بخنق النظام السوري من طرف المجتمع الدولي عبر منعه من إقناع الأطراف الدولية بالدخول لعملية إعادة الأعمار، ومراقبة أشد للمساعدات الإنسانية التي تصل للنظام، والثالث هو تحذير الدول الأوروبية من عدم استعادة مواطنيها الذين قاتلوا مع تنظيم "داعش"، والإسراع في استعادة أكبر عددٍ منهم في خطوة تهدف للتخفيف من خطر الإبقاء عليهم في شمال سورية، نتيجة انعدام محاكم يمكن الاستناد لأحكامها في تحديد مصيرهم، وهذا الاتجاه يشمل إرسال العشرات من هؤلاء المقاتلين إلى العراق بالتوافق بين الأخير ودولهم الأصلية، لتتم محاكمتهم في العراق كونه أحد المتضررين من نشاطاتهم وإمكانية حكمهم بالإعدام هناك، وهو أمرٌ مستحيل في إمكانية حدوثه في أوروبا، ولايزال هذا المسار يعاني من انعدام في عدد الدول التي أقرت مشاركتها في مشروع المنطقة الآمنة وإبقاء جنودها في سورية، كما يعاني الموقف الأوروبي فيما يخص العقوبات وحصار النظام من استمرار المخاوف الأوروبية فيما يخص معادلة الاستقرار في سورية سيؤدي لتقليل عدد اللاجئين لها، أما عناصر تنظيم الدولة، فأوروبا مدركة بأنهم سيكلفونها ثروة مالية، مع إمكانية إطلاق سراحهم وفق القوانين الأوروبية نظراً لانعدام الأدلة التي تدين معظم هؤلاء المقاتلين.
" المبعوث الأميركي إلى سورية والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" جيمس جيفري، قال إنّ الدول الغنية التي تخلت عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها تخاطر باندلاع موجة عنف جديدة".
إقليمياً: تعمل الولايات المتحدة على مسارين رئيسين الأول؛ هو الوصول لصيغة توافقية مع حليفتها تركيا حول مصير الإدارة الذاتية، عبر إنشاء المنطقة الآمنة، ( ويمكن اعتبارها منطقة عازلة على المدى القصير والمتوسط)، التي ترغب تركيا في الحصول على دورٍ رئيسي ومحوري، وعلى تواجدٍ فيزيائي قوي فيها عبر جنودها وقواتٍ من المعارضة الموالية لتركيا، على حساب إنهاء وجود وحدات حماية الشعب بدايةً على الحدود ولاحقاً في المشهد العسكري كاملاً، بينما تطالب قوات سوريا الديمقراطية بعصبها " وحدات حماية الشعب"، بالمحافظة على سيطرتها الكاملة ضمن هيكلية أكثر تنظيماً مع قبولٍ لعودة النازحين إلى تركيا من مناطق سيطرتها في تل أبيض والرقة ودير الزور، ولا يُعتقد أن تقوم الوحدات بالاعتراض على انضمام عناصر من المعارضة المسلحة من أهالي هذه المناطق ولكن على شكل أفراد وترفض بتاتاً قبول أي تكتلات عسكري تنضم بشكلٍ جماعي لها، أما أمريكا فتقدم حتى الآن من جهتها سحب وحدات حماية الشعب بشكلٍ خاص بعيداً عن الحدود التركية لمسافة لا تقل عن 5 كم، ومنح تركيا عيناً في المنطقة تمكنها من رؤية تحركات قسد والوحدات سواءً كان عبر بعض نقاط المراقبة البرية أو الجوية أو الاثنتين معاً، المسار الإقليمي الثاني والذي تعمل عليه الولايات المتحدة هو تقوية الدورين السعودي والإماراتي في منطقة شرق الفرات في ثلاثة اتجاهات: الأول هو ضخ الأموال في مشاريع إعادة الإعمار وتقديم الخدمات ولكسب ولاء العديد من الأطراف، والثاني هو لعب دور حامي العشائر السورية، والثالث تنظيم دور العشائر في مشروع مقاومة وحد النفوذ الإيراني في شرق سورية عموماً ومنطقة دير الزور خصوصا.
ظاهرياً يبدو أن المسار الإقليمي خصوصاً في الاتفاق مع الحليفة تركيا خرج من عنق الزجاجة، فتصريحات قائد قسد حول قبولهم للتفاوض مع تركيا وحول وجود جهود وساطة بينهم وتركيا ترافقت مع زيارات لجيمس جيفري إلى مناطق الإدارة الذاتية وأنقرة، وترافقت مع رسالة عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكُردستاني الذي دعا " قوات سوريا الديمقراطية لأمرين رئيسيين الأول حل مشكلاتها في سورية، من دون اللجوء إلى العنف، والثاني القيام بالأخذ بالحسبان حساسيات تركيا في سورية، كما ترافقت التصريحات مع عقد مؤتمر العشائر، في ضوء تخفيف تركيا من تهديداتها المباشرة لقسد بالاجتياح والقيام بعملية عسكرية على غرار "غصن الزيتون" أو النسخة المصغرة منها، وفيما يخص الطرف السعودي فقد شكلت زيارة السبهان خطوة أمريكية جديدة في تطمين مجتمعات دير الزور الفائرة حول دورها المستقبلي في إدارة مناطقها بنفسها، ومنع التوسع الإيراني مقابل الدعم السعودي الإماراتي، هذه النجاحات لاتزال تعاني من استمرار محاولات التغلغل الإيرانية في المجتمعات المحلية، بالإضافة إلى انخفاض مستويات الثقة بين أنقرة وواشنطن خصوصاً بعد تجربة منبج، كما أن الذراعين اللذين تعتمد أمريكا عليهما ( تركيا والسعودية) دخلا لمرحلة الخصومة الدبلوماسية ومستوياتٍ متدنية من حرب الوكالة في ليبيا، وهو ما يمكن أن يهدد أي محاولة أمريكية للتوفيق بينهما شرق الفرات إلا إذا ضغطت أمريكا في اتجاه قيام الدولتين بفصل الملفات عن بعضها البعض.
وأخيراً خطوات المسار المحلي، وتسير فيه الولايات المتحدة بعدة اتجاهات رئيسية: الأول هو تمكين السيطرة الأمنية للإدارة الذاتية عبر ضبط السجون التي تحوي المئات من عناصر تنظيم الدولة، والذين يمكن اعتبارهم قنبلة موقوتة في منطقة لاتزال تعيش ارتدادات سنوات من الفراغ الأمني، كما لايزال مثال سجن أبو غريب في العراق وهروب مئاتٍ من عناصر القاعدة منه ماثلاً أمام الأعين، وفي المجال الأمني يقوم التحالف بعمليات إنزال مستمرة تستهدف خلايا التنظيم المتبقية في جنوب مدينة الحسكة وصولاً إلى دير الزور، وعسكرياً يقوم التحالف الدولي بعملية إعادة هيكلة لقوات سوريا الديمقراطية عبر تشكيل مجالس عسكرية لأهداف عدة منها: 1_ تحويل هرمية قسد، وخصوصاً YPG من حالة المجموعات والتشكيلات المنفصلة لحالة التشكيلات العسكرية المترابطة والهرمية". 2_ الدخول لمرحلة الاستقرار والتمكين العسكري، 3_ تثبيت عناصر القوات في مناطقها، بما يقلل من المخاوف التركية من هوية قادة هذه القوات، بالإضافةً إلى التجهيز لأي عملية دمج عسكرية لهذه القوات مع قوات " بيشمركة روج" أو الجيش السوري الوطني في المستقبل.
الاتجاه الثالث محلياً يمكن في دفع وتشجيع أطراف عدة للعمل على ملف الحوار الكُردي – الكُردي، وهذا الملف يتم تداوله عبر عدة وسائل أبرزها؛ محاولات بعض منظمات المجتمع المدني الكُردي لتقريب وجهات الطرفين الكُرديين.
الاتجاه الثاني محلياً يتمثل في رفع مستوى مقبولية مشروع الإدارة الذاتية لدى المجتمعات المحلية، خصوصاً العربية منها عبر إعادة هيكلة الإدارة الذاتية وتشكيل إدارات لمناطق الرقة ودير الزور، ويأتي اجتماع العشائر الذي عقدته "قسد" في عين عيسى على رأس هذه الخطوات بالإضافة لكونها رسالة للنظام وروسيا بغلق باب العودة للمنطقة عبر العشائر أمامهم، كما إن زيارة السبهان كانت لإعطاء هذه المحاولة في كسب العشائر طابعاً من الشرعية العربية المتمثلة بالمملكة السعودية، بالإضافة لأسباب الضبط المحلي ومواجهة محاولات تغلغل إيران، وفي هذه الاتجاه تبرز محاولات " قسد " في محاببة العشائر، وتمييز مناطقها في قانون الدفاع الذاتية ( العسكرية الإلزامية) الذي عدلته مؤخراً، ليبقى نافذاً على ولادات عام 1986 في منطقة الجزيرة، ويرتفع لمواليد 1990 في مناطق أخرى خصوصاً من الرقة وديرالزور.
الاتجاه الثالث محلياً يمكن في دفع وتشجيع أطراف عدة للعمل على ملف الحوار الكُردي – الكُردي، وهذا الملف يتم تداوله عبر عدة وسائل أبرزها؛ محاولات بعض منظمات المجتمع المدني الكُردي لتقريب وجهات الطرفين الكُرديين، وتذليل العقبات وحصر المطالب في التشارك بالصيغة الحالية للإدارة الذاتية والعمل على تطويرها لاحقاً، والوسيلة الأخرى تكمن فيما يسمى مشروع الحوار الكُردي - الكُردي المُهندس فرنسياً، ولايزال هذا الأخير في طور الغموض والبطء، فوفق المصادر الكُردية، استطاعت الخارجية الفرنسية تنظيم لقاءين بين الطرفين دون أن يفضى إلى أية نتيجة عملية، وهو ذات المستوى الذي وصلت إليه محاولات منظمات المجتمع المدني فلم تتجاوز حاجز عقد بعض الاجتماعات التي حضرها ممثلون عن الطرفين، تميزت بتمسك كليهما بمنطلقاتهم السياسية الحزبية والأيديولوجية للوصول إلى أية صيغة اتفاق لتشارك الحكم.
يتمثل الاتجاه الرابع وهو الأقل نشاطاً وتركيزاً في موضوع ضم "مجلس سوريا الديمقراطية " إلى هيئة التفاوض العليا، وبالرغم من نفي هذا التوجه من قبل شخصيات معارضة، إلا إنه يبقى مطروحاً على الطاولة وتزيد احتماليته مع زيادة احتماليات التوافق الأمريكي التركي، الذي إذا ما تم فسيمثل انضمام " مسد " للمعارضة دفعةً قوية لها، لأن "هيئة التفاوض " تعيش مرحلة من الجمود، فاجتماعاتها تُعقد بفواصل زمنية طويلة وهو أمرٌ أدى إلى عدم فاعليتها، عدا عن أنها لم تحقق إنجازاً فعلياً.
يظهر من الخطوات التي تم السير فيها في المسار المحلي، إلى درجة متفاوتة بين مستويات مساراته والتي تعمل عليها واشنطن، فلازالت سجون الإدارة الذاتية تحوي العشرات من معتقلي تنظيم الدولة، ويُلحظ نشاطٌ جمهوريات روسيا، في أخذ عناصر وعوائل مواطنيهم المحتجزين لدى " قسد" بينما تستمر أوروبا في التلكؤ في اتخاذ ذات الخطوة، أما عملية إعادة هيكلة "قسد"، فتنشط بوتيرةٍ أسرع مع وجود تخوف لدى التحالف من ممارسة ضغطٍ أكبر على " قسد" على الأقل في المرحلة الحالية، بعد ما خلقه قرار ترامب المفاجئ حول الانسحاب من تخوفات لدى قيادات قوات سوريا الديمقراطية، لذا لا تريد وحدات حماية الشعب وقسد السير في كافة الخطوات دون وجود ضمانة سياسية أو ضمانة عسكرية تتمثل بوعودٍ في البقاء لفترة أطول شرق الفرات، من جهته يعتبر موضوع طمأنة العشائر، ودمجها مع منظومة " مسد " والإدارة الذاتية، عملية معقدة مع انقسام العشائر بين أطراف الصراع المتعددة، من النظام، إلى إيران، إلى تركيا، والتحالف وهو ما يضفي بهشاشة زائدة على واقعها، أما ملف الحوار الكُردي – الكُردي، فبالرغم من كونه أحد أهم الملفات بالنسبة إلى المجتمعات المحلية، إلا إنه لا يبدو على واشنطن والتحالف أية رغبة في ممارسة ضغطٍ فعال سواءً على الإدارة الذاتية لقبول المجلس كشريكٍ حقيقي، أو على المجلس ليقوم بتفعيل هيئاته الداخلية والخارجية.
اتصفت السياسة الأمريكية في سورية بالسير في خطٍ متذبذب بين التشدد والانفراج اتجاه النظام السوري، أو دعم المعارضة، وصولاً للعام 2015 مع اتخاذ التحالف قرار التعاون مع " وحدات حماية الشعب"، ولاحقاً تشكيل " قسد"، وصولاً إلى تغريدة ترامب حول الانسحاب.
اتصفت السياسة الأمريكية في سورية بالسير في خطٍ متذبذب بين التشدد والانفراج اتجاه النظام السوري، أو دعم المعارضة، وصولاً للعام 2015 مع اتخاذ التحالف قرار التعاون مع " وحدات حماية الشعب"، ولاحقاً تشكيل " قسد"، وصولاً إلى تغريدة ترامب حول الانسحاب، ليصل تذبذب الإدارات الأمريكية لحدوده العليا، وليعود لاحقاً لمرحلة أكثر استقراراً مع توجه الإدارة الأمريكية لضبط وتهذيب قرار ترامب بالانسحاب، وتطوير هذا الضبط لاحقاً لطرح مشروع المنطقة الآمنة، الذي دفع بالولايات المتحدة الأمريكية، للتوفيق بين سياسات الإدارات العسكرية والأمنية الأمريكية، في سبيل الوصول إلى حلٍ يرضي حلفاء أمريكا المحليين – قسد - ، والدوليين، وبشكلٍ خاص أنقرة، ويظهر من النشاط الأمريكي الدبلوماسي توجه دقيق حول كيفية الحفاظ على المكتسبات الميدانية في مواجهة تنظيم الدولة، وتحويله إلى مشروع تمكين مجتمعي لمختلف مكونات شرقي الفرات وشمال سورية، بالتعاون مع الجارة تركيا، بحيث يصل المشروع في نهايته إلى التقليل من المخاوف التركية، إلى الحد الذي تعدل الأخيرة به موقفها من إدارة شمال سورية، بصورة تمنح الأخيرة فرصة تمكنها من تفعيل مشروعها الحوكمة دون التخوف من مهددات وجودية، ويظهر من التحركات الأمريكية: الدولية، والإقليمية، والمحلية، توجهاً تتوضح معالمه رويداً رويداً، حول الصيغة النهائية لشكل الحكم شرق النهار، ورغم انقشاع الضباب قليلاً إلا أن أي مشروعٍ يتم تنفيذه سيحتاج لخطواتٍ أكثر في اتجاه تحسينه بحيث يصبح مقبولاً بشكلٍ خاص من المجتمعات المحلية، وإلا فإن التجارب الأمريكية الفاشلة في العراق بعد احتلاله لاتزال ماثلة في الأذهان.
المصدر موقع سوريا: http://bit.ly/2NH1uBv