لا يزال مسار "الأستانة" -بعد معركة حلب الشرقية-ماضياً في إعادة هندسة المشهد العسكري عبر فكرة الضامنين وتجميد مناطق خفض التصعيد وتوزيع النفوذ المباشر على مناطق سورية. كما يدفع هذا المسار باتجاه الضبط العسكري مع غموض في آليات تحويل ذلك إلى صفقة سياسية تنظُم عمل المرحلة الانتقالية. فبعد اتفاقيات التهدئة ومناطق خفض التصعيد، عمل على تعزيز هذه الاتفاقات بتفاهمات أمنية مع دول الجوار لـ"تذليل" المهددات الأمنية؛ وبترتيبات داخلية مع الفواعل المحلية للدفع باتجاه من حيثيات محلياتية كإدارة المعابر ونوع الهيئات المدنية والإدارية وتوزيع نقاط مرور إنسانية، وانتشار جديد للقوى العسكرية، وهذا ما دفع به المسار في الجنوب السوري وفي ريف حمص الشمالي وفي الغوطة الشرقية و"يرتجي" أن تتحول لمناطق استقرار نسبي. ووفقاً لهذه الصيرورة يتركز حالياً اهتمام هذا المسار على جبهة إدلب، التي لا تزال تشهد تحديات جمة ناجمة عن كونها محط تهجير محلي وفق اتفاقات هدن عدة؛ واقتتال محلي أفرز تحولات بنيوية وانشقاقات وتحالفات جديدة وبروز هيئة تحرير الشام كقوة رئيسية تنحو باتجاه التحكم الإداري بعدما أحكمت السيطرة على معبر الهوى. وعليه يطمح التنبيه الاستراتيجي هذا لتبيان ما هو شكل السيناريو العسكري الذي سيدفع باتجاهه اجتماع الأستانة حيال معركة إدلب؟ ومنوهاً لطبيعة الاستحقاقات والتحديات الوطنية المتوقعة وسبل مواجهتها.
مقاربة المناطق الثلاثة
تعددت المؤشرات الدالة على نية أنقرة تعزيز ولوجها في الجبهة الشمالية ضمن سياق مسار الأستانة الذي أمن لها منصة مهمة لتعزيز قواعد التوافق مع الفاعل الروسي كمعادل لعلاقتها المتأرجحة مع واشنطن في سورية ولا سيما بعد الاتكاء الأمريكي الكامل على قوات PYD من جهة ولعدم اهتمامها بمناطق غرب النهر لصالح شرقه ومعارك الرقة ودير الزور من جهة أخرى، وتسارعت تلك المؤشرات بعد تنامي "قوة " هيئة تحرير الشام وامتلاكها لمفاصل حيوية في هذه الجبهة لا سيما على المستوى الإداري والاقتصادي، وبدء ظهور التصدع في بنى حلفائها المحليين، وهذا ما يُسرّع من سيناريوهات المواجهة مع الهيئة. وفي هذا السياق بدأت تتشكل حالياً العناصر الأولية لهذه المعركة والتي تقوم – وفقاً للعديد من التصريحات والمعلومات –على أدوار عسكرية واضحة لأنقرة وموسكو (الأكثر فاعلية في هذه المنطقة)؛ تفاهم أمني مع طهران والذي بدت ملامحه بالتشكل عبر مقاربة "إدلب مقابل ريف دمشق الجنوبي" ذو الحيوية الهامة لطهران لتشكيل طوق سيطرة يمتد من داريا إلى منطقة السيدة زينب؛ المواجهة العسكرية المباشرة مع هيئة تحرير الشام؛ بالإضافة لأدوار عسكرية محلية منسجمة مع حركية المعركة.
وعليه؛ تبدو الملامح الأكثر توقعاً لتلك المعركة بأن تقوم على مقاربة المناطق الثلاث، وهي جميعها مناطق تسيطر عليها قوى المعارضة وهيئة تحرير الشام (انظر الخريطة أدناه)، وتهدف لحصر هيئة تحرير الشام في المنطقة الوسطى بين المنطقة (1 و3)، وهذه المناطق مُبينة بالآتي:
- المنطقة 1/ شرق سكة القطار خط حلب-دمشق: وهي منطقة منزوعة السلاح، تحت "حماية روسية" تُقاتل فيه هيئة تحرير الشام من طرف القوات الروسية، ويُطلب من المسلحين من الفصائل الأخرى مغادرتها، وتُدار من طرف المجالس المحلية للمعارضة بشكل قريب من نمط الإدارة الذاتية المحاطة بمعابر حدودية مع المناطق المجاورة لها مع المنطقة 2 غرباً أو مع مناطق سيطرة الميليشيات الإيرانية شرقاً. وتمتد من جنوب حلب حتى شمال حماه.
- المنطقة 2 / ما بين السكة والأتوستراد: وهي منطقة يتوقع أن تنحصر فيها هيئة تحرير الشام وتقاتل فيها من طرف تحالف روسي وتركي مع السماح لنزوح المدنيين سواء باتجاه المنطقة 1 أو 3، وبالتالي دفعها إما لمواجهة عسكرية وجودية أو تفاهم يفضي لحلها وإنهاء تشكيلها السياسي والإداري والعسكري.
- المنطقة 3 /غرب الأتوستراد – طريق حلب-دمشق: وهي منطقة تفيد المؤشرات والتفاهمات الدولية بأنها من ضمن النفوذ التركي بحيث يشن الجيش التركي هجوماً ميدانياً للسيطرة على هذا القطاع بالتعاون مع فصائل عسكرية محلية معارضة. وتمتد من الحدود التركية حتى أوتوستراد حلب -دمشق الدولي، وهذا يتطلب هيكلة عسكرية جديدة تحوي الفصائل المسلحة المنخرطة في قتال الهيئة أو إيجاد تفاهمات تقضي بإخلاء مقاتلي الهيئة من هذه المنطقة. وستدفع انقرة في معارك هذه المنطقة باتجاه تحجيم حزب الـ PYD وصد محاولاته في تحقيق الاتصال الجغرافي بين “الكنتونات" الثلاثة.
خريطة رقم (1)
تحديات المحافظة واستحقاقاتها
من المرجح أن تصطدم آلية تنفيذ هذه المقاربة بعدة عراقيل تمتد من مرحلة ما قبل التنفيذ حتى لما بعده، ووفقاً لهذه المقاربة المتوقعة، وبحكم تقلص هوامش القرار الوطني، فإنه ستتزايد تحديات المحافظة والتي يمكن شملها في ثلاث حزم، سيشكل حسن التعاطي معها فرصة لتعزيز تموضع المحافظة كمنطقة معارضة مدنية مدعمة بمنظومة عسكرية وطنية، وهي:
أولا: التحديات الإنسانية: تدلل المعلومات الواردة في الجدول أدناه إلى حجم المعاناة الإنسانية المتوقعة جراء تلك المعركة وهو ما يتطلب فاعلية مدنية تعمل على تحييد المدنيين سواء بمطالبة تواجد قوات أو منظمات دولية، أو بالدفع باتجاه مناطق محايدة وهي مناطق منزوعة السلاح يشرف عليها – أمنياً وإدارياً – فعاليات محلية. وفي حال تم اتخاذ قرار باستخدام الحل الصفري مع هيئة تحرير الشام في المنطقة 2 فسينجم عنه نزوح داخلي تجاه المناطق الأخرى.
جدول رقم (1)
ثانياً: تحديات الإدارة المحلية: تهدد هذه المقاربة ما تم إنجازه ضمن مجال الحكم والإدارة المحلية، وهو ما يفرض ضرورة ضمان (حماية ونقل) كوادر المجالس المحلية والنقاط الطبية والجهات الخدمية مع كافة معداتهم، بالإضافة لسياسات الاستجابة والفاعلية وتحييد المجالس المحلية عن الآلة العسكرية وحمايتهم من الاستهداف الروسي، وتحصينهم لتكون الجهة الوحيدة المخولة بإدارة الشؤون العامة في المناطق الثلاث وضمان تنقل كوادرهم عبر المعابر الروسية.
ثالثاً: تحديات عسكرية: وتتمثل في أمران، الأول: تحول معارك المنطقة لمعركة استنزاف طويلة، وهو أمر تعززه الخصائص القتالية النوعية لهيئة فتح الشام وما ستلجأ إليه من تكتيكات وأساليب مواجهة واختراق اللجوء للانشقاق لضمان اختراق صف المعارضة، والثاني: عدم انضباط الميليشيات المدعومة من إيران ومحاولتها تعطيل أي اتفاق، والتي تتمركز بدورها في ريف حلب الجنوبي وعلى طول امتداد طريق خناصر وصولاً إلى ريف حماه الشرقي.
مما لا شك فيه سيركز اجتماع " الأستانة 6" على سيناريو معركة إدلب والتي تدل المؤشرات على أنه قد يكون أقرب لسيناريو المناطق الثلاثة أعلاه، تلك المقاربة التي ستفرض مجموعة من التحديات العسكرية والإدارية والإنسانية، تزيد من أعباء وتحديات المحافظة إلا أن حسن التعاطي معها سيشكل فرصةً لتعزيز هوية المحافظة المدنية /المعارضة والمدعمة بمنظومة عسكرية وطنية.