حتى عامٍ مضى، كان يبدو أن أكبر مشاكل نظام الأسد الداخلية تتمثل في وجود مناطق خارجة عن سيطرته في شمال سورية، إلا أن المظاهرات المستمرة في محافظة السويداء جنوب البلاد خلقت له مجموعة إضافية من المشاكل لم يستطع إيجاد حل لها حتى الآن. فالمظاهرات التي انطلقت في آب/أغسطس 2023 تتم عامها الأول الشهر القادم، ويزداد زخمها بمرور الوقت، وتتعقد سبل حلها بينما تتسع هوة الخلاف بين أهالي السويداء ونظام الأسد، لتزيد المخاوف من تولد دائرة عنف جديدة في المحافظة التي شهدت استقرارًا نسبيًا منذ عام 2011.
انطلقت شرارة مظاهرات السويداء على خلفية قيام بشار الأسد برفع الرواتب بنسبة 100% بالتوازي مع قيام حكومته برفع أسعار المواد الأساسية كالخبز والمحروقات، لتجعل زيادة الرواتب بلا قيمة، مما أثار حفيظة الأهالي في المدينة. وكما يحدث عادة، تحولت المظاهرات الرافضة للإجراءات إلى حراك ثوري مستمر؛ فقد تركزت المطالب في البداية على وجوب حدوث إصلاح اقتصادي ومراجعة قرار رفع الأسعار، قبل أن تتحول إلى مطالب سياسية تشمل محاسبة الأسد على جرائمه، والإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المختفين قسراً، وتحقيق انتقال سياسي وفق القرار الأممي 2254.
وعلى الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها أبناء المحافظة، إلا أنها الأكثر استمرارية وزخمًا وانتشارًا مقارنة بالموجات السابقة عامي 2021 و2022، وحتى من تلك التي حدثت تباعًا بعد عام 2011، كما أن مطالبها تتشابه حدّ التطابق مع متظاهري الثورة في المناطق الأخرى.
لقد أوقع حراك السويداء نظام الأسد في حيرة من أمره حول الطريقة التي تمكنه من قمع هذا الحراك بأقل الخسائر، خصوصًا أن للسويداء خصوصية كبيرة من الناحية المذهبية، فأغلب أبنائها من الطائفة الدرزية، بالإضافة إلى عشائر من البدو في شمال المحافظة. هذا يجعل الحل العسكري الذي اتبعه نظام الأسد في المحافظات الثائرة الأخرى حلاً مكلفًا، مقوضًا سرديته القائمة على ”الحرب على الإرهاب والتطرف“. كما يهدم أيضًا روايته التي طالما روجها حول حمايته للأقليات في سورية، والتي تشكل الطائفة الدرزية أبرزها، خصوصًا أن لها امتدادات في لبنان وفلسطين.
يلقي هذا المقال نظرة على الحراك الثوري في السويداء والواقع الأمني الذي عاشته المحافظة خلال الـ12 شهر السابقين، بالإضافة إلى تحليل تحركات نظام الأسد حتى الآن، والسيناريوهات التي يمكن أن يتبعها للوصول إلى غاية إخماد الحراك وضمان عدم امتداده لمناطق أخرى.
حراك الصرخات الأولى
كانت السويداء آخر مدينة زارها بشار الأسد في 12 آذار\مارس من عام 2011 قبل اندلاع الثورة السورية بأيام، وهدفت الزيارة إلى التأكيد على أن نظام الأسد ”حامٍ للأقليات“ وعلى علاقته العضوية المميزة مع الطائفة الدرزية. لكن مع اندلاع الثورة، واكبت السويداء صيرورة الحراك منذ بدايته، وتفاعل محاموها أكثر من مرة مع اجتياح مدينة درعا المجاورة من قبل قوات الأمن والجيش عبر اعتصام طالبوا فيه بفك الحصار والطوق الأمني عن المدينة، وإلغاء الأحكام العرفية وحالة الطوارئ ووجوب احترام القانون بالتزامن مع إطلاق سراح المعتقلين والسماح بالحريات السياسية في سورية.
استمرت المظاهرات في المدينة بشكل متقطع في ظل بروز زعامات محلية جديدة، بالإضافة إلى القيادة الروحية للطائفة الدرزية المتأصلة تاريخياً ضمن المجتمع المحلي في السويداء، المقسّمة إلى ثلاث مرجعيات رئيسية تتمثل في أشخاص ”حمود الحناوي“ و”يوسف جربوع“ و”حكمت الهجري“. وكان لكل مرجعية موقف متباين تجاه عنف النظام في المحافظات الأخرى منذ عام 2011، مثل الشيخ الهجري الذي حث أبناء المحافظة على الالتحاق بالخدمة الإلزامية بأكثر من مناسبة.
بالإضافة للزعامات التقليدية سمح الحراك بعد عام 2011 بصعود زعامات محلية كان أبرزها الشيخ وحيد البلعوس الذي أسس حركة رجال الكرامة عام 2013 بهدف حماية المتظاهرين من هجمات قوات النظام على الاعتصامات والمظاهرات في السويداء، بالإضافة لتشجيع شبان السويداء على عدم الالتحاق بالخدمة الإلزامية في ”الجيش السوري“ تحت شعار ”دم السوري على السوري حرام“.
لكن مع اندلاع المظاهرات العام الماضي، ساندت المرجعيات الروحية الثلاثة المطالبات بالإصلاح الاقتصادي، وأيد الحناوي والهجري المطالب السياسية للمتظاهرين السلميين. أما الشيخ يوسف جربوع، فتبنى سردية النظام السياسية، وهو الآن يمثل الواجهة الدرزية في مناسبات النظام.
عمومًا، أضاف تأييد شيوخ الطائفة الثلاثة–بغض النظر عن تباين بعض مواقفهم من النظام–نقطة قوة لدى المتظاهرين، إذ إن تأييد المرجعية الدينية، ذات الأثر الكبير على المجتمع المحلي، دفع أبناء المجتمع للمشاركة بفعالية أكبر مما حقق الزخم المتواصل للمظاهرات، خصوصًا أن بعض المشايخ مثلوا المتظاهرين في لقاءات افتراضية مع ممثلي بعض الدول كالولايات المتحدة وفرنسا وحتى روسيا.
ميليشيات متعددة الأدوار
شهدت محافظة السويداء عام 2015 أولى الأحداث الأمنية الكبرى باغتيال الشيخ وحيد البلعوس، واتهم حينها الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط نظام الأسد باغتياله. وتتالت بعدها الأحداث، وكان أبرزها هجوم تنظيم داعش على ريفها الشرقي في عام 2018، وكان للهجوم دور في توحيد جهود الفصائل المحلية، بالرغم من اختلاف توجهاتها سواء مع النظام أو ضده.
استمرت التوترات الأمنية في المحافظة وساهم انتشار الميليشيات المسلحة متعددة الأدوار في عدم استقرار الوضع الأمني، حيث مارست الميليشيات المرتبطة بأجهزة المخابرات السورية، بالإضافة إلى تلك المرتبطة بإيران أو حزب الله عمليات القتل والخطف والاغتيالات، بالإضافة إلى تصنيع وتجارة المخدرات وتهريبها. بالمقابل، كانت هناك فصائل عسكرية مقربة من المرجعيات الدينية مثل حركة رجال الكرامة وفصيل شيوخ الكرامة وغيرهما، حيث حافظت هذه الفصائل على موقفها بعدم توريط أبناء السويداء في القتال إلى جانب قوات الأسد، كما أنها أيدت المظاهرات التي خرجت تباعاً بعد عام 2011.
ازدادت أهمية المحافظة بعدما سيطر نظام الأسد على محافظة درعا عام 2018، ثم لاحقًا مع تطبيع العلاقات مع الأردن حيث شكلت حدود المحافظة مع الأردن بوابة لتهريب المخدرات، وأهمها الكبتاغون، وحتى الأسلحة إلى دول الخليج، عن طريق بعض المليشيات والعصابات التي تعمل ضمن سلاسل توريد منظمة تتبع أغلبها نظام الأسد الذي تحول لأهم موردي المخدرات عالميًا.
تفاعلت القوى المحلية على الأرض بشكل مختلف ومضاد أحيانًا، واعتبرت الميليشيات الموالية للنظام أن أي تغيير ضمن القوى الفاعلة في المدينة، أو وضعها الميداني وبالأخص الحراك الثوري فيها، قد يهدد نشاطها، ويفقدها السلطة والتحكم. في حين أن ميليشيات أخرى، وقفت بشكل كامل مع الحراك، وتعهدت بحماية المتظاهرين من أي مخاطر قد تهدد حياتهم في حال قيام قوات النظام الأمنية أو الميليشيات التابعة لها بمحاولة قمعهم أو الهجوم عليهم.
مظاهرات مستمرة وسيناريوهات متشابكة
استمرت مظاهرات السويداء على الرغم من الارتباك الإقليمي عقب أحداث 7 أكتوبر وما تلاها، وازدياد وتيرة الضربات الإسرائيلية المُستهدِفة للّمصالح الإيرانية في سورية، واتخاذ الأردن خطوة أحادية في مسار مكافحة الكبتاغون عبر استهدافها عسكريًا عدة مواقع في ريف السويداء، بالإضافة إلى استمرار نشاط الميليشيات في تهريب المخدرات عبر الحدود. والأهم أن الحراك استمر على الرغم من محاولات عديدة من نظام الأسد لاختراق المجتمع المحلي في المدينة ومحاولة زرع بذور الفتنة بين أبنائها.
وأصبحت ساحة الكرامة، مركز التظاهرات في السويداء، رمزًا لأهالي المدينة وللسوريين عمومًا، حيث شكل استمرارية الحراك الثوري معضلة صعبة الحل للنظام، فهو لا يستطيع اتهام أهل السويداء بالإرهاب أو بالتطرف، كما أن أي حل أمني أو عسكري لقمع الحراك سينزع الشرعية، المتهاوية أصلًا، عن سرديته القائمة على محاربة الإرهاب وحماية الأقليات، ولذلك فإن تعامله يتسم بالصبر والبطء عموماً.
بالمقابل، فإن النظام يشاهد ”سيادة الدولة“، أو ما تبقى منها، تتعرض بشكل شبه يومي للإهانة من قبل المتظاهرين والفصائل الموالية للحراك، الذين أزالوا رموز حكم النظام كالصور والأعلام من دوائر الدولة الرسمية، بالإضافة إلى إغلاقهم عددًا من مقرات حزب البعث الحاكم أو حتى اعتقال ضباط من الأمن أو الجيش في سبيل إطلاق سراح أشخاص من السويداء اعتقلهم النظام نتيجة مواقفهم السياسية أو بسبب أنهم مطلوبون لأداء الخدمة الإلزامية. وأخيرًا، المقاطعة الواسعة لانتخابات مجلس الشعب التي أجراها نظام الأسد في 15 تموز/يونيو 2024.
حتى الآن، راهن نظام الأسد على الوقت لانحسار الحراك في السويداء، مظهرًا الكثير من ضبط النفس والصبر الذي لم يمنحه لغيرها من المناطق الثائرة ضده. لكنه، وبالتوازي مع ذلك، يستمر في الدفع بتعزيزات أمنية وعسكرية إلى المحافظة، مما يجعل الوضع مُهيئًا لسيناريوهات عدة:
السيناريو الأول هو محاولة فرض الحل الأمني، الذي بدأت بشائره في الظهور بتعيين اللواء المتقاعد أكرم محمد محافظاً جديداً للسويداء في شهر أيار/مايو 2024، وهو الذي خدم لسنوات في المخابرات العامة، حتى تقلد منصب نائب مدير، ارتكب خلالها انتهاكات وجرائم بحق المواطنين السوريين. وبالفعل، لم تمض أسابيع حتى وضع النظام حاجز أمني جديد للعمل كنقطة تفتيش بالقرب من دوار العنقود في مدينة السويداء، وذلك في اختبار أولي من النظام لمدى قوة وطبيعة الرد من أهالي السويداء على محاولة فرض النظام لسيطرته مجددا تحت ذريعة تنفيذ عمليات أمنية ضد خلايا مفترضة لداعش، بالإضافة إلى حملة على مهربي الكبتاغون وتجارِّه، وخاصة بعد إعلان جيش النظام عن قيامه بعملية أمنية على الحدود الأردنية وإلقائه القبض على عدد من المهربين.
لاقت خطوة وضع الحاجز الأمني ردًا سريعًا وعنيفًا، إلى حد ما، من قبل الأهالي والفصائل المناوئة للنظام، والتي طالبت بإزالته ثم ما لبثت أن هاجمته ليلاً بعد رفض النظام الاستجابة لمطالبهم، قبل أن تتدخل المرجعيات الدينية وتتوصل إلى اتفاق مع النظام يقضي بنقل الحاجز وتحويله إلى نقطة عسكرية بالقرب من مقرات الأجهزة الأمنية ومقر حزب البعث، وإبعاده عن مدخل المدينة وعدم التدخل في شؤون الأهالي مع تعهد الفصائل بعدم مهاجمة النقطة.
أما السيناريو الثاني، فيأتي داعمًا للأول ويتمثل بزجّ وحدات من الجيش داخل المدينة بحجة حماية مؤسسات الدولة والمقرات الأمنية، وهو ما سيلقى حتمًا ردًا عنيفًا من فصائل وأهالي السويداء، وبالتالي سيخلق حجة مناسبة للنظام باستخدام القوة ضدهم معللاً ذلك بفرض هيبة و”سيادة الدولة“ والمحافظة على وحدة الأراضي السورية، خصوصاً بعد طرح حزب اللواء السوري لفكرة الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في السويداء، أو من خلال تصوير الاحتجاجات كحركة انفصالية درزية. حيث ارتفعت في الفترة الماضية وتيرة إرسال تعزيزات عسكرية إلى الوحدات الموجودة أساسًا في المحافظة، وذلك في إطار التحضير لأي عمل عسكري قد يحتاجه النظام لاحقًا.
بالمقابل، يبدو أن النظام ما زال مستمرًا في تنفيذ السيناريو الأساسي وهو الحفاظ على وجوده الأمني السابق داخل المدينة مع التزام سلوك الصبر، بالتزامن مع دعم حظوظ السيناريو الأول، والدفع نحو تقليل تقديم الخدمات من مياه وكهرباء وحتى المشتقات النفطية بانتظار أي تغيير في المعطيات المحلية، وربما محاولة زعزعة الوضع الداخلي عبر خلق فتنة بين الفصائل المناوئة له وبين الميليشيات المرتبطة به، خصوصًا أن الأخيرة تملك أدوات للعبث الأمني. حيث شهدت السويداء عملية اغتيال لأحد قادة الفصائل الموالية للحراك الثوري وسط اتهامات، لم تثبت، للنظام باغتياله.
دائرة عنف جديدة
رفعت حادثة الحاجز الأمني وما تلاها من التكهنات بخلق دائرة عنف جديدة على الساحة السورية. من الثابت أن النظام يريد أن يعيد فرض سيطرته على كامل سورية وليس على السويداء فقط وإنهاء أي فرصة للتغيير السياسي، لكن هناك أولويات أكثر إلحاحًا وأهمية بالنسبة له، كالتفاوض مع تركيا وقوات سورية الديمقراطية التي تسيطر على جلّ المقدرات النفطية للبلاد ومساحات زراعية واسعة. وذلك بالعكس من السويداء التي، بالرغم من أهميتها، لا تملك نفطًا، وزراعتها مُنتجة للفواكه على نحو رئيسي. وما يهم النظام من السويداء حاليًا هو إبقاء خطوط تهريب الكبتاغون مستمرة في عملها بمنأى عن أي حوادث أخرى، ريثما ينضج الحل المناسب له للتعامل معها وتوفر الظروف الموضوعية لتنفيذه.
يشكل حراك السويداء معضلة عصية الحل -حتى الآن- على نظام الأسد، خصوصًا أنها تأتي بالتزامن مع أحداث إقليمية غير مستقرة وغير مبشرة منذ 7 أكتوبر، بالإضافة لارتباط ملف السويداء عموماً بملفات أخرى عابرة للحدود، مثل الأمن القومي للأردن ودول الخليج، وملف الأقليات، وكذلك تعدد اللاعبين واختلاف مصالحهم عمومًا. صحيح أن نظام الأسد يتعامل بصبر نوعًا ما مع حراك السويداء، ولكن يبقى نظام الأسد كعادته، متمنعًا تمامًا عن التنازل لأي مطالب إصلاح سياسي، رافضًا إظهار أي نية حقيقية لتنفيذه. ومن ثم فإن حلوله تبقى قاصرة، ومقتصرة على الحلول العسكرية والأمنية بانتظار أن تسمح له الظروف القيام بها.
المصدر: https://bit.ly/4ctTVnP