مدخل
تكشف التطورات الاقتصادية في سورية خلال شهر أيلول 2025، استمرار مسار الانفتاح الاقتصادي ومحاولات الإصلاح التي تقودها الحكومة في مواجهة التحديات البنيوية العميقة. وفي الوقت الذي تعمل الحكومة على تحسين البيئة المالية والقانونية في مسعى لاستقطاب الاستثمارات والمشاريع، عبر المشاريع الاستثمارية واللقاءات الدولية، تبقى البنية الإنتاجية الضعيفة، والأمن الغذائي والطاقي أحد أبرز التحديات التي تعيق عملية تطوير الاقتصاد السوري واعتمادها المتزايد على الخارج، مما يبرز حجم التحدي الذي يواجه سورية خلال الفترة القادمة من ناحية موازنة الاحتياجات بالقدرات الفعلية. وفيما يلي أبرز التطورات الاقتصادية خلال هذا الشهر:
إصلاحات مالية وانفتاح نقدي
استمر مصرف سورية المركزي التأكيد على رمزية حذف صفرين من العملة واستبدالها كبعد شكلي للحفاظ على القوة الشرائية ومنع انزلاق الليرة إلى مستويات منخفضة. ووقع المصرف مذكرة تفاهم مع شركة "ماستركارد" في مسعى حكومي لاستعادة سورية موقعها المالي بعد سنوات من العزلة والقيود، وتطوير البيئة المصرفية المحلية من سياسات الامتثال المالي الدولية والإجراءات الحديثة المعمول بها. وشارك حاكم المركزي في مؤتمرSWIFT (Sibos 2025) في مدينة فرانكفورت بألمانيا، للمرة الأولى، في إشارة إلى سعي الحكومة لإعادة دمج القطاع المالي السوري ضمن المنظومة المصرفية الدولية وتبنّي معايير الامتثال المالي الحديثة.
وفيما يتعلق بالسياسة النقدية، واصل المركزي تنفيذ سياسات تهدف إلى تثبيت سعر الصرف وتعزيز الثقة بالليرة السورية والبنية المالية. واستقر سعر الصرف في السوق الموازية عند حدود 11,400 ليرة، ما يشير إلى اقترابه من السعر الرسمي للمركزي البالغ 11055 ليرة.
على مستوى السياسة المالية، أطلقت وزارة المالية برنامج الإصلاح الضريبي للموازنة بين العدالة والتحفيز الإنتاجي، ألغت بموجبه ضريبة الإنفاق الاستهلاكي واستبدلتها بضريبة مبيعات بنسبة 5% مع إعفاء السلع الأساسية، في خطوة تستهدف تخفيف الأعباء عن المستهلكين وتوجيه السياسة الضريبية نحو دعم الصناعة والصادرات. ويُعدّ هذا التحول جزءاً من خطة أشمل لإعادة هيكلة النظام المالي بما يوازن بين تأمين الإيرادات وتحفيز النشاط الاقتصادي. وأعلنت الوزارة عن إنجاز مسودة قانون ضريبة الدخل ضمن مسار الإصلاح الضريبي، باعتماد هيكل شرائح متدرّجة بعد حد إعفاء مرتفع، مع إعفاءات موسّعة لقطاعات الزراعة، وذلك بهدف تبسيط النظام وتعزيز العدالة والتحفيز الإنتاجي.
شراكات الطاقة وتكامل الإمداد
تدلل تحركات الحكومة في شهر أيلول على توجّهٍ متزايد للاعتماد على الشراكات الإقليمية لسدّ فجوات الإمداد في قطاع الطاقة، وذلك عبر مسارين متوازيين؛ اتفاقات توريد مباشرة ومشاريع توليد محليّة بالطاقات المتجددة. ففي سياق التوريد، أعلنت السعودية تقديم منحة نفطية لسورية مقدارها 1.65 مليون برميل من الخام، وهو دعم يستهدف تخفيف عجز الاحتياجات وتعزيز استقرار الإمدادات في المدى القريب.
بالتوازي، نشّطت الحكومة من قنوات التنسيق مع بغداد حول إحياء خطّ كركوك–بانياس النفطي؛ إذ جرى بحث سبل الربط وإعادة التأهيل على مستوى الوزراء، مع الإقرار بحاجة الخط إلى أعمال صيانة واسعة قبل استئناف الضخّ. ويعكس ذلك توجهاً لإدماج سورية مجدداً في شبكات الطاقة الإقليمية بما يتيح تنويع مصادر التوريد على المدى المتوسط. وعلى صعيد التوليد المحلي، وقّعت المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء عقداً مع شركة "منارة الشهباء للطاقات المتجددة" لإنشاء محطة كهروضوئية بقدرة 100 ميغاواط في المنطقة الوسطى، ضمن مسعى لتوسيع مساهمة الطاقة الشمسية وتقليص ساعات الانقطاع تدريجياً.
القطاع الإنتاجي وتحديات الأمن الغذائي
أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة عن عودة أكثر من 1300 منشأة للعمل خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، وتزايد طلبات الترخيص الصناعي في مدينتي حلب وريف دمشق. كما تم الإعلان عن 1389 طلباً لإنشاء معامل جديدة، وطرح مقاسم صناعية إضافية في مدينة الشيخ نجار الصناعية بحلب، في مؤشر على محاولات لإعادة إحياء النشاط الصناعي وتحسين بيئة الاستثمار الإنتاجي.
وفي دمشق، سجّلت مديرية السجل التجاري أكثر من 3200 شركة جديدة منذ بداية العام، بنسبة مرتفعة في قطاعي الأغذية والمواد الكيماوية، ما يعكس حراكاً في تأسيس الشركات الخاصة بالتزامن مع الانفتاح الإقليمي وعودة بعض المستثمرين العرب إلى السوق السورية.
على صعيد الأمن الغذائي، استمرّت الضغوط التضخمية على أسعار المواد الغذائية الأساسية، وخاصة الألبان والبيض والخضار، مع تسجيل ارتفاعات متتابعة خلال هذا الشهر، بسبب ارتفاع تكاليف النقل والطاقة وتراجع الإنتاج الزراعي بفعل موجات الجفاف، ما يضغط على معظم الأسر السورية التي تواجه صعوبات في تأمين احتياجاتها اليومية رغم الثبات النسبي في أسعار الصرف. كما أعلنت الحكومة استمرار استيراد شحنات القمح عبر مرفأ طرطوس بدعم من روسيا، بالتوازي مع تلقي تعويضات دولية بقيمة 7.9 مليون دولار ضمن برامج منظمة "الفاو" لتعزيز الأمن الغذائي والتعافي الزراعي في المناطق المتضررة.
استثمارات خليجية وتحركات تنموية
على مستوى الاستثمارات، شهدت سورية خلال هذا الشهر نشاطاً ملحوظاً خصوصاً من الجانب الخليجي، إذ تم الإعلان عن توقيع مذكرات تفاهم مع شركات سعودية وإماراتية أبرزها "لوبارك" و"الحبتور"، لاستكشاف فرص في قطاعات السياحة والعقار والطاقة. ورغم محدودية القيمة المالية لهذه الاتفاقيات، فإنها تحمل دلالات سياسية واقتصادية مهمّة، كونها تعبّر عن رغبة خليجية متزايدة بالعودة إلى السوق السورية بعد سنوات من العزلة والعقوبات.
وبدأت شركة UCC القطرية تنفيذ الأعمال التحضيرية في مطار دمشق الدولي وفق العقد الموقّع مع الحكومة لإعادة التأهيل والتطوير، في خطوة يُنظر إليها كاختبار لجدية الشركات في الاستثمار داخل سورية. ويستهدف المشروع رفع القدرة الاستيعابية للمطار وتحسين الخدمات اللوجستية، بما يتناسب مع الزيادة الملحوظة في حركة القادمين والمغادرين خلال النصف الثاني من العام.
وأطلقت محافظة حلب منصة "استثمر في حلب" لتسويق الفرص الاستثمارية في المدينة القديمة والمناطق الصناعية، في إطار خطة محلية لجذب رؤوس الأموال وإعادة إحياء النشاط الاقتصادي في المدينة باعتبارها مركزاً صناعياً على مستوى سورية والمنطقة. وتدلل هذه المبادرة إلى اتجاه نحو اللامركزية في إدارة المشاريع التنموية وجذب الشراكات الخاصة في مجالات الخدمات والبنى التحتية.
خارجياً، شاركت سورية في عدد من الفعاليات الاقتصادية الدولية، أبرزها الاجتماعات الجانبية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث التقى الرئيس أحمد الشرع بعدد من رجال الأعمال وممثلي الشركات العالمية الكبرى، من بينها "توتال" و"بوينغ" و"شيفرون"، في محاولة لتوظيف الاقتصاد كأداة لاستعادة الاعتراف الدولي وتخفيف القيود المفروضة بموجب "قانون قيصر". كما جدّدت كندا التصريح العام للمساعدات الإنسانية إلى سورية، ما يشير إلى استمرار التعامل الدولي مع الملف السوري من زاوية إنسانية أكثر منها اقتصادية.
قطاع النقل ومساعي الانفتاح التجاري
شهد شهر أيلول تقدّماً في ملفات النقل البري والجوي والبحري، في سياق مساعي الحكومة لكسر العزلة الاقتصادية وإعادة دمج سورية في شبكات التجارة الإقليمية. فعلى المستوى البري، عُقدت قمة عمّان للنقل الإقليمي بمشاركة سورية والأردن والعراق ولبنان، خُصصت لبحث تفعيل خطوط السكك الحديدية وربطها بالموانئ السورية على البحر المتوسط. تناولت المناقشات إعادة تفعيل سكة حديد الحجاز وتوسيع التعاون في مجال النقل العابر، بما يسمح بمرور البضائع من الخليج عبر سورية إلى أوروبا.
كما أُعلن عن إعادة فتح عدد من المعابر الحدودية مع لبنان أمام الشاحنات التجارية، ما يعكس خطوات عملية نحو تسهيل حركة البضائع وخفض تكاليف النقل البري، وهو ما يُعد أحد المطالب الأساسية للمستوردين والمصدرين السوريين.
على الصعيد الجوي، شهد مطار دمشق الدولي زيادة في عدد الرحلات القادمة والمغادرة بعد انضمام شركة الطيران السعودية "ناس" إلى جدول الرحلات المنتظمة، في مؤشر على انفتاح متزايد في حركة النقل الجوي الإقليمي. أما في قطاع النقل البحري، فقد سجّلت المرافئ السورية نشاطاً لافتاً خلال الشهر، حيث استقبل ميناء اللاذقية الناقلة NAVEGANTES ضمن برنامج استيراد القمح والمواد الغذائية، ليرتفع عدد السفن الوافدة أكثر من 290 باخرة منذ بداية العام. كما واصلت شركة CMA CGM الفرنسية تشغيل الميناء وفق العقد الاستثماري الموقّع، في خطوة تسهم في تحسين الكفاءة اللوجستية ورفع مستوى الخدمات البحرية.
ختاماً، تكشف التطورات الاقتصادية التي شهدتها سورية خلال شهر أيلول 2025 عن مشهدٍ متداخل تتقاطع فيه محاولات الإصلاح والانفتاح الاقتصادي مع استمرار التحديات البنيوية التي تعيق التعافي الشامل. فعلى الرغم من الحراك الحكومي النشط في مجالات الإصلاح الضريبي والنقدي، والتوسع في الشراكات الإقليمية بمجالات الطاقة والنقل، فإن الاقتصاد ما يزال يعتمد بشكل أو بآخر على الدعم والمنح الخارجية لتأمين احتياجاته الأساسية. وتُظهر المؤشرات أن الحكومة تعمل على تقديم صورة جديدة للاقتصاد السوري من خلال إجراءات إصلاحية وتعاون مالي ومصرفي مع مؤسسات دولية كـ "ماستركارد" ونظام "سويفيت"، إضافةً إلى توقيع اتفاقيات استثمارية مع شركات خليجية وسعيها لإعادة سورية إلى شبكات النقل والتجارة الإقليمية. ومع ذلك، تبقى محدودية الإنتاج المحلي، وضعف الأمن الغذائي، والضغوط التضخمية من أبرز التحديات التي تقلل من أثر هذه التحركات على الواقع المعيشي للمواطنين.