Print this page

مقدمة

تشهد محافظة السويداء لحظة مفصلية تعكس طبيعة المرحلة الانتقالية في سورية بعد سقوط النظام البائد. إذ لم تعد الأحداث الجارية هناك أُحادية البُعد كمجرد اضطرابات أمنية أو انفعالات محلية ولا هي فقط مسألة احتكار السلاح وبسط الدولة سيطرتها على الجغرافية، بل باتت مؤشراً واضحاً على التحديات المركبة التي تواجه الدولة السورية في إعادة بناء شرعيتها، وإعادة دمج مكوناتها، وبناء عقد وطني جديد يستوعب التنوع ويستند إلى الواقعية السياسية والأمنية وقائم على مبدأ التدرج وبناء الثقة وعلى التشاركية الحقيقية بكافة أشكالها.

السويداء، بما تحمله من رمزية دينية واجتماعية، وما تُمثّله من عمق جغرافي في الجنوب السوري، تتحول اليوم إلى مختبر سياسي حساس يختبر قدرة الدولة على صياغة مقاربات مختلفة، تتجاوز منطق الهيمنة الأمنية، نحو نمط من الإدارة التشاركية المنفتحة، التي تعترف بالخصوصيات دون أن تفرّط بوحدة القرار.

تبين المقالة أدناه بعد إشارتها لتعقيد المشهد المحلي والتحديات المركبة ضرورة تبني مقاربة واقعية ومتكاملة لإعادة تعريف المركزية والأدوار المحلياتية وتعزيز ديناميات الثقة المجتمعية وتقدم سلسلة من التوصيات الدافعة باتجاه تجاوز الأزمة الراهنة وتوفر مناخ صحي لولادة دولة سورية موحدة.

أولاً: تعقيد المشهد المحلي - بين الخوف والبحث عن تموضع

منذ سقوط النظام البائد، بدت محافظة السويداء وكأنها تقف على مفترق طرق. حيث انقسم المجتمع المحلي، وخصوصاً ضمن الطائفة الدرزية، بين تيارات تنادي بالانخراط في البُنية الجديدة للدولة، وأخرى متوجسة، تنظر بعين الريبة إلى أي مشروع لا يحمل ضمانات حقيقية لحماية كرامتها واستقلالها النسبي.

يُضاف إلى ذلك أن الذاكرة الجمعية لأبناء السويداء، بما فيها من محطات مقاومة وتاريخ من الاستقلالية، تُغذّي ميلاً لدى البعض للحفاظ على ما يعتبرونه توازناً رادعاً، ولو بالسلاح، في ظل غياب ثقة مكتملة بالدولة المركزية وفي ظل تاريخ طويل من المعارك مع بعض مسلحي البدو والمهربين في البادية.

ثانياً: التحدي المحلي وتداخلات الخارج

رغم محاولات الدولة الجديدة فرض الاستقرار، إلا أن الواقع الأمني لا يزال هشّاً. فلا تزال بقايا المنظومة السابقة، خصوصاً بعض الضباط والعناصر الذين اندمجوا ضمن شبكات المصالح المحلية تلعب دوراً في زعزعة الثقة وإرباك المشهد. في هذا السياق، يُطرح سؤال مشروع حول قدرة الدولة وليس فقط نيّتها في إعادة ضبط الإيقاع الأمني، بوسائل تضمن تماسك المجتمع لا تفككه. وليس المقصود فقط القوة الصلبة -والتي ما تزال قيد التشكُّل والهيكلة- وإنما أيضاً القوة الناعمة المحلية. وفي نفس الوقت هناك تحدي ضبط التوازن الخارجي بالعلاقة مع الدول الداعمة التي لا تريد تكرار سيناريوهات مرت بها دول أخرى بعد الربيع العربي والتي باتت تلعب دور حتى الآن يتسم بالتوافق على إنجاح التجربة السورية في استعادة الاستقرار، ولكنها تتأثر كثيراً بما يحصل في داخل سورية كما حصل في السويداء.

كما أن العامل الإسرائيلي لا يمكن تجاهله. فإسرائيل، التي لطالما سعت لإبقاء الجنوب السوري في حالة فوضى، وتفرض إرادتها بنزح أي تواجد صلب للدولة في كافة الجنوب، وتُحاول اليوم استثمار الهشاشة الحالية، عبر استمالة بعض الأصوات المتشددة داخل المجتمع الدرزي (بما يشبه جيش لحد في جنوب لبنان)، دون أن يُترجم ذلك بالضرورة إلى اصطفاف سياسي أو أيديولوجي حقيقي. الأمر يندرج ضمن لعبة توازنات دقيقة، حيث يلتقي الحذر المحلي مع المصلحة الإقليمية، في مساحة رمادية معقّدة.

ثالثاً: دروس اللحظة الانتقالية – نحو مقاربة واقعية ومتكاملة

إن ما يجري في السويداء يفرض على الدولة السورية، كما على شركائها المحليين، إعادة قراءة المشهد بروح جديدة. فـ مركزية الدولة لا تعني بالضرورة مركزيّتها في كل قرار محلي، بل تستدعي بناء شرعية داخلية، قابلة للتطوّر، ومؤهلة للانتقال مع الزمن، ريثما تكتمل المرحلة الانتقالية عبر بناء الثقة المجتمعية وسلسلة تفاهمات تضمن وتدعم بمحصلتها توحيد البلاد سياسياً ومؤسساتياً وخدمياً.

التعامل الواقعي والبراغماتي المشروع مع محدودية القدرة الحالية – سواء في تقديم الضمانات، أو فرض الأمن، أو مقارعة الخطر الإسرائيلي، أو تحقيق التنمية المتوازنة – يجب أن يكون منطلقاً لتصميم حلول قابلة للتطبيق، لا مجرد أمنيات سياسية وببُعد وطني يستند الى الشرعية المحلية إلى جانب الإقليم.

رابعاً: مقاربة وزارة الإدارة المحلية كمدخل لبناء الدولة من الأسفل

في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن مقاربة بناء الدولة في سورية ما بعد الحرب ينبغي أن تنطلق من منطق تدريجي وتراكمي للشرعية والقوة، عبر إشراك المجتمعات المحلية في إنتاج حلولها مع المركز لا انتظار حلول مركزية جاهزة مفروضة. وتُعد رؤية وزارة الإدارة المحلية، من خلال مركزية النُّظُم والبيانات والتوجه العام للدولة، ولامركزية التخطيط العملياتي والأولويات والتنفيذ والتطوير، نموذجاً أولياً يمكن تطويره ليكون مرتكزاً عملياً لبلورة دور المجتمعات في صياغة العقود المحلية، وتغذية الشرعية الوطنية من القاعدة إلى القمة. هذا النهج يعزز من قدرة الدولة على الاستجابة الواقعية لتحديات كل منطقة، دون التضحية بوحدة السيادة أو مركزية القرار السيادي.

التوصيات

  1. صياغة قواعد تشاركية واضحة في الإدارة المحلي، تضمن تمثيلاً فعلياً لجميع القوى الاجتماعية والسياسية ضمن السويداء، في إطار وحدة الدولة، مع الحفاظ على مرجعية القرار السيادي للسلطة المركزية.
  2. الاعتراف بمحدودية القدرة الحالية للدولة على تقديم “ضمانات كاملة”، وبالتالي السعي إلى إدارة المخاوف بطريقة واقعية، عبر إجراءات ثقة تدريجية وتواصل مباشر وشفاف مع ممثلي المجتمع المحلي، وليس من خلال وعود شاملة قد تتجاوز الواقع. نعم تم العديد من التواصلات والحوارات المباشرة مع كثير من شرائح مجتمع السويداء لكن بعد الأحداث الأخيرة نحتاج إلى إعادة بناء رأس المال المجتمعي بشكل مختلف لا يقوم على ثنائية السلطة أو الفوضى، ويقوم على مبدأ المحاسبة وضبط الأداء العسكري لكافة منتسبي وزارتي الدفاع والداخلية.
  3. إزالة المظاهر العسكرية والأمنية التابعة للمنظومة البائدة، خصوصًا الأفراد الذين يواصلون نشاطهم من داخل المجتمعات المحلية دون مساءلة، ما يعزز مناخ الفوضى ويقوّض أي مصداقية للجهود الإصلاحية.
  4. الربط الجدّي بين الحوار الأمني والسياسي من جهة، والحوار الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى، بحيث تتحول السويداء إلى شريك فعلي في مشروع وطني تنموي يخلق فرص عمل، ويكسر الطوق الاقتصادي الذي يسهم في تأزيم المزاج العام.

ختاماً: الثقة أولاً، لا السيطرة

إن ما تحتاجه سورية اليوم ليس استعادة السيطرة الأمنية فحسب، بل بناء الثقة الوطنية. وهذا يمرّ حتماً عبر إشراك السويداء – وغيرها من المناطق – في صياغة المستقبل، وليس في الاكتفاء بإخضاعها لمعادلات أمنية أو تفاهمات سطحية.

وحدها شرعية داخلية انتقالية، قائمة على التمثيل، والتنمية، والمحاسبة، يمكن أن تهيّئ الأرضية لولادة دولة سورية موحدة، قادرة على ضم الشمال والجنوب والشرق، دون الحاجة إلى “ضمانات خارجية”، أو سلاح محلي، أو تحالفات تكتيكية مع خصوم تقليديين. إن التعامل مع الضغوط الدولية والإسرائيلية تحديداً صعب في المدى القصير لكن تقوية البُنية الداخلية وتعزيز أدوات المحاسبة والضبط الدولتي هي أحد عوامل القوى الذاتية التي تزيد من فرص الاستقرار وقوة الموقف التفاوضي.